43. لطائف التفسير
(بحوث شرعية لطلاب علم إمارتيين بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى)
جمع الشيخ د صالح المشعري وعبدالحميد البلوشي وعبدالله الديني وعبدالله المشجري.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
———-‘———‘——–
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلًا)
[سورة النساء 59]
لماذا ذكرت لفظة أطيعوا قبل الله عزوجل وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم
ثم لم تذكر لفظة أطيعوا ثالثا؟
———–‘——–‘—–
لأن طاعة الله مستقلة ولأن الرسول طاعته تابعة لطاعة الله لكنه لا يأمر إلا بما أمر الله به ولأنه قد أوتي القرآن ومثله معه فيطاع فيما جاء موافقا للقرآن ويطاع فيما زاد عليه كما قال صلى الله عليه وسلم الا وإني أوتيت القرآن ومثله معه أما ولي الأمر فطاعته تابعة لأمر الله وأمر رسوله غير مستقلة كما جاء في الصحيح إنما الطاعة في المعروف.
———–‘———‘——–
قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى:
فمن خصائصه: ما كان من خصائص نبوته ورسالته فهذا ليس لأحد أن يقتدي به فيه فإنه لا نبي بعده وهذا مثل كونه يطاع في كل ما يأمر به وينهى عنه وإن لم يعلم جهة أمره حتى يقتل كل من أمر بقتله وليس هذا لأحد بعده فولاة الأمور من العلماء والأمراء يطاعون إذا لم يأمروا بخلاف أمره؛ ولهذا جعل الله طاعتهم في ضمن طاعته.
قال الله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}.
فقال: وأطيعوا الرسول وأولي الأمر لأن أولي الأمر يطاعون طاعةً تابعةً لطاعته فلا يطاعون استقلالًا ولا طاعةً مطلقةً وأما الرسول فيطاع طاعةً مطلقةً مستقلةً فإنه: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} فقال تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} فإذا أمرنا الرسول كان علينا أن نطيعه وإن لم نعلم جهة أمره وطاعته طاعة الله لا تكون طاعته بمعصية الله قط بخلاف غيره. مجموع الفتاوى (22/ 323)
———-‘——
تفسير ابن قيّم الجوزيّة — ابن القيم ((751) هـ)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلًا} [النساء: (59)]
فَأمَرَ تَعالى بِطاعَتِهِ وطاعَةِ رَسُولِهِ، وأعادَ الفِعْلَ إعْلامًا بِأنَّ طاعَةَ الرَّسُولِ تَجِبُ اسْتِقْلالًا مِن غَيْرِ عَرْضِ ما أمَرَ بِهِ عَلى الكِتابِ، بَلْ إذا أمَرَ وجَبَتْ طاعَتُهُ مُطْلَقًا، سَواءٌ كانَ ما أمَرَ بِهِ في الكِتابِ أوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ، فَإنَّهُ أُوتِيَ الكِتابَ ومِثْلَهُ مَعَهُ، ولَمْ يَامُرْ بِطاعَةِ أُولِي الأمْرِ اسْتِقْلالًا، بَلْ حَذَفَ الفِعْلَ وجَعَلَ طاعَتَهم في ضِمْنِ طاعَةِ الرَّسُولِ؛ إيذانًا بِأنَّهم إنّما يُطاعُونَ تَبَعًا لِطاعَةِ الرَّسُولِ، فَمَن أمَرَ مِنهم بِطاعَةِ الرَّسُولِ وجَبَتْ طاعَتُهُ، ومَن أمَرَ بِخِلافِ ما جاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَلا سَمْعَ لَهُ ولا طاعَةَ كَما صَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: «لا طاعَةَ لِمَخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الخالِقِ»
وَقالَ: «إنّما الطّاعَةُ في المَعْرُوفِ» وقالَ في وُلاةِ الأُمُورِ: «مَن أمَرَكم مِنهم بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلا سَمْعَ لَهُ ولا طاعَةَ».
وَقَدْ «أخْبَرَ صلى الله عليه وسلم عَنْ الَّذِينَ أرادُوا دُخُولَ النّارِ لَمّا أمَرَهم أمِيرُهم بِدُخُولِها: إنّهم لَوْ دَخَلُوا لَما خَرَجُوا مِنها» مَعَ أنَّهم إنّما كانُوا يَدْخُلُونَها طاعَةً لِأمِيرِهِمْ، وظَنًّا أنَّ ذَلِكَ واجِبٌ عَلَيْهِمْ، ولَكِنْ لَمّا قَصَّرُوا في الِاجْتِهادِ وبادَرُوا إلى طاعَةِ مَن أمَرَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ وحَمَلُوا عُمُومَ الأمْرِ بِالطّاعَةِ بِما لَمْ يُرِدْهُ الآمِرُ صلى الله عليه وسلم وما قَدْ عُلِمَ مِن دِينِهِ إرادَةُ خِلافِهِ، فَقَصَّرُوا في الِاجْتِهادِ وأقْدَمُوا عَلى تَعْذِيبِ أنْفُسِهِمْ وإهْلاكِها مِن غَيْرِ تَثَبُّتٍ وتَبَيُّنٍ هَلْ ذَلِكَ طاعَةٌ لِلَّهِ ورَسُولِهِ أمْ لا، فَما الظَّنُّ بِمَن أطاعَ غَيْرَهُ في صَرِيحِ مُخالَفَةِ ما بَعَثَ اللَّهُ بِهِ ورَسُولُهُ؟ ثُمَّ أمَرَ تَعالى بِرَدِّ ما تَنازَعَ فِيهِ المُؤْمِنُونَ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ إنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ، وأخْبَرَهم أنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهم في العاجِلِ وأحْسَنُ تَاوِيلًا في العاقِبَةِ.
——-”——-
قال الطاهر بن عاشور في ” التحرير والتنوير “: وَإِنَّمَا أُعِيدَ فِعْلُ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ مَعَ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ إِظْهَارًا لِلِاهْتِمَامِ بِتَحْصِيلِ طَاعَةِ الرَّسُولِ لِتَكُونَ أَعْلَى مَرْتَبَةً مِنْ طَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ، وَلِيُنَبِّهَ عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِ فِيمَا يَامُرُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ أَمْرُهُ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِقَرَائِنِ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ الْمَامُورَ بِهَا تَرْجِعُ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ دُونَ مَا يَامُرُ بِهِ فِي غَيْرِ التَّشْرِيعِ، فَإِنَّ امْتِثَالَ أَمْرِهِ كُلِّهِ خَيْرٌ، أَلَا تَرَى
أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا أَبَا سَعِيدِ بْنَ الْمُعَلَّى، وَأَبُو سَعِيدٍ يُصَلِّي، فَلَمْ يُجِبْهُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَنِي» فَقَالَ:
«كُنْتُ أُصَلِّي» فَقَالَ: «أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ
[الْأَنْفَال: 24] وَلِذَلِكَ كَانُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا مُرَادَ الرَّسُولِ مِنْ أَمْرِهِ رُبَّمَا سَأَلُوهُ: أَهُوَ أَمْرُ تَشْرِيعٍ أَمْ هُوَ الرَّايُ وَالنَّظَرُ، كَمَا
قَالَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ نَزَلَ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ: أَهَذَا مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَجْتَازَهُ أَمْ هُوَ الرَّايُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ:
بَلِ الرَّايُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ … »
الْحَدِيثَ.
وَلَمَّا كَلَّمَ بَرِيرَةَ فِي أَنْ تُرَاجِعَ زَوْجَهَا مُغِيثًا بَعْدَ أَنْ عَتَقَتْ، قَالَتْ لَهُ: أَتَامُرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ تَشْفَعُ، قَالَ: بَلْ أَشْفَعُ، قَالَتْ: لَا أَبْقَى مَعَهُ
وَلِهَذَا لَمْ يُعَدْ فِعْلُ (فَرُدُّوهُ) فِي قَوْلِهِ: (وَالرَّسُولِ) لِأَنَّ ذَلِكَ فِي التَّحَاكُمِ بَيْنَهُمْ، وَالتَّحَاكُمُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْأَخْذِ بِحُكْمِ اللَّهِ فِي شَرْعِهِ، وَلِذَلِكَ لَا نَجِدُ تَكْرِيرًا لِفِعْلِ الطَّاعَةِ فِي نَظَائِرِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي لَمْ يُعْطَفْ فِيهَا أُولُو الْأَمْرِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ [الْأَنْفَال: 20] وَقَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا [الْأَنْفَال: 46] وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ [النُّور: 52]، إِذْ طَاعَةُ الرَّسُولِ مُسَاوِيَةٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ لِأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْمُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ فَلَا يُتَلَقَّى أَمْرُ اللَّهِ إِلَّا مِنْهُ، وَهُوَ منقّذ أَمْرِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ، فَطَاعَتُهُ طَاعَةُ تَلَقٍّ وَطَاعَةُ امْتِثَالٍ، لِأَنَّهُ مبلّغ ومنقّذ، بِخِلَافِ أُولِي الْأَمر فإنّهم منقّذون لِمَا بَلَّغَهُ الرَّسُولُ فَطَاعَتُهُمْ طَاعَةُ امْتِثَالٍ خَاصَّةً. وَلِذَلِكَ كَانُوا إِذَا أَمَرَهُمْ بِعَمَلٍ فِي غَيْرِ أُمُورِ التَّشْرِيعِ، يَسْأَلُونَهُ أَهَذَا أَمْرٌ أَمْ رَايٌ وَإِشَارَةٌ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ لِلَّذِينَ يَابُرُونَ النَّخْلَ «لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلَحَ».
—–”—–
ثم أمر بطاعته وطاعة رسوله وذلك بامتثال أمرهما، الواجب والمستحب، واجتناب نهيهما. وأمر بطاعة أولي الأمر وهم: الولاة على الناس، من الأمراء والحكام والمفتين، فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم، طاعة لله ورغبة فيما عنده، ولكن بشرط ألا يأمروا بمعصية الله، فإن أمروا بذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ولعل هذا هو السر في حذف الفعل عند الأمر بطاعتهم وذكره مع طاعة الرسول، فإن الرسول لا يأمر إلا بطاعة الله، ومن يطعه فقد أطاع الله، وأما أولو الأمر فشرط الأمر بطاعتهم أن لا يكون معصية. ثم أمر برد كل ما تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه إلى الله وإلى الرسول أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله؛ فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية، إما بصريحهما أو عمومهما؛ أو إيماء، أو تنبيه، أو مفهوم، أو عموم معنى يقاس عليه ما أشبهه، لأن كتاب الله وسنة رسوله عليهما بناء الدين، ولا يستقيم الإيمان إلا بهما. فالرد إليهما شرط في الإيمان فلهذا قال: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت، كما ذكر في الآية بعدها {ذَلِكَ} أي: الرد إلى الله ورسوله {خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلًا} فإن حكم الله ورسوله أحسن الأحكام وأعدلها وأصلحها للناس في أمر دينهم ودنياهم وعاقبتهم.
[تفسير السعدي].