1081 التعليق على الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ونوح وعبدالخالق، وموسى الصوماليين.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين وحكام الإمارات ووالديهم ووالدينا والمسلمين جميعا)
——”——-”——”
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1081):
قال الإمام أحمد رحمه الله: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَاتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَتُحِبُّهُ؟)) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَحَبَّكَ اللهُ كَمَا أُحِبُّهُ، فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لي: ((مَا فَعَلَ ابْنُ فُلَانٍ؟)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِيهِ: ((أَمَا تُحِبُّ أَنْ لَا تَاتِيَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، إِلَّا وَجَدْتَهُ يَنْتَظِرُكَ؟)) فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَهُ خَاصَّةً أَمْ لِكُلِّنَا؟ قَالَ: ((بَلْ لِكُلِّكُمْ)).
قال أبو عبد الرحمن: هذا حديث صحيح، رجاله رجال الصحيح.
* وقال النسائي رحمه الله: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِيَاسٍ – وَهُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ-، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: ((أَتُحِبُّهُ؟)) فَقَالَ: أَحَبَّكَ اللَّهُ كَمَا أُحِبُّهُ، فَمَاتَ، فَفَقَدَهُ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالَ: ((يَسُرُّكَ أَنْ لَا تَاتِيَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ عِنْدَهُ يَسْعَى يَفْتَحُ لَكَ؟)).
قال أبو عبد الرحمن: هذا حديث صحيح، رجاله رجال الشيخين.
الحديث أعاده النسائي ص (118)، وأخرجه الإمام أحمد (ج5 ص35).
===================
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في السند. (ترجمة الرواي، تخريجه).
أ –ترجمة الراوي. سبقتحت رقم (1075).
ب – التخريج:
أخرج الحديث النسائي، كتاب الجنائز، 22 – باب الأَمْرِ بِالاِحْتِسَابِ وَالصَّبْرِ عِنْدَ نُزُولِ الْمُصِيبَةِ.
الوجه الثاني: ما يستفاد من الحديث:
1 – عظم أجر من مات له ولد.
2 – أخذ الأبناء إلى المجالس التي يجتمع فيها أهل الصلاح والخبرة ووجهاء القوم؛ ليلتمس فيها الآداب، والسمت الحسن، ويكتسب فيها الخبرات، ورزانة العقل والحديث، ويتعلم صدق القول والفعل، وغيرهما من معادن الرجال.
3 – فيه الحديث مع الحضور والمخاطبين بما يسرهم، ويحبونه مما هو مباح.
4 – فيه السؤال عن أحوالهم، وما يعزز الترابط الأسري؛ حيث سأله عن مدى محبته لأبنه.
5 – فيه تفقد الغائب، إما بالتواصل معه مباشرة وهو الأفضل، وإما عن طريق من هم الأقرب إليه أو يتواصل معه.
6 – فيه تسلية أهل الميت بما يسرهم ويصبرهم.
7 – فيه أسلوب من أساليب نشر العلم والأحكام الشرعية في المجالس العامة: جعل الفائدة أو المعلومة على هيئة السؤال.
8 – فيه التأكد من كلام العاِلم إذا احتاج أن يتأكد من فهمه.
الفوائد والمسائل الواردة في كتاب [طرح التثريب في شرح التقريب (3/ 241 – 251)] للحافظ العراقي رحمه الله تعالى، في (كِتَابُ الْجَنَائِزِ) منه.
قلت سيف بن دورة:
تنبيه: راجع لتخريج الأحاديث الواردة في شرح العراقي؛ شرحنا المسمى رياح المسك العطرة بمشاركات الأصحاب المباركة على صحيح البخاري؛ بَابُ فَضْلِ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ فَاحْتَسَبَ وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155].
قال العراقي:
باب: (ثَوَابُ الْمَرَضِ وَالْمُصِيبَةِ) قال: ” (الْحَدِيثُ الثَّانِي) عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بَلَغَ بِهِ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – «لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ «لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ فَيَلِجَ النَّارَ إلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ «لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ»، وَعَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ.
فَيَلِجَ النَّارَ إلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ».
(فِيهِ) فَوَائِدُ: ذكر في الفائدة الأولى والثانية الروايات وضبط الألفاظ ثم قال:
(الثَّالِثَةُ) فِيهِ أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَدْخُلْ النَّارَ إلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ دُخُولُهُ الْجَنَّةَ إذْ لَا مَنْزِلَةَ بَيْنَهُمَا، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَغَيْرِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا «مَا مِنْ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلَاثَةٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إيَّاهُمْ»، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ مَرْفُوعًا «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إلَّا تَلْقَوْهُ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ مِنْ أَيُّهَا شَاءَ دَخَلَ»، وَهَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى مُطْلَقِ دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَيُوَافِقُهُ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ فَقَالَ أَتُحِبُّهُ فَقَالَ أَحَبَّك اللَّهُ كَمَا أُحِبُّهُ فَمَاتَ فَفَقَدَهُ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالَ مَا يَسُرُّك أَنْ لَا تَاتِيَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إلَّا وَجَدْتَهُ عِنْدَهُ يَسْعَى يَفْتَحُ لَك».
(الرَّابِعَةُ) تَقَدَّمَ أَنَّ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قِيلَ «يَا رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَاثْنَانِ فَقَالَ وَاثْنَانِ»، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ «مَنْ كَانَ لَهُ فَرَطَانِ مِنْ أُمَّتِي أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهِمَا الْجَنَّةَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ مِنْ أُمَّتِك فَقَالَ وَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ يَا مُوَفَّقَةُ قَالَتْ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَطٌ؟ قَالَ أَنَا فَرَطُ أُمَّتِي لَنْ يُصَابُوا بِمِثْلِي» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ بَارِقٍ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ انْتَهَى، وَعَبْدُ رَبِّهِ هَذَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ أَحْمَدُ مَا بِهِ بَاسٌ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – «مَنْ قَدَّمَ ثَلَاثَةً لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ كَانُوا لَهُ حِصْنًا حَصِينًا قَالَ أَبُو ذَرٍّ قَدَّمَتْ اثْنَيْنِ قَالَ، وَاثْنَيْنِ فَقَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ سَيِّدُ الْقُرَّاءِ قَدَّمَتْ وَاحِدًا قَالَ، وَوَاحِدٌ، وَلَكِنَّ إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ
وَرَوَى ذِكْرَ الْوَاحِدِ مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَيْضًا، وَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – أَوْحَى إلَيْهِ ذَلِكَ عِنْدَ سُؤَالِهِمْ عَنْ الِاثْنَيْنِ وَعَنْ الْوَاحِدِ إنْ صَحَّ، وَلَا يُمْتَنَعُ نُزُولُ الْوَحْيِ عَلَيْهِ فِي أَسْرَعِ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ كَمَا فِي نُزُولِ قَوْله تَعَالَى {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] «لَمَّا قَامَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ».
فَنَزَلَتْ {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] هَذَا عَلَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي مَفْهُومِ الْعَدَدِ هَلْ هُوَ حُجَّةٌ أَمْ لَا، فَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ حُجَّةً لَا تَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ هَذَا الْجَوَابِ، وَيَقُولُ ذِكْرُ هَذَا الْعَدَدِ لَا يُنَافِي حُصُولَ ذَلِكَ بِأَقَلِّ مِنْهُ بَلْ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ حُجَّةً فَلَيْسَ نَصًّا قَاطِعًا بَلْ دَلَالَتُهُ دَلَالَةٌ ضَعِيفَةٌ يُقَدَّمُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا عِنْدَ مُعَارِضَتِهَا.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ نَحْوَ مَا قُلْنَاهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ أَنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ شِدَّةِ وَجْدِ الْوَالِدَةِ وَقُوَّةِ صَبْرِهَا فَقَدْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَنْ فَقَدَتْ وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ أَشَدَّ مِمَّنْ فَقَدَتْ ثَلَاثَةً أَوْ مُسَاوِيَةً لَهَا فَتَلْحَقُ بِهَا فِي دَرَجَتِهَا قُلْت ظَاهِرُ الْحَدِيثِ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ فَاقِدِ اثْنَيْنِ، وَعَلَى كُلِّ فَاقِدِ وَاحِدٍ فَالتَّقْيِيدُ بِشِدَّةِ الْوَجْدِ الَّذِي يُصَيِّرُهُ كَفَاقِدِ ثَلَاثَةٍ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ – عَلَيْهِ السَّلَامُ – قَالَهُ ابْتِدَاءً لِأَتَمِّ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّ ثَلَاثًا أَوَّلُ الْكَثْرَةِ فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ لِئَلَّا يَتَّكِلَ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ عَلَى وَلَدِهِ فِي شَفَاعَتِهِ، وَسَكَتَ عَمَّا وَرَاءَهُ فَلَمَّا سُئِلَ أَعْلَمَ بِمَا عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ قَالَ، وَفِي قَوْلِهَا أَوْ اثْنَانِ بَعْدَ ذِكْرِ النَّبِيِّ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – ذَلِكَ فِي الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِعَدَدٍ مَا لَا يُنَافِيهِ مِنْ جِهَةِ دَلِيلِ الْخِطَابِ عَمَّا عَدَاهُ مِنْ الْعَدَدِ كَانَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ إلَّا بِنَصٍّ انْتَهَى.
(الْخَامِسَةُ) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ إنَّمَا خُصَّ الْوَلَدُ بِثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ أَوَّلُ مَرَاتِبِ الْكَثْرَةِ فَبِعِظَمِ الْمَصَائِبِ تَكْثُرُ الْأُجُورُ فَأَمَّا إذَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَقَدْ يُخَفَّفُ أَجْرُ الْمُصِيبَةِ بِالزَّائِدِ لِأَنَّهَا كَأَنَّهَا صَارَتْ عَادَةً، وَدَيْدَنًا كَمَا قَالَ الْمُتَنَبِّي
أَنْكَرْت طَارِقَةَ الْحَوَادِثِ مَرَّةً … ثُمَّ اعْتَرَفْت بِهَا فَصَارَتْ دَيْدَنًا
وَقَالَ آخَرُ
رُوِّعْت بِالْبَيْنِ حَتَّى مَا أُرَاعُ لَهُ … وَبِالْمَصَائِبِ فِي أَهْلِي وَجِيرَانِي
ثُمَّ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْأَحْرَى وَالْأَوْلَى إذْ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ كَثُرْت مَصَائِبُهُ كَثُرَ ثَوَابُهُ فَاكْتَفَى بِذَلِكَ عَنْ ذِكْرِهِ قُلْت إذَا جَعَلْنَا لِمَفْهُومِ الْعَدَدِ دَلَالَةً فَدَلَالَتُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فِي مَنْعِ النُّقْصَانِ لَا فِي مَنْعِ الزِّيَادَةِ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ لَهُ أَرْبَعَةٌ فَبِالضَّرُورَةِ قَدْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ فَلَا مَعْنَى لِهَذَا الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَإِذَا أَخْبَرَ الصَّادِقُ بِأَنَّ مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ لَمْ يَلِجْ النَّارَ إلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَم ِفَمَاتَ لِشَخْصٍ ثَلَاثَةٌ فَحَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ الْبُشْرَى ثُمَّ مَاتَ لَهُ أَرْبَعُ انْقَطَعَتْ هَذِهِ الْبُشْرَى بِمَوْتِ هَذَا الرَّابِعِ، وَصَارَ عَلَى خَطَرٍ دُخُولُهُ النَّارَ بَعْدَ تِلْكَ الْبُشْرَى، وَهَبَ أَنَّ حُزْنَهُ بِهَذَا الرَّابِعِ خَفِيفٌ لِاعْتِيَادِهِ الْمَصَائِبَ فَهَلْ يَزِيدُ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ لَمْ تَحْدُثْ لَهُ هَذِهِ الْمُصِيبَةُ أَصْلًا، وَكَيْفَ السَّبِيلُ إلَى إحْبَاطِ ثَوَابِ مَا مَضَى مِنْ الْمَصَائِبِ بِهَذِهِ الْمُصِيبَةِ الرَّابِعَةِ هَذَا مَا لَا يَتَخَيَّلُهُ ذُو فَهْمٍ فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ مَاتُوا دَفْعَةً وَاحِدَةً كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى خِلَافِ مَا أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى الْعَادَةَ تَرَتَّبَتْ الْبُشْرَى بِعَدَمِ دُخُولِ النَّارِ عَلَى مَوْتِ ثَلَاثَةٍ، وَيُثِيبُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَوْتِ الرَّابِعِ بِمَا يَشَاءُ، وَقَدْ دَخَلَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِكَوْنِهِ صَدَقَ أَنَّهُ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(السَّادِسَةُ) أُطْلِقَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ذِكْرُ الْوَلَدِ، وَقَيَّدَهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحَيْنِ بِقَوْلِهِ «لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ» أَيْ لَمْ يَبْلُغُوا سِنَّ التَّكْلِيفِ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ الْحِنْثُ، وَهُوَ الْإِثْمُ، وَمُقْتَضَى حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِالْأَوْلَادِ الصِّغَارِ دُونَ الْبَالِغِينَ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ، وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِهَذَا الْحَدِّ لِأَنَّ الصَّغِيرَ حُبُّهُ أَشَدُّ، وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ قُلْت قَدْ يُعْكَسُ هَذَا الْمَعْنَى، وَيُقَالُ التَّفَجُّعُ عَلَى فَقْدِ الْكَبِيرِ أَشَدُّ، وَالْمُصِيبَةُ بِهِ أَعْظَمُ، وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ نَجِيبًا يَقُومُ عَنْ أَبِيهِ بِأُمُورِهِ، وَيُسَاعِدُهُ فِي مَعِيشَتِهِ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ، وَالْمَعْنَى الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَلَّلَ بِهِ ذَلِكَ مَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ إلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إيَّاهُمْ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَغَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، وَأُمِّ سُلَيْمٍ، وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ حَبِيبَةَ بِنْتِ سَهْلٍ، وَأُمِّ مُبَشِّرٍ، وَمَنْ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ إثْمٌ فَرَحْمَتُهُ أَعْظَمُ، وَشَفَاعَتُهُ أَبْلَغُ.
(الثَّامِنَةُ) قَدْ يُقَالُ إنَّ سَائِرَ الْأَوْلَادِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَالِغِ مِنْهُمْ، وَغَيْرِ الْبَالِغِ، وَذَلِكَ بِأَحَدِ أَوْجُهٍ:
(أَوَّلُهَا) أَنْ نَقُولَ بِقَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ لَا يُقْتَضَى أَنَّ الْبَالِغِينَ لَيْسُوا كَذَلِكَ.
(ثَانِيهَا) أَنْ نَاخُذَ بِقَوْلِ مَنْ يَاخُذُ بِالْمُطْلَقِ، وَيَرَى الْمُقَيَّدَ فَرْدًا مِنْ الْأَفْرَادِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْمُطْلَقُ (ثَالِثُهَا) أَنْ يُقَالَ أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ هُنَا لَيْسَ حُجَّةً لِكَوْنِهِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَإِنَّ الْغَالِبَ فِي مَوْتِ الْأَوْلَادِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي صِغَرِهِمْ، وَمَنْ تَأَخَّرَ أَجَلُهُ حَتَّى يَبْلُغَ فَالْغَالِبُ أَنَّ أَبَاهُ يَتَقَدَّمُهُ فِي الْوَفَاةِ، وَقَدْ يَتَخَلَّفُ ذَلِكَ، وَالْقَاعِدَةُ أَنْ مَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لَا مَفْهُومَ لَهُ.
(رَابِعُهَا) أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ لَيْسَ حُجَّةً بِتَقْرِيرٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ خَرَجَ جَوَابًا لِسُؤَالِ بِأَنْ يَكُونَ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – سُئِلَ عَمَّنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ أَوْ ذَكَرَ ذَلِكَ لِمَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ فَجَاءَ بِهَذَا الْقَيْدِ مُطَابِقًا لِحَالِهِ لَا لِأَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْحَالَةِ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ مَا خَرَجَ جَوَابًا لِسُؤَالٍ لَا مَفْهُومَ لَهُ.
(خَامِسُهَا) قَدْ يَدَّعِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، وَأَنَّهُمْ إذَا بَلَغُوا كَانَ التَّفَجُّعُ عَلَيْهِمْ أَكْثَرُ، وَكَانَتْ الْمُصِيبَةُ بِهِمْ أَشَدَّ فَكَانُوا أَوْلَى بِهَذَا الْحُكْمِ مِنْ الصِّغَارِ، وَيَكُونُ التَّقْيِيدُ بِالصِّغَرِ إشْعَارًا لَعِظَمِ الثَّوَابِ، وَإِنْ خَفَّتْ الْمُصِيبَةُ بِهِمْ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَبْلُغُوا مَبْلَغَ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِالْأُمُورِ فَمَا ظَنُّك بِبُلُوغِهِمْ، وَكَمَالِهِمْ فَعَلَيْك بِالنَّظَرِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي ذَكَرْتهَا، وَهَلْ تَقْوَى فَيُعْمَلُ بِهَا أَوْ تَضْعُفُ فَتَطْرَحُ فَلَسْت عَلَى ثِقَةٍ مِنْهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ لِابْنِ مَنْدَهْ عَنْ شَرَاحِيلَ الْمُنْقِرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ «مَنْ تُوُفِّيَ لَهُ أَوْلَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى دَخَلَ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ حِسْبَتِهِمْ»، وَهَذَا الْحَدِيثُ إنَّمَا هُوَ فِي الْبَالِغِينَ لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ يُقْتَلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى غَالِبًا.
(التَّاسِعَةُ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ شَدِيدَ الْمَحَبَّةِ لِأَوْلَادِهِ أَوْ خَفِيفَهَا أَوْ خَالِيًا مِنْ مَحَبَّتِهِمْ أَوْ كَارِهًا لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَظِنَّةُ الْمَحَبَّةِ، وَالشَّفَقَةِ فَنِيطَ الْحُكْمُ بِهِ، وَإِنْ تَخَلَّفَ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ، وَقَدْ يُحِب ُّالشَّخْصُ بَعْضَ أَقَارِبِهِ أَوْ أَصْدِقَائِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَحَبَّةِ وَلَدِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَرِدْ تَرْتِيبُ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى مَوْتِ الْقَرِيبِ وَالصِّدِّيقِ، وَلَا عَلَى مَوْتِ الْأَبِ، وَالْأُمِّ لَكِنْ فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – «مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَطٌ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ إلَّا تَصْرِيدًا قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لِكُلِّنَا فَرَطٌ قَالَ أَوَ لَيْسَ مِنْ فَرَطِ أَحَدِكُمْ أَنْ يَفْقِدَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ». وَقَوْلُهُ تَصْرِيدًا بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ قَلِيلًا، وَأَصْلُهُ السَّقْيُ دُونَ الرَّيِّ، وَمِنْهُ صَرِدَ لَهُ الْعَطَاءَ قَلَّلَهُ.
[فَائِدَة هَلْ أَوَّلاد الْأَوْلَاد كَالْأَوْلَادِ]
(الْعَاشِرَةُ) قَدْ يُقَالُ إنَّ أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ فِي ذَلِكَ كَالْأَوْلَادِ سَوَاءٌ كَانُوا أَوْلَادَ الْبَنِينَ أَوْ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ لِصِدْقِ الِاسْمِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ يُقَالُ لَا يَلْتَحِقُونَ فِي ذَلِكَ بِهِمْ لِأَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْأَوْلَادِ عَلَيْهِمْ لَيْسَ حَقِيقَةً، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَوْلَادِ الْبَنِينَ فَيَكُونُونَ كَالْأَوْلَادِ، وَأَوْلَادِ الْبَنَاتِ فَلَا يَكُونُونَ كَالْأَوْلَادِ قَالَ الشَّاعِرُ:
بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا … بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ
وَقَدْ يُقَالُ يَنْزِلُونَ مَنْزِلَتَهُمْ عِنْدَ فَقْدِهِمْ لَا مَعَ وُجُودِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا أَوْلَادُ أَوْلَادٍ حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَيْهِمْ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ، وَأَوْلَادُ أَوْلَادٍ فَفِي دُخُولِ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا لَا يَدْخُلُونَ، وَالثَّانِي يَدْخُلُونَ، وَالثَّالِثُ يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْبَنِينَ دُونَ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ، وَقَدْ وَرَدَ تَقْيِيدُ الْأَوْلَادِ بِكَوْنِهِمْ مِنْ صُلْبِهِ، وَذَلِكَ يُخْرِجُ أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَهُوَ قَاطِعٌ لِلنِّزَاعِ فَرَوَى أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِي قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – «لَقَدْ اسْتَجَنَّ بِجُنَّةٍ حَصِينَةٍ مِنْ النَّارِ رَجُلٌ سَلَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ ثَلَاثَةٌ مِنْ صُلْبِهِ فِي الْإِسْلَامِ» فِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ أَبُو شَيْبَةَ الْقُرَشِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا «مَنْ أُثْكِلَ ثَلَاثَةً مِنْ صُلْبِهِ فَاحْتَسَبَهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» إسْنَادُ الطَّبَرَانِيِّ لَا بَاسَ بِهِ، وَفِي إسْنَادِ أَحْمَدُ … بْنُ لَهِيعَةَ.
[فَائِدَة الِاحْتِسَاب فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَات وَعِنْد الْمَكْرُوهَات]
(الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ) قَدْ عَرَفْت أَنَّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ تَقْيِيدَ ذَلِكَ بِالِاحْتِسَابِ، وَوَرَدَ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَالِاحْتِسَابُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَعِنْدَ الْمَكْرُوهَاتِ هُوَ الْبِدَارُ إلَى طَلَبِ الْأَجْرِ وَتَحْصِيلِهِ، وَبِالتَّسْلِيمِ وَالصَّبْرِ أَوْ بِاسْتِعْمَالِ أَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْقِيَامِبِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْسُومِ فِيهَا طَالِبًا لِلثَّوَابِ الْمَرْجُوِّ مِنْهَا وَالِاحْتِسَابِ مِنْ الْحَسَبِ كَالِاعْتِدَادِ مِنْ الْعَدِّ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِمَنْ يَنْوِي بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ احْتَسَبَهُ لِأَنَّ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَعْتَدَّ عَمَلَهُ فَجُعِلَ فِي حَالِ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ كَأَنَّهُ مُعْتَدٌّ بِهِ انْتَهَى.
وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ دَفَنَ ثَلَاثَةً مِنْ الْوَلَدِ فَصَبَرَ عَلَيْهِمْ وَاحْتَسَبَهُمْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ»
وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ لِابْنِ قَانِعٍ عَنْ حَوْشَبِ بْنِ طَخْمَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ قِيلَ لَهُ اُدْخُلْ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ مَا أَخَذْنَا مِنْك» فَمَنْ يَحْمِلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ يَخُصُّ ذَلِكَ بِالصَّابِرِ دُونَ الْجَازِعِ، وَقَدْ مَشَى عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عَنْهُ فِي مُطْلَقِ الْمَصَائِبِ لَكِنْ تَقَدَّمَ فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى سَلَّمَ أَوْ لَمْ يُسَلِّمْ رَضِيَ أَوْ لَمْ يَرْضَ صَبَرَ أَوْ لَمْ يَصْبِرْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوَابٌ إلَّا الْجَنَّةَ»، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ لَهُ ابْنٌ يَرُوحُ إذَا رَاحَ إلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَسَأَلَ نَبِيُّ اللَّهِ – عَلَيْهِ السَّلَامُ – عَنْهُ فَقَالَ أَتُحِبُّهُ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ نَعَمْ فَأَحَبَّك اللَّهُ كَمَا أُحِبُّهُ فَقَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَشَدُّ لِي حُبًّا مِنْك لَهُ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ ابْنُهُ ذَاكَ فَرَاحَ إلَى نَبِيِّ اللَّهِ – عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ بَثُّهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَجَزِعْت؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَوَ مَا تَرْضَى أَنْ يَكُونَ ابْنُك مَعَ ابْنِي إبْرَاهِيمَ يُلَاعِبُهُ تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ؟ قَالَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ» إبْرَاهِيمُ بْنُ عُبَيْدٍ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ لَكِنْ قَالَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ الدِّمْيَاطِيُّ الْحَافِظُ لَا نَعْرِفُ لَهُ سَمَاعًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ قُلْت، وَلَا يَحْتَاجُ عَلَى طَرِيقَةِ مُسْلِمٍ إلَى ثُبُوتِ مَعْرِفَةِ السَّمَاعِ لَكِنَّ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ قَالَ إنَّ إبْرَاهِيمَ هَذَا لَا يُعْرَفُ فَاقْتَضَى أَنَّهُ الَّذِي عِنْدَهُ غَيْرُ الَّذِي أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ.
وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا الْحَدِيثَ لِكَوْنِ هَذَا الرَّجُلُ اعْتَرَفَ لِلنَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِالْجَزَعِ، وَذَلِكَ يُنَافِي الصَّبْرَ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ لَيْسَ فِيهِ الْحُكْمُ لَهُ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا فِيهِ الْبُشْرَى لِابْنِهِ الْمُتَوَفَّى، وَقَدْ يُقَالُ لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِحَالَةِ الصَّبْرِ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ فِيهَا هَذَا التَّقْيِيدُ، وَبَعْضُ الْأَحَادِيثِ الْمُقَيَّدَةِ بِالصَّبْرِ ضَعِيفَةٌ.
وَأَمَّا التَّقْيِيدُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِقَوْلِهِ فَتَحْتَسِبُهُ فَلَعَلَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ لِقِلَّةِ الصَّبْرِ عِنْدَهُنَّ، وَكَثْرَةِ الْجَزَعِ فِيهِنَّ مَعَ إظْهَارِ التَّفْجِيعِ بِفِعْلِ مَا لَا يَجُوزُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْهُنَّ فَرَدَعَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ بِهَذَا الْكَلَامِ لِيَحْصُلَ انْكِفَافُهُنَّ عَمَّا يَتَعَاطَيْنَهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ فَكَانَ فَائِدَةُ هَذَا التَّقْيِيدِ ارْتِدَاعَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ لَا تَخْصِيصَ الْحُكْمِ بِهِ.
وَقَدْ عُرِفَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ شَرْطَ الْعَمَلِ بِالْمَفْهُومِ أَنْ لَا يَظْهَرَ لَهُ فَائِدَةٌ سِوَى تَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِهِ.
[فَائِدَة هَلْ الْكَافِر مِنْ أَهْل الْأُجُور]
(الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ) قَوْلُهُ لِمُسْلِمٍ يَقْتَضِي أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهُوَ وَاضِحٌ فَإِنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْأُجُورِ لَكِنْ لَوْ مَاتَ لَهُ الْأَوْلَادُ فِي حَالِ الْكُفْرِ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ هَلْ يَنْفَعُهُ مَا مَضَى مِنْ مَوْتِهِمْ فِي زَمَنِ كُفْرِهِ أَوْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُمْ فِي حَالَةِ إسْلَامِهِ؟ قَدْ يَدُلُّ لِلْأَوَّلِ قَوْلُهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ «أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ» لَمَّا قَالَ لَهُ أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْت أَتَحْنَثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ هَلْ لِي فِيهَا مِنْ شَيْءٍ؟ لَكِنْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ فِيهَا تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ فِي الْإِسْلَامِ فَالرُّجُوعُ إلَيْهَا أَوْلَى فَتَقَدَّمَ فِي الْفَائِدَةِ الْعَاشِرَةِ حَدِيثُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِي، وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاتَ لِي وَلَدَانِ فِي الْإِسْلَامِ فَقَالَ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدَانِ فِي الْإِسْلَامِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ»، وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ أَيْضًا عَنْ امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا رَجَاءُ قَالَتْ: «كُنْت عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إذْ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ بِابْنٍ لَهَا فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ لِي فِيهِ بِالْبَرَكَةِ فَإِنَّهُ قَدْ تُوُفِّيَ لِي ثَلَاثَةٌ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَمُنْذُ أَسْلَمْتِ؟ قَالَتْ نَعَمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – جُنَّةٌ حَصِينَةٌ فَقَالَ لِي رَجُلٌ اسْمَعِي يَا رَجَاءُ مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ
– صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»، وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ «مَنْ وُلِدَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ فِي الْإِسْلَامِ فَمَاتُوا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ إيَّاهُمْ»، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَهِيَ أَنْ تَكُونَ وِلَادَتُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُمْ لَوْ وُلِدُوا لَهُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ، وَمَاتُوا بَعْدَ إسْلَامِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا الثَّوَابُ.
[فَائِدَة هَلْ للسقط حُكْم الْأَوْلَاد الثَّلَاثَة]
(الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ) هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَتَنَاوَلُ السِّقْطَ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَلَدًا لَكِنْ وَرَدَ ذِكْرُ السِّقْطِ فِي أَحَادِيثَ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهَا عَنْ عَلِيٍّ – عَلَيْهِ السَّلَامُ – مَرْفُوعًا «إنَّ السِّقْطَ لَيُرَاغِمُ رَبَّهُ إذَا أَدْخَلَ أَبَوَيْهِ النَّارَ فَيُقَالُ أَيُّهَا السِّقْطُ الْمَرَاغِمُ رَبَّهُ أَدْخِلْ أَبَوَيْك الْجَنَّةَ فَيَجُرُّهُمَا بِسُرَرِهِ حَتَّى يُدْخِلَهُمَا الْجَنَّةَ»، وَأَسْمَاءُ هَذِهِ لَا تُعْرَفُ قَالَهُ صَاحِبُ الْمِيزَانِ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ أَيْضًا عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا «، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ السِّقْط لَيَجُرُّ أُمَّهُ بِسُرَرِهِ إلَى الْجَنَّةِ إذَا احْتَسَبَتْهُ»، وَفِيهِ يَحْيَى بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ لَا يُعْرَفُ قَالَهُ الذَّهَبِيُّ أَيْضًا، وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْأَوْسَطِ عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ مَرْفُوعًا «تَزَوَّجُوا فَإِنَّى مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ، وَإِنَّ السِّقْطَ يَظَلُّ مُحْبَنْطِئًا بِبَابِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ اُدْخُلْ يَقُولُ حَتَّى يُدْخَلَ أَبَوَايَ» كَذَا، وَفِيهِ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيُّ ضَعِيفٌ، وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي الضُّعَفَاءِ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَفِيهِ فَيُقَالُ، وَأَنْتَ، وَأَبَوَيْك قَالَ ابْنُ حِبَّانَ مُنْكَرٌ لَا أَصْلَ لَهُ مِنْ حَدِيثِ بَهْزٍ.
[فَائِدَة الْمُرَاد بِتَحِلَّةِ الْقَسْم]
(الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ ((إلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ))
فَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْمُرَادُ قَسَمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وُرُودِ جَمِيعِ الْخَلْقِ النَّارَ فَيَرِدُهَا بِقَدْرِ مَا يَبَرُّ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمَهُ ثُمَّ يَنْجُو ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْقَسَمِ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَالْجُمْهُورُ هُوَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} [مريم: 71]، وَالْقَسَمُ مُقَدَّرٌ أَيْ، وَاَللَّهِ إنْ مِنْكُمْ إلَّا وَارِدُهَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ رَوَاهُ زَبَّانُ بْنُ فَايِدٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – «مَنْ حَرَسَ لَيْلَةً وَرَاءَ عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ تَطَوُّعًا لَمْ يَرَ النَّارَ تَمَسُّهُ إلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71] قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَفِي هَذَا مَا يَقْطَعُ بِصِحَّةِ قَوْلِ أَبِي عُبَيْدٍ. انْتَهَى.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ الْقَسَمُ فِي قَوْله تَعَالَى {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} [مريم: 68].
وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: حَتْمًا مَقْضِيًّا قَسَمًا، وَاجِبًا، وَحَكَى ابْنُ مَسْعُودٍ
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَوْضِعِ الْقَسَمِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ قَسَمًا حَقِيقِيًّا، وَلَكِنَّ هَذَا اللَّفْظُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ تَقْلِيلِ الْمُدَّةِ فَتَقُولُ الْعَرَبُ مَا يُقِيمُ فُلَانٌ عَنْهُ إلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ أَيْ مُدَّةً يَسِيرَةً، وَمَا يَنَامُ الْعَلِيلُ إلَّا كَتَحْلِيلِ الْأَلْيَةِ شَبَّهُوا تِلْكَ الْمُدَّةَ الْيَسِيرَةَ بِمُدَّةِ قَوْلِ الْقَائِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِأَنَّهُ يُحَلِّلُ بِهَا الْقَسَمَ فَيَقُولُ الْقَائِلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا أُكَلِّمُ زَيْدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ إنْ دَخَلَ النَّارَ يَكُونُ مُكْثُهُ فِيهَا قَلِيلًا كَمُدَّةِ تَحْلِيلِ الْيَمِينِ ثُمَّ يُنْجِيهِ اللَّهُ تَعَالَى.
(الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ) فِيهِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ دَلَالَةٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} [مريم: 71]، وَأَنَّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارَوَقَالَ بَعْضُهُمْ الْخِطَابُ فِي قَوْله تَعَالَى، {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} [مريم: 71] رَاجِعٌ إلَى الْكُفَّارِ فَقَطْ، وَيَكُونُ فِيهِ الِانْتِقَالُ مِنْ الْغَيْبَةِ إلَى الْحُضُورِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّهُ، وَبَقِيَّةُ الْآيَةِ صَرِيحٌ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72]
{السَّادِسَةَ عَشْرَةَ} اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْوُرُودِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
(أَحَدُهَا):أَنَّ الْمُرُورَ عَلَى الصِّرَاطِ، وَهُوَ جِسْرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى جَهَنَّمَ حَكَى ابْنُ مَسْعُودٍ، وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – «مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ لَمْ يَرِدْ عَلَى النَّارِ إلَّا عَابِرَ سَبِيلٍ» يَعْنِي الْجِوَازَ عَلَى الصِّرَاطِ.
(الثَّانِي):أَنَّهُ الْوُقُوفُ عِنْدَهَا حَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ.
(الثَّالِثُ):أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَهَا حَقِيقَةً، وَلَكِنْ تَكُونُ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتْ عَلَى إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ – عَلَيْهِ السَّلَامُ – حِينَ أُدْخِلَ نَارَ النُّمْرُودِ حُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
(الرَّابِعُ):أَنَّ الْمُرَادَ بِوُرُودِهَا مَا يُصِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْحُمَّى لِقَوْلِهِ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – «إنَّ الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَاسْتَشْهَدَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «عَادَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَنَا مَعَهُ مَرِيضًا كَانَ يَتَوَعَّكُ فَقَالَ أَبْشِرْ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ هِيَ نَارِي أُسَلِّطُهَا عَلَى عَبْدِي الْمُؤْمِنِ لِتَكُونَ حَظَّهُ مِنْ نَارِ الْآخِرَةِ».
[فَائِدَة مَعْنَى الِاسْتِثْنَاء فِي قَوْله إلَّا تَحِلَّة الْقَسْم]
{السَّابِعَةَ عَشْرَ} الْجُمْهُورُ عَلَى حَمْلِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ إلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَقَدْ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ إلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ أَيْ لَا تَمَسُّهُ قَلِيلًا، وَلَا مِثْلَ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ إلَّا الْفَرْقَدَانِ أَيْ، وَلَا الْفَرْقَدَانِ. انْتَهَى.
وَالْبَيْتُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ هُوَ:
وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ … لَعَمْرُ أَبِيك إلَّا الْفَرْقَدَانِ،
وَهَذَا الْمَعْنَى لِإِلَّا، وَهُوَ كَوْنُهَا عَاطِفَةً بِمَنْزِلِهِ الْوَاوِ فِي التَّشْرِيكِ فِي اللَّفْظِ، وَالْمَعْنَى ذَكَرَهُ الْأَخْفَشُ، وَالْفَرَّاءُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَجَعَلُوا مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] وقَوْله تَعَالَى {لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 10] {إِلا مَنْ ظَلَمَ} [النمل: 11] أَيْ، وَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَلَا مَنْ ظَلَمَ، وَتَأَوَّلَهُمَا الْجُمْهُورُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ”. انتهى.
الوجه الرابع: المسائل المتعلقة بالحديث، وفيه:
وسيكون الحديث في خمسة أمور كالتالي:
1 – تسلية نفوس النساء والرجال عند فقد الأطفال للحافظ ابن رجب
“بسم الله الرحمن الرحيم، ربِّ يسِّر يا كريم.
الحمد لله رب العالمين، وصلواته وسلامه عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد:
ففي “الصحيحين” [أخرجه البخاري (101)، ومسلم (2633)] من حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: «قَالَ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ، فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ. فَوَاعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ، فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ، فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ: ((مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلاَثَةً مِنْ وَلَدِهَا، إِلَّا كَانَ)) [قال الحافظ في “الفتح” (1/ 236): وتعرب “كان” تامة، أي حصل لها حجاب. وللمصنف في الجنائز: “إلا كن لها” أي: الأنفس التي تقدم. وله في الاعتصام: “إذا كانوا” أي: الأولاد]، ((لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ)). فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَتَيْنِ؟ فَقَالَ: ((وَاثْنَتَيْنِ))».
هذا يدل عَلَى أنَّ مجالس النبي صلى الله عليه وسلم للفقه في الدين والتذكير ونحو ذلك لم يكن النساء يحضرنها مع الرجال، وإنما كن يشهدن الصلوات في مؤخر المساجد ليلاً ثم ينصرفن عاجلاً، وكن يشهدن العيدين مع المسلمين منفردات عن الرجال من ورائهم، ولهذا لما خطب النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم العيد رأى أنه لم يسمع النساء، فلما فرغ جاء ومعه بلال إِلَى النساء، فوعظهن، وذكرهن وأمرهن بالصدقة، وأجلس الرجال حتى يفرغ من موعظة النساء [أخرجه البخاري (98)، ومسلم (884) من حديث ابن عباس. وأخرجه البخاري (978)، ومسلم (885) من حديث جابر].
وأصلُ هذا أنَّ اختلاط النساء بالرجال في المجالس بدعةٌ، كما قال الحسن البصري؛ فلذلك قال له النساءُ: يا رسول الله، غَلَبنا عليك الرجال.
وقد روي من حديث أبي هريرة “أن النساء قلن: يا رسول الله، إنا لا نقدر عَلَى أن نجالسك في مجلسك، قد غلبنا {عليك} الرجال! فواعدنا موعدًا نأتيك، قال: موعدكن بيت فلانة. فأتاهن فحدثهن” [أخرجه مسلم (2633)].
وقد أمره الله تعالى أن يبلِّغ ما أُنزل إِلَيْهِ للرجال والنساء، وأن يعلم الجميع؛ كما قال له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] الآية. وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] الآية.
فامتثل ما أمره الله تعالى، ووعدهن مجلسًا خالصًا لهن في بيت امرأة، ولعل تلك المرأة كانت من أزواجه أو محارمه، والله أعلم بحقيقة ذلك.
[أولاً: الأحاديث الواردة فيمن مات له من الولد]
[هل يدخل البالغ في هذ العموم؟]
ثم وفى بموعده لهن فأتاهن في يوم موعدهن، فوعظهن وأمرهن ونهاهن، ورغبهن ورهبهن، فكان من جُملة ما بشَّرهن به أن قال لهن: ((مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلاَثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلَّا {كَانُو} لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ)). فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَتَيْنِ؟ قَالَ: ((وَاثْنَتَيْنِ))» [أخرجه البخاري (1249) من حديث أبي سعيد، ومسلم (2634) من حديث أبي هريرة]. وليس في هذا الحديث {أنهم} لم يبلغوا الحنث. وعمومُه يدخل فيه من بلغ الحنث ومن لم يبلغ؛ والمصيبة بمن بلغ أعظم وأشق عَلَى النفوس.
والمصيبة بمن لم يبلغ أهون وأخف، وقد جاء تقييده في حديث أنس بن مالك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنَ النَّاسِ مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ ثَلاَثَةٌ مِنَ الوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ، إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ» خرجاه في “الصحيحين” [أخرجه البخاري (1248)، وليس عند مسلم]. والمُراد بالحنث: الإثم. والمعنى: أنه لم يجر عليه الإثم ببلوغه العمر الَّذِي يكتب عليه الإثم فيه، وهو بلوغ الحُلم،
[حكم أطفال المشركين يوم القيامة]
وعلَّل ((بفضل رحمة الله إياهم))، يعني: أن الله يرحم أطفال المسلمين رحمة تامة، حتى تفضُل عنهم، فيدخل آباؤهم في فضل تلك الرحمة، وهذا مما يستدل {به} عَلَى أن أطفال المسلمين في الجنة.
وقد قال الإمامُ أحمد: ليس فيهم اختلاف أنَّهم في الجنة. وضعَّف ما رُوي مما يخالف ذلك أيضاً و {لا} أحد يشك أنهم في الجنة.
قال: وإنما اختلفوا في أطفال المشركين. وقال أيضاً: هو يرجى لأبويه فكيف يُشك فيه؟! يعني: أنه يُرجى لأبويه دخول الجنة بسببه، فكيف يشك فيه؟! ولذلك نص الشافعي عَلَى أنَّ أطفال المؤمنين في الجنة، وروي ذلك عن علي، وابن مسعود، وابن عباس، وكعب.
[أين تكون أرواحهم؟]
وخرَّج ابنُ أبي حاتم، عن ابن مسعود قال: “أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير، تسرح في الجنة حيث شاءت، فتأوي إِلَى قناديل معلقة في العرش”. وخرج البيهقي من رواية ابن عباس، عن كعب نحوه. وفي “صحيح مسلم” [(2635)] عن أبي هريرة “أن رجلاً قال له: مات لي ابنان، فما أنت مُحدِّثي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بحديث تُطيِّبُ به أنفسنا عن موتانا؟
فَقَالَ: “نعم، صغارُهم دَعَامِيص الجنة [الدعموص: الدخال في الأمور: أي: أنهم سياحون في الجنة، دخالون في منازلها لا يمنعون من موضع، كما أن الصبيان في الدُّنْيَا لا يمنعون من الدخول عَلَى الحرم، ولا يحتجب منهم أحدًا “اللسان” (7/ 36)]، يتلقَّى أحدهم أباه- أو قال: أبويه -فيأخذ بثوبه- أو قال: بيده- كما آخُذ أنا بصَنِفَة [صنفة الإزار، بالكسر: طرته، ويقال: هي حاشية الثوب. أي: جانب كان -قال الليث: الصنفة: قطعة من الثوب. وقال شمر: الصنف: الطرف الزاوية من الثوب وغيره. “اللسان” (9/ 198 – 199)] ثوبك، فلا يتناهى -أو قال: ينتهي- حتى يُدخله الله وأباه الجنة”. وخرَّج النسائي [برقم (1876)] من حديث أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَمُوتُ لَهُمَا ثَلَاثَةُ أَوْلاَدٍ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، إِلَّا إِلَّا أَدْخَلَهُمَا اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ الجَنَّة. قَالَ تَعَالَى لَهُمْ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ. فَيَقُولُونَ: حَتَّى يَدْخُلَ أَبَوَانَا. فَيُقَالُ لَهُمْ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَبَوَاكُمْ)). وخرَّج الإمام أحمد [(5/ 241)]، وابن ماجه [(1609)] من حديث معاذ، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((والذي نفسي بيده، إِنَّ السقط ليجُرُّ أمُّه بسرَرِه إِلَى الجنة، إذا احتسبته)). وخرَّج الإمام أحمد [(4/ 183)]، وابن ماجه [(1604)] أيضاً من حديث عتبة بن عبدٍ السُّلمي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل)).
[من الخطابات للولدان يوم القيامة]
وفي رواية للإمام أحمد [(4/ 105)]: ((إِنَّ الله تعالى يقول للولدان يوم القيامة: ادخلوا الجنّة. فيَقُولُونَ: يا رب، حتى يدخل آباؤنا وأمَّهاتنا. قال: فيأبون، فيقول الله -عز وجل-: ما لِي أراهم مُحبنطئين [المحبنطئ: المتغضب المستبطئ للشيء. وقيل: هو الممتنع طلب، لا امتناع إباء. “اللسان” (7/ 272)] ادخلوا الجنة. فيَقُولُونَ: يا رب، آباؤنا. فيقول: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم))
[معرفة الأبناء لآبائهم وأمهاتهم يوم القيامة]
وروى الطبراني من حديث أنس نحوه، وزاد فيه: يقال لهم في المرة الرابعة: ((ادخلوا ووالديكم معكم، فيثب كلُّ طفل إِلَى أبويه فيأخذون بأيديهم، فيدخلونهم الجنة، فهم أعرف بآبائهم وأمهاتهم يومئذ من أولادكم الذين في بيوتكم)).
[عظم فضل الله عز وجل أن هذا للكل]
وخرَّج الإمام أحمد [في “المسند” (3/ 436)، (5/ 34، 35)]، والنسائي [في “السنن” برقم (1869)] من رواية {مُعَاوِيَةُ بْنُ} قُرَّةَ، “أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَاتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَتُحِبُّهُ؟ قَالَ: أَحَبَّكَ اللَّهُ كَمَا أُحِبُّهُ. فَمَاتَ فَفَقَدَهُ فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالَ: أَمَا يَسُرُّكَ أَنْ لا تَاتِيَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ عِنْدَهُ يَسْعَى يَفْتَحُ لَكَ؟» زاد الإمام أحمد: “فَقَالَ رجل: له خاصة أم لكلنا؟ قال: بل لكلكم”.
[مع من يكون الأبناء؟]
وخرَّج الطبراني، من حديث ابن عمر نحوه، ولكن قال فيه: (فَقَالَ له النبي – صلى الله عليه وسلم -: «أَوَمَا تَرْضَى أَنْ يَكُونَ ابْنُكَ مَعَ ابْنِي إِبْرَاهِيمَ يُلاَعِبُهُ تَحْتَ ظِلِّ العَرْشِ؟! قال: بَلى يا رسولَ الله». [ذكره الهيثمي في “المجمع” (3/ 10) وقال: رواه الطبراني في “الكبير” من حديث إبراهيم ابن عبيد في التابعين -وهو ضعيف- وبقية رجاله موثقون].
وفي المعنى أحاديثُ كثيرة جدًّا.
[ثانيًا: الآثار الواردة في ذلك]
وقد كان الصحابة يرجون ذلك عند موتهم؛ كما روي عن أبي ذر: “أنه لما حضرته الوفاة بكت أمُّ ذر، فَقَالَ لَهَا: أَبْشِرِي وَلا تَبْكِي، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «لا يَمُوتُ بَيْنَ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ وَلَدَانِ أَوْ ثَلَاثة، فَيَصْبِرَانِ وَيَحْتَسِبَانِ فَيَرَيَانِ النَّارَ أَبَدًا» [أخرجه ابن حبان (6671 – إحسان)، والحاكم (3/ 388) ولفظهما قريب من لفظ المصنف] وقد مات لنا ثلاثة من الولد”.
والحديث الَّذِي قبله يدل عَلَى أنَّ أطفال المسلمين الموتى يلعبون تحت ظل العرش، وفي حديث {أبي هريرة} [من رواية مسلم]: ((أنهم دعاميص الجنة)).
والدُّعموص: دُويبة {صغيرة تكون} في الماء، والمعنى أنهم يتربُّون في أنهار الجنة وينعمون فيها، وفي رواية: “ينغمسون في أنهار الجنة” يعني: يلعبون فيها.
[من الذي يكفلهم؟]
وقد روي ” أنه يكفلهم إبراهيمُ -عليه السلام- وزوجته سارة- عليها السلام”. وخرَّج ابن حبان في “صحيحه” والحاكم من حديث أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “ذراري المؤمنين يكفلهم إبراهيمُ في الجنة”. وخرجه الإمام أحمد [أخرجه أحمد (2/ 326)، وابن حبان (7446 – الإحسان)، والحاكم (2/ 370)] مع نوع شك في رفعه ووقفه عَلَى أبي هريرة.
وروي من وجه آخر، عن أبي هريرة مرفوعًا وموقوفًا: «أَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ فِي جَبَلٍ فِي الْجَنَّةِ، يَكْفُلُهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَسَارَةُ -عليهما السلام- فَإِذا كَانَ يَوْم القِيَامَة دُفِعُوا إِلَى آبَائِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» خرّجه البيهقي وغيره مرفوعًا.
ويشهد لذلك: ما في “صحيح البخاري” [برقم (7047)] عن سمُرة بن جندب أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “أتاني الليلة آتيان … ” فذكر حديثًا طويلاً وفيه: أن الملكين فسراه له، وأنهما جبريل وميكائيل، وأنه من جملة ما رأى: “رَجُلاً طَوِيلاً فِي رَوضَةٍ وَحَوْلَهُ وِلْدَان وقالا له: الرَّجُلُ الطَّوِيلُ فِي الرَّوْضَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَالْوِلْدَانُ حَوْلَهُ كُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، فقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ”.
وقد روي أنهم يرتضعون من شجرة طُوبى؛ وروى ابنُ أبي حاتم بإسناده عن خالد بن معدان قال: “إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ يُقَالُ لَهَا: طُوبَى، ضروع كلها، ترضع أهل الجنة، وإن سقط المرأة يكون في أنهار يتقلب {فيها} ” حتى يوم القيامة، فيبعث ابن أربعين سنة” كذا قال.
[يبعثون أبناء ثلاثين سنة]
وفي حديث المقدام بن معدي كرب المرفوع: “إِنَّ ما بين السقط والهرم، يبعثون أبناء ثلاثين سنة” وفي رواية: “أبناء ثلاثة وثلاثين”.
[مما يتغذى به الصبيان في الجنة؟]
وروى ابنُ أبي الدُّنْيَا بإسناده عن خالد بن معدان قال: “إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ يُقَالُ لَهَا: طُوبَى، كلها ضروع؛ فمن مات من الصبيان الذين يرضعون يرضع من طوبى، وحاضنهم إبراهيم -عليه السلام”. وروى الخلال بإسناده، عن عبيد ابن عمير: “إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ لَهَا ضروع البقر، يغذى به ولدان أهل الجنة، حتى إنهم يستنون كاستنان البكارة”. وبعضُ الأطفال له مرضع في الجنة، مثل إبراهيم ابن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإنه لما مات قبل أن يُفطم قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ” «إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الجَنَّةِ تكمل رضاعه {في الجنة} [أخرجه البخاري (1382) من حديث البراء، ومسلم (2316) من حديث أنس]. وفي رواية: “ظئرًا” وفي رواية: “إِنَّ له مرضعين يكملان رضاعه في الجنة”.
[حال النبي صلى الله عليه وسلم لما مات إبراهيم ابنه]
وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد حضره وهو {يكيد} [ويكيد بنفسه كيدًا: يجود بها، يريد النزع. “اللسان” (3/ 383)] بنفسه، فدمعت عيناه – صلى الله عليه وسلم – وقال: «تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ وَلا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى الرَّب، وَاللهِ يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ» [أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315) من حديث أنس]. وفي رواية: “ولولا أنه أمر حق ووعد صدق، وأنها سبيلمأتية، وأن آخرنا سيلحق بأولنا، لحزنا عليك حزنًا هو أشد من هذا”.
[مما ورد من سقياهم لأبويهم]
وروى ابنُ أبي الدُّنْيَا في “كتاب العزاء” من حديث زُرارة بن أوفى “أن النبي – صلى الله عليه وسلم – عزَّى رجلاً عَلَى ابنه، فَقَالَ الرجل: يا رسول {الله} أنا شيخ كبير، وكان ابني قد أجزأ [أجزأ عنه: أغنى عنه “اللسان” (1/ 46 – 47)] عنا. فَقَالَ: أيسرك، قد نشر لك أو يتلقاك من أبواب الجنة بالكأس؟ قال: من لي بذاك يا رسول الله؟ قال: الله لك به، ولكل مسلم مات له ولد في الإسلام”. وبإسناده عن عبيد بن عمير، قال: “إذا كان يوم القيامة خرج ولدان المسلمين من الجنة بأيديهم الشراب، فيقول الناس: اسقونا اسقونا. فيَقُولُونَ: أبوينا أبوينا، حتى السقط محبنطئًا بباب الجنة يقول: لا أدخل حتى يدخل أبواي”. وفي المعنى حديث مرفوع من رواية ابن عمر، لكن إسناده لا يصح وهو باطل، قاله أبو حاتم الرازي. وفي المعنى رُؤيا إبراهيم الحربي المشهورة صار يتمنَّى موتَ ابنه، ومات قبل البلوغ. وروى البيهقي بإسناده، عن ابن شوذب: “أن رجلاً كان له ابن لم يبلغ الحُلم، فأرسل إِلَى قومه: إِنَّ لي إليكم حاجة؛ إني أريد أن أدعو عَلَى ابني هذا أن يقبضه الله، وتؤمنون. فسألوه عن ذلك، فأخبرهم أنه رأى في نومه كأن الناس جمعوا إِلَى القيامة، فأصاب الناس عطشٌ شديدٌ، فَإِذَا الوالدان قد خرجوا من الجنة معهم الأباريق، فأبصرت ابن أخ لي. فقلت: يا فلان، اسقني. فَقَالَ: يا عم، إنا لا نسقي إلا الآباء. قال: فأحببت أن يجعل الله ولدي هذا فرطًا لي. فدعا فأمنوا. فلم يلبث الغلام إلا يسيرًا حتى مات”.
[فيما ورد من عدد الأبناء]
وفي أكثر الأحاديث ذكر الثلاثة والاثنين. وفي بعضها “وأظن لو قلنا: وواحدًا لقال: وواحدًا”. خرَّجه أحمد [وغيره من حديث ابن مسعود مرفوعًا: ((مَنْ قَدَّمَ ثَلَاثَةً لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ كَانُوا لَهُ حِصْنًا حَصِينًا))] من حديث جابر. وقد جاء ذكرُ الواحد في حديث؛ خرَّج الترمذي [برقم (1061) وقال: هذا حديث غريب، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه. وابن ماجه (1606) وأحمد (1/ 375، 429، 451)] فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: قَدَّمْتُ اثْنَيْنِ، فَقَالَ: وَاثْنَيْنِ. فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: قَدَّمْتُ وَاحِدًا. قَالَ: وَوَاحِدًا، وَلَكِنْ إِنَّما ذَاكَ عِنْدَ الصَّدْمَةٍ الأُوْلَى»
[“فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَطٌ مِنْ أُمَّتِكَ؟ ” وأن النبي صلى الله عليه وسلم يسبقهم إِلَى الحوض]
وفي الترمذي [أخرجه أحمد (1/ 334)، والترمذي (1062). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد ربه بن فارق]، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ لَهُ فَرَطَانِ مِنْ أُمَّتِي أَدْخَلَهُ اللَّهُ {بِهِمَا} الجَنَّةَ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ منْ أَمْتَلِك؟ قَالَ: وَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ أُمَّتِي يَا مُوَفَّقَةُ. قَالَتْ: فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَطٌ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ: فَأَنَا فَرَطُ أُمَّتِي، لَنْ يُصَابُوا بِمِثْلِي». ويشهد له قوله – صلى الله عليه وسلم – في آخر خطبة خطبها: ((إني فرطكم على الحوض)) [أخرجه البخاري (1344)، ومسلم (2296) من حديث عقبة بن عامر. وأخرجه البخاري (6589)، ومسلم (2289) من حديث جندب بن سفيان.
وأخرجه البخاري (6583)، ومسلم (2290) من حديث سهل بن سعد. وأخرجه البخاري (6575)، ومسلم (2297) من حديث ابن مسعود] يشير إِلَى أنه يتقدمهم ويسبقهم إِلَى الحوض، وينتظرهم عنده. وفي حديث مرسل خرجه ابن أبي الدُّنْيَا: ((من مات ولم يقدم فرطًا لم يدخل الجنة إلا {تصْريدًا} [أي قليلاً: والتصريد في العطاء: تقليله. “اللسان” (3/ 249)]. فقيل: يا رسول الله، وما الفرط؟ قال: ((الولد وولد الولد، والأخ يؤاخيه في الله -عز وجل- فمن لم يكن له فرط، فأنا له فرط”.
[سبب من الأسباب لتثقيل الموازين]
وفي حديث عبد الرحمن بن سمُرة، في ذكر المنام الطويل عن النّبي صلى الله عليه وسلم: “ورأيت رجلاً من أمتي {خف} ميزانه، فجاءته أفراطه الصغار فثقلوا ميزانه)). وعن داود بن أبي هند قال: ((رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت، وكأن الناس يدعون للحساب، فقدمت إِلَى الميزان فوضعت حسناتي في كفة وسيئاتي في كفة، فرجحت السيئات عَلَى الحسنات، فبينا أنا كذلك مغموم، إذ أتيت بشيء كالمنديل أو كالخرقة البيضاء، فوضعت في حسناتي فقيل لي: تدري ما هذا؟ قلت: لا. قال: سقط كان لك. قلت: إنه قد كانت لي صبية ابنة لي فقيل لي: تيك ليست لك؛ لأنك كنت تتمنى موتها”. وفي هذا إشارة إِلَى أن الميزان إِنَّمَا يثقل بما يثقل عَلَى النفوس من المصائب ويشق، فأما ما لا يثقل عليها ولا يشق -لمن يتمنى موته من أولاده- فلا يثقل به الميزان.
قال ابن أسلم: “مات ابن لداود -عليه السلام- فحزن عليه حزنًا شديدًا. فأوحى الله: ماذا كنت مفتديه؟ قال: بطلاع الأرض ذهبًا. قال: فأوحى الله إِلَيْهِ: “إِنَّ لك عندي من الأجر بحساب ذلك” وفي رواية: “قال: يا داود، ما كان يعدل هذا الولد عندك؟ قال: كان يعدل عندي ملء الأرض ذهبًا، قال: فلك يوم القيامة عندي ملء الأرض ثوابًا”.
[من نعيم الدنيا]
سبحان من لا يحصي العبادُ نعمه، وربما كانت نعمه فيما يسوء أكثر من نعمه فيما يسر، كما قيل: [شعر].
إذا مس بالسراء عم سرورها … وإن مس بالضراء أعقبها الأجرُ
وما فيهما إلا له فيه نعمة … تضيق بها الأوهام والبر والبحر
[للمؤمن داران، والفرق بينهما، واسترجاع الأمانة]
لمّا كان للمؤمن داران: دار يرتحل منها، ودار ينتقل إليها ويقيم بها، أمره أن ينقل من دار ارتحاله إِلَى دار إقامته؛ ليعمرها من بعض ما أعطاه في دار ارتحاله وربما أخذ منه كرها ما يعمر به دار إقامته، ويكمل له به عمارتها وإصلاحها، ويقدم له إليها ما يحب من أهل ومال وولد، يسبقونه إليها ليقدم عَلَى ما يحب من مال وأهل وولد، وإن كان المؤمن لا يشعر بذلك.
فما فرَّق إلا ليجمع، ولا أخذ إلا ليرد، ولا سلب إلا ليهب، ولا استرد العواري إلا ليردها تمليكًا ثابتًا لا استرجاع فيه بعد ذلك.
وفي مراسيل الحسن “أن النبي – صلى الله عليه وسلم – سمع رجلاً يقول: لأن أموت قبل أخي أَحَبّ إلي. فَقَالَ: لأنّ يكون لك أَحَبّ إليك من أن تكون له”. قال الحسن: علموا أنَّ ما لهم من أهاليهم إلا ما قدَّموا أمامهم. وكذا قال عمر بن عبد العزيز وغيره، ويشهد له حديث: “الرَّقوب [الرقوب: الرجل والمرأة لم يعش لهما ولد. “النهاية” (2/ 249)] من لم يقدم ولدًا”. سبحان من أنعم عَلَى عباده بما خولهم من المال والولد، ثم استرجع بعض ذلك منهم كُرهًا، وعوضهم الصلاة والرحمة والهدى، وذلك أفضل مما أخذ كما قيل: [شعر]
عطِيَّتُهُ إذا أعطى سرورا … وإن أخذ الَّذِي أعطى أثابا
فأي النعمتين أجلُّ قدرًا … وأحمدُ في عواقبها مآبا
أرَحْمتُهُ التي جاءت بكرهِ … أم الأخرى التي جلبت ثوابا
بل الأخرى وإن نزلت بضرٍّ … أجلُّ لفقد من صبر احتسابا آخرُه،
والحمد لله وحده، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. تم. [مجموع رسائل ابن رجب (2/ 399 – 387)].
2 – من الذين تفتح لهم أبواب الجنة الثمانية:
قالشرحبيل بن شفعة: لقيني عتبة بن عبد السلمي فقال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل)) [رواه ابن ماجه:1604، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه: 1303]. وأيضاً روى أبو إياس معاوية بن قرة عن أبيه -رضي الله عنه- ((أن رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه ابن له، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام- لهذا الرجل: أتحبه؟ فقال: أحبك الله كما أحبه، فمات ففقده، فسأل عنه، فقال: ما يسرك ألا تأتي بابًا من أبواب الجنة إلا وجدته عنده يسعى يفتح لك)) [رواه النسائي: 1870، وهو حديث صحيح].
وقال الراغب غبر بالحنث عن البلوغ لما كان الإنسان يؤاخذ بما يرتكبه فيه بخلاف ما قبله، وخص الإثم بالذكر؛ لأنه الذي يحصل بالبلوغ؛ لأن الصبي قد يثاب، [وخص الصغير بذلك؛ لأن الشفقة عليه أعظم والحب له أشد والرحمة له أوفر، وعليه فمن بلغ الحنث لا يحصل لمن فقده ما ذكر من هذا الثواب، وإن كان في فقد الولد أجر في الجملة]، وبه صرح كثير من العلماء. [انظر: شرح الحديث من دليل الفالحين].
3 – الأدلة على ثواب من صبر في وفاة ولده
أ – الأدلة العامة في الأمر والحث على الصبر من (القرآن الكريم):
1 – قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} البقرة/ 155 – 157
2 – وقال سبحانه: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} آل عمران /146.
3 – وقال جل شأنه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الزمر / 10.
والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا.
ب – الأحاديث
1 – ما رواه مسلم (5318) عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ”
2 – أخرج البخاري عن أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة».
وقد ورد في فضل الصبر على فقد الولد خاصة أحاديث منها:
3 – ما رواه الترمذي (942) عَنْ أَبِي سِنَانٍ قَالَ دَفَنْتُ ابْنِي سِنَانًا وَأَبُو طَلْحَةَ الْخَوْلانِيُّ جَالِسٌ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ فَلَمَّا أَرَدْتُ الْخُرُوجَ أَخَذَ بِيَدِي فَقَالَ أَلا أُبَشِّرُكَ يَا أَبَا سِنَانٍ قُلْتُ بَلَى فَقَالَ حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَرْزَبٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلائِكَتِهِ قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ مَاذَا قَالَ عَبْدِي فَيَقُولُونَ حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ فَيَقُولُ اللَّهُ: ” ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ “حسنه الألباني في السلسة الصحيحة (1408).
4 – وورد في الصحيحين أجر خاص لمن توفي له أكثر من طفل فصبر واحتسب فعن عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْعَلْ لَنَا يَوْمًا فَوَعَظَهُنَّ وَقَالَ أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَ لَهَا ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ كَانُوا حِجَابًا مِنْ النَّارِ قَالَتْ امْرَأَةٌ وَاثْنَانِ قَالَ وَاثْنَانِ ” أخرجه البخاري (99) ومسلم (4786).
5 – وفي رواية عند البخاري (1292) عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” مَا مِنْ النَّاسِ مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ”
فهذه الأحاديث وغيرها تبين أن من توفي له ولدان أو أكثر فصبر عليهما أنه موعود بالجنة، والنجاة من النار.
4 – الدعاء عند حلول المصيبة
وجاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مات ولد الرجل يقول الله تعالى لملائكته: “أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم .. فيقول وهو أعلم: أقبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم .. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله جل وعلا: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمّوه بيت الحمد). رواه الترمذي وحسنه (1021) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة.
وقد علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم دعاء نقوله عند المصيبة فيه فضل وأجر عظيم وهو ما رواه مسلم في صحيحه (1525) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ” مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) اللَّهُمَّ اجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا إِلا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا قَالَتْ فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “.
5–ما يمكن أن تقدمه من عمل لابنتك فعدة أمور:
1 – الدعاء الصادق بالرحمة والمغفرة؛ فعن أبي الدرداء قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك ولك بمثل)). رواه مسلم (2732)
يقول الشيخ ابن عثيمين: أفضل ما يقدم للميت الدعاء. (لقاء الباب المفتوح 1/ 205)
2 – الصدقة عنها، خاصة الصدقة الجارية، يقول النووي: فان الصدقة تصل إلى الميت وينتفع بها بلا خلاف بين المسلمين. اهـ (شرح النووي على صحيح مسلم ج:1 ص:89).
(مستفاد من كتاب فضل من مات له من الأولاد للسيوطي، وأحكام الجنائز للألباني)