1038 التعليق على الصحيح المسند
مجموعة طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وصالح الصيعري، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وجمال، وكديم.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
وشارك عبدالله الديني وعبدالله المشجري
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
——–‘——–‘——–
الصحيح المسند
1038 – قال الإمام الترمذي رحمه الله: حدثنا الحسين بن حريث حدثنا الفضل بن موسى عن عبد الله بن سعيد هو ابن أبي هند عن زياد مولى ابن عياش عن أبي بحرية عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟)) قالوا: بلى. قال: ((ذكر الله تعالى)).
وقد روى بعضهم هذا الحديث عن عبد الله بن سعيد مثل هذا بهذا الإسناد وروى بعضهم عنه فأرسله.
قال أبو عبدالرحمن: هذا حديث صحيح رجاله رجال الصحيح إلا ابا بحرية عبدالله بن قيس وقد وثقه ابن معين.
—————-
سيدور محور الكلام في موضعين:
1 – بيان الحديث.
قال صاحب (تحفة الأحوذي): ” قوله: (عن زياد) هو ابن زياد ميسرة المخزومي المدني، ثقة عابد من الخامسة، (عن أبي بحرية) بفتح الموحدة، وسكون الحاء المهملة، وتشديد التحتانية، هو عبد الله بن قيس الكندي السكوني، حمصي مشهور مخضرم ثقة. قوله: ((ألا أنبئكم)) أي ألا أخبركم، ((وأزكاها)) أي: أنماها وأنقاها، والزكاء النماء والبركة، ((عند مليككم))، المليك بمعنى المالك للمبالغة، وقال في القاموس: الملك ككتف وأمير وصاحب، ذو الملك، ((وخير لكم من إنفاق الذهب والورق)) بكسر الراء ويسكن، أي: الفضة، وقال الطيبي: قوله: ((وخير)) مجرور عطفا على ((خير أعمالكم)) من حيث المعنى; لأن المعنى ألا أنبئكم بما هو خير لكم من بذل أموالكم وأنفسكم في سبيل الله انتهى، وقيل عطف على ((خير أعمالكم)) عطف خاص على عام؛ لأن الأول خير الأعمال مطلقا وهذا خير من بذل الأموال والأنفس، أو عطف مغاير بأن يراد بالأعمال الأعمال اللسانية فيكون ضد هذا؛ لأن بذل الأموال والنفوس من الأعمال الفعلية
((قال ذكر الله)) قال عز الدين بن عبد السلام في قواعده: هذا الحديث مما يدل على أن الثواب لا يترتب على قدر النصب في جميع العبادات، بل قد يأجر الله تعالى على قليل الأعمال أكثر مما يأجر على كثيرها، فإذا الثواب يترتب على تفاوت الرتب في الشرف. انتهى.
– وورد عن أَبي هريرة – رضي الله عنه -: أنَّ فُقَراءَ المُهَاجِرِينَ أَتَوْا رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: ذَهَبَ أهْلُ الدُّثورِ بِالدَّرَجَاتِ العُلَى، وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أمْوَالٍ، يَحُجُّونَ، وَيَعْتَمِرُونَ، وَيُجَاهِدُونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ. فَقَالَ: ((ألاَ أُعَلِّمُكُمْ شَيْئاً تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبَقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلاَ يَكُون أَحَدٌ أفْضَل مِنْكُمْ إِلاَّ منْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟)) قالوا: بَلَى يَا رسول الله، قَالَ: ((تُسَبِّحُونَ، وَتَحْمَدُونَ، وَتُكَبِّرُونَ، خَلْفَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ)) قَالَ أَبُو صالح الراوي عن أَبي هريرة، لَمَّا سُئِلَ عَنْ كَيْفِيَّةِ ذِكْرِهِنَّ قَالَ: يقول: سُبْحَان اللهِ، وَالحَمْدُ للهِ واللهُ أكْبَرُ، حَتَّى يَكُونَ مِنهُنَّ كُلُّهُنَّ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ (رواه البخاري ومسلم).
قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: قوله: “ذهب أهل الدثور: الدثر”: هو المال الكثير.
وقوله: “تدركون من سبقكم”:يحتمل أن يراد به السبق المعنوي وهو السبق في الفضيلة وقوله من بعدكم أي من بعدكم في الفضيلة ممن لا يعمل هذا العمل ويحتمل أن يراد القبلية الزمانية والبعدية الزمانية ولعل الأول أقرب إلى السياق فإن سؤالهم كان عن أمر الفضيلة وتقدم الأغنياء فيها، وقوله: “لا يكون أحد أفضل منكم”: يدل على ترجيح هذه الأذكار على فضيلة المال وعلى تلك الفضيلة للأغنياء مشروطة بأن لا يفعلوا هذا الفعل الذي أمر به الفقراء وفي تلك الرواية تعليم كيفية هذا الذكر وقد كان يمكن أن يكون فرادى – أي كل كلمة على حدة – ولو فعل ذلك جاز وحصل به المقصود ولكن بين في هذه الرواية أنه يكون مجموعا ويكون العدد للجملة وإذا كان كذلك يحصل في كل فرد هذا العدد والله أعلم (إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: جـ 1صـ 218).
وحديث أبي الدرداء هذا أخرجه أيضا مالك في الموطأ، وأحمد في المسند، وابن ماجه، والحاكم في المستدرك، والطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان، وابن شاهين في الترغيب في الذكر كلهم من حديث أبي الدرداء إلا أن مالكا في الموطأ وقفه عليه وقد صححه الحاكم في المستدرك. قوله: ((ما شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله)) ” من ” الأولى صلة أنجى والثانية تفضيلية. اعلم أن قوله: “قال معاذ بن جبل متصل بما قبله ففي الموطأ مالك عن زياد بن أبي زياد قال: قال أبو الدرداء: ((ألا أخبركم بخير أعمالكم لكم وأرفعها في درجاتكم؟)) إلى قوله: قالوا بلى. قال: ((ذكر الله تعالى)). قال زياد بن أبي زياد وقال أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل: ما عمل ابن آدم من عمل أنجى له من عذاب الله من ذكر الله. وروى أحمد والبيهقي وابن عبد البر قول معاذ هذا مرفوعا: وقد روى بعضهم هذا الحديث عن عبد الله بن سعيد، كيحيى بن سعيد ومكي عند أحمد والمغيرة بن عبد الرحمن عند ابن ماجه. “. انتهى كلام صاحب (التحفة).
قلت سيف: يشكل حديث (أجرك على قدر نصبك) … مع ما قرره ابن عبدالسلام:
أن الثواب لا يترتب على قدر النصب في جميع العبادات.
وسيأتي في آخر البحث نقولات لأصحابنا في توجيه ذلك.
2 – إشكال.
وقد استشكل في هذا الحديث تفضيل الذكر على الجهاد مع ما روي في الجهاد من الفضائل، وقد أجاب بعض أهل العلم عن هذا قال ابن القيم من الوابل “: ….. وفي «الترمذي» عن النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الله – عز وجل – أنه يقول: «إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه» وهذا الحديث هو فصل الخطاب والتفصيل بين الذاكر والمجاهد، فإن الذاكر المجاهد أفضل من الذاكر بلا جهاد، والمجاهد الغافل.
والذاكر بلا جهاد أفضل من المجاهد الغافل عن الله تعالى، فأفضل الذاكرين المجاهدون وأفضل المجاهدين الذاكرون … إلخ “.
قال الحافظ في «الفتح» (11/ 210): وأخرج الترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء مرفوعًا .. فذكره. قال: وقد أشرت إليه مستشكلًا في أوائل الجهاد مع ما ورد في فضل المجاهد أنه كالصائم لا يفطر، وكالقائم لا يفتر وغير ذلك مما يدل على أفضليته على غيره من الأعمال الصالحة وطريق الجمع والله أعلم أن المراد بذكر الله في حديث أبي الدرداء الذكر الكامل وهو ما يجتمع فيه ذكر اللسان والقلب بالتفكر في المعنى واستحضار عظمة الله تعالى، وأن الذي يحصل له ذلك يكون أفضل ممن يقاتل الكفار مثلًا من غير استحضار لذلك، وأن أفضلية الجهاد إنما هي بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد، فمن اتفق له جمع ذلك كمن يذكر الله بلسانه وقلبه باستحضاره، وكل ذلك حال صلاته أو في صيامه أو تصدقه أو قتاله الكفار مثلًا فهو الذي بلغ الغاية القصوى والعلم عند الله تعالى، وأجاب القاضي أبو بكر العربي بأنه ما من عمل صالح إلا والذكر مشترط في تصحيحه، فمن لم يذكر الله بقلبه عند صدقته أو صيامه مثلًا فليس عمله كاملًا، فصار الذكر أفضل الأعمال من هذه الحيثية ويشير إلى ذلك حديث: «نية المؤمن أبلغ من عمله» اهـ. انتهى كلام الحافظ.
وقال الباجي: الذكر باللسان والقلب وهو ذكره عند الأوامر بامتثالها والمعاصي باجتنابها.
وذكر اللسان واجب كالفاتحة في الصلاة والإحرام والسلام وشبه ذلك، ومندوب وهو سائر الأذكار، فالواجب يحتمل أن يفضل على سائر أعمال البر، والمندوب يحتمل أن يفضل لعظم ثوابه وهداه لطريق الخير أو لكثرة تكرره انتهى.
قلت سيف: يمكن يلخص أن المقصود:
جمع الذكر مع أعمال القلوب:
أي من استحضار عظمة الله وعدم كبر وتواضع ورجاء وخوف و …
وهذا الصلاح للقلب يجعل العبد يأتمر بالاوامر وينتهي عن المحرمات. فيستقيم الإنسان ظاهرا وباطنا.
ومن ذلك الذي يكون آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة. فذكر بعض أهل العلم أن الذي يوفق لها في آخر حياته لا يكاد يصر على معصية مستحضر لعظمة الله. … فهذا يدخل الجنة مباشرة.
=======
قوله: (أنجى له من عذاب الله من ذكر الله) زاد في رواية قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا أن تضرب بسيفك حتى ينقطع ثم تضرب بسيفك حتى ينقطع ثم تضرب بسيفك حتى ينقطع.
قال ابن عبد البر فضائل الذكر كثيرة لا يحيط بها كتاب وحسبك بقوله تعالى: {{إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ}} أي ذكر الله العبد في الصلاة أكبر من الصلاة ومعنى ذكر الله العبد مأخوذ من الحديث عن الله تعالى إن ذكرني عبدي في الصلاة في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وأكرم.
أولاً: فضل الذكر فى القرآن الكريم:
لذكر الله عز وجل فضائل كثيرة ذكرها ربنا تبارك وتعالى فى كتابه العزيز منها:
1 – أن الله عز وجل يذكر من يذكره: قال عز وجل: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) (سورة البقرة: الآية: 152).
ما المراد بقوله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)؟ ذكر علماء السلف رحمهم الله تعالى والمفسرون أقوالاً كثيرة فى تفسير هذه الآية منها:
قال الحسن البصري رحمه الله: اذكروني فيما افترضت عليكم، أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسى.
وقال سعيد بن جبير: اذكروني بطاعتى أذكركم بمغفرتى.
وقال ابن عباس رضى الله عنهما: ذكر الله إياكم، أكبر من ذكركم له (تفسير ابن كثير: جـ 1صـ 464).
وعن الربيع فى قوله: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) إن الله ذاكرُ من ذكره، وزَائدُ من شكره، ومعذِّبُ من كفَره.
وعن السدي: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) قال: ليس من عبد يَذكر الله إلا ذكره الله. لا يذكره مؤمن إلا ذكره برَحمةٍ، ولا يذكره كافر إلا ذكره بعذاب (تفسير الطبرى: جـ 3 صـ 211 وما بعدها).
وقال أبو عثمان النهدى: إني لأعلم الساعة التي يذكرنا الله فيها قيل له ومن أين تعلمها قال يقول الله عز وجل: (فاذكروني أذكركم).
وسُئل أبو عثمان فقيل له: نذكر الله ولا نجد في قلوبنا حلاوة فقال: أحمدوا الله تعالى على أن زين جارحة من جواركم بطاعته.
وقال بعضهم: من ذكر الله تعالى ذكرا على الحقيقة نسى في جنب ذكره شيء وحفظ الله عليه كل شيء وكان له عوضا من كل شيء. (الجامع لأحكام القرآن: جـ2 صـ 171)
وقال تعالى: (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ) (سورة الأعراف: الآية: 205).
عن قتادة قوله: (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) أمر الله بذكره ونهى عن الغفلة.
وقال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) (سورة الأحزاب: الآية: 41).
قال ابن عباس رضى الله عنهما: إن الله عز وجل لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها فى حال غير الذكر، فإن الله تعالى لم يجعل له حداً ينتهى إليه، فلم يعذر أحداً فى تركه إلا مغلوباً على عقله، فقال: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) (سورة النساء: الآية: 103) وبالليل والنهار، فى البر، وفى السفر والحضر، والغنى والفقير، والصحة والسقم، والسر والعلانية، وعلى كل حال، وقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (سورة الأحزاب: الآية: 41،42) فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته (تفسير ابن كثير: جـ 3 صـ 495).
وقال تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ) (سورة الجمعة: الآية: 10).
قال ابن عباس رضى الله عنهما: يذكرون الله تعالى فى أدبار الصلوات، وغدواً وعشياً، وفى المضاجع، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا أو راح من منزله ذكر الله تعالى.
وقال قتادة: افترض الله جل وعز ذكره على عباده، أشغل ما يكونون عند الضراب بالسيوف. وحكم هذا الذكر أن يكون خفيا، لأن رفع الصوت في مواطن القتال رديء مكروه إذا كان الذاكر واحدا. فأما إذا كان من الجميع عند الحملة فحسن، لأنه يفت في أعضاء العدو (تفسير القرطبى: جـ 8 صـ 23).
وقال الله عز وجل: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (سورة الأحزاب: الآية: 35).
قال مجاهد رحمه الله: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات حتى يذكر الله عز وجل قائماً وقاعداً ومضطجعاً.
ثانياً: فضل الذكر فى السنة النبوية المطهرة
جاءت أحاديث كثيرة تبين فضله وعظيم منزلته ومنها:
1 – عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” ألا أنبئكم بخير أعمالكم ….
قال المناوي: (ذكر الله)، لأن جميع العبادات من الإنفاق ومقاتلة العدو وغيرهما وسائل ووسايط يتقرب بها إلى الله والذكر هو المقصود الأعظم والقلب الذي تدور عليه رحا جميع الأديان (التيسير بشرح الجامع الصغير: جـ 1صـ 814).
2 – وعن عبد اللّه بن بسر- رضي اللّه عنه- أنّ رجلا قال: يا رسول اللّه، إنّ شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فأخبرني بشيء أتشبّث به، قال: «لا يزال لسانك رطبا من ذكر اللّه») (أخرجه الترمذي فى سننه وصححه الألبانى فى صحيح سنن الترمذي حديث رقم 3375).
قوله (إن شرائع الإسلام كثرت علي): قال الطيبى: الشريعة مورد الإبل على الماء الجاري والمراد ما شرع الله وأظهره لعباده من الفرائض والسنن.
قال القارى: الظاهر أن المراد بها هنا النوافل لقوله:
(قد كثرت علي) بضم المثلثة ويفتح أي غلبت علي بالكثرة حتى عجزت عنها لضعفي.
(فأخبرنى بشاء) قال الطيبى: التنكير في بشيء للتقليل المتضمن لمعنى التعظيم كقوله تعالى: (ورضوان من الله أكبر) ومعناه أخبرني بشيء يسير مستجلب لثواب كثير (تحفة الأحوذى بشرح سنن الترمذي: جـ 9 صـ 222).
3 – وعن أبي سعيد الخدريّ- رضي اللّه عنه- قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد. فقال: ما أجلسكم؟. قالوا: جلسنا نذكر اللّه قال: آللّه، ما أجلسكم إلّا ذاك؟ قالوا: واللّه ما أجلسنا إلّا ذاك. قال: أما إنّي لم أستحلفكم تهمة لكم. وما كان أحد بمنزلتي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أقلّ عنه حديثا منّي. وإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خرج على حلقة من أصحابه فقال: «ما أجلسكم؟». قالوا: جلسنا نذكر اللّه ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنّ به علينا. قال: «آللّه، ما أجلسكم إلّا ذاك؟». قالوا: واللّه ما أجلسنا إلّا ذاك. قال: «أما إنّي لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنّه أتاني جبريل فأخبرني أنّ اللّه- عزّ وجلّ- يباهي بكم الملائكة) (رواه مسلم).
4 – وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت (رواه البخارى).
قال الإمام المناوي رحمه الله: شبه الذاكر بالحي الذي يزين ظاهره بنور الحياة وإشراقها فيه وباطنه منور بالعلم والفهم فكذا الذاكر مزين ظاهره بنور العلم والمعرفة (التيسير بشرح الجامع الصغير: جـ 2 صـ 717).
5 – وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله قال الذاكرون الله كثيرا والذكرات (رواه مسلم).
—-
ثالثاً: من الآثار الواردة عن السلف الصالح فى فضل الذكر:
قال أبو بكر- رضي اللّه عنه-: «ذهب الذّاكرون اللّه بالخير كلّه».
وقال أبو الدّرداء- رضي اللّه عنه-: «لكلّ شيء جلاء، وإنّ جلاء القلوب ذكر اللّه- عزّ وجلّ-».
وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه اللّه: «الذّكر للقلب مثل الماء للسّمك، فكيف يكون حال السّمك إذا فارق الماء».
وقال ابن القيّم- رحمه اللّه-: «الذّكر باب المحبّة وشارعها الأعظم وصراطها الأقوم».
وقال- رحمه اللّه-: «محبّة اللّه تعالى ومعرفته ودوام ذكره والسّكون إليه والطّمأنينة إليه وإفراده بالحبّ والخوف والرّجاء والتّوكّل والمعاملة بحيث يكون هو وحده المستولى على هموم العبد وعزماته وإرادته، هو جنّة الدّنيا والنّعيم الّذي لا يشبهه نعيم، وهو قرّة عين المحبّين وحياة العارفين».
وقال أبو سليمان الدارانى: إن في الجنة قيعاناً، فإذا أخذ الذاكر في الذكر أخذت الملائكة في غرس الأشجار فيها، فربما يقف بعض الملائكة، فيقال له: لم وقفت؟ فيقول: فَتر صاحبي.
وقال الحسن: تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، والذكر، وقراءة القرآن، فإن وجدتم، وإلا فاعلموا أن الباب مغلق.
وقال أبو عثمان: من لم يذق وحشة الغفلة لم يجد طعم أنس الذكر.
رابعاً: فوائد الذكر:
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى فى كتابه القيم (الوابل الصيب من الكلم الطيب): وفي الذكر نحو من مائة فائدة:
إحداها: أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره.
الثانية: أنه يرضي الرحمن عز وجل.
الثالثة: أنه يزيل الهم والغم عن القلب.
الرابعة: أنه يجلب للقلب الفرح والسرور والبسط …….
وسبق ذكرها في التعليق على الصحيح المسند 1304
وذكر ابن القيم في مدارج السالكين (2/ 424 – 427) أن الذكر ورد في القرآن الكريم على عشرة أوجه:
الأوّل: الأمرُ به مطلقاً ومقيّداً.
الثاني: النّهي عن ضدّه من الغفلة والنسيان.
وسبق ذكرها في شرح حديث 1304 من الصحيح المسند كذلك.
—-
قال النووي في “شرح مسلم”:
” قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَلَى قَدْر نَصَبك أَوْ قَالَ: نَفَقَتك) هَذَا ظَاهِر فِي أَنَّ الثَّوَاب وَالْفَضْل فِي الْعِبَادَة يَكْثُر بِكَثْرَةِ النَّصَب وَالنَّفَقَة , وَالْمُرَاد النَّصَب الَّذِي لا يَذُمّهُ الشَّرْع , وَكَذَا النَّفَقَة ” انتهى.
وهذه القاعدة: “أن الأجر على قدر المشقة” ليس مطردة في كل شيء، بل هناك من الأعمال ما هو أخف وأعظم أجراً.
قال الزركشي في ” المنثور في القواعد ” (2/ 415 – 419):
” العمل كلما كثر وشق كان أفضل مما ليس كذلك , وفي حديث عائشة رضي الله عنه: (أجرك على قدر نصبك). وقد يفضل العملُ القليلُ على الكثير في صور:
منها: قصر الصلاة أفضل من الإتمام للمسافر.
ومنها: الصلاة مرة في الجماعة أفضل من فعلها وحده خمسا وعشرين مرة.
ومنها: تخفيف ركعتي الفجر أفضل من تطويلهما.
ومنها: التصدق بالأضحية بعد أكل لقم منها أفضل من التصدق بجميعها.
ومنها: قراءة سورة قصيرة في الصلاة أفضل من قراءة بعض سورة , وإن طالت، لأنه المعهود من فعله صلى الله عليه وسلم غالباً ”
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فصل:
قول بعض الناس: الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الإطلاق كما قد يستدل به طوائف على أنواع من ” الرهـبانيات والعبادات المبتدعة ” التي لم يشرعها الله ورسوله من جنس تحريمات المشركين وغيرهـم ما أحل الله من الطيبات ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: {هـلك المتنطعون}
وقال: {لو مد لي الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم}
– مثل الجوع أو العطش المفرط الذي يضر العقل والجسم ويمنع أداء واجبات أو مستحبات أنفع منه وكذلك الاحتفاء والتعري والمشي الذي يضر الإنسان بلا فائدة: مثل {حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم وأن يقوم قائما ولا يجلس ولا يستظل ولا يتكلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه}
رواه البخاري. وهـذا باب واسع. وأما الأجر على قدر الطاعة فقد تكون الطاعة لله ورسوله في عمل ميسر كما يسر الله على أهـل الإسلام ” الكلمتين ” وهـما أفضل الأعمال؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم {كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم}
أخرجاه في الصحيحين. ولو قيل: الأجر على قدر منفعة العمل وفائدته لكان صحيحا اتصاف ” الأول ” باعتبار تعلقه بالأمر. و ” الثاني ” باعتبار صفته في نفسه. والعمل تكون منفعته وفائدته تارة من جهة الأمر فقط وتارة من جهة صفته في نفسه وتارة من كلا الأمرين. فبالاعتبار الأول ينقسم إلى طاعة ومعصية وبالثاني ينقسم إلى حسنة وسيئة، والطاعة والمعصية اسم له من جهة الأمر والحسنة والسيئة اسم له من جهة نفسه. . . وإن كان كثير من الناس لا يثبت إلا ” الأول ” كما تقوله الأشعرية وطائفة من الفقهاء من أصحابنا وغيرهـم. ومن الناس من لا يثبت إلا ” الثاني ” كما تقوله المعتزلة وطائفة من الفقهاء من أصحابنا وغيرهـم والصواب إثبات الاعتبارين كما تدل عليه نصوص الأئمة وكلام السلف وجمهور العلماء من أصحابنا وغيرهـم. فأما كونه مشقا فليس هـو سببا لفضل العمل ورجحانه ولكن قد يكون العمل الفاضل مشقا ففضله لمعنى غير مشقته والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره فيزداد الثواب بالمشقة كما أن من كان بعده عن البيت في الحج والعمرة أكثر: يكون أجره أعظم من القريب كما {قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في العمرة: أجرك على قدر نصبك}
لأن الأجر على قدر العمل في بعد المسافة وبالبعد يكثر النصب فيكثر الأجر وكذلك الجهاد وقوله صلى الله عليه وسلم. {الماهـر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرؤه ويتتعتع فيه وهـو عليه شاق له أجران}
فكثيرا ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل؛ ولكن لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب هـذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال ولم يجعل علينا فيه حرج ولا أريد بنا فيه العسر؛ وأما في شرع من قبلنا فقد تكون المشقة مطلوبة منهم. وكثير من العباد يرى جنس المشقة والألم والتعب مطلوبا مقربا إلى الله؛ لما فيه من نفرة النفس عن اللذات والركون إلى الدنيا وانقطاع القلب عن علاقة الجسد وهـذا من جنس زهـد الصابئة والهند وغيرهـم. ولهذا تجد هـؤلاء مع من شابههم من الرهـبان يعالجون الأعمال الشاقة الشديدة المتعبة من أنواع العبادات والزهـادات مع أنه لا فائدة فيها ولا ثمرة لها ولا منفعة إلا أن يكون شيئا يسيرا لا يقاوم العذاب الأليم الذي يجدونه. ونظير هـذا الأصل الفاسد مدح بعض الجهال بأن يقول: فلان ما نكح ولا ذبح. وهـذا مدح الرهـبان الذين لا ينكحون ولا يذبحون وأما الحنفاء فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {لكني أصوم وأفطر وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني}
وهـذه الأشياء هـي من الدين الفاسد وهـو مذموم كما أن الطمأنينة إلى الحياة الدنيا مذموم. والناس أقسام. أصحاب ” دنيا محضة ” وهـم المعرضون عن الآخرة. وأصحاب ” دين فاسد ” وهـم الكفار والمبتدعة الذين يتدينون بما لم يشرعه الله من أنواع العبادات والزهـادات. اهـ
مجموع الفتاوى 10/ 624
—
والسؤال هنا: هل مقدار الأجر يكون على المشقة والجهد المبذول في العمل أم هو على ما ينتج عن العمل من منفعة وخير وصلاح؟
هناك لبساً في المسألة أدى إلى مفاسد كإهدار الجهود، والفوضوية، وفقد التوازن وغيرها … وللتفصيل فيها نبيّن أقوال أهل العلم فيها.
القول الأول: إن الأجر على قدر المشقة، وهو منسوب إلى القرافي والسيوطي – رحمهما الله – تعالى -، قال القرافي: «والأصل أن قاعدة كثرة الثواب كثرة الفعل، وقاعدة قلة الثواب قلة الفعل فإن كثرة الأفعال في القربات تستلزم كثرة المصالح غالباً». وقال السيوطي في القاعدة التاسعة عشرة: «ما كان أكثر فعلاً كان أكثر فضلاً» ومن ثم كان فصل الوتر أفضل من الوصل لزيادة النية والتكبير والسلام، وصلاة النفل قاعداً على النصف من صلاة القائم، ومضطجعاً على النصف من القاعد، وإفراد النسك أفضل من القِران.
وأشار السعدي إليها وذكر أدلة القائلين بذلك:
أولاً: قول الله – تعالى -: {مَا كَانَ لِأَهلِ المَدِينَةِ وَمَن حَولَهُم مِّنَ الأَعرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرغَبُوا بِأَنفُسِهِم عَن نَّفسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُم لاَ يُصِيبُهُم ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوطِئًا يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِن عَدُوٍّ, نَّيلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ {120} وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُم لِيَجزِيَهُمُ اللّهُ أَحسَنَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ [التوبة: 120، 121].
ثانياً: قوله – صلى الله عليه وسلم – لعائشة – رضي الله عنها -: «أجرك على قدر نصبك».
ثالثاً: قوله – صلى الله عليه وسلم – لما سئل عن أي الأعمال أفضل؟ قال: «أحمزها»، وأحمزها: أقواها وأشدّها.
قلت سيف: قال الزركشي: لا يعرف. وقال ابن القيم في شرح منازل السائرين: لا أصل له.
وقال المزي هو من غرائب الأحاديث وليس في شئ من الكتب الستة.
وفي المقاصد الحسنة ذكره عن ابن عباس (أحمزها) مرفوعا و عن عثمان مرفوعا لكن فيه (افضل العبادات اخفها) وبجمع بينها على تقدير ثبوتها بأن القوة والشدة بالنظر لتبين شروط الصحة ونحوها فيها والخفة بالنظر لعدم الإكثار بحيث تمل. لكن الظاهر أن لفظ الثاني العيادة بالتحتانية لا بالموحدة ويروى عن جابر (أفضل العيادة أجرا سرعة سرعة القيام من عند المريض)
رابعاً: عن جابر – رضي الله عنه – قال: كانت ديارنا نائية عن المسجد، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقترب من المسجد فنهانا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -فقال: «إن لكم بكل خطوة درجة».
خامساً: عن أبي بن كعب – رضي الله عنه – قال: كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة، قال: فقيل له أو قلت له: لو اشتريت حماراً تركبه في الظلماء وفي الرمضاء. قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «قد جمع الله لك ذلك كله». وفي رواية: «إن لك ما احتسبت».
القول الثاني:
إن الأجر على قدر المنفعة. وبه قال العز بن عبد السلام وابن تيمية والمقري والشاطبي وابن حجر – رحمهم الله – تعالى -.
قال العز بن عبد السلام: «قد علمنا من موارد الشرع ومصادره أن مطلوب الشرع إنما هو مصالح العباد في دينهم ودنياهم، وليست المشقة مصلحة، بل الأمر بما يستلزم المشقة بمثابة أمر الطبيب المريض باستعمال الدواء المرّ البشع، فإنه ليس غرضه إلا الشفاء».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: «ومما ينبغي أن يعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق حتى يكون العمل كلما كان أشق كان أفضل، كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة في كل شيء لا ولكن الأجر على قدر منفعة العمل ومصلحته وفائدته، وعلى قدر طاعته أمر الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – فأي العملين كان أحسن وصاحبه أطوع وأتبع كان أفضل فإن الأعمال لا تتفاضل بالكثرة وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل». وقال: «ولكن خير الأعمال ما كان لله أطوع ولصاحبه أنفع»، قال المقري: «الأجر على قدر تفاوت جلب المصالح ودرء المفاسد لأن الله – عز وجل – لم يطلب من العباد مشقتهم ولكن الجلب والدفع».
وقال الشاطبي: «ليس للمكلف أن يقصد المشقة في التكليف نظراً إلى عظم أجرها فإن المقاصد معتبرة في التصرفات فلا يصلح منها إلا ما وافق الشارع. فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل، فالقصد إلى المشقة باطل، فهو إذن من قبيل ما ينهى عنه، وما ينهى عنه لا ثواب فيه بل فيه الإثم إن ارتفع النهي عنه إلى درجة التحريم، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة: قصد مناقض».
وقال ابن حجر معقباً على النووي في قوله: (ظاهر الحديث «أجرك على قدر نصبك» أن الثواب والفضل في العبادة يكثر بكثرة النصب والنفقة): «وهو كما قال، لكن ليس ذلك بمطرد، فقد يكون بعض العبادة أخف من بعض وهو أكثر فضلاً وثواباً بالنسبة إلى الزمان كقيام ليلة القدر بالنسبة لقيام ليالٍ, من رمضان غيرها، وبالنسبة للمكان كصلاة ركعتين في المسجد الحرام بالنسبة لصلاة ركعتين في غيره، وبالنسبة إلى شرف العبادة المالية والبدنية كصلاة الفريضة إلى أكثر من عدد ركعاتها أو أطول من قراءتها ونحو ذلك من صلاة النافلة، وكدرهم من الزكاة بالنسبة إلى أكثر من التطوع».
ما استدل به أهل هذا القول:
أولاً: الاستقراء حيث استقرأ العلماء مصادر الشريعة ومواردها فوجدوا أنها لا تقصد الأمر بالشاق، ولا ترتب عليه كثرة الأجر بالدرجة الأولى.
والاستقراء قطعي ضروري لا يُناهض بأقل منه.
ثانياً: الأحاديث، ومنها:
1 – عن عقبة بن عامر أنه قال: نَذَرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية، فقال – صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لغني عن نذرها، مُرها فلتركب».
2 – حديث جويرية – رضي الله عنها – في تسبيحها بالحصى أو النوى وقد دخل – صلى الله عليه وسلم – عليها ضحى، ثم دخل عليها عشية، فوجدها على تلك الحال، فقال لها: «لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلتِ منذ اليوم لرجحت»
3 – قوله – صلى الله عليه وسلم -: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا».
4 – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – رأى رجلاً قائماً في الشمس، فقال: «ما هذا؟». قالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم. فقال – صلى الله عليه وسلم -: «مروه فليجلس وليتكلم وليتم صومه».
وناقش الفريق الثاني أدلة القائلين بأن الأجر على قدر المشقة، وكانت ردودهم كما يلي:
1 – وجَّه المقري الحديثين «أجرك على قدر نصبك» و «أفضل العبادات أحمزها» بأن ما كثرت مشقته قلَّ حظ النفس منه، فكثر الإخلاص فيه، وبالعكس فالثواب في الحقيقة مرتب على الإخلاص لا المشقة».
2 – رد الشاطبي وغيره على من استدل على أن الشريعة تقصد إلى التكليف بالشاق بأمور:
أولاً: أن الأخبار الواردة في ذلك أخبار آحاد في قضية واحدة لا ينتظم منها استقراء قطعي، والظنيات لا تعارض القطعيات.
ثانياً: هذه الأحاديث لا دليل فيها على قصد المشقة فحديث جابر جاء بما يفسره عند البخاري في زيادة مفادها «أن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم، فينزلوا قريباً من النبي – صلى الله عليه وسلم -، قال: فكره رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، أن يعروا المدينة، فقال: «ألا تحتسبون آثاركم؟!» قال ابن حجر: «نبه بهذه الكراهة على السبب من منعهم من القرب من المسجد، لتبقى جهات المدينة عامرة بساكنها».
ثالثاً: إن ما أوردوه معارض بنهي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – للذين أرادوا التشديد بالتبتل حين قال أحدهم: «أما أنا فأصوم ولا أفطر»، وقال الآخر: «أما أنا فأقوم ولا أنام»، وقال الثالث: «أما أنا فلا آتي النساء» فأنكر ذلك عليهم وأخبر عن نفسه أنه يفعل ذلك كله، وقال: «من رغب عن سنتي فليس مني»
وفي الحديث: «رد التبتل على عثمان بن مظعون، ولو أذن له لاختصينا»
3 – أمر آخر يضيفه الشاطبي وهو التدليل على أن الشرع لم يقصد من التكليف بالمشاق الإعنات فيه بما يلي:
أولاً: النصوص الدالة على ذلك، كقوله – تعالى -: {وَمَا جَعَلَ عَلَيكُم فِي الدِّينِ مِن حَرَجٍ,} [الحج: 78].
ثانياً: ما ثبت أيضاً من مشروعية الرخص، كالقصر والفطر ونحوهما.
ثالثاً: الإجماع على عدم وقوعه وجوداً في التكليف، وهو يدل على عدم قصد الشارع إليه، ولو كان واقعاً لحصل في الشريعة التناقض والاختلاف.
4 – تطبيق قاعدة «الأجر على قدر المنفعة لا المشقة» على الفروع الفقهية المقررة عند الفريقين، ومنها:
أ – حديث «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها».
ب – قوله – تعالى -: {لَيلَةُ القَدرِ خَيرٌ مِّن أَلفِ شَهرٍ,} [القدر: 3] .. إلخ الفروع.
الترجيح:
مما سبق عرضه من الأدلة والأقوال والاعتراضات الواردة عليها يتبين أن الراجح هو القول الثاني
** والقائلين بأن الأجر على قدر المشقة، يتضح من استقراء كلامهم وفحصه عدم التفضيل مقارنة بالمنفعة، وإنما بيان أن المشقة في طريق العبادة تكون في ميزان حسنات العامل وأنها لا تضيع، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «أجرك على قدر نصبك»، فكلامهم ابتدائي وليس مقارناً، وتفصيل ذلك: أن القرافي في بداية الفرق الذي ذكر فيه قاعدة الثواب على كثرة العمل، قال: «اعلم أن الأصل في كثرة الثواب وقلّته، وكثرة العقاب وقلّته أن يتبعا كثرة المصلحة في الفعل وقلّتها». وفي كلامه الذي ذكرناه أولاً. كما أن كلام السيوطي ـ ونص قاعدته: «ما كان أكثر فعلاً كان أكثر الاعتراضات ـ ليس فيه مقارنة بالأنفع ولذلك أخرج من هذه القاعدة اثنتي عشرة صورة فقهية تتفرع عنها غيرها. والسعدي مثلهما، ودليل ذلك أنه لما ذكر القاعدة عقب عليها بقوله: «ويبين مع ذلك أن تسهيله لطريق العبادة من مننه وإحسانه، وأنها لا تنقص الأجر شيئاً»، ثم إنه في شرحه لهذه القاعدة بين أن ما تفضي إليه هذه المشقات هو خير ومصلحة أعظم من المشقة في العمل.
ويفهم من خلال ذلك أن ما أوردوه لا يدخل أصلاً في محل النزاع، ففي المسألة أمور تجدر الإشارة إليها:
أولاً: إذا كان في العمل مشقة فالثواب على تحمل المشقة لا على عين المشاق إذ لا يصح التقرب بالمشاق لأن القرب كلها تعظيم للرب – سبحانه وتعالى-، وليس عين المشاق تعظيماً ولا توقيراً، نص على ذلك العز بن عبد السلام – رحمه الله -.
ثانياً: أن الأعمال الصالحة قد لا تحصل إلا بمشقة: كالجهاد والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب العلم، فيحتمل تلك المشقة ويثاب عليها لما يعقبه من المنفعة، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لعائشة – رضي الله عنها – لما اعتمرت من التنعيم عام حجة الوداع: «أجرك على قدر نصبك» نص على ذلك ابن تيمية – رحمه الله – فالمراد الأول حصول العمرة، فتعبها في سبيل الحصول على العمرة هو الذي أجرت عليه.
ثالثاً: يتفرع من القاعدة أن المشقة لا تكون سبباً لفضل العمل ورجحانه ولذلك قال ابن تيمية: «إذا كانت فائدة العمل منفعة لا تقاوم مشقة، فهذا فساد والله لا يحب الفساد، ومثال ذلك ما في الدنيا فإن من تحمل مشقة لربح كثير أو دفع عدو عظيم، كان هذا محموداً، وأما من تحمل كلفاً عظيمة ومشاقاً شديدة لتحصيل يسير من المال أو دفع يسير من الضر، كان بمنزلة من أعطى ألف درهم ليعتاض بمائة درهم، أو مشى مسيرة يوم ليتغدى غدوة يمكنه أن يتغدى خيراً منها في بلده»
ومثال ذلك: من حج ماشياً ورفض وسائل الترفيه في الحج من مركب وتكييف ونحوهما فإن ذلك فيه جهد ومشقة تستلزم منه مفاسد كالحاجة إلى الراحة من شدة التعب، وفقدان الخشوع لضيق النفس، بينما لو ركب واستعمل هذه الوسائل لأغنته عن الحاجة إلى الراحة الكثيرة، ولوجد الطمأنينة وانشراح الصدر لذكر الله والدعاء ونحوهما من مقاصد الحج.
رابعاً: يستثنى من ذلك ما ذكره العز بن عبد السلام: «إذا اتحد الفعلان في الشرف والشرائط والسنن والأركان، وكان أحدهما شاقاً فقد استويا في أجرهما لتساويهما في جميع الوظائف، وانفرد أحدهما بتحمل المشقة لأجل الله – سبحانه وتعالى-، فأثيب عليها، كالاغتسال في الصيف والربيع بالنسبة إلى الاغتسال في شدة برد الشتاء فإن أجرهما سواء، ويزيد أجر الاغتسال في الشتاء لأجل تحمل مشقة البرد فليس التفاوت في نفس الغسلين وإنما التفاوت فيما لزم عنهما بينما لو قدر على استعمال الماء الدافئ فهو أفضل له من تركه إياه واستعمال الماء البارد لأن البارد قد يفوت عليه بعض المصالح كاستشعار عظمة العبادة وإسباغ الوضوء، وقد يؤدي إلى ضرر ولذلك لما كره فقهاء الحنابلة التطهر بالماء الذي اشتد حره أو برده عللوا ذلك بأنه يؤذي ويمنع كمال الطهارة»
خامساً: وهي مهمة جداً بل تمثل أصلاً يبنى عليه البحث:
أنه لا ينبغي تسمية الأعمال الصالحة تكليفاً لأن النصوص لم تورد هذا اللفظ إلا في موضع النفي قال – تعالى -: {لا يٍكّلٌَفٍ الله نّفًسا إلاٍَّ وسًعّهّا} [البقرة: 286]، ولما يشعر هذا اللفظ بقصد المشقة في الشريعة، بل إن أوامرها هي قرة العيون وقوام الحياة وصلاحها.
منقول باختصار