1078 التعليق على الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ونوح وعبدالخالق، وموسى الصوماليين.
——-‘——-‘——-
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1078):
قال الإمام أحمد رحمه الله: حَدَّثَنَا النُّفَيْلِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، قَالَا: أخبرنا زُهَيْرٌ، أخبرنا عُرْوَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ نُفَيْلٍ: ابْنُ قُشَيْرٍ أَبُو مَهَلٍ الْجُعْفِيُّ، أخبرنا مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ، أخبرنا أَبِي، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ مِنْ مُزَيْنَةَ، فَبَايَعْنَاهُ، وَإِنَّ قَمِيصَهُ لَمُطْلَقُ الْأَزْرَارِ، قَالَ: فَبَايَعْتُهُ ثُمَّ أَدْخَلْتُ يَدَيَّ فِي جَيْبِ قَمِيصِهِ، فَمَسِسْتُ الْخَاتَمَ. قَالَ عُرْوَةُ: فَمَا رَأَيْتُ مُعَاوِيَةَ وَلَا ابْنَهُ قَطُّ، إِلَّا مُطْلِقَيْ أَزْرَارِهِمَا فِي شِتَاءٍ وَلَا حَرٍّ، وَلَا يُزَرِّرَانِ أَزْرَارَهُمَا أَبَدًا.
قال أبو عبدالرحمن: هذا حديث صحيح، رجاله رجال الصحيح إلا عروة بن عبد الله القشيري، وقد وثقه أبو زرعة.
الحديث أخرجه ابن ماجة (ج2 ص1184).
===================
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في السند. (ترجمة الرواي، تخريجه).
أ –ترجمة الراوي. سبقتحت رقم (1075).
ب – التخريج:
أورد الحديث أبوداود في السنن، وابن ماجة في السنن، وأحمد في المسند، واليهقي في شعب الإيمان، في ” فصل فيما كان يلبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثياب وماكان يختار لبسه ويرغب فيه”.
الوجه الثاني: شرح وفقه الحديث.
أورد أبو داود [باب في حل الأزرار] الأزرار: جمع زر، والزر هو ما يزر به جيب القميص، وحله: عدم زره.
أورد حديث قرة بن إياس رضي الله عنه أنه جاء مع نفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رآه لابساً قميصاً محلول الأزرار؛ فكان معاوية وابنه مطلقي الأزرار، ولا يزررانها لا في شتاء ولا حر، ولا يزرران أزرارهما أبداً.
هذا الحديث دل على أنهم رأوه محلول الأزرار، ولا يعني هذا أنه محلول الأزرار دائماً وأبداً، وأن هذا شأنه، وإلا فلماذا تتخذ الأزرار إذا كان الإنسان سيكون جيبه مفتوحاً باستمرار، ولكن هذه هي الرؤية التي رآها قرة، فأراد أن يكون على هذه الهيئة التي رأى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولعل هذا الصحابي رضي الله عنه رأى هذه الهيئة وأراد أن يفعل تلك الهيئة التي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها؛ لكن ذلك لا يعني أن هذا شأنه، وهذا ديدنه أبداً صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وقد كان السلف يستعملون الأزرار، وهي جمع زر، وفي القاموس: أزرار وزرور، وقد جاء في صحيح مسلم في حديث جابر الطويل في صفة الحج أنه جاء إليه جماعة وفيهم محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وقالوا: حدثنا عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد كبر وعمي رضي الله عنه، فسألهم عن أسمائهم، فكل أخبره باسمه، ولما جاء عند محمد قال له: أنا محمد بن علي بن الحسين فاستثناه وقربه، قال: فوضع يده عليّ وفتح زري الأعلى ثم فتح زري الأسفل ثم أدخل يده ووضعها على صدري ثم حدث بالحديث الطويل.
قوله [عن قرة رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من مزينة فبايعناه وإن قميصه لمطلق الأزرار قال: فبايعته ثم أدخلت يدي في جيب قميصه فمسست الخاتم)]
الخاتم هو خاتم النبوة الذي كان في مؤخر كتفه عليه الصلاة والسلام.
قوله: [(قال عروة: فما رأيت معاوية ولا ابنه قط إلا مطلقي أزرارهما في شتاء ولا حر، ولا يزرران أزرارهما أبداً)]
ابنه ليس معنا في السند، لأن عروة يروي عن معاوية بن قرة عن أبيه. [قاله الشيخ عبد المحسن العباد في شرحه للسنن]
الوجه الثالث: ما يستفاد من الحديث:
1 – فيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه من اللبس، والتواضع، وعدم التكلف.
2 – مدى حرص الصحابة في نقل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من ملبسه وغيره، ودقة نقلهم.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في شرح رياض الصالحين:
2 – منها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، يناله ما ينال البشر من الأمور الطبيعية، يبرد كما يبرد الناس، ويحتر كما يحتر الناس، ولهذا رآه مرة معاوية وقد فك أزرار القميص؛ لأنه والله أعلم كان محترا ففك الأزرار، فظن معاوية رضى الله عنه أن هذا من السنة، وهو ليس من السنن المطلقة، لكن من السنة إذا كان فيه تخفيف على البدن؛ لأن كل ما يخفف عن البدن فهو خير.
فإذا كان الإنسان محترا وأراد أن يفتح الأزرار الأعلى والذي يليه فلا بأس، ويكون هذا من السنة، أما بدون سبب فإنه ليس من السنة؛ لأنه لو كان من السنة لكان وضع الأزرار عبثا لا فائدة منه، والدين الإسلامي ليس فيه شيء عبث، فكله جد.
قلت سيف بن دورة: أو يعلم أنه ليس من السنة لكنه أحب أن يتابع النبي صلى الله عليه وسلم. كما أحب أنس الدباء وكما كره أبو أيوب الثوم
3 – أنه لا حرج على الإنسان أن يتوقى ما يؤذيه من حر أو برد كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بل الأفضل للإنسان أن يتوقى ما يؤذيه؛ لأن هذا من تمام الرعاية للنفس حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: الأكل إذا خفت أن يؤذيك صار حراما عليك.
الأكل الذي هو الغذاء إذا خفت أن يؤذيك إما بكثرته وإما بكونك أكلت قريبا فتخشى أن تتأذى بالأكل الجديد فإنه يحرم عليك، بمعنى: أنك تأثم إذا أكلته؛ لأن الإنسان يجب أن يرعى نفسه حق الرعاية.
الوجه الرابع: المسائل المتعلقة بالحديث، وفيه:
وسيكون الحديث في (4) أمور كالتالي:
1 – اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في العبادات والعادات
” وهذا الحديث لا يدل على أن إطلاق الأزرار (يعني: فتحها) عبادة يثاب المسلم عليها؛ فليس كل ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم عبادةٌ ينبغي التأسي به فيها، بل ينبغي التفريق بين ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه العبادة والتقرب إلى الله، وما فعله بحكم طبيعته البشرية، أو موافقةً لعادة الناس في ذلك الوقت … ، ونحو ذلك.
فالنوع الأول (وهو ما فعله على وجه العبادة): هو الذي يشرع التأسي به فيه صلى الله عليه وسلم، ويكون مستحباً أو واجباً حسب ما تدل عليه الأدلة الشرعية.
وأما النوع الثاني فلا يزيد على كونه مباحا.
لا يعد إطلاق وفتح شيء من أزرار الثوب من السنة التي يثاب فاعلها، بل ذلك من الأمور المباحة التي من فعلها فلا حرج عليه، بشرط أن لا يكون ذلك مخالفا لعادة الناس.
وذلك؛ لأن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقصد به التقرب إلى الله لا يدل على أكثر من إباحة ذلك الفعل، ولا يدل على استحبابه؛ جاء في ” المسودة في أصول الفقه ” (ص71): ” فعل النبي صلى الله عليه وسلم يفيد الإباحة إذا لم يكن فيه معنى القربة في قول الجمهور ” انتهى.
” الفعل (العاديّ) ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم جرياً على عادة قومه ومألوفهم، كبعض الأمور التي تتصل بالعناية بالبدن، أو العوائد الجارية بين الأقوام في المناسبات الحيوية، كالزواج والولادة والوفاة.
ومن أمثلتها أنه صلى الله عليه وسلم لبس المِرْط المُرَحّل، والمخَطّط [ثياب منقوش عليها صورة رحال الإبل أو يكون به خطوط]، والجبّة، والعمامة، والقباء، وأطال شعره، واستعمل القرب الجلديّة في خزن الماء …. وأيضاً: كانت العروس تزف إليه في بيته، لا في بيت أبيها كما هي عادة بعض البلاد الإسلامية الآن …
وحكم هذه الأمور العاديّة وأمثالها، كنظائرها من الأفعال الجبليّة، والأصل فيها جميعاً أنها تدل على الإباحة لا غير، إلا في حالين:
- أن يرد قول يأمر بها أو يرغّب فيها، فيظهر أنها حينئذ تكون شرعية.
2. أن يظهر ارتباطها بالشرع بقرينة غير قوليّة، كتوجيه الميت في قبره إلى القبلة، فإن ارتباط ذلك بالشرع لا خفاء به ” انتهى من ” أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام ” (1/ 237).
ولذلك استدل بعض العلماء بحديث قرة بن إياس على إباحة فتح الأزرار، لا على أنه سنة.
وبَوَّب عليه ابن حبان في صحيحه بقوله: ” ذكر الإباحة للمرء أن يكون مطلق الأزرار في الأحوال “.
وقال النووي رحمه الله:” يجوز لبس القميص والقباء والفرجية [نوع من الثياب] ونحوها مزررا، ومحلول الأزرار إذا لم تبد عورته، ولا كراهة في واحد منهما، لحديث قرة الصحابي …. وذكر الحديث ” انتهى من [المجموع شرح المهذب ” (4/ 468)].واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون بموافقته في الصورة فقط، بل يكون بموافقته في الصورة وفي القصد.
فمن أتى إلى ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يقصد به التقرب إلى الله بل فعله بحكم بشريته أو موافقةً لعادة الناس في ذلك الزمان، من أتى إلى هذا وفعله بقصد القربة والعبادة لم يكن قد تابع الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يكون مخالفا له، كما سيأتي ذلك في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وقد كان علماء الصحابة وفقهاؤهم رضي الله عنهم يدركون الفرق بين هذين النوعين، فقد روى مسلم (1264) عن أبي الطفيل أنه سأل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أَخْبِرْنِي عَنِ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ رَاكِبًا أَسُنَّةٌ هُوَ، فَإِنَّ قَوْمَكَ يَزْعُمُونَ أنه سُنَّةٌ؟
قَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا!
قَالَ: قُلْتُ: وَمَا قَوْلُكَ صَدَقُوا وَكَذَبُوا؟
قَالَ: إن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثُرَ عَلَيْهِ النَّاسُ يَقُولُونَ: هَذَا مُحَمَّدٌ، هَذَا مُحَمَّدٌ، حَتَّى خَرَجَ الْعَوَاتِقُ مِنَ الْبُيُوتِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لا يُضْرَبُ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا كَثُرَ عَلَيْهِ رَكِبَ ومَشى، وَالسَّعْيُ أَفْضَلُ).
ولفظ أبي داود (1885): (قَالَ: صَدَقُوا، قَدْ طَافَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى بَعِيرِهِ، وَكَذَبُوا، لَيْسَ بِسُنَّةٍ).
فقول ابن عباس رضي الله عنه عن السعي راكباً: (لَيْسَ بِسُنَّةٍ) مع ثبوت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، يدل على أن هناك فرقا بين ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم بقصد القربة، وما فعله بقصد آخر، فالأول هو السنة التي يشرع الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم فيه، وأما الثاني فليس بسنة.
وأما ورود فتح الأزرار عن بعض السلف، فنعم، قد ورد ذلك عن ابن عمر وقرة بن إياس وغيرهم، لكنه لم يرد عن أكابر الصحابة وفقهائهم، كالخلفاء الأربعة ونحوهم مما يدل على أنهم لم يروه مستحبا.
وعبد الله بن عمر رضي الله عنه كان يري مشروعية الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما فعله، سواء فعله بقصد القربة أم لا، وخالفه في هذا جمهور الصحابة وأكابرهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في “مجموع الفتاوى” (1/ 280): ” وكذلك ابن عمر كان يتحرَّى أن يسير مواضع سير النبي صلى الله عليه وسلم، وينزل مواضع منزله، ويتوضأ في السفر حيث رآه يتوضأ، ويصب فضل مائه على شجرة صب عليها ونحو ذلك مما استحبَّه طائفة من العلماء، ورأوه مستحبًّا.
ولم يستحبَّ ذلك جمهور العلماء، كما لم يستحبَّه ولم يفعله أكابر الصحابة، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ بن جبل وغيرهم، لم يفعلوا مثل ما فعل ابن عمر، ولو رأوه مستحباً لفعلوه كما كانوا يتحرون متابعته والاقتداء به.
وذلك لأن المتابعة أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل، فإذا فعل فعلاً على وجه العبادة شُرع لنا أن نفعله على وجه العبادة … ، وأما ما فعله بحكم الاتفاق ولم يقصده، مثل أن ينزل بمكان ويصلي فيه لكونه نزله لا قصداً لتخصيصه بالصلاة والنزول فيه، فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان بالصلاة فيه أو النزول، لم نكن متَّبعين، بل هذا من البدع التي كان ينهى عنها عمر بن الخطاب رضي الله عنه” انتهى.
وقال في مجموع الفتاوى (17/ 466):
“وكان ابن عمر رضي الله عنهما رجلا صالحا شديد الاتباع فرأى هذا من الاتباع، وأما أبوه وسائر الصحابة من الخلفاء الراشدين عثمان وعلي وسائر العشرة وغيرهم مثل ابن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب فلم يكونوا يفعلون ما فعل ابن عمر، وقول الجمهور أصح” انتهى.
ثم ذكر رحمه الله السبب الذي جعل عمر رضي الله عنه ينكر الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الأشياء، فقال: ” رأى عمر أن مشاركته في صورة الفعل من غير موافقة له في قصده ليس متابعة … وهذا هو الأصل، فإن المتابعة في السنَّة أبلغ من المتابعة في صورة العمل ” انتهى.
وقد ذهب بعض علمائنا المعاصرين إلى أن المسألة المسئول عنها (فتح أزرار القميص) من باب سنن العادات، أي: فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم بحكم العادة، وهذا لا يجعلها سنة عبادة. فقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء عن كتيب ذكر مؤلفه أنه يسن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أشياء لم يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم بقصد العبادة، ومنها “فك الأزرار”.
جاء في “فتاوى اللجنة الدائمة” (المجموعة الثانية 11/ 21):
” فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء استعرضت ما ورد إليها من بعض الناصحين المقيد بالأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم (779) وتاريخ 6/ 2/1421 هـ مشفوعا به نسخة من كتاب باسم: (تذكير الطائفة المنصورة ببعض السنن المهجورة) جمع المدعو: محمود إمام منصور، طبع دار المآثر بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم عام 1420 هـ.
وبدراسة هذا الكتاب وجد أن كاتبه بناه على قاعدة أسسها من عنده، وهي: أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل العادة لها حكم التشريع والسنية، كأفعاله صلى الله عليه وسلم التي يفعلها على سبيل العبادة، كما في (ص17)، ومعلوم أن الخلط بين الأفعال العادية الجبلية والتشريعية غلط محض، وتقعيد مغلوط، كما هو مقرر في محله من كتب الأصول، وبناء على هذا التقعيد المغلوط الذي بنى عليه المؤلف كتابه وقع في عدد كثير من الأخطاء العلمية والشذوذات الفقهية، بل قال بسنية ما قرر المحققون من أن فعله على سبيل التسنن بدعة، ومن هذه الفروع التي غلط الكاتب بالقول بسنيتها: سنية الاضطجاع بعد ركعتي الفجر (ص 51)، وسنية السكوت بعد ركعتي الفجر حتى تطلع الشمس (ص 66)، بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يتحدث مع زوجته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بعد صلاة الفجر كما في صحيح البخاري وغيره … وسنية حل الأزرار (ص212)، وسنية لبس العمامة المحنكة (ص222) … إلى غير ذلك من التسنن بما ليس بسنة، والتشويش على الناس بذلك.
لهذا فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ترى منع هذا الكتاب من البيع والتداول، وتنصح كاتبه بطلب العلم الشرعي على العلماء المشهود لهم بالعلم والفضل وسلامة المعتقد وصحة الفهم وسلامته، والله الموفق ” انتهى.
وقد سئل الشيخ الألباني رحمه الله عن القول باستحباب فتح أزرار القميص والاستدلال على ذلك بحديث معاوية بن قرة عن أبيه مع ما ورد عن بعض السلف من العمل به.
فأجاب: ” هذا ينبني على التفريق بين سنن العادة وسنن العبادة … [وذكر بعض الأمثلة التي يتضح بها الفرق بين النوعين] ثم قال:
” (كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكره أكل الضب)، وليس من السنة أن يكره المسلم أكله.
و (كان الرسول صل الله عليه وسلم يحب العسل)، ومن لم يحب العسل لا يقال: إنه خالف السنة.
و (كان الرسول صلى الله عليه وسلم يطيل شعر رأسه، حتى إنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وقد جعل شعر رأسه أربع ضفائر).
ولا يقال لمن لم يجعل شعره ضفائر: إنه خالف السنة.
إذن: هناك سنة عادة، وسنة عبادة، وهذه الأمثلة تؤكد أنه ليس كل فعل فعله الرسول صلى الله عليه وسلم هو سنة عبادة؛ لأنه قد يفعل الشيء بحكم الطبيعة ومزاجه، أي: يحب شيئا من الأطعمة ويكره شيئا منها، هذا ليس له علاقة بالدين.
كذلك إطالة الشعر، فعل ذلك صلى الله عليه وسلم لأنه عادة العرب، وكانوا يجعلونه في بعض الأحيان ضفائر.
ولا يقول أحد من أهل العلم والفقه: إن جعل الشعر ضفائر من السنة، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك.
كذلك اليوم نلبس “الصندل” وفيه فتحة واحدة لأصابع الرجل الخمسة، بينما كان نعل الرسول صلى الله عليه وسلم فيه فتحة للإبهام، وفتحة أخرى لسائر الأصابع. كما رواه البخاري.
فإذا نحن لبسنا النعال التي نلبسها اليوم لا يقال: إننا خالفنا السنة، لأن هذه الأمور عادية.
فهذا التفصيل يريح طالب العلم في كثير من الأمور، منها: قضية فك الأزرار، فيمكن الرسول صلى الله عليه وسلم من باب الترويح والنشاط في جو حار كان يفتح القميص، فيتروح، ليس هناك مانع من ذلك، أما من جعلها عبادة مقصودة كجعل الثوب إلى نصف الساق، فهذا فيه أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (إِزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ) فجعلها علامة للمؤمن، فهذا شيء، وفك أزرار القميص شيء آخر.
فإذا عرفت هذه القاعدة: أن السنة سنتان: سنة عبادة، وسنة عادة، فيجب على طالب العلم أن ينظر إلى ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، هل صدر ذلك الفعل منه بقصد العبادة والتقرب إلى الله؟ أم هو عادة أو جبلة أو … أو ….. إلخ مما هناك من الحوافز والحوامل.
إذا عرفت هذه القاعدة استرحت في كثير من الأمور، منها: أزرار القميص ” انتهى.
الشريط رقم (785) من سلسلة الهدى والنور.
وكذلك ذكر الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله أن هذا الفعل (فك أزرار القميص) من النبي صلى الله عليه وسلم ليس من سنة العادات، وذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يداوم على هذا الفعل، بل غاية ما ورد في ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله مرة أو مرتين، وهذا لا بد أن يكون له سبب.
فقد سئل رحمه الله: ما حكم الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأفعال التي فعلها ولم يظهر فيها قصد القربة، كإطالة الشعر (شعر الرأس) وفتح الأزرار.
فأجاب: “هذه ليس لها حكم [يعني أنها لا توصف لا بوجوب ولا استحباب، وهو بمعنى كلام الشيخ الألباني رحمه الله السابق: هذا ليس له علاقة بالدين]، ثم إن كانت خلاف عادة البلد صار ذلك مخالفا للسنة، لأن السنة موافقة أهل البلد في غير ما هو من معصية الله.
وقد مثَّلْتَ بفك الأزرار، والواقع أن هذا ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم الراتبة، ولكن معاوية بن قرة رآه قد فتح أزراره، وهذا لابد أن يكون له سبب، إما حر شديد، أو حرارة في جلده، أو نسيانا لزره أو غير ذلك.
لأنه من المعلوم بالعقل أنه لا يمكن أن يضع الإنسان أزرارا على ثوبه ثم لا يزره، إن هذا يكون عبثا لا إشكال فيه. والنبي صلى الله عليه وسلم كل أفعاله خير وجد، ليس فيها شيء عبث” انتهى.
تنبيه:
إذا قيل بإباحة فتح الأزرار فإن هذه الإباحة يشترط لها أن لا يكون هذا الفعل مخالفا لعادة أهل البلد، كما نص ذلك الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في فتواه السابقة، وفتح الأزرار الآن وإبداء الصدر ليس من أفعال أهل المروءة والعدالة، وإنما هو من فعل غيرهم، ولذلك سئل الشيخ عبد العزيز الراجحي حفظه الله: هل من السنة فتح الزر الأعلى من القميص؟
فأجاب:
“أما كونه يفتح الأزرار بحيث يبقي الصدر مفتوحاً، فقد ذكر العلماء أن هذا من خوارم المروءة … أما كونه يفتح الزر الأعلى لأنه اشتد عليه الحر فذلك لا يضر ” انتهى من ” فتاوى منوعة ” (8/ 54، بترقيم الشاملة آليا).
2 – كشف الريب عن الجيب للحافظ السيوطي
قال الحافظ السيوطي: مسألة: سأل سائل عن جيب قميص النبي صلى الله عليه وسلم هل كان على صدره كما هو المعتاد الآن في مصر وغيرها أو على كتفه كما يفعله المغاربة، ويسميها أهل مصر فتحة حيدرية؟ وذكر أن قائلا قال أن هذا الثاني هو السنة وأن الأول شعار اليهود.
الجواب:
لم أقف في كلام أحد من العلماء على أن الأول شعار اليهود بل الظاهر أنه الذي كان عليه قميص النبي صلى الله عليه وسلم ففي سنن أبي داود: باب في حل الأزرار، ثم أخرج فيه من طريق معاوية بن قرة، قال: حدثني أبي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من مزينة فبايعناه وأن قميصه لمطلق. وفي رواية البغوي في معجم الصحابة: لمطلق الأزرار قال: فبايعته ثم أدخلت يدي في جيب قميصه، فمسست الخاتم. قال عروة: فما رأيت معاوية ولا أباه قط إلا مطلقى أزرارهما في شتاء ولا حر، ولا يزران أزرارهما أبدا.
فهذا يدل على أن جيب قميصه كان على صدره كما هو المعتاد الآن.
وقول الفقهاء: لو رؤيت عورة المصلي من جيبه في ركوع أو سجود لم يكف فليزرره أو يشد وسطه يدل على ذلك أيضا؛ لأن العورة إنما ترى من الجيب في الركوع والسجود إذا كان على الصدر بخلاف الفتحة الحيدرية؛ وقد ورد في ذلك حديث روى الشافعي في مسنده وأحمد والأربعة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن سلمة بن الأكوع قال قلت يا رسول الله إني رجل أصيد أفأصلي في القميص الواحد؟ قال: ((نعم، وأزرره ولو بشوكة)).
ثم رأيت النقل في المسألة صريحا ولله الحمد، قال البخاري في صحيحه باب جيب القميص من عند الصدر وغيره، وأورد فيه حديث الجبتين في مثل المتصدق والبخيل وفيه: ويقول بأصبعه هكذا في جيبه، قال الحافظ ابن حجر في شرحه: فالظاهر أنه كان لابسا قميصا وكان في طوقه فتحة إلى صدره. قال: بل استدل به ابن بطال على أن الجيب في ثياب السلف كان عند الصدر. قال: وموضع الدلالة منه أن البخيل إذا أراد إخراج يده أمسكت في الموضع الذي ضاق عليها وهو الثدي والتراقي، وذلك في الصدر، فبان أن جيبه كان في صدره؛ لأنه لو كان في غيره لم يضطر يداه إلى ثدييه وتراقيه. قال الحافظ ابن حجر بعد إيراد كلام ابن بطال وفي حديث قرة بن إياس الذي أخرجه أبو داود والترمذي وصححه وابن حبان لما بايع النبي صلى الله عليه وسلم قال فأدخلت يدي في جيب قميصه فمسست الخاتم. ما يقتضي أن جيب قميصه كان في صدره؛ لأن في أول الحديث أنه رآه مطلق القميص أي غير مزرر انتهى.
وأخرج الطبراني عن زيد بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى عثمان بن عفان، فإذا أزراره محلولة فزرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثم قال: ((اجمع عطفي ردائك على نحرك))، هذا أيضا يدل على أن جيبه كان على صدره. وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن سعيد بن جبير في قوله تعالى {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} يعني: على النحر والصدر فلا يرى منه شيء.
وقال ابن جرير في تفسيره حدثني المثنى ثنا إسحاق بن الحجاج ثنا إسحاق بن إسماعيل عن سليمان بن أرقم عن الحسن، قال: رأيت عثمان بن عفان على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه قميص محلول الزر. [الحاوي للفتاوي للحافظ السيوطي (2/ 87 – 88)].
قلت سيف بن دورة: تنبيه:
حديث:
اجمع عطفي ردائك على نحرك
قال ابن عدي: 703 زيد بن أبي أوفى له صحبه سمعت ابن حماد يقول: قال البخاري زيد بن أبي أوفى خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فآخى بين أصحابه لم يتابع في حديثه
وراجع
ذكره في ذخيرة الحفاظ 2745 وبينوا أن البخاري لا يقصد الصحابي إنما يقصد أن في الإسناد شيء
وكلام البخاري في التاريخ الكبير 1285 ترجمة زيد بن أبي أوفى فذكر هذا الحديث وقال: لا يتابع عليه
3 – خلاصة ما ورد في الأحاديث من وصف ملابس النبي صلى الله عليه وسلم
يقول ابن القيم رحمه الله:
” كانت له عمامة [وهي: ما يُلفُّ على الرأس، كما هو اللباس الشعبي في بعض البلاد اليوم كاليمن والسودان] تُسمى: السحاب، كساها علياً، وكان يلبَسُها ويلْبَسُ تحتها القَلَنسُوة، وكان يلبَس القلنسُوة بغير عمامة، ويلبَسُ العِمامة بغير قلنسُوة، وكان إذا اعتمَّ أرخى عِمامته بين كتفيه، كما رواه مسلم في ” صحيحه ” عن عمرو بن حريث قال: (رأيتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على المنبرِ وَعَلَيهِ عِمَامَة سَوْدَاءُ قَدْ أرخَى طَرفَيهَا بينَ كَتِفَيْهِ)، وفي مسلم أيضاً عن جابر بن عبد اللّه أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (دَخَلَ مَكَّة وَعَلَيْهِ عمَامَةٌ سَودَاء)، ولم يذكر في حديث جابر: ذؤابة، فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائماً بين كتفيه. وقد يقال: إنه دخل مكة وعليه أهبةُ القتال والمِغفَرُ على رأسه، فلبسَ في كل مَوطِنٍ ما يُناسبه.
ولبس صلى الله عليه وسلم القميص [وهو: كالثياب المعروفة اليوم، وفي بعض البلاد يسمى “الجلباب” أو”الجلابية”]، وكان أحبَّ الثياب إليه، وكان كُمُّه إلى الرُّسُغ.
ولبس الجُبَّةَ [وهي: ثوب سابغ، واسع الكُمَّين، مشقوق المقدم، يلبس فوق الثياب، يشبه في زماننا الجبة في اللباس الأزهري المعروف، انظر ” المعجم الوسيط ” (1/ 104)].
والفَرّوج، وهو شبه القَباء [وهو: ثوب يلبس فوق الثياب، ويتمنطق عليه. انظ: ” المعجم الوسيط ” (2/ 713)].
والفرجية [وهي: ثوب واسع طويل الأكمام، يتزيا به علماء الدين. انظر: ” المعجم الوسيط ” (2/ 679)].
ولبس في السفر جُبة ضَيِّقَةَ الكُمَّين.
ولبس الإِزار والرداء [وهو: اللباس الذي يلبسه الناس في الإحرام اليوم]، قال الواقدي: كان رداؤه وبرده طولَ ستة أذرع في ثلاثة وشبر، وإزاره من نسج عُمان، طول أربعة أذرع وشبر في عرض ذراعين وشبر.
ولبس حُلة حمراء، والحلة: إزار ورداء، ولا تكون الحُلة إلا اسماً للثوبين معاً، وغلط من ظن أنها كانت حمراء بحتاً لا يُخالطها غيره، وإنما الحلةُ الحمراء: بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود، كسائر البرود اليمنية، وهي معروفة بهذا الاسم باعتبار ما فيها من الخطوط الحمر، وإلا فالأحمر البحتُ منهي عنه أشد النهي.
ولبس الخميصة المُعْلَمَةَ والساذَجَة.
ولبس ثوباً أسود.
ولبس الفَروة المكفوفة بالسندس.
روى الإِمام أحمد وأبو داود بإسنادهما عن أنس بن مالك (أن ملك الروم أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم مُسْتَقَةً مِنْ سُنْدُسٍ، فلبسها، فَكأَنِّي أنظرُ إلى يَدَيْه تَذَبْذَبانِ).
قال الأصمعي: المساتق فراء طوال الأكمام. قال الخطابي: يشبه أن تكون هذه المستقة مكففة بالسندس؛ لأن نفس الفروة لا تكون سندسا.
واشترى سراويل، والظاهر أنه إنما اشتراها ليلبَسها، وقد روي في غير حديث أنه لبس السراويل، وكانوا يلبسون السراويلات بإذنه.
ولبس الخفين، ولبس النعل الذي يسمى التَّاسُومة.
ولبس الخاتم، واختلفت الأحاديث هل كان في يمناه أو يُسراه، وكلها صحيحة السند.
ولبس البيضة التي تسمى: الخوذة، ولبس الدرع التي تسمى: الزردية، وظاهر يومَ أُحد بين الدرعين.
وفي ” صحيح مسلم ” عن أسماء بنت أبي بكر قالت: هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجت جبةَ طيالِسة كَسِروانية لها لبنةُ دِيباج، وفرجاها مكفوفان بالديباج، فقالت: هذِهِ كانت عند عائشة حتى قُبِضَت، فلما قبضت قبضتُها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبَسُها، فنحنُ نَغْسلهَا للمرضى تسْتَشفى بها.
وكان له بردان أخضران [البردة كساء مخطط مفتوح المقدم يوضع على الكتفين كالعباء لكنه أصغر منها، يلتحف به لابسه أو يسدله سدلا، وقريب منه الكساء] وكِساء أسود، وكساء أحمر ملبَّد، وكساء من شعر.
وكان قميصه من قطن، وكان قصيرَ الطول، قصيرَ الكُمَّين، وأما هذه الأكمام الواسعة الطِّوال التي هي كالأخراج، فلم يلبسها هو ولا أحد من أصحابه البتة، وهي مخالفة لسنته، وفي جوازها نظر، فإنها من جنس الخيلاء.
وكان أحبَّ الثياب إليه القميصُ والحِبَرَةُ، وهي ضرب من البرود فيه حمرة.
وكان أحبَّ الألوان إليه البياضُ، وقال: (هي مِنْ خَيْرِ ثِيَابكُمْ، فَالبسوها، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكمْ) وفي ” الصحيح ” عن عائشة أنها أخرجت كِساءً ملبَّدا وإزاراَ غليظاً فقالت: قُبِضَ روح رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في هذين.
وأما الطيلسان [وهو: غطاء يطرح على الرأس والكتفين، أو على الكتفين فقط، يلبسه اليوم كثير من القساوسة وأحبار اليهود، انظر: ” المعجم الوسيط ” (2/ 553)]، فلم ينقل عنه أنه لبسه، ولا أحدٌ من أصحابه، بل قد ثبت في ” صحيح مسلم ” من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الدَّجَّال فقال: (يخْرُجُ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفاً مِنْ يَهُودِ أَصْبِهَانَ عَلَيْهِمُ الطَّيالِسَةُ)، ورأى أنس جماعة عليهم الطيالسة، فقال: ما أشبَههُم بيهود خيبر. ومن ها هنا كره لبسها جماعة من السلف والخلف.
وكان غالبُ ما يلبس هو وأصحابُه ما نُسِجَ مِن القطن، وربما لبسوا ما نُسِجَ من الصوف والكتَّان، وذكر الشيخ أبو إسحاق الأصبهاني بإسناد صحيح عن جابر بن أيوب قال: دخل الصَّلْتُ بن راشد على محمد بن سيرين وعليه جُبة صوف، وإزارُ صوف، وعِمامة صوف، فاشمأزَّ منه محمد، وقال: أظن أن أقواماً يلبسون الصوف ويقولون: قد لبسه عيسى بن مريم، وقد حدثني من لا أتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لبس الكتان والصوف والقطن، وسُنَّةُ نبينا أحقُّ أن تُتَّبَعَ.
ومقصود ابن سيرين بهذا أن أقواماً يرون أن لبس الصوف دائماً أفضلُ من غيره، فيتحرَّونه ويمنعون أنفسهم من غيره، وكذلك يتحرَون زِيًّا واحداً من الملابس، ويتحرَّون رسوماً وأوضاعاً وهيئات يرون الخروج عنها منكراً، وليس المنكرُ إلا التقيد بها، والمحافظة عليها، وترك الخروج عنها.
والصواب أن أفضل الطرق طريقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سنها، وأمر بِها، ورغَّب فيها، وداوم عليها، وهي أن هديَه في اللباس أن يلبس ما تيسر مِنَ اللباس، من الصوف تارة، والقطن تارة، والكتان تارة، ولبس البرود اليمانية، والبردَ الأخضر، ولَبسَ الجبة، والقَباء، والقميص، والسراويل، والإِزار، والرداء، والخف، والنعل، وأرخى الذؤابة من خَلْفِه تارة، وتركها تارة، وكان يتلحَّى بالعمامة تحت الحنك، وكان إذا استجدَّ ثوباً سمَّاه باسمه، وقال: اللَّهمَّ أَنتَ كَسَوتَنِي هذا القَمِيصَ أَو الرِّدَاءِ أَوِ العِمَامَةَ، أَسْألُكَ خَيرَهُ وَخَيرَ مَا صنعَ لَهُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ ما صنعَ لَهُ.
وكان إذا لبس قميصه بدأ بميامِنه.
ولبس الشعر الأسود، كما روى مسلم في ” صحيحه ” عن عائشة قالت: خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّل مِنْ شَعَر أَسْوَدَ. وفي ” الصحيحين ” عن قتادة قلنا لأنس: أيُّ اللباسِ كان أحبَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: الحِبَرَة.
والحِبَرة: برد من برود اليمن، فإن غالب لباسهم كان مِن نسج اليمن؛ لأنها قريبة منهم، وربما لبسوا ما يُجلب مِن الشَّام ومصر، كالقباطي المنسوجة من الكتان التي كانت تنسجها القبطُ.
وفي ” صحيح النسائي ” عن عائشة أنها جعلت للنبي صلى الله عليه وسلم بُردة من صوف، فلبسها، فلما عَرِق فوجد رِيحَ الصوف، طرحها، وكان يُحبُ الرّيحَ الطَّيِّب.
وفي ” سنن أبي داود ” عن عبد اللّه بن عباس قال: لَقَدْ رأيتُ عَلَى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الحُلَلِ.
وفي ” سنن النسائي ” عن أبي رِِمْثَةَ قال: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَخطُبُ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخضَرَانِ.
والبرد الأخضر: هو الذي فيه خطوط خضر، وهو كالحلة الحمراء سواء، فمن فهم مِن الحُلة الحمراء الأحمر البحت، فينبغي أن يقول: إِنَّ البرد الأخضر كان أخضرَ بحتاً، وهذا لا يقولُه أحد ” انتهى باختصار.
” [زاد المعاد ” (1/ 135 – 145)].
4 – وصف خاتم النبوة.
وردت صفة خاتم النبوة في السنة الصحيحة أنه كان بارزاً في حجم بيضة الحمامة، بين كتفي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حوله خِيلان [جمع خال: نقطة تضرب إلى السواد وتسمى شامة]، وعليه شعرات مجتمعات.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ:
اتَّفَقَتْ الأَحَادِيث الثَّابِتَة عَلَى أَنَّ خَاتَم النُّبُوَّة كَانَ شَيْئًا بَارِزًا عِنْد كَتِفه الأَيْسَر، قَدْره قَدْر بَيْضَة الْحَمَامَة اهـ. بتصرف.
ولم يثبت أن الخاتم كان مكتوباً عليه لفظ الجلالة أو (محمد) أو غير ذلك من الكلمات.
قال الحافظ ابن حجر في “فتح الباري” (6/ 650): وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهَا كَانَتْ كَأَثَرِ مِحْجَم , أَوْ كَالشَّامَةِ السَّوْدَاء أَوْ الْخَضْرَاء , أَوْ مَكْتُوب عَلَيْهَا “مُحَمَّد رَسُول اللَّه” أَوْ “سِرْ فَأَنْتَ الْمَنْصُور” أَوْ نَحْو ذَلِكَ , فَلَمْ يَثْبُت مِنْهَا شَيْء. . . وَلا تَغْتَرّ بِمَا وَقَعَ مِنْهَا فِي صَحِيح اِبْن حِبَّانَ فَإِنَّهُ غَفَلَ حَيْثُ صَحَّحَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ
وهذه بعض الأحاديث الواردة في خاتم النبوة:
1 – روى مسلم (2344) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: “رأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامة يشبه … جسده “.أَيْ: يُشْبِهُ لَوْنُهُ لَوْنَ سَائِرِ أَعْضَائِهِ.
2 – وروى مسلم أيضاً (2346) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلْتُ مَعَهُ خُبْزًا وَلَحْمًا أَوْ قَالَ ثَرِيدًا. . . قَالَ: ثُمَّ دُرْتُ خَلْفَهُ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عِنْدَ نَاغِضِ كَتِفِهِ الْيُسْرَى جُمْعًا عَلَيْهِ خِيلانٌ كَأَمْثَالِ الثَّآلِيلِ.
(نَاغِض كَتِفه) هو أَعْلَى الْكَتِف , وَقِيلَ: هُوَ الْعَظْمُ الرَّقِيقُ الَّذِي أَعْلَى طَرَفه.
(جُمْعًا) مَعْنَاهُ: عَلَى هَيْئَة جَمْع الْكَفّ أي بعد أَنْ تَجْمَعَ الأَصَابِع وَتَضُمَّهَا , لَكِنَّهُ أَصْغَرُ مِنْهُ فِي قَدْر بَيْضَة الْحَمَامَة.
(الْخِيلَان) جَمْع (خَال) , وَهُوَ الشَّامَة فِي الْجَسَد. انظر شرح مسلم للنووي.
(الثآليل): قال ابن الأثير في “النهاية”:
جَمْع ثُؤلُول، وهُو هذه الحبَّة التي تَظْهر في الجِلد كالحِمَّصَة فما دُونها اهـ.
3 – وروى الترمذي في الشمائل عن أبي زيد عمرو بن أخطب الأنصاري قال: فمسحت ظهره، فوقعت أصابعي على الخاتم. وسئل: ما الخاتم؟ قال: شعرات مجتمعات. صححه الألباني في “مختصر الشمائل ” ص 31.