312 عون الصمد شرح الذيل والمتمم له على الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ونوح وعبدالخالق وموسى الصوماليين، وخميس العميمي.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله. ورفع درجته في عليين وحكام الإمارات ووالديهم ووالدينا)
—”’——”’———”——–‘
قال الإمام أحمد في مسنده:
23955 – حَدَّثَنَا عِصَامُ بْنُ خَالِدٍ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، أَنَّ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ يَقُولُ: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَجَهَدَ بِالظَّهْرِ جَهْدًا شَدِيدًا، فَشَكَوْا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بِظَهْرِهِمْ مِنَ الْجَهْدِ، فَتَحَيَّنَ بِهِمْ مَضِيقًا فَسَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، فَقَالَ: ((مُرُّوا بِسْمِ اللهِ)) فَمَرَّ النَّاسُ عَلَيْهِ بِظَهْرِهِمْ، فَجَعَلَ يَنْفُخُ بِظَهْرِهِمْ: ((اللهُمَّ احْمِلْ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِكَ، إِنَّكَ تَحْمِلُ عَلَى الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَعَلَى الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ))، قَالَ: فَمَا بَلَغْنَا الْمَدِينَةَ حَتَّى جَعَلَتْ تُنَازِعُنَا أَزِمَّتَهَا قَالَ فَضَالَةُ: هَذِهِ دَعْوَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، فَمَا بَالُ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الشَّامَ غَزَوْنَا غَزْوَةَ قُبْرُسَ فِي الْبَحْرِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ السُّفُنَ فِي الْبَحْرِ وَمَا يَدْخُلُ فِيهَا، عَرَفْتُ دَعْوَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “.
قلت سيف بن دورة: على شرط الذيل على الصحيح المسند، وتابع عصام عليه الوليد بن مسلم وعنعن لكنه في المتابعات.
لشرحه:
تستطيعون أن تقسموه جمل: تعرف بغزوة تبوك وحال المؤمنين فيها خاصة من قلة المؤونة والظهر. ومصداقيتهم في الجهاد مع قلة المركوب والمطعوم وما واجهوه من العطش.
ثم تتكلمون على البسملة معناها ومشروعيتها في قوله (مرو بسم الله) ومتى تقال
ثم تتكلمون على معجزات النبي صلى الله عليه وسلم
وما وقع في هذا الحديث من معجزات من نفخه على الظهر حتى اشتدت في السير: (فَجَعَلَ يَنْفُخُ بِظَهْرِهِمْ: ” اللهُمَّ احْمِلْ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِكَ، إِنَّكَ تَحْمِلُ عَلَى الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَعَلَى الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ” قَالَ: فَمَا بَلَغْنَا الْمَدِينَةَ حَتَّى جَعَلَتْ تُنَازِعُنَا أَزِمَّتَهَا)
واخباره صلى الله عليه وسلم عن أمور الغيب في قول الصحابي: ( …. فَمَا بَالُ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الشَّامَ غَزَوْنَا غَزْوَةَ قُبْرُسَ فِي الْبَحْرِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ السُّفُنَ فِي الْبَحْرِ وَمَا يَدْخُلُ فِيهَا، عَرَفْتُ دَعْوَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
وقد أكثر الشيخ مقبل في كتابه من التدليل على اخباره صلى الله عليه وسلم عن أمور الغيب وقسمها. في كتابه الجامع الصحيح في دلائل النبوة.
===========================
الحديث في هذا الحديث يدور على عدة أمور، ومنها:
الأمر الأول: الفرق بين المعجزة والكرامة والسحر:
أولاً: الفرق بين المعجزة والكرامة:
التعريف:
المعجزة: هي الآية الخارقة للعادة التي يؤيد الله بها أنبياءه ورسله،
أما الكرامة: فهي شيء خارق للعادة يجريه الله تعالى على يد أحد أوليائه.
وهناك فروق كثيرة بين المعجزة والكرامة، منها:
1 – أن المعجزة مبنية على الإظهار والاشتهار، وأن صاحبها (وهو النبي) مأمور بإظهارها، بينما الكرامة مبناها على الكتم والستر، وصاحبها (وهو الولي) مأمور بكتمانها.
2 – ثمرة المعجزة تعود بالنفع والفائدة على الغير، والكرامة في الغالب خاصة بصاحبها.
3 – المعجزة تكون بجميع خوارق العادات، والكرامة تختص ببعضها.
4 – المعجزات خاصة بالأنبياء، والكرامات تكون للأولياء.
5 – الأنبياء يحتجون بمعجزاتهم على المشركين؛ لأن قلوبهم قاسية، والأولياء يحتجون بالكرامة على نفوسهم حتى تطمئن وتوقن ولا تضطرب.
[نقلا عن رسالة ماجستير بعنوان: ” الولاية والكرامة في العقيدة الإسلامية “].
ثانياً: بين المعجزة والسحر:
وهناك فروق أيضاً بين المعجزة والسحر، منها:
1 – المعجزة خارقة للعادة: أي أنها تأتي مخالفة لقوانين الكون، فهي من الله تعالى، وأما السحر فإنه يحدث بحسب قوانين يمكن تعلمها فهو من الساحر.
2 – المعجزة لا ينتج عنها إلا الخير، أما السحر فلا يصدر منه الخير.
3 – المعجزة لا يمكن إبطالها، أما السحر فإنه يمكن إبطاله، ومعلوم أن السحر لا يتم إلا بالاستعانة بالشياطين والتقرب لها ” منقول
4 – المعجزة تجري على يد النبي، وهو خير الناس علماً وعملاً وخلقاً، والسحر يجري على يد الساحر، وهو شر الناس علماً وعملاً وخلقاً، والنفوس تنفر منه ومن صاحبه.
5 – المعجزة ليس لها سبب، ولهذا لا يستطيع غير النبي أن يأتي بمثلها، أما السحر فله أسباب معروفة، وهي الطلاسم التي تقال وتكتب ويستعان فيه بالجن، فكل من تعلم ذلك وفعله حصل له ما يريد من السحر، أما المعجزة فلا تستفاد بالتعلم والتجربة.
انظر: “الفروق للقرافي” (8/ 116) ترقيم الشاملة.
وهذه بعض أقوال أهل العلم في الفروق بين المعجزة والكرامة والسحر.
قال العلامة السعدي رحمه الله: ” الفرق بين المعجزة والكرامة والأحوال الشيطانية الخارقة للعادة على يد السحرة والمشعوذين:
أن المعجزة، هي: ما يُجرِي الله على أيدي الرسل والأنبياء من خوارق العادات … ويخبرون بها عن الله لتصديق ما بعثهم به، ويؤيدهم بها سبحانه؛ كانشقاق القمر، ونزول القرآن، فإن القرآن هو أعظم معجزة الرسول على الإطلاق، وكحنين الجذع، ونبوع الماء من بين أصابعه، وغير ذلك من المعجزات الكثيرة.
وأما الكرامة، فهي: ما يجري الله على أيدي أوليائه المؤمنين من خوارق العادات، كالعلم، والقدرة، وغير ذلك، كالظلة التي وقعت على أسيد بن الحضير حين قراءته القرآن، وكإضاءة النور لعباد بن بشر وأسيد بن حضير حين انصرفا من عند النبي صلى الله عليه وسلم فلما افترقا أضاء لكل واحد منهما طرف سوطه.
وشرط كونها كرامة أن يكون من جرت على يده هذه الكرامة مستقيمًا على الإيمان ومتابعة الشريعة، فإن كان خلاف ذلك فالجاري على يده من الخوارق يكون من الأحوال الشيطانية.
ثم ليعلم أن عدم حصول الكرامة لبعض المسلمين لا يدل على نقص إيمانهم؛ لأن الكرامة إنما تقع لأسباب:
منها: تقوية إيمان العبد وتثبيته؛ ولهذا لم ير كثير من الصحابة شيئا من الكرامات لقوة إيمانهم وكمال يقينهم.
ومنها: إقامة الحجة على العدو؛ كما حصل لخالد لما أكل السم، وكان قد حاصر حصنا، فامتنعوا عليه حتى يأكله، فأكله، وفتح الحصن، ومثل ذلك ما جرى لأبي إدريس الخولاني لما ألقاه الأسود العنسي في النار، فأنجاه الله من ذلك؛ لحاجته إلى تلك الكرامة، وكقصة أم أيمن لما خرجت مهاجرة واشتد بها العطش سمعت حساً من فوقها، فرفعت رأسها، فإذا هي بدلو من ماء، فشربت منها ثم رفعت.
قلت سيف بن دورة: نقل ابن كثير أن الذي ألقي في النار هو أبو مسلم الخولاني من طريق إسماعيل بن عياش حدثنا شرحبيل بن أبي مسلم الخولاني أن أسود بن قيس تنبأ باليمن فبعث إلى أبي مسلم ….. وقال عمر بن الخطاب: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله عليه السلام. قال ابن كثير: هذا وإن كان فيه انقطاع؛ مشهور. انتهى من مسند الفاروق انتهى
ففي كرامات الأولياء للالكائي بعد أن ذكر القصة نقل عن ابن عياش انه قال: فأنا أدركت رجالا من الامداد الذين يمدون من اليمن من خولان يقولون لأمداد من عنس: صاحب الكذاب حرق صاحبنا بالنار فلم تضره
وقد تكون الكرامة ابتلاء فيسعد بها قوم ويشقى بها آخرون، وقد يسعد بها صاحبها إن شكر، وقد يهلك إن أعجب ولم يستقم ” انتهى من ” التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة ” (ص/107).
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
كيف نفرق بين المعجزة والكرامة والكهانة؟
فأجاب:
“المعجزة تكون للأنبياء، والكرامة للأولياء؛ أولياء الرحمن، والكهانة لأولياء الشيطان.
والآن المعجزة لا يمكن أن تقع؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام آخر الأنبياء، ولا يمكن أن تقع.
والكرامة موجودة من قبل الرسول ومن بعد الرسول إلى يوم القيامة، تكون على يد ولي صالح، إذا عرفنا أن هذا الرجل الذي جاءت هذه الكرامة على يده هو رجل مستقيم قائم بحق الله وحق العباد عرفنا أنها كرامة.
وينظر في الرجل فإذا جاءت هذه الكرامة من كاهن – يعني: من رجل غير مستقيم – عرفنا أنها من الشياطين، والشياطين تعين بني آدم لأغراضها أحياناً ” انتهى من ” لقاءات الباب المفتوح ” (لقاء رقم/84، سؤال رقم/8).
الأمر الثاني: معجزات النبي صلى الله عليه وسلم:
معجزات النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة متعددة، وقد جاوزت الألف، كما صرح بذلك العلامة ابن القيم رحمه الله في “إغاثة اللهفان” (2/ 691)، وهذه المعجزات منها ما حصل وانتهى، ومنها ما هو باق إلى أن يشاء الله تعالى، وهو المعجزة العظمى، والآية الكبرى على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي القرآن العظيم، الآية الباقية الدائمة التي لا يطرأ عليها التغيير والتبديل، وهو معجز من وجوه عديدة:
1 – من جهة لفظه، فقد تحدى الله فصحاء العرب أن يأتوا بمثل سورة منه فعجزوا.
2 – ومعجز بما فيه من أخبار مستقبلة وقعت كما أخبر عنها؛ كقوله تعالى: (الم * غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ) الروم/1 – 3.
4 – ومعجز بما فيه من تشريعات محكمة ما كانت البشرية كلها تهتدي لمثلها.
5 – ومعجز بما فيه من علوم وأخبار عن أسرار هذا الكون، والذي لا يزال العلم الحديث يكتشف يوماً بعد يوم شيئاً فشيئا من هذه الأسرار.
وأما المعجزات التي حصلت وانتهت فهي كثيرة كما قلنا ومن أشهرها:
1 – معجزة الإسراء والمعراج، وقد جاء في القرآن ذكر الإسراء صراحة والإشارة إلى المعراج، وجاءت الأحاديث من السنة الصحيحة المستفيضة ببيان المعراج وما كان فيه.
2 – معجزة انشقاق القمر، وقد ورد القرآن بذكرها، وتواترت بها السنة، كما قال ابن كثير رحمه الله تعالى، وأجمع على ذلك المسلمون.
3 – تكثير القليل من الطعام بين يديه صلى الله عليه وسلم حتى كان يأكل منه من معه من الجيش، وتبقى منه بقية، والأحاديث في ذلك في الصحيحين وغيرهما.
4 – نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم وتكثير الماء حتى يشرب منه جميع الجيش ويتوضؤون، والأحاديث في ذلك أيضاً في الصحيحين.
5 – إخباره صلى الله عليه وسلم بالأمور الغيبية المستقبلة ثم تقع كما أخبر، وقد حدث مما أخبر به شيء كثير، ولا نزال نرى أشياء تحدث مما أخبر به صلى الله عليه وسلم. وسيأتي ذكر شيء منها.
6 – حنين الجذع إليه لما فارقه إلى المنبر. والحديث في صحيح البخاري.
7 – تسليم الحجر عليه وهو في مكة. والحديث رواه مسلم.
8 – إبراء المرضى، والأحاديث في ذلك كثيرة في الصحيحين وغيرها.
والمعجزات كما تقدم كثيرة وهذا طرف منها، وقد أَلَّف العلماء في جمع معجزات النبي صلى الله عليه وسلم مؤلفات عديدة كدلائل النبوة للبيهقي، وأعلام النبوة للماوردي، وكتب العقيدة مملوءة بذكرها في مبحث الإيمان بالرسل.
الأمر الثالث: من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم إخباره ببعض المغيبات:
وهذا من المعجزات التي تثبت نبوته صلى الله عليه وسلم، وهي من وحي الله له، لا من اطلاعه على الغيب، ولا أنه يعلم الغيب كما يقول المبتدعة، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26 – 27]، وهذا الإخبار إخبار مجمل وليس مفصلاً؛ فالغيب المطلق التام لا يعلمه إلا الله، قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65]. فليس في إخباره صلى الله عليه وسلم تفاصيل الأحداث أو تواريخها أو كيف تقع، ومن ذلك:
أولا: اخباره عن جملة من الوقائع، فمنها:
1 – نبوءته صلى الله عليه وسلم باستشهاد عمر وعثمان رضي الله عنهما؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أُحُداً ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم الجبل، فقال: «اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ» (رواه البخاري).
2 – إخباره بظهور الخوارج وبعض صفاتهم.
قال صلى الله عليه وسلم: «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ» (رواه مسلم).
وقال عن صفاتهم: «يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاَتَكُمْ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» (متفق عليه)، وقال عن سيماهم: «سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ» (رواه البخاري).
3 – إخباره بما سيقع بعد موته في زمن الصحابة رضي الله عنهم، والصلح الذي سيقع على يد الحسن رضي الله عنه حيث، قال: «إِنَّ ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» (رواه البخاري).
4 – إخباره بتداعي الأمم على المسلمين واتباعهم سنن أعدائهم، قال صلى الله عليه وسلم: «يوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا». فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ في قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ». فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
وقال: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ». قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟» (متفق عليه).
5 – إخباره بموت النجاشي، وقتل علي رضي الله عنه، وقتل الحسين رضي الله عنه، وإخباره لابنته فاطمة بأنها أول أهله لحوقاً به.
6 – وإخباره بمقتل كسرى.
7 – إخباره ببعض أحداث تقع قبل قيام الساعة، وقع منها الكثير مما أخبرنا عنه أو رأيناه، وسيتحقق ما لم يقع مما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: معجزاته في أمو التطبب، وإخباره بكثير من العلاجات والفوائد الطبية:
– ومن ذلك برء عين علي رضي الله عنه في خيبر حينما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم ليعطيه الراية، وهو أرمد، فبصق في عينيه فبرئ كأن لم يكن به وجع.
– ومن ذلك برء قدم أبي بكر رضي الله عنه حين لدغه العقرب في الغار في رحلة الهجرة، فتفل عليها النبي صلى الله عليه وسلم ودعا، فقام كأنه نشط من عقال.
– ومن ذلك برء ساق سلمة رضي الله عنه، ففي البخاري عن يزيد بن أبي عبيد قال: رَأَيْتُ أَثَرَ ضَرْبَةٍ في سَاقِ سَلَمَةَ، فَقُلْتُ يَا أَبَا مُسْلِمٍ، مَا هَذِهِ الضَّرْبَةُ قَالَ هَذِهِ ضَرْبَةٌ أَصَابَتْنِى يَوْمَ خَيْبَرَ، فَقَالَ النَّاسُ أُصِيبَ سَلَمَةُ. فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَنَفَثَ فِيهِ ثَلاَثَ نَفَثَاتٍ، فَمَا اشْتَكَيْتُهَا حَتَّى السَّاعَةِ.
فرع: ومن ذلك إخباره بكثير من العلاجات والفوائد الطبية:
وما يسمى بالطب النبوي، ذكر ابن القيم رحمه الله وغيره كثيراً من هذه الفوائد والعلاجات المأخوذة من كلامه صلى الله عليه وسلم.
ثالثاُ: استجابة دعائه صلى الله عليه وسلم:
– منها استجابة دعائه لأنس بن مالك بإكثار ماله وولده، فعن أنس رضي الله عنه قال: جَاءَتْ بي أمي أُمُّ أَنَسٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أزَّرَتنِي بِنِصْفِ خِمَارِهَا ورَدَّتنِي بِنِصْفِهِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا أُنَيْسٌ ابْنِى أَتَيْتُكَ بِهِ يَخْدُمُكَ فَادْعُ اللَّهَ لَهُ. فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ». قَالَ أَنَسٌ: “فَوَاللَّهِ إِنَّ مَالِي لَكَثِيرٌ وَإِنَّ وَلَدِي وَوَلَدَ وَلَدِي لَيَتَعَادُّونَ عَلَى نَحْوِ الْمِائَةِ الْيَوْمَ” (رواه مسلم).
– ومن ذلك استجابة دعائه لابن عباس، فقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير فقال: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ في الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّاوِيلَ» (رواه أحمد، وصححه الألباني). فخرج من أفقه الناس وأعلمهم بالتأويل، حتى سمي “البحر” لسعة علمه، و”الحبر” و”ترجمان القرآن”.
– ومن ذلك استجابة دعائه على مضر وعلى الكفار من قريش فقال: «اللّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُف» (متفق عليه)، فأمسك عنهم المطر حتى جف النبات والشجر، وماتت الماشية، وتفرقوا في البلاد لشدة الحال.
– ولما آذاه الكفار، ودعا عليهم، وسمى منهم أبا جهل، وأمية بن خلف في أناس من قريش، قال الراوي: “فلقد رأيتُ من سَمّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في قليب بدر”.
– ومن ذلك إجابة دعائه لأبي هريرة رضي الله عنه وأمه.
—
الأمر الرابع: غزوة تبوك وشيء من فقهها:
وفي السنة التاسعة كانت غزوة تبوك في زمان عسرة وشدة وحر شديد فسار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تبوك لرد كيد الروم فعسكر هناك، ولم يلق كيداً وصالح بعض القبائل، وغنم ثم رجع إلى المدينة وهذه آخر غزوة غزاها عليه الصلاة و السلام وجاءت في تلك السنة وفود القبائل تريد الدخول في الإسلام و منها وفد تميم ووفد طيء ووفد عبد القيس، ووفد بني حنيفة وكلهم أسلموا ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يحج بالناس في تلك السنة وبعث معه علياً رضي الله عنه وأمره أن يقرأ على الناس سورة براءة للبراءة من المشركين وأمره أن ينادي في الناس فقال علي يوم النحر: (يا أيها الناس لا يدخل الجنة كافر، و لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله عهد فهو إلى مدته).
تاريخه: وفي رجب من هذه التاسعة: كانت غزوة تبوك.
موقعه: تقع تبوك شمال الحجاز، وتبعد عن المدينة المنورة 778 كم حسب الطرق المعبدة في الوقت الحاضر، وكانت من ديار قُضاعة الخاضعة لسلطان الروم آنذاك. [“السيرة النبوية الصحيحة” 2/ 524].
سبب الواقعة: وقد عزم النبي – صلى الله عليه وسلم – غزو الروم لنشر الدين الإِسلام في هذه البلاد التي هي من أقرب البلاد إلى أرض الحجاز، والتي تقع تحت السيطرة الرومية، ولتكون تلك هي المواجهة الثانية مع الروم بعد غزوة مؤتة التي لم تحقق جميع أهدافها المرجوَّة؛ فبرغم أنها أظهرت للعالم قدرة المسلمين الفائقة، حتى في مواجهة أعظم إمبراطورية في العالم حينها، وهي إمبراطورية الروم، إلَّا أنها لم تحقق الهدف الأسمى الذي ينشده المسلمون، ألا وهو إخضاع هذه الإمبراطورية وتلك الدول للإسلام والمسلمين وبالتالي توسيع المجال أمام الدعوة الإِسلامية أن تنشر بين ساكني تلك الدول، التي يمنع حكامها الظالمون المسلمين من نشر الدين الحق فيها.
والذي جعل النبي – صلى الله عليه وسلم – يخرج في هذا الوقت بالذات، رغم ما كان بالمسلمين من شدة وعُسرة، وصول خبر إلى المدينة أنَّ أحد ملوك غسان تجهز لغزو المسلمين، مما جعل النبي – صلى الله عليه وسلم – يسارع في الخروج لملاقاتهم في بلادهم، قبل مباغتتهم المسلمين في بلادهم.
فنادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم – في الصحابة بالجهاد لغزو الروم، ولم تكن تلك عادة النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يعلم الصحابة بوجهته الحقيقة إنما كان – صلى الله عليه وسلم – إذا أراد غزوة يغزوها وَرَّى بغيرها [وَرَّى بغيرها: أي: أوهم بغيرها؛ وذلك حتى لا تتسرب الأخبار للعدو الذي يريد النبي – صلى الله عليه وسلم – ملاقاته].
فعن كَعْبِ بن مَالِكٍ – رضي الله عنه – قال: كَانَ رَسُولُ الله – صلى الله عليه وسلم – قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ، فَغَزَاهَا رَسُولُ الله – صلى الله عليه وسلم – في حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاستَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا، وَمَفَازًا [المفاز: الفلاة التي لا ماء فيها].، وَاسْتَقْبَلَ غَزْوَ عَدُوٍّ كَثِيرٍ، فَجَلَّى، لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ؛ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ. متفق عليه.
تجهيز الجيش، وتبرع الصحابة رضي الله عنهم:
وأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه بالإنفاق لتجهيز جيش العُسْرة [وسُمي جيش العُسْرة للعُسْر والشدة التي كان عليها المسلمون حينها].، فقَالَ النَّبِي – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ”، فَجَهَّزَهُ عُثْمَانُ بن عفان – رضي الله عنه -. [صحيح: أخرجه البخاري (2778)، كتاب: الوصايا، باب: إذا وقف أرضًا أو بئرًا واشترط لنفسه مثل دِلاء المسلمين].
وقد تبرع عُثْمَانُ – رضي الله عنه – من المال فقط بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَجاء بها فنْثُرَهَا في حِجْرِ النبي – صلى الله عليه وسلم -، فجعل النَّبِي – صلى الله عليه وسلم – يُقَلِّبُهَا في حِجْرِهِ، وَيَقُولُ: “ما ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ، مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ” [حسن: أخرجه الترمذي (3071)، كتاب: المناقب، باب في مناقب عثمان – رضي الله عنه – وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وحسنه الألباني في “المشكاة” (6064)].
من أحوال المنافقين في الجهاد:
وأخذ المنافقون في تثبيط المؤمنين عن الخروج والجهاد في سبيل الله وقالوا: {لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة: 81].
وفي ذلك يقول الله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)} [التوبة: 81].
يُبلغهم الله تعالى أن نار جهنم التي سيصيرون إليها بسبب مخالفتهم أمره – صلى الله عليه وسلم – أشد حرًا مما فروا منه.
[المعذّرون]
وجاء المعذّرون من الأعراب الذين يسكنون حول المدينة يشكون للنبي – صلى الله عليه وسلم – ضعفهم وفقرهم وعدم استطاعتهم الخروج معه – صلى الله عليه وسلم -، كما جاء المنافقون مبدين الأعذار الكاذبة والحجج الواهية مستأذنين النبي – صلى الله عليه وسلم – في عدم الخروج؛ وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)} [التوبة: 90].
ثم بيَّن الله تعالى حال أصحاب الأعذار الحقيقية، وأنه لا سبيل عليهم، فقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)} [التوبة: 91].
كما بيَّن الله -عز وجل – تقبله عذر الفقراء الذين جاءوا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ليحملهم معه في تلك الغزوة، فلم يجد النبي – صلى الله عليه وسلم – ما يحملهم عليه، فتولَّوا وهم يبكون من شدة حزنهم لعدم استطاعتهم الخروج، فقال تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)} [التوبة: 92].
ثم قال الله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَاذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)} [التوبة: 93].
وكان أكثر المنافقين الذين تخلَّفوا من الأعراب أهل البادية، ولذلك يقول الله تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)} [التوبة: 97، 98].
ثم بيَّن الله تعالى أنه ليس كلهم كذلك، بل منهم من هو مؤمن، فقال تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)} [التوبة: 99].
ثم أوضح الله تعالى أن بالمدينة منافقون أيضًا، فقال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)} [التوبة: 101].
وعمومًا فقد أذن النبي – صلى الله عليه وسلم – لكل من جاءه معتذرًا، فهو – صلى الله عليه وسلم – لم يشُق عن قلوبهم ولا يعلم ما بداخلها، فعاتبه الله تعالى فأنزل عليه: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)} [التوبة: 43].
وقد كان عدم خروجهم في مصلحة المؤمنين يقول الله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)} [التوبة: 46، 47].
[قصة الأشعريين]
ويحكي أبو مُوسَى الأشعري – رضي الله عنه – قصة الأشعريين الذين أرسلوه إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يسألونه الحُملان لهم، فيقول – رضي الله عنه -: أَرْسَلَنِي أصحابي إلى رَسُولِ الله – صلى الله عليه وسلم – أَسْأَلُهُ الْحُمْلَانَ لَهُمْ إِذْ هُمْ مَعَهُ في جَيْشِ الْعُسْرَةِ، وَهِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ، فَقُلْتُ: يَا نَبِي الله إِنَّ أصحابي أَرْسَلُونِي إِلَيْكَ لِتَحْمِلَهُمْ، فَقَالَ: وَاللهِ لَا أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَيءٍ،- يقول أبو موسى-: وَوَافَقْتُة وَهُوَ غَضْبَانُ وَلَا أَشْعُرُ، وَرَجَعْتُ حَزِينًا مِنْ مَنْعِ النَّبِي – صلى الله عليه وسلم – وَمِنْ مَخَافَةِ أَنْ يَكُونَ النَّبِي – صلى الله عليه وسلم – وَجَدَ في نَفْسِهِ عَلَيَّ، فَرَجَعْتُ إلى أصحابي فَأَخْبَرْتُهُمْ الَّذِي قَالَ النَّبِي – صلى الله عليه وسلم -، فَلَمْ أَلْبَثْ إِلَّا سُوَيْعَةً إِذْ سَمِعْتُ بِلَالًا يُنَادِيِ أَيْ عبد الله بن قَيْسٍ، فَأَجَبْتُهُ، فَقَالَ: أَجِبْ رَسُولَ الله – صلى الله عليه وسلم – يَدْعُوكَ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ، قَالَ: خُذْ هَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ، وَهَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ [الْقَرِينَيْنِ: أي: البعيرين المتماثلين في الحجم والسنّ]، -لِسِتَّةِ أَبْعِرَةٍ ابْتَاعَهُنَّ حِينَئِذٍ مِنْ سَعْدٍ- فَانْطَلِقْ بِهِنَّ إلى أَصْحَابِكَ، فَقُلْ: إِنَّ الله -أَوْ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله- يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ فَارْكَبُوهُنَّ فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِم بِهِنَّ، فَقُلْتُ: إِنَّ النَّبِي – صلى الله عليه وسلم – يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَلَكِنِّي وَاللهِ لَا أَدَعُكُمْ حَتَّى يَنْطَلِقَ مَعِي بَعْضُكُمْ إلى مَنْ سَمِعَ مَقَالَةَ رَسُولِ الله – صلى الله عليه وسلم -، لَا تَظُنُّوا أَنِّي حَدَّثْتُكُم شَيئًا لَم يَقُلْهُ رَسُولُ الله – صلى الله عليه وسلم -، فَقَالُوا لِي: وَاللهِ إِنَّكَ
عِنْدَنَا لَمُصَدَّقٌ وَلَنَفْعَلَنَّ مَا أَحْبَبْتَ، فَانْطَلَقَ أبو مُوسَى بنفَرٍ مِنْهُمْ حَتَّى أَتَوْا الَّذِينَ سَمِعُوا قَوْلَ رَسُولِ الله – صلى الله عليه وسلم – مَنْعَهُ إِيَّاهُمْ ثُمَّ إِعْطَاءَهُمْ بَعْدُ فَحَدَّثُوهُمْ بِمِثْلِ مَا حَدَّثَهُمْ بِهِ أبو مُوسَى. [متفق عليه: أخرجه البخاري (4415)، كتاب: المغازي، باب: غزوة تبوك وهي غروة العسرة، ومسلم (1649)، كتاب: الإيمان, باب: ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفّر عن يمينه].
[خرج النبي – صلى الله عليه وسلم – متوجهًا إلى تبوك]
وخرج النبي – صلى الله عليه وسلم – متوجهًا إلى تبوك بجيش يقرب من الثلاثين ألف مقاتل، معهم حوالي عشرة آلاف فرس، وخلَّف على المدينة عليَّ بن أبي طالب – رضي الله عنه -، فَقَالَ عليٌّ للنبي – صلى الله عليه وسلم -: أَتُخَلِّفُنِي في الصِّبْيَانِ وَالنِسَاءِ؟ قَالَ: “أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي. [متفق عليه: أخرجه البخاري (4416)، كتاب: المغازي، باب: غزوة العسرة، ومسلم (2404)، كتاب: فضائل الصحابة, باب: من فضائل علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -].
وكان خَرَوجَ النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى هذه الغزوة يَومَ الْخَمِيسِ حيث كَانَ – صلى الله عليه وسلم – يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ في جميع أصفاره. [صحيح: أخرجه البخاري (2950)، كتاب: الجهاد والسير، باب: مَن أراد غزوة فورَّى بغيرها ومَن أحب الخروج يوم الخميس].
[مما أصاب المسلمين في الطريق]
وفي الطريق أصاب المسلمين مجاعة شديدة وعطش، فعَنْ أبي هُرَيْرَةَ أَوْ أبي سَعِيدٍ (شَكَّ الْأَعْمَشُ) قَالَ: لَمَّا كَانَ غَزْوَةُ تَبُوكَ أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله لَوْ أَذِنْتَ لَنَا فَنَحَرْنَا نَوَاضِحَنَا، فَأَكَلْنَا وَادَّهَنَّا، فَقَالَ رَسُولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: افْعَلُوا، قَالَ فَجَاءَ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنْ فَعَلْتَ قَلَّ الظَّهْرُ وَلَكِنْ ادْعُهُمْ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ ثُمَّ ادْعُ الله لَهُمْ عَلَيْهَا بِالْبَرَكَةِ لَعَلَّ الله أَنْ يَجْعَلَ في ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “نَعَمْ”، فَدَعَا بنطَعٍ فَبَسَطَهُ ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ أَزْوَادِهِم، قَالَ: فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِكَفِّ ذُرَةٍ، وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَفِّ تَمْرٍ، وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَسْرَةٍ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النِّطَعِ مِنْ ذَلِكَ شَيءٌ يَسِيرٌ، فَدَعَا رَسُولُ الله – صلى الله عليه وسلم – عَلَيْهِ بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ: خُذُوا في أَوْعِيَتِكُمْ، قَالَ: فَأَخَذُوا في أَوْعِيَتِهِمْ حَتَّى مَا تَرَكُوا في الْعَسْكَرِ وِعَاءً إِلَّا مَلَئُوهُ، قَالَ: فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُولُ الله، لَا يَلْقَى الله بِهِمَا عبد غَيْرَ شَاكٍّ فَيُحْجَبَ عَنْ الْجَنَّةِ”. [صحيح: أخرجه مسلم (27)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا].
فأكل الصحابة – رضي الله عنهم – وشربوا، بعد ما نالوه من جوع وعطش شديَدْين.
وعن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه قال: خرجنا إلى تبوك في قَيظ شديد، فنزلنا منزلًا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان أحدنا ليذهب فيلتمس الرحل فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إنَّ الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرْثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرًا، فادع الله لنا، فقال: أتحب ذلك؟ قال: نعم، قال: فرفع يديه نحو السماء، فلم يرجعها حتى قالت السماء فأظلت ثم سكبت، فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر. [إسناده جيد: أخرجه البيهقي في “الدلائل” 5/ 231، قال ابن كثير في “البداية والنهاية” 5/ 74: إسناده جيد].
فقال الصحابة لأحد المنافقين ممن كان معهم: وَيْحَك؛ هَلْ بَعْدَ هَذَا شَئءٌ؟! قَالَ: سَحَابَةٌ مَارّةٌ. [“سيرة ابن هشام” 4/ 92، 93، من رواية ابن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعاصم ثقة، وثقة ابن حجر كما في “التقريب” (295): قال: ثقة عالم بالمغازي عن محمود بن لبيد، عن رجال من بني عبد الأشهل، به، ومحمود بن لبيد صحابي صغير، قال ابن حجر في “التقريب” (582): صحابي صغير وجل روايته عن الصحابة. اهـ. فإن كان من روى عنهم هذه الرواية من الصحابة, فلا يضر إبهامهم، ويكون الحديث صحيحًا].
في تنبيه القاري على ما ضعفه الألباني: سعيد بن أبي هلال اختلط هكذا في التعليق على ابن خزيمة لكن في السيرة النبوية صححه ذكر له شاهدا مرسلا.
وقبل حديث سعيد بن أبي هلال ابن عبدالهادي في التنقيح كدليل إلى أن روث ما يأكل لحمه طاهر
وقال الذهبي في تاريخ الإسلام: حديث حسن قوي.
وهو في الصحيح المسند 998
ومضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فجعل يتخلف عنه الرجل، فيقولون: تخلف فلان، فيقول: دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك، فقد أراحكم الله منه.
وتلوَّم على أبي ذر بعيرُه، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فجعله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ماشيًا، ونزل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين، فقال: يا رسول الله, إن هذا الرجل ماش على الطريق، وحده، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “كن أبا ذر”، فلما تأمله القوم، قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: “رحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، وببعث وحده” [أخرجه الحاكم 3/ 50، 51، وصححه ووافقه الذهبي، ولكنه قال: فيه إرسال، وابن كثير في “البداية والنهاية” 5/ 73، وقال: إسناده حسن]
قلت سيف بن دورة: أعله الألباني ببريدة بن سفيان قال البخاري: فيه نظر … الضعيفة 5531
[ماذا حدث عند وصولهم تبوك؟]
ولما وصلوا إلى تبوك حدث أيضًا ما يرويه مُعَاذ بن جَبَلٍ – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كَانَ يَجْمَعُ الصَّلَاةَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمًا أَخَّرَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَصلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، ثُمَّ قَالَ: “إِنكُمْ سَتَاتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ الله عَيْنَ تَبُوكَ، وَإِنكم لَنْ تَاتُوهَا حَتَّى يُضْحِيَ النَّهَارُ، فَمَنْ جَاءَهَا مِنْكُمْ فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ”، فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلَانِ، وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ تَبِضُّ بِشَئءٍ مِنْ مَاءٍ، قَالَ: فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “هَلْ مَسَسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيئًا؟ “، قَالَا: نَعَمْ، فَسَبَّهُمَا النَّبِي – صلى الله عليه وسلم -، وَقَالَ لَهُمَا: “مَا شَاءَ الله أَنْ يَقُولَ”، ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الْعَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى اجْتَمَعَ في شَئءٍ، وَغَسَلَ رَسُولُ الله – صلى الله عليه وسلم – فِيهِ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا، فَجَرَتْ الْعَيْنُ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ -أَوْ قَالَ: غَزِيرٍ- حَتَّى اسْتَقَى النَّاسُ، ثُمَّ قَالَ: “يُوشِكُ يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ أَنْ تَرَى مَا هَا هُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَانًا” [صحيح: أخرجه مسلم (706)، كتاب الفضائل، باب: في معجزات النبي – صلى الله عليه وسلم]
وأَقَامَ النبي – صلى الله عليه وسلم – بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا [إسناده صحيح: أخرجه أحمد (14702)، بإسناد رجاله ثقات]، فلم يلق كيدًا؛ حيث خافه ملكُ بني الأصفر والقبائل العربية المتنصّرة، فلم يحضروا.
فقفل النبي – صلى الله عليه وسلم – بجيشه راجعًا إلى المدينة، بعد ما عرف الجميع قوة الجيش الإسلامي التي ظنوا أنها ستضعف بعد مؤتة، فوجودوها قد ازدادت قوة وصلابة، حتى إنهم قد خافوا الخروج إليهم.
ومما حدث أيضًا في هذه الغزوة ما يرويه أبو حُمَيْد الساعدي – رضي الله عنه – حيث قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله – صلى الله عليه وسلم – في غَزْوَةِ تَبُوكَ، ثُمَّ أَقْبَلْنَا حَتَّى قَدِمْنَا وَادِي الْقُرَى، فَقَالَ رَسُولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “إِنِّي مُسْرِعٌ، فَمَنْ شَاءَ مِنْكُنم فَلْيُسْرِعْ مَعِي، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَمْكُثْ”، فَخَرَجْنَا، حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: “هذِهِ طَابَةُ، وَهَذَا أُحُدٌ وَهُوَ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ” [متفق عليه: أخرجه البخاري (1481)، كتاب: الزكاة، باب: خرص الثمر، ومسلم (1392)، كتاب: الفضائل، باب: في معجزات النبي – صلى الله عليه وسلم].
وفي مرَجَعَ النبي – صلى الله عليه وسلم – مِنْ تَبُوكَ، وحين دَنَا مِنْ الْمَدِينَةِ، قال – صلى الله عليه وسلم -: “إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ”، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ. [متفق عليه: أخرجه البخاري (4423)، كتاب: المغازي، باب: نزول النبي – صلى الله عليه وسلم – بالحجر، ومسلم (1911)، كتاب: الإمارة، باب: ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر].
[ومن أعظم الأحداث: تخلَّف كعبُ بن مالك وصاحباه عن غزوة تبوك ثم تابوا، فتاب الله عليهم].
فعن كَعْبِ بن مَالِكٍ – رضي الله عنه – قَالَ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ الله – صلى الله عليه وسلم – في غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا في غَزْوَةِ تَبُوكَ غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ في غَزْوَةِ بَدْرٍ وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ الله – صلى الله عليه وسلم – يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ الله بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ الله – صلى الله عليه وسلم – لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ في النَّاسِ مِنْهَا كَانَ مِنْ خَبَرِي أَني لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ في تِلْكَ الْغَزَاةِ وَاللهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا في تِلْكَ الْغَزْوَةِ …… ُ [متفق عليه: أخرجه البخاري (4418)، كتاب: المغازي، باب: حديث كعب بن مالك، ومسلم (2769)، كتاب: التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه].
ووقع كذلك تحريق مسجد الضرار بعد عودته من تلك الغزوة فلعله يكون لنا شرح في موضع آخر إن شاء الله
الأمر الخامس: الدروس التربوبية والعبر من أخرى واقعة (غزوة تبوك)
1 – أن تمكُّن العقيدة في قلوب رجال الإسلام أقوى من كل سلاح وعتاد، وقضى الله أن الأمة متى ما حادت عن عقيدتها وتعلَّقت بغيرها، إلا تقلَّبت في ثنايا الإهانات والنكبات والنكسات، حتى ترجع إلى كتاب ربها وسنة نبيها.
2 – أن الله كتب العزة والقوة لهذه الأمة، متى ما صدقت وأخلصت، فها هي دولة الإسلام الناشئة تقف في وجه الكفر كله بقواه المادية فتهزمه وتنصره عليه: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ) [الحج:40].
3 – أن العدو ما تسلل إلا من خلال صفوف المنافقين والمرجفين، ولم يكن الضعف والتفرقة في هذه الأمة إلا من قِبَل أصحاب المسالك الملتوية والقلوب السوداء: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) [التوبة:47].
4 – على المؤمنين أن يُعِدُّوا أنفسهم بما استطاعوا من قوة ثم يتقوا الله ويتعلقوا به ويصبروا، وعندها ينصرون.
5 – أن الحق لا بد له من قوة تحرسه وترهب أعداءه
6 – أن هذه الأمة أمة جهاد ومجاهدة وصبر ومصابرة، حتى إذا ما تركت الجهاد ضُربت عليها الذلة والمسكنة. فإذا فرغ من جهاد المشركين رجع إلى جهاد ومقاومة المنافقين ثم جهاد الروم.
7 – التدريب العملي وفوائده:
كان في خروج الرسول صلى الله عليه وسلم بأصحابه إلى تبوك فوائد كثيرة، منها ظهور أهل الصدق وتمييز الخبيث من الطيب.
8 – التربية على الأخذ بالأسباب.
9 – المشورة وقبولها.
ومن هذه النوازل:
أ – قبول مشورة أبي بكر الصديق في الدعاء حين تعرض الجيش لعطش شديد:
ب- قبول مشورة عمر بن الخطاب في ترك نحر الإبل حين أصابت الجيش مجاعة:
ج- قبول مشورة عمر رضي الله عنه في ترك اجتياز حدود الشام والعودة إلى المدينة:
عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى منطقة تبوك وجد أن الروم فروا خوفًا من جيش المسلمين، فاستشار أصحابه في اجتياز حدود الشام، فأشار عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأن يرجع بالجيش إلى المدينة وعلل رأيه بقوله: إن للروم جموعاً كثيرة وليس بها أحد من أهل الإسلام، ولقد كانت مشورة مباركة.
10 – كثرة البذل والتضحية
11 – الإيمان بالمعجزات.
12 – عظم البركة والدعاء بها.
الأمر السادس: أهم نتائج الغزوة:
أ – يمكن أن يلاحظ أهم نتائج هذه الغزوة وهي:
1. إسقاط هيبة الروم
- بدأ الكثير من هذه القبائل يراجع موقفه ويقارن بين جدوى الاستمرار في الولاء للدولة البيزنطية أو تحويل هذا الولاء إلى الدولة الإسلامية الناشئة، ويعد ما حدث في تبوك نقطة البداية العملية للفتح الإسلامي لبلاد الشام.
3. توحيد الجزيرة العربية تحت حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث تأثر موقف القبائل العربية من الرسول صلى الله عليه وسلم والدعوة الإسلامية؛ ونظراً لكثرة وفود القبائل العربية التي قدمت إلى المدينة من أنحاء الجزيرة العربية بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك لتعلن إسلامها هي ومن وراءها، فقد سمي العام التاسع للهجرة في المصادر الإسلامية بعام الوفود. [نظرة النعيم (1/ 395 – 396)]
وبهذه الغزوة المباركة ينتهي الحديث عن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم التي قادها بنفسه، فقد كانت حياته المباركة غنية بالدروس والعبر التي تتربى عليها أمته في أجيالها المقبلة، ومليئة بالدروس والعبر في تربية الأمة وإقامة شرع الله.
هذه تبوك غزوة العسرة، وهذه دروسها.