28 فتح المنان شرح أصول الإيمان
جمع نورس الهاشمي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين وحكام الإمارات ووالديهم ووالدينا والمسلمين جميعا).
——-‘——‘——-‘
——-‘——‘——-‘
الباب الثالث
الفصل الثاني
الولاء والبراء معناه وضوابطه
التعريف
الولاء والبراء من حقوق التوحيد
مكانة الولاء والبراء في الدين
الفرق بين المداهنة والمداراة وأثرهما على الولاء والبراء
نماذج من الولاء والبراء
حكم مولاة العصاة والمبتدعين
هل يدخل في الموالاة معاملة الكفار في الأمور الدنيوية
———‘——-‘——–‘
الولاء و البراء
فمن أصول العقيدة الإسلامية أنه يجب على كل مسلم يدين بهذه العقيدة أن يوالي أهلها ويعادي أعداءها فيحب أهل التوحيد والإخلاص ويواليهم، ويبغض أهل الإشراك ويعاديهم، وذلك من ملة إبراهيم والذين معه، الذين أمرنا بالاقتداء بهم، حيث يقول سبحانه وتعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاءٌ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (1). ” الولاء و البراء” للعلامة الفوزان حفظه الله.
الولاء والبراء أصل من أصول أهل السنة والجماعة ” انظر إلى أقوال السلف في ذلك.
قال المناوي رحمه الله:
قال ابن عمر: والله لو صمت النهار لا أفطره وقمت الليل لا أنامه وأنفقت مالي في سبيل الله ثم أموت وليس في قلبي حب لأهل الطاعة وبغض لأهل المعصية ما نفعني ذلك شيئا.
وقال العارف ابن السماك عند موته: اللهم إنك تعلم أني إذ كنت أعصيك أحب من يطيعك فاجعله قربة مني إليك.
وقال الشافعي: [ص: (265)]
أحب الصالحين ولست منهم. . . لعلي أن أنال بهم شفاعه
وأكره من بضاعته المعاصي. . . وإن كنا جميعا في البضاعه. ” فيض القدير” (ج (3) / (264)).
[الولي في لغة العرب]
والولي في لغة العرب: هو كل مَنِ انْعَقَدَ بَيْنَك وبَيْنَهُ سَبَبٌ يجعلك تواليه ويواليك (2)؛ ولذا كان الله ولي المؤمنين، والمؤمنون أولياء الله {الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: آية 257] {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} [يونس: آية 62] لأنهم يوالونه بالطاعة، وهو يواليهم بالنصرة والثواب الجزيل، وإصلاح الدنيا والآخرة. العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (3/ 34).
[أصل الْمُوَالَاة الْحبّ وأصل المعاداة البغض]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
وأصل الْمُوَالَاة هِيَ الْمحبَّة كَمَا أَن أصل المعاداة البغض فَإِن التحاب يُوجب التقارب والاتفاق والتباغض يُوجب التباعد وَالِاخْتِلَاف وَقد قيل الْمولي من الْوَلِيّ وَهُوَ الْقرب وَهَذَا يَلِي هَذَا أَي هُوَ يقرب مِنْهُ
والعدو من العدواء وَهُوَ الْبعد وَمِنْه العدوة وَالشَّيْء إِذا ولي الشَّيْء ودنا مِنْهُ وَقرب إِلَيْهِ اتَّصل بِهِ كَمَا أَنه إِذا عدي عَنهُ ونأي عَنهُ وَبعد مِنْهُ كَانَ مَاضِيا عَنهُ
فأولياء الله ضد أعدائه يقربهُمْ مِنْهُ ويدنيهم إِلَيْهِ ويتولاهم ويتولونه ويحبهم ويرحمهم وَيكون عَلَيْهِم مِنْهُ صَلَاة وأعداؤه يبعدهم ويلعنهم وَهُوَ إبعاد مِنْهُ وَمن رَحمته ويبغضهم ويغضب عَلَيْهِم وَهَذَا شَان المتوالين والمتعادين. ” جامع الرسائل لابن تيمية” (2/ 384).
أقسام الناس فيما يجب في حقهم من الولاء والبراء
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والواجب موالاة أولياء الله المتقين من جميع الأصناف وبغض الكفار والمنافقين من جميع الأصناف والفاسق الملي يعطى من الموالاة بقدر إيمانه ويعطى من المعاداة بقدر فسقه. ” الفتاوى الكبرى” (4/ 225).
و قال العلامة الفوزان حفظه الله في ” الولاء و البراء” (13 – 14):
الناس في الولاء والبراء على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من يحب محبة خالصة لا معاداة معها
وهم المؤمنون الخلّص من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.
وفي مقدمتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه تجب محبته أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين.
ثم زوجاته أمهات المؤمنين وأهل بيته الطيبين وصحابته الكرام – خصوصًا الخلفاء الراشدين وبقية العشرة والمهاجرين والأنصار وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان ثم بقية الصحابة – رضي الله عنهم – أجمعين.
ثم التابعين والقرون المفضلة وسلف هذه الأمة وأئمتها – كالأئمة الأربعة.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (1).
ولا يبغض الصحابة وسلف هذه الأمة من في قلبه إيمان.
وإنما يبغضهم أهل الزيغ والنفاق وأعداء الإسلام كالرافضة والخوارج نسأل الله العافية.
القسم الثاني: من يبغض ويعادي بغضًا ومعاداة خالصين لا محبة ولا موالاة معهما
وهم الكفار الخلص من الكفار والمشركين والمنافقين والمرتدين والملحدين على اختلاف أجناسهم.
كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (1).
وقال تعالى عائبًا على بني إسرائيل: {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (2).
القسم الثالث: من يحب من وجه ويبغض من وجه
فتجتمع فيه المحبة والعداوة وهم عصاة المؤمنين. يحبون لما فيهم من الإيمان ويبغضون لما فيهم من المعصية التي هي دون الكفر والشرك.
ومحبتهم تقتضي مناصحتهم والإنكار عليهم. فلا يجوز السكوت على معاصيهم بل ينكر عليهم ويؤمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وتقام عليهم الحدود والتعزيرات حتى يكفوا عن معاصيهم ويتوبوا من سيئاتهم.
ولكن لا يبغضون بغضًا خالصًا ويتبرأ منهم كما تقوله الخوارج في مرتكب الكبيرة التي هي دون الشرك.
ولا يحبون ويوالون حبًا وموالاة خالصين كما تقوله المرجئة بل يعتدل في شأنهم على ما ذكرنا كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.
والحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، والمرء مع من أحب يوم القيامة كما في الحديث.
وقد تغير الوضع وصار غالب موالاة الناس ومعاداتهم لأجل الدنيا فمن كان عنده طمع من مطامع الدنيا والَوه وإن كان عدوًّا لله ولرسوله ولدين المسلمين.
ومن لم يكن عنده طمع من مطامع الدنيا عادوه ولو كان وليًّا لله ولرسوله عند أدنى سبب وضايقوه واحتقروه.
[ما هو لازم الحب في الله والبغض في الله]
قوله: (وأبغض في اللّه)، أي: أبغض الكفار والفاسقين في اللّه لمخالفتهم لربهم وإن كانوا أقرب الناس إليه، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}.
قوله: (ووالى في اللّه). هذا بيان للازم المحبة في اللّه وهو الموالاة. فيه إشارة إلى أنه لا يكفي في ذلك مجرد الحب، بل لا بد مع ذلك من الموالاة التي هي لازم الحب، وهي النصرة والإكرام والاحترام والكون مع المحبوبين باطنًا وظاهرًا.
قوله: (وعادى في اللّه)، هذا بيان للازم البغض في اللّه وهو المعاداة فيه، أي: إظهار العداوة بالفعل، كالجهاد لأعداء اللّه والبراءة منهم، والبعد عنهم باطنًا وظاهرًا إشارة إلى أنه لا يكفي مجرد بغض القلب، بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَأَىءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ. ” تيسير العزيز الحميد” (2/ 119).
[الفرق بين المداهنة والمداراة]
قال العلامة المباركفوري:” والفرق بين المداهنة المنهية والمداراة المأمورة أن المداهنة في الشريعة أن يرى منكراً فيقدر على دفعه ولم يدفعه حفظاً لجانب مرتكبه أو جانب غيره لخوف أو طمع أو لاستحياء منه أو قلة مبالاة في الدين والمداراة موافقته بترك حظ نفسه وحق يتعلق بماله وعرضه فسكت عنه دفعاً للشر ووقوع الضرر”تحفة الأحودي (6/ 329).
و قال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله:
ـ فالمداهنة: أن تتنازل عن شيء من دينك لأجل الدنيا.
ـ والمداراة: أن تتنازل عن شيء من دنياك لأجل دينك. ” دفع بغي عدنان على علماء السنة و الإيمان” (71).
وقال العلامة الفوزان حفظه الله: المداهنة لا تجوز، والمداراة تجوز. لأن المداراة إذا كان على المسلم أو على المسلمين خطر ودَفعه ودَارَأ الكفار لتوقي هذا الخطر فهذا ليس من المداهنة وليس من الموالاة. الأجوبة المفيدة عن أسئلة المناهج الجديدة (160) للعلامة الفوزان حفظه الله.
حكم موالاة الفسقة و المبتدعة
قال البغوي:
(وقد اتفق علماء السنة على معاداة أهل البدعة ومهاجرتهم). (شرح السنة) (1/ 227).
وقال أحد علماء السلف:
(لا تجالسوا أصحاب الأهواء، أو قال أصحاب الخصومات فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم بعض ما تعرفون). (شرح السنة) (1/ 227).
[ضابط التولي للكفار]
ضابط التولي للكفار:
فهاهنا عندنا في الشرع , وعند أئمة التوحيد , لفظان لهما معنيان , يلتبس أحدهم بالآخر عند كثيرين:
الأول: التولي.
الثاني: الموالاة.
التولي: مكفر.
الموالاة: غير جائزة.
والثالث: الاستعانة بالكافر واستئجاره: جائزة بشروطها.
فهذه ثلاث مسائل.
* أما التولي؛ فهو الذي نزل فيه قول الله جلَّ وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة:51)
وضابط التولي: هو نصرة الكافر على المسلم وقت الحرب بين المسلم والكافر , قاصداً ظهور الكفار على المسلمين.
فأصل التولي: المحبة التامة , أو النصرة للكافر على المسلم , فمَن أحب الكافر لدينه؛ فهذا قد تولاَّه تولياً , وهذا كفر.
* وأما موالاة الكفار؛ في مودتهم , ومحبتهم لدنياهم , وتقدمهم , فهي فسق وليست كفراً.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (الممتحنة:1)
قال أهل العلم: ناداهم باسم الإيمان , وقد دخل في النداء من ألقى المودة للكفار , فدلَّ على أن فعله ليس كفراً , بل ضلال عن سواء السبيل.
وذلك لأنه ألقى المودة, وأسر لهم؛ لأجل الدنيا , لا شكّاً في الدين.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمَن صنع ذلك: ما حملك على ما صنعت؟. قال: والله ما بي أن لا أكون مؤمناً بالله ورسوله , أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي … الحديث أخرجاه في الصحيحين.
فمن هذا يتبيَّن أن مودة الكافر والميل له لأجل دنياه ليس كفراً إذا كان أصل الإيمان والاطمئنان به حاصلاً لمن كان منه نوع موالاة.
* وأما الاستعانة بالكافر على المسلم أو استئجاره؛ فهذا قال أهل العلم بجوازه في أحوال مختلفة؛ يفتي أهل العلم في كل حال , وفي كل واقعة , بما يرونه يصح أن يُفتى به.
وأما إعطاء الكفار أموالاً صدقة أو للتآلف أو لدفع الشرور فهذا له مقام آخر , وهو نوع آخر غير الأقسام الثلاثة.
من محاضرة
الضوابط الشرعية لموقف المسلم في الفتن تأليف معالي الشيخ / صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ
[حكم مظاهرة المشركين وإعانتهم على المسلمين]
معالي الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
س: يقول أجلس مع بعض الناس ويقولون: إن العلماء الكبار كفار، لأنهم يظاهرون المشركين ويوالونهم ويعلّمون هذا لصغار السن ويربونهم عليه، لا سيما بعد صدور الفتاوى في تحريم التفجيرات في بلاد الكفار … أخ.
الجواب:
هذا من الخطر العظيم في أن يقول قائلٌ من مثل هذه الكلمة:
أولاً: لأن العلماء الكبار يبينون الحق، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم في زمن الخوارج يبينون الحق، وإذا اتهمهم أحد أو رماهم بالكفر لأجل تبيينهم الحق، فلا يعني أن رمي هذا الرامي أنه موافق للصواب، بل جنايته على نفسه ويجب أن يؤخذ على يده وأن يعزر تعزيراً بليغاً من قبل القضاة بما يحجزه عن ذلك.
ولما فات التعزير الشرعي في مثل هذه المسائل؛ كثر القول، وكثر الخوض فيها. فقد كان القضاة فيما مضى يعزرون في قول المسلم لأخيه: ياكلب، أو يا كذا بما فيه انتقاص له، فكيف إذا كان فيه رمي بمثل هذا الرمي العظيم الذي لا يجوز لمسلم يخشى الله جل وعلا أن يتفوه به فضلاً على أن يعتقده.
ثم ما يتعلق بمظاهرة المشركين، وتولي الكفار، فإن هذه المسألة بحثناها في عدة مجالس وفي عدة شروح وبينا فيها أن عقد الإيمان يقتضي موالاة الإيمان والبراءة من الكفر لقول الله جل وعلا: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ {55} وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ {56}}.
عقد الإيمان يقتضي البراءة من المعبودات والآلهه المختلفة ومن عبادتهم لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ {26} إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ {27} وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {28}}. أساس الولاء والبراء هو الولاء للإيمان والبراءة من الكفر وعبادة غير الله جل وعلا، ويتضمن ذلك: مولاة أهل الإيمان والبراءة من أهل الكفر على اختلاف مللهم.
هذه الموالاة منها ما يكون للدنيا، ومنها ما يكون للدين. فإذا كانت للدنيا؛ فليست مخرجه من الدين ومما قد يكون في بعض الأنواع من الموالاة للدنيا من الإكرام أو البشاشة، أو الدعوة، أو المخالطة، ما قد يكون مأذوناً به إذا لم يكن في القلب مودة لهذا الأمر، من مثل ما يفعل الرجل مع زوجته النصرانية، ومن مثل ما يفعله الإبن مع أبيه غير المسلم ونحو ذلك مما فيه إكرام وعمل في الظاهر لكن مع عدم المودة الدينية في الباطن، فإذا كانت الموالاة للدنيا فإنها غير محرمة، إلا فيما استثني من الحالات كما ذكرنا في حال الزوج مع الزوجة وحال الإبن مع أبيه، مما يقتضي معاملة وبراً وسكوناً ونحو ذلك.
أما القسم الثاني: أن تكون الموالاة للدنيا ولكن ليس لجهة قرابة وإنما لجهة مصلحة بحته، لأمر دنياه وإن فرط في أمر دينه، وهذه موالاة غير مكفرة لأنها في أمر الدنيا، وهذه هي التي نزل فيها قول الله جل وعلا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ {1}} هنا أثبت أنهم ألقوا بالمودة وناداهم باسم الإيمان، قال جمع من أهل العلم: مناداة من ألقى المودة باسم الإيمان دل على أن فعله لم يخرجه من اسم الإيمان. وهو مقتضى استفصال النبي صلى الله عليه وسلم من حاطب حيث قال له في القصة المعروفة: (يا حاطب ما حملك على هذا) يعنى أن أفشى سر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين عذره.
القسم الثاني: موالاة المشرك لدينه:
موالاة الكافر لدينه، يواليه ويحبه ويوده وينصره لأجل ما عليه من الشرك من الوثنية ونحو ذلك يعني: محبة لدينة، فهذا مثله هذه موالاة مكفرة لأجل ذلك.
والإيمان الكامل ينتفي مع مطلق موالاة غير المؤمن لأن موالاة غير المؤمن بمودته ومحبته ونحو ذلك هذه منافية للإيمان الواجب لقول الله جل وعلا: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ … الأية}
أما مظاهرة المشركين وإعانتهم على المسلمين هذا من نواقض الإسلام، كما هو مقرر في كتب فقه الحنابلة وذكره العلماء ومنهم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في النواقض العشر: في الناقض الثامن.
وهذا الناقض مبني على أمرين: الأول: هو المظاهرة، والثاني: هو الإعانة، قال: مظاهرة المشركين وإعانتهم على المسلمين.
والمظاهرة: أن يجعل طائفة من المسلمين – يجعلون – أنفسهم ظهراً للمشركين، يحمونهم فيما لو أراد طائفة من المؤمنين أن يقعون فيهم، يحمونهم وينصرونهم ويحمون ظهورهم ويحمون بيضتهم، وهذا مظاهرة بمعنى أنه صار ظهراً لهم، فقول الشيخ رحمه الله مظاهرة المشركين وإعانتهم على المسلمين مركبة من الأمرين – الناقض مركب من الأمرين – المظاهرة بأن يكون ظهراً لهم – بأي عمل يكون ظهر يدفع عنهم ويقف معهم ويضرب المسلمين لأجل حماية هؤلاء.
أما الثاني فالإعانة: إعانة المشرك، فالإعانة ضابطها: أن يعين قاصداً ظهور الكفر على الإسلام، لأن مطلق الإعانة غير مكفر، لأن حاطب -رضي الله عنه – حصل منه إعانة للمشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم بنوع من العمل: إعانة بكتابة بسر الرسول صلى الله عليه وسلم والمسير إليه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم استفصل منه، فدل على أن الإعانة تحتاج إلى استفصال والله جل وعلا قال في مطلق العمل هذا: (وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) ولكن ليس بمكفر إلا بقصد، فلما أجاب حاطب بأنه لم يكن قصده ظهور الكفر على الإسلام، قال يا رسول الله: (والله ما فعلت هذا رغبة في الكفر بعد الإسلام، ولكن ما من أحد من أصحابك إلا وله يد يدفع بها عن أهله وماله، وليس لي يد في مكة، فأردت أن يكون لي بذلك لي يد)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
وحاطب فعل أمرين:
الأمر الأول: ما أُستُفصِلَ فيه؛ وهي مسألة هل فعله قاصداً ظهور الكفر على الإسلام، ومحبة للكفر على الإسلام، لو فعل ذلك كان مكفراً ولم يكن حضوره لغزوة بدر غافراً لذنبه؛ لأنه يكون خارجاً من أمر الدين.
الأمر الثاني: أنه حصل منه نوع إعانه لهم؛ وهذه فعله فيها ظلال وفيها ذنب والله جل وعلا قال: {تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ … } إلى قوله: {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} إلى قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}
وهذا يدل على أن الاستفصال في هذه المسألة ظاهر. فالإعانة فيها استفصال، أما المظاهره بأن يكون ظهراً لهم يدفع عنهم، ويدرأ عنهم ما يأتيهم، ويدخل معهم ضد المسلمين في حال حربهم لهم؛ هذا من نواقض الإسلام التي بينها أهل العلم.
هذه المسائل – اقتضى إطالة الجواب فيها السؤال – ومع الأسف أنه على كثرة ما جاء من بحوث في هذه من قديم، – لكن – من وقت سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين وكثرت هذه المسائل ورددت، لكن نخشى أن يكون المنهج التكفيري يمشي في الناس – والعياذ بالله –، والخوارج سيبقون ومعتقدات الخوارج ستبقى، والناس فيهم – إن لم يتداركوا أنفسهم – قد يكون فيهم خصلة أو خصال من خصال الظلال إن لم يحذروا من ذلك.
الواجب علينا جميعاً أن نحذر وأن تنبه إلى الحق، وأن نتواصى به وأن نكون حافظين لألسنتنا من الوقوع في ورثة الأنبياء – وهم العلماء – ولقد أحسن ابن عساكر – رحمه الله – إذ قال في فاتحة كتابه “تبيين كذب المفتري” قال: ((ولحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في منتقصهم معلومة)). وهذا ظاهر بين والتجربة تدل عليه ورؤية الواقع تدل عليه.
وقانا الله وإياكم من زلل الأقوال وزلل الأعمال، وسوء المعتقدات وهدى ضال المسلمين وبصرنا وإياهم للحق.
وبالمناسبة نحتاج إلى أن نفقه كيف يرد على من خالف في مثل هذه المسائل، والمخالفين بالتكفير أو التظليل أو ذكر الأمور على غير ما هي عليه؛ يجب:
أولاً: أن لا يرد الباطل بباطل، وأن الباطل يرد بحق، من كفرنا لم نكفره لأجل تكفيره لنا، ومن بدعنا لم نبدعه لأجل تبديعه لنا، وإنما هذه المسائل تحتاج إلى رد الباطل بالحق، هذا هو منهج السلف الصالح ومنهج أئمة أهل السنة والجماعة في ذلك.
الثانية: أن يُحرص على هداية هؤلاء، ويُنظر إليهم في الهداية بما يناسبهم، إذا كانوا يحتاجون إلى نصيحة ينصحون، إلى إجابة عن الشبهات يجاب عليهم، فقد يهدي الله جل وعلا بعض أولئك كما هدى طائفة من الخوارج بابن عباس – رضي الله عنهما -.
ثم الدعاء في مثل الأزمات والفتن والمصائب التي تقع، ليس للمرء منجى ولا ملجأ إلا بربه جل جلاله، فمن ترك الصلة بينه وبين ربه بالدعاء وبسؤال الإعانة والبصيرة فإنه يؤتى، فإذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم وهو المؤيد من الله جل وعلا وهو صاحب الشريعة وهو المهدي بالوحي من الله جل وعلا للحق يقول في دعائه: (اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)، فكيف بحالنا وحال أمثالنا، لاشك أننا أحوج إلى السؤال والدعاء في ذلك؛ دعاء لأنفسنا والدعاء – أيضاً – لمن نعلمه قد خالف الحق في ذلك، وإذا خالف وكفّر وضل واعتدى حتى على الإنسان في دينه أو في عرضه أو تكلم فيه؛ لا يعني ذلك أن تقابل إساءته بمثلها، بل تصبر عليه وتدعوا له؛ لأن طالب العلم همه إصلاح الخلق، قد يستجيبون وقد لا يستجيبون، {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء}.
[لا تجوز الإقامة في بلد يظهر فيه الشرك والكفر إلا للدعوة إلى الله]
قال العلامة ابن باز رحمه الله:
الإقامة في بلد يظهر فيها الشرك والكفر ودين النصارى وغيرهم من الكفرة لا تجوز، سواء كانت الإقامة بينهم للعمل أو للتجارة أو للدراسة أو غير ذلك؛ لقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء:97 – 99] ولقول النبي : أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين.
وهذه الإقامة لا تصدر عن قلب عرف حقيقة الإسلام والإيمان، وعرف ما يجب من حق الله في الإسلام على المسلمين، ورضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولًا.
فإن الرضا بذلك يتضمن من محبة الله وإيثار مرضاته والغيرة لدينه والانحياز إلى أوليائه ما يوجب البراءة التامة والتباعد كل التباعد من الكفرة وبلادهم، بل نفس الإيمان المطلق في الكتاب والسنة لا يجتمع مع هذه المنكرات، وصح عن جرير بن عبدالله البجلي أنه قال: يا رسول الله، بايعني واشترط، فقال له رسول الله : تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين أخرجه أبو عبدالرحمن النسائي.
وصح عن رسول الله الحديث السابق، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين وقال عليه الصلاة والسلام: لا يقبل الله من مشرك عملا بعدما أسلم، أو يفارق المشركين والمعنى حتى يفارق المشركين، وقد صرح أهل العلم بالنهي عن ذلك والتحذير منه، ووجوب الهجرة مع القدرة، اللهم إلا رجل عنده علم وبصيرة، فيذهب إلى هناك للدعوة إلى الله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وشرح محاسن الإسلام لهم.
وقد دلت آية سورة براءة: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة:24] على أن قصد أحد الأغراض الدنيوية ليس بعذر شرعي، بل فاعله فاسق متوعد بعدم الهداية إذا كانت هذه الأمور أو بعضها أحب إليه من الله ورسوله ومن الجهاد في سبيل الله.
وأي خير يبقى مع مشاهدة الشرك وغيره من المنكرات والسكوت عليها؟ بل وفعلها كما حصل ذلك من بعض من ذكرت من المنتسبين للإسلام؟
وإن زعم المقيم من المسلمين بينهم أن له أغراضًا من الأغراض الدنيوية، كالدراسة أو التجارة أو التكسب فذلك لا يزيده إلا مقتا.
وقد جاء في كتاب الله عز وجل الوعيد الشديد والتهديد الأكيد على مجرد ترك الهجرة، كما في آيات سورة النساء المتقدم ذكرها، وهي قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ) فكيف بمن يسافر إلى بلاد الكفرة ويرضى الإقامة في بلادهم؟ وكما سبق أن ذكرت أن العلماء رحمهم الله تعالى حرموا الإقامة والقدوم إلى بلاد يعجز فيها المسلم عن إظهار دينه.
والمقيم للدراسة أو للتجارة أو للتكسب والمستوطن، حكمهم وما يقال فيهم حكم المستوطن لا فرق، إذا كانوا لا يستطيعون إظهار دينهم وهم يقدرون على الهجرة.
وأما دعوى بغضهم وكراهتهم مع الإقامة في ديارهم فذلك لا يكفي، وإنما حرم السفر والإقامة فيها لوجوه، منها:
1 – أن إظهار الدين على الوجه الذي تبرأ به الذمة متعذر وغير حاصل.
2 – نصوص العلماء رحمهم الله تعالى وظاهر كلامهم وصريح إشاراتهم أن من لم يعرف دينه بأدلته وبراهينه، ويستطيع المدافعة عنه، ويدفع شبه الكافرين، لا يباح له السفر إليهم.
3 – من شروط السفر إلى بلادهم: أمن الفتنة بقهرهم وسلطانهم وشبهاتهم وزخرفتهم، وأمن التشبه بهم والتأثر بفعلهم.
4 – أن سد الذرائع وقطع الوسائل الموصلة إلى الشرك من أكبر أصول الدين وقواعده؛ ولا شك أنما ذكرته في رسالتك مما يصدر عن الشباب المسلمين الذين استوطنوا هذه البلاد هو من ثمرات بقائهم في بلاد الكفر، والواجب عليهم الثبات على دينهم والعمل به، وإظهاره، واتباع أوامره، والبعد عن نواهيه، والدعوة إليه، حتى يستطيعوا الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام.
والله المسئول أن يصلح أحوالكم جميعًا، وأن يمنحكم الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يعينكم على الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وأن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين لكل ما يحبه ويرضاه، وأن يعيذنا وإياكم وسائر المسلمين من مضلات الفتن ومن نزغات الشيطان، وأن يعيننا جميعًا على كل خير، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح ولاة أمور المسلمين ويمنحهم الفقه في دينه، وأن يوفقهم لتحكيم شريعة الله في بلادهم، والتحاكم إليها، والرضا بها، والحذر مما يخالفها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته [1].
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
إجابة على رسالة وجهها إلى سماحته مسلم يقيم في إيطاليا وصدر الجواب في 13/ 10 / 1416 هـ. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 9/ 402).
[ولا يجوز وصف أعداء الله تعالى بصفات الإجلال والتعظيم كالسيد، والعبقري، والسامي ونحو ذلك]
قال العلامة محمود التويجري في كتابه ” تحفة الأخوان بما جاء في المعاداة و الموالاة و الحب و البغض و الهجران” (20):
ولا يجوز وصف أعداء الله تعالى بصفات الإجلال والتعظيم كالسيد، والعبقري، والسامي ونحو ذلك، لما رواه أبو داود والنسائي والبخاري في الأدب المفرد عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا للمنافق سيدنا فإنه إن يكن سيدا فقد أسخطتم ربكم عز وجل) ورواه الحاكم في مستدركه وصححه، ورواه البيهقي في شعب الإيمان بنحوه. ولفظ الحاكم: (إذا قال الرجل للمنافق يا سيد فقد أغضب ربه تبارك وتعالى). ولفظ البيهقي: (إذا قال الرجل للمنافق ياسيد فقد باء بغضب ربه). قال الطيبي: ومولانا داخل في هذا الوعيد بل أشد وكذا قوله أستاذي اهـ.
وقد قلت المبالاة بشأن هذا الحديث الشريف حتى صار إطلاق إسم السيد ونحوه على كبراء الكفار والمنافقين مألوفا عند كثير من المسلمين في هذه الأزمان، ومثل السيد (المستر) باللغة الإفرنجية. وأشد الناس مخالفة لهذا الحديث أهل الإذاعات، لأنهم يجعلون كل من يستمع إلى إذاعاتهم من أصناف الكفار والمنافقين سادة، وسواء عندهم في ذلك الكبير والصغير والشريف والوضيع والذكر والأنثى، بل الإناث هن المقدمات عندهم في المخاطبة بالسيادة، وفي الكثير من الأمور خلافا لما شرعه الله من تأخيرهن. وبعض أهل الأمصار يسمون جميع نسائهم سيدات، وسواء عندهم في ذلك المسلمة والكافرة والمنافقة والصالحة والطالحة.
ويلي أهل الإذاعات في شدة المخالفة لحديث بريدة رضي الله عنه أهل الجرائد والمجلات وما شابهها من الكتب العصرية لأنهم لا يرون بموالاة أعداء الله وموادتهم وتعظيمهم بأسا، ولا يرون للحب في الله والبغض في الله والموالاة فيه والمعاداة فيه قدرا وشأنا.
[وجوب هجر أهل البدع]
قال العلامة محمود التويجري في كتابه ” تحفة الأخوان بما جاء في المعاداة و الموالاة و الحب و البغض و الهجران” (60 – 61): وقد جمع الشيخ الإمام اسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني نبذة حسنة في عقيدة أهل السنة والجماعة قال فيها: ويجانبون أهل البدع والضلالات ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه ولا يحبونهم ولا يصحبونهم ولا يسمعون كلامهم ولا يجالسونهم ولا يجادلونهم في الدين ولا يناظرونهم ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالآذان ووقرت في القلوب ضرت وجرت إليها الوساوس والخطرات الفاسدة ـ إلى أن قال ـ واتفقوا مع ذلك على القول بقهر أهل البدع وإذلالهم واخزائهم وإبعادهم وإقصائهم والتباعد منهم ومن مصاحبتهم ومعاشرتهم والتقرب إلى الله عز وجل بمجانبتهم ومهاجرتهم اهـ.
وكلام السلف ومن بعدهم من أئمة الخلف في هجر أهل البدع ومن يميل إليهم كثير جدا وفيما ذكرته ههنا كفاية إن شاء الله تعالى، ومع هذا فقد أبى أهل العقل المعيشي إلا أن يخالفوا ما كان عليه سلف الأمة وأئمتها فتراهم يبالغون في توقير أهل البدع وتعظيمهم ويحرصون على مؤاخاتهم مصاحبتهم ودعوتهم إلى منازلهم والدخول عليهم في بيوتهم ومواكلتهم ومشاربتهم والأنس بهم والإنبساط معهم وتوليتهم في الأعمال من تعليم وغيره لا فرق عندهم بينهم وبين أهل السنة نعوذ بالله من الخذلان وعمى البصيرة.
وقد صار تقريب أهل البدع وتوليتهم في وظائف التعليم والوثوق بهم في ذلك سببا في إفساد عقائد كثير من المتعلمين وأخلاقهم فتراهم لا يبالون بترك المأمورات ولا بارتكاب المنهيات فلا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.
وقد روى الطبراني وأبو نعيم وغيرهما بأسانيد فيها مقال عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه مرفوعا: (من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام). وذكر ابن الجوزي عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا مثله وتقدم ذكره قريبا.
وروى أبو نعيم عن سفيان الثوري أنه قال لبعض أصحابه: إياك ومجالسة أهل الجفاء ولا تصحب إلا مؤمنا وألا يأكل طعامك إلا تقي ولا تصحب الفاجر ولا تجالسه ولا تجالس من يجالسه ولا تؤاكله ولا تؤاكل من يؤاكله ولا تحب من يحبه ولا تفش إليه سرك ولا تبسَّم في وجهه ولا توسع له في مجلسك فإن فعلت شيئا من ذلك فقد قطعت عرى الإسلام.