120 (ب) الفوائد المنتقاة على صحيح مسلم
جمع مجموعة أبي تيسير. وابراهيم البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1،2،3 والاستفادة والمدارسة.
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
————————
تابع لباب فضائل موسى:
4376 – عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بَيْنَمَا يَهُودِيٌّ يَعْرِضُ سِلْعَةً لَهُ أُعْطِيَ بِهَا شَيْئًا كَرِهَهُ أَوْ لَمْ يَرْضَهُ شَكَّ عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى الْبَشَرِ قَالَ فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَلَطَمَ وَجْهَهُ قَالَ تَقُولُ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى الْبَشَرِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَالَ فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّ لِي ذِمَّةً وَعَهْدًا وَقَالَ فُلَانٌ لَطَمَ وَجْهِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ قَالَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى الْبَشَرِ وَأَنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَالَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عُرِفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ أَوْ فِي أَوَّلِ مَنْ بُعِثَ فَإِذَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام آخِذٌ بِالْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ أَوْ بُعِثَ قَبْلِي وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى عَلَيْهِ السَّلَام.
و حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ سَوَاءً
4377 – عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ اسْتَبَّ رَجُلَانِ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ وَرَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ الْمُسْلِمُ وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْعَالَمِينَ وَقَالَ الْيَهُودِيُّ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى الْعَالَمِينَ قَالَ فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَمْ كَانَ مِمَّنْ اسْتَثْنَى اللَّهُ عز وجل. و في لفظ آخر: فَلَا أَدْرِي أَكَانَ مِمَّنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَوْ اكْتَفَى بِصَعْقَةِ الطُّورِ.
4378 – و عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى حَدَّثَنِي أَبِي
4379 – عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال قال أرَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال أَتَيْتُ وَفِي رِوَايَةِ هَدَّابٍ مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ.
_-_-_-_-_-_-_-_-_-
ورد في بعض الشروح:
قوله: (أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب) كذا قال شعيب عن الزهري. وتابعه محمد بن أبي عتيق عن ابن شهاب كما سيأتي في التوحيد. وقال إبراهيم بن سعد ” عن الزهري عن أبي سلمة، والأعرج ” كما سيأتي في الرقاق والحديث محفوظ للزهري على الوجهين. وقد جمع المصنف بين الروايتين في التوحيد إشارة إلى ثبوت ذلك عنه على الوجهين، وله أصل من حديث الأعرج من رواية عبد الله بن الفضل عنه وسيأتي بعد ثلاثة أبواب، ومن طريق أبي الزناد عنه كما سيأتي في الرقاق، ومن طريق أبي سلمة عن أبي هريرة أخرجه الترمذي وابن ماجه من طريق محمد بن عمرو عنه، ورواه – مع أبي هريرة – أبو سعيد وقد تقدم في الإشخاص بتمامه وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم 3448 من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة.
قوله: (استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود) وقع في رواية عبد الله بن الفضل سبب ذلك، وأول حديثه ” بينما يهودي يعرض سلعة أعطي بها شيئا كرهه فقال: لا والذي اصطفى موسى على البشر ” ولم أقف على اسم هذا اليهودي في هذه القصة، وزعم ابن بشكوال أنه فنحاص بكسر الفاء وسكون النون ومهملتين وعزاه لابن إسحاق، والذي ذكره ابن إسحاق لفنحاص مع أبي بكر الصديق في لطمه إياه قصة أخرى في نزول قوله تعالى: لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء الآية. وأما كون اللاطم في هذه القصة هو الصديق فهو مصرح به فيما أخرجه سفيان بن عيينة في جامعه وابن أبي الدنيا في ” كتاب البعث ” من طريقه عن عمرو بن دينار، عن عطاء، وابن جدعان عن سعيد بن المسيب قال: ” كان بين رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبين رجل من اليهود كلام في شيء ” فقال عمرو بن دينار: هو أبو بكر الصديق ” فقال اليهودي والذي اصطفى موسى على البشر فلطمه المسلم ” الحديث.
قوله: (فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم اليهودي) أي عند سماعه قول اليهودي: ” والذي اصطفى موسى على العالمين ” وإنما صنع ذلك لما فهمه من عموم لفظ العالمين فدخل فيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تقرر عند المسلم أن محمدا أفضل، وقد جاء ذلك مبينا في حديث أبي سعيد أن الضارب قال لليهودي حين قال ذلك: أي خبيث على محمد ” فدل على أنه لطم اليهودي عقوبة له على كذبه عنده. ووقع في رواية إبراهيم بن سعد ” فلطم وجه اليهودي ” ووقع عند أحمد من هذا الوجه ” فلطم على اليهودي، وفي رواية عبد الله بن الفضل ” فسمعه رجل من الأنصار فلطم وجهه وقال: أتقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟! وكذا وقع في حديث أبي سعيد أن الذي ضربه رجل من الأنصار، وهذا يعكر على قول عمرو بن دينار أنه أبو بكر الصديق، إلا إن كان المراد بالأنصار المعنى الأعم فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعا، بل هو رأس من نصره ومقدمهم وسابقهم.
قوله: (فأخبره الذي كان من أمر المسلم) زاد في رواية إبراهيم بن سعد ” فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلم فسأله عن ذلك فأخبره ” وفي رواية ابن الفضل ” فقال – أي اليهودي – يا أبا القاسم إن لي ذمة وعهدا فما بال فلان لطم وجهي فقال: لم لطمت وجهه؟ – فذكره – فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى رئي في – ص 512 – وجهه ” وفي حديث أبي سعيد ” فقال: ادعوه لي، فجاء فقال: أضربته؟ قال: سمعته بالسوق يحلف، فذكر القصة.
قوله: (لا تخيروني على موسى) في رواية ابن الفضل فقال لا تفضلوا بين أنبياء الله وفي حديث أبي سعيد لا تخيروا بين الأنبياء.
قوله: (فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق) في رواية إبراهيم بن سعد فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معهم، فأكون أول من يفيق لم يبين في رواية الزهري من الطريقين محل الإفاقة من أي الصعقتين ووقع في رواية عبد الله بن الفضل فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث وفي رواية الكشميهني أول من يبعث ” والمراد بالصعق غشي يلحق من سمع صوتا أو رأى شيئا يفزع منه. وهذه الرواية ظاهرة في أن الإفاقة بعد النفخة الثانية، وأصرح من ذلك رواية الشعبي عن أبي هريرة في تفسير الزمر بلفظ إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الأخيرة وأما ما وقع في حديث أبي سعيد فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الأرض كذا وقع بهذا اللفظ في كتاب الإشخاص، ووقع في غيرها فأكون أول من يفيق وقد استشكل، وجزم المزي فيما نقله عنه ابن القيم في ” كتاب الروح ” أن هذا اللفظ وهم من راويه وأن الصواب ما وقع في رواية غيره فأكون أول من يفيق، وأن كونه صلى الله عليه وسلم أول من تنشق عنه الأرض صحيح، لكنه في حديث آخر ليس فيه قصة موسى انتهى. ويمكن الجمع بأن النفخة الأولى يعقبها الصعق من جميع الخلق أحيائهم وأمواتهم، وهو الفزع كما وقع في سورة النمل ففزع من في السماوات ومن في الأرض ثم يعقب ذلك الفزع للموتى زيادة فيما هم فيه وللأحياء موتا، ثم ينفخ الثانية للبعث فيفيقون أجمعين، فمن كان مقبورا انشقت عنه الأرض فخرج من قبره، ومن ليس بمقبور لا يحتاج إلى ذلك. وقد ثبت أن موسى ممن قبر في الحياة الدنيا، ففي صحيح مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره أخرجه عقب حديث أبي هريرة وأبي سعيد المذكورين ولعله أشار بذلك إلى ما قررته.
وقد استشكل كون جميع الخلق يصعقون مع أن الموتى لا إحساس لهم، فقيل المراد أن الذين يصعقون هم الأحياء، وأما الموتى فهم في الاستثناء في قوله تعالى: إلا من شاء الله أي إلا من سبق له الموت قبل ذلك فإنه لا يصعق، وإلى هذا جنح القرطبي. ولا يعارضه ما ورد في هذا الحديث أن موسى ممن استثنى الله لأن الأنبياء أحياء عند الله وإن كانوا في صورة الأموات بالنسبة إلى أهل الدنيا، وقد ثبت ذلك للشهداء. ولا شك أن الأنبياء أرفع رتبة من الشهداء وورد التصريح بأن الشهداء ممن استثنى الله أخرجه إسحاق بن راهويه وأبو يعلى من طريق زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة. وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السماء والأرض، وتعقبه القرطبي بأنه صرح صلى الله عليه وسلم بأنه حين يخرج من قبره يلقى موسى وهو متعلق بالعرش، وهذا إنما هو عند نفخة البعث انتهى. ويرده قوله صريحا كما تقدم: إن الناس يصعقون فأصعق معهم إلى آخر ما تقدم، قال: ويؤيده أنه عبر بقوله: ” أفاق ” لأنه إنما يقال أفاق من الغشي وبعث من الموت، وكذا عبر عن صعقة الطور بالإفاقة لأنها لم تكن موتا بلا شك، وإذا تقرر ذلك كله ظهر صحة الحمل على أنها غشية تحصل للناس في الموقف.
قوله: (فأكون أول من يفيق) لم تختلف الروايات في الصحيحين في إطلاق الأولية، ووقع في رواية إبراهيم بن سعد عند أحمد والنسائي فأكون في أول من يفيق أخرجه أحمد عن أبي كامل، والنسائي من طريق يونس بن محمد كلاهما عن إبراهيم، فعرف أن إطلاق الأولية في غيرها محمول عليها، وسببه التردد في موسى عليه السلام كما سيأتي، وعلى هذا يحمل سائر ما ورد في هذا الباب، كحديث أنس عند مسلم رفعه ” أنا أول من تنشق عنه الأرض ” وحديث عبد الله بن سلام عند الطبراني.
قوله: (فإذا موسى باطش بجانب العرش) أي آخذ بشيء من العرش بقوة، والبطش الأخذ بقوة، وفي رواية ابن الفضل فإذا موسى آخذ بالعرش وفي حديث أبي سعيد آخذ بقائمة من قوائم العرش وكذا في رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
قوله: (فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله) أي فلم يكن ممن صعق، أي فإن كان أفاق قبلي فهي فضيلة ظاهرة وإن كان ممن استثنى الله فلم يصعق فهي فضيلة أيضا. ووقع في حديث أبي سعيد فلا أدري كان فيمن صعق – أي فأفاق قبلي – أم حوسب بصعقته الأولى أي التي صعقها لما سأل الرؤية، وبين ذلك ابن الفضل في روايته بلفظ أحوسب بصعقته يوم الطور والجمع بينه وبين قوله: أو كان ممن استثنى الله أن في رواية ابن الفضل وحديث أبي سعيد بيان السبب في استثنائه، وهو أنه حوسب بصعقته يوم الطور فلم يكلف بصعقة أخرى. والمراد بقوله: ممن استثنى الله قوله: إلا من شاء الله وزعم ابن القيم في ” كتاب الروح ” أن هذه الرواية وهو قوله: أكان ممن استثنى الله وهم من بعض الرواة، والمحفوظ أو جوزي بصعقة الطور قال: لأن الذين استثنى الله قد ماتوا من صعقة النفخة لا من الصعقة الأخرى، فظن بعض الرواة أن هذه صعقة النفخة وأن موسى داخل فيمن استثنى الله، قال: وهذا لا يلتئم على سياق الحديث، فإن الإفاقة حينئذ هي إفاقة البعث فلا يحسن التردد فيها، وأما الصعقة العامة فإنها تقع إذا جمعهم الله تعالى لفصل القضاء فيصعق الخلق حينئذ جميعا إلا من شاء الله، ووقع التردد في موسى عليه السلام. قال: ويدل على ذلك قوله: وأكون أول من يفيق وهذا دال على أنه ممن صعق، وتردد في موسى هل صعق فأفاق قبله أم لم يصعق؟ قال: ولو كان المراد الصعقة الأولى للزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم جزم بأنه مات، وتردد في موسى هل مات أم لا؟ والواقع أن موسى قد كان مات لما تقدم من الأدلة، فدل على أنها صعقة فزع لا صعقة موت، والله أعلم.
قال العباد:
وقد جاء في هذا رواية: (أو كان ممن استثنى الله)، فإما أن يكون المقصود به أنه استثني فلم يصعق؛ لأنه قد حصل له ذلك في الدنيا كما جاء في الحديث الآخر، أو يكون المقصود منه: ((وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ)) [الزمر:68]، لكن هذه الصعقة التي في هذه الآية المراد بها صعقة الموت لمن كان حياً في آخر الزمان، فهناك صعقة الموت، ثم صعقة البعث، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68] أي: ممن لم يشأ الله أن يحصل له الموت، كالذين خلقوا في الجنة ولم يشأ الله موتهم كالحور العين، فإنهن خلقن للبقاء في الجنة، فلا يحصل لهن موت فيكن ممن استثني.
وهذا نقله شارح الطحاوية عن أبي الحجاج المزي، وقال به أيضاً ابن كثير، فذكروا أن الصعق إنما هو في الآخرة عندما يأتي الله لفصل القضاء
(تكميل):
زعم ابن حزم أن النفخات يوم القيامة أربع:
الأولى: نفخة إماتة يموت فيها من بقي حيا في الأرض،
والثانية نفخة إحياء يقوم بها كل ميت وينشرون من القبور ويجمعون للحساب،
والثالثة نفخة فزع وصعق يفيقون منها كالمغشي عليه لا يموت منها أحد،
والرابعة: نفخة إفاقة من ذلك الغشي. وهذا الذي ذكره من كون الثنتين أربعا ليس بواضح بل هما نفختان فقط، ووقع التغاير في كل واحدة منهما باعتبار من يستمعهما،
وتعقب بأنهما النفخات إنما هما اثنتان
فالأولى: يموت بها كل من كان حيا ويغشى على من لم يمت ممن استثنى الله،
والثانية: يعيش بها من مات ويفيق بها من غشي عليه والله أعلم.
و عن العباد قال:
(إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فأجد موسى آخذاً بالعرش، فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله)، وجاء في بعض الأحاديث أنه قال: (فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور)، وقيل: إن هذا الصعق الذي يحصل إنما هو يوم القيامة عندما يتجلى الله عز وجل لفصل القضاء بين الناس فإنهم يصعقون جميعاً، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم أول من يفيق من هذه الصعقة، فيجد موسى آخذاً بقائمة العرش، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا أدري، هل أفاق قبلي).
وفي رواية للبخاري (2412): (النَّاس يَصْعَقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ … ).
وقد ذهب بعض أهل العلم أن قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن موسى عليه السلام: (فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ)، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَالَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ.
انظر: ” شرح النووي على مسلم ” (15/ 131).
وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء:
” أول من تنشق عنه الأرض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو أول من يفيق من الصعق ” انتهى من ” فتاوى اللجنة الدائمة – المجموعة الأولى ” (3/ 458).
((البعث والنشور))
البعث: إثارة بارك أو قاعد، تقول: بعثت البعير فانبعث أي أثرته فثار، والبعث أيضا: الإحياء من الله للموتى،
وبعث الموتى: نشرهم ليوم البعث. وبعث الله الخلق يبعثهم بعثا: ((نشرهم من ذلك)).
النشور: ((أنشر الله الموتى فنشروا هم إذا حيوا، وأنشرهم الله أي أحياهم)). والنشور مرادف للبعث في المعنى، والمراد أن الله تعالى يحيي الموتى مرة أخرى فيصبحوا منتشرين في الأرض ينتظرون النداء إلى أرض المحشر لفصل القضاء، وأول من تنشق عنه الأرض ويبعث هو رسول الله محمد – صلى الله عليه وسلم -.
بتقديم القاف. قال القاضي وهذا من أشكل الأحاديث؛ لأن موسى قد مات فكيف تدركه الصعقة، وإنما تصعق الأحياء. قوله: ممن استثنى الله تعالى يدل على أنه كان حيا، ولم يأت أن موسى رجع إلى الحياة، ولا أنه حي كما جاء في عيسى، وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: لو كنت ثَمَّ لأريتكم قبره إلى جانب الطريق. قال القاضي: يحتمل أن هذه الصعقة صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السماوات والأرض فتنتظم حينئذ الآيات والأحاديث، ويؤيده قوله – صلى الله عليه وسلم -: ” فأفاق ” لأنه إنما يقال أفاق من الغشي، وأما الموت فيقال: بعث منه، وصعقة الطور لم تكن موتا. وأما قوله – صلى الله عليه وسلم -: فلا أدري أفاق قبلي فيحتمل أنه – صلى الله عليه وسلم – قاله قبل أن يعلم أنه أول من تنشق عنه الأرض إن كان هذا اللفظ على ظاهره، وأن نبينا – صلى الله عليه وسلم – أول شخص تنشق عنه الأرض على الإطلاق، قال ويجوز أن يكون معناه أنه من الزمرة الذين هم أول من تنشق عنهم الأرض، فيكون موسى من تلك الزمرة، وهي والله أعلم زمرة الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم -. هذا آخر كلام القاضي.
قال بعض أهل الفتوى:
الحمد لله
أولا:
قال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) الزمر/ 68.
اختلف أهل العلم في النفخ في الصور، هل هو نفختان، أم ثلاث؟ والراجح أنهما نفختان، كما تدل عليه الآية السابقة.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله:
” الصور قرن عظيم، ينفخ فيه إسرافيل النفخة الأولى للموت والفزع، والنفخة الثانية للبعث والنشور. هاتان النفختان جاء بهما القرآن الكريم. إحداهما يقال لها: نفخة الصعق، ويقال لها: نفخة الفزع، وبها يموت الناس، والثانية نفخة البعث، وقال جماعة من العلماء: إنها ثلاث: نفخة الفزع، وقد يفزع الناس فقط، ثم تأتي بعدها نفخة الموت، ثم نفخة البعث والنشور. والمحفوظ نفختان فقط، كما دل عليهما كتاب الله العظيم ” انتهى من ” فتاوى نور على الدرب ” (4/ 327).
ورد في رواية للبخاري (2412): (النَّاس يَصْعَقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ … ).
وقد ذهب بعض أهل العلم أن قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن موسى عليه السلام: (فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ)، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَالَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ.
انظر: ” شرح النووي على مسلم ” (15/ 131).
وروى أبو داود (4673) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَأَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ)، وصححه الألباني في ” صحيح سنن أبي داود “.
وروى البخاري (4439) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنِّي أَوَّلُ مَنْ يَرْفَعُ رَاسَهُ بَعْدَ النَّفْخَةِ الْآخِرَةِ).
وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء:
” أول من تنشق عنه الأرض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو أول من يفيق من الصعق ” انتهى من ” فتاوى اللجنة الدائمة – المجموعة الأولى ” (3/ 458).
يستفاد من هذه الأحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من يبعث وتنشق عنه الأرض يوم القيامة من بني آدم، وأن إسرافيل عليه السلام يكون حيا حينما يبعث النبي صلى الله عليه وسلم ويقوم من قبره؛ لأنه ينفخ في الصور، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم أول من يبعث من أهل الأرض بعد النفخ في الصور.
وحينئذ يكون أمامنا أحد الاحتمالين:
الأول: وهو أن إسرافيل عليه السلام سيبعث قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، من أجل أن ينفخ في الصور نفخة البعث، ثم بعد هذه النفخة يكون نبينا صلى الله عليه وسلم أول من يبعث. وهذا أحد القولين للعلماء.
قال ابن كثير رحمه الله:
” نَفْخَةُ الصَّعْقِ، هِيَ الَّتِي يموت بها الأحياء من أهل السموات وَالْأَرْضِ، إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يَقْبِضُ الله أَرْوَاحَ الْبَاقِينَ، حَتَّى يَكُونَ آخِرُ مَنْ يَمُوتُ مَلَكَ الْمَوْتِ، وَيَنْفَرِدُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الَّذِي كَانَ أَوَّلًا وَهُوَ الْبَاقِي آخِرًا بِالدَّيْمُومَةِ وَالْبَقَاءِ، ثُمَّ يُحْيِي أَوَّلَ مَنْ يُحْيِي إِسْرَافِيلَ، وَيَامُرُهُ أَنْ يُنْفَخَ فِي الصُّورِ أُخْرَى، وَهِيَ النَّفْخَةُ الثَّالِثَةُ نَفْخَةُ الْبَعْثِ، قَالَ تَعَالَى: (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) ” انتهى بتصرف يسير من ” تفسير ابن كثير” (7/ 116).
وقد ورد ذلك في حديث طويل معروف عند العلماء بـ (حديث الصور) غير أنه حديث ضعيف، ضعفه البيهقي في ” شعب الإيمان ” (347)، وضعفه ابن كثير في تفسيره عند الآية 73 من سورة الأنعام.
والاحتمال الثاني: أن إسرافيل عليه السلام ممن استثناهم الله تعالى من الموت، قال الله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) الزمر/ 68. انظر ” تفسير ابن جرير ” (21/ 330).انتهى
قال صاحبنا أبوصالح: “أشعر” أن بعض الرواة اختصر الحديث فجملة “أنا أول من تنشق الأرض عنه” هذه بعد نفخة البعث.
وجملة “فأكون أول من يفيق” هذه يوم القيامة.
فبعض الرواة اختصر الحديث فذكر بعضا وبعضهم ذكر البعض الآخر.
فذهب بعض أهل العلم من المتأخرين إلى إعلال نكارة بعض الألفاظ في بعض المواضع، ولم أستحسن ذلك لأني لم أجد للمتقدمين إعلال لتلك الألفاظ وهي في الصحيحين.
والموضوع يحتاج لمزيد من الدراسة. انتهى
وقال بعض أهل العلم
ومن فضائل موسى عليه الصلاة والسلام / أنه كان صبورا على الأذى، ولا عجب في ذلك فهو من أولي العزم من الرسل، وهم خمسة (نوح – وإبراهيم – وموسى – وعيسى – ونبينا محمد عليهم الصلاة والسلام) ولذا قال الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} ومن صور صبر موسى عليه الصالة والسلام / أن النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن مسعود أنه قال (قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما، فقال رجل هذه قسمة ما عدل فيها، فأتى ابن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فغضب عليه الصلاة والسلام حتى رؤي الغضب في وجهه ثم قال) يوطن نفسه ويسليها بنبي الله موسى، ماذا قال؟ (يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)
ومن فضائل موسى عليه الصلاة والسلام / أنه كان رجلا حييا يحب الحياء، ستيرا يحب الستر، وسبق الحديث في اغتساله بعيدا عن الملأ من بني إسرائيل الذين كانوا يغتسلون عراة.
ومن فضائل نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام / أنه حج بيت الله، قال ابن عباس رضي الله عنهما كما في صحيح مسلم (سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة حتى أتينا إلى وادي، فقال عليه الصلاة والسلام: أي وادٍ هذا؟ فقالوا: وادي الأزرق، فقال عليه الصلاة والسلام كأني أنظر إلى موسى واضعا أصبعيه في أذنيه له جؤار إلى الله بالتلبية مارا بهذا الوادي) وقد ثبت في صحيح ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (كأني أرى موسى يرمي الجمرة على ناقة حمراء خطامها من ليف عليه جبة من صوف)
ومن فضائله عليه الصلاة والسلام / أنه سأل الله عز وجل أن يدفن قريبا من بيت المقدس، لأن الدفن في الأماكن الفاضلة لها مزية خاصة
وهو كليم الله
قال تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51]. قال ابن تيمية: (معلوم أن تكليمه من وراء حجاب أفضل من تكليمه بالإيحاء وبإرسال رسول، ولهذا كان من فضائل موسى عليه السلام أن الله كلمه تكليماً وقال: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف: 144].
———–
وقال بعض أهل العلم في شرح حديث قائم يصلي في قبره
هذا الحديث من الأحاديث الصحيحة التي يوردها العلماء في فضائل نبي الله موسى عليه السلام، يرويه الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أَتَيْتُ – وفي رواية: مررت – عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ) رواه مسلم (2375).
وفي هذا الحديث مسائل، يمكن إجمالها فيما يأتي:
أولا:
اختلف العلماء في مكان قبر موسى عليه السلام، وهذا الحديث يدل على أنه في طريق بيت المقدس عند الكثيب الأحمر، وهذا وصف مبهم بعض الشيء، وليس وصفا محددا، ولعل الحكمة من ذلك ألا يتخذ قبره معبدا.
قال القرطبي رحمه الله:
” الكثيب: هو الكوم من الرمل، وهذا الكثيب هو بطريق بيت المقدس ” انتهى.
” المفهم ” (6/ 192)
وقال أيضا:
” وهذا يدل على أن قبر موسى أخفاه الله تعالى عن الخلق، ولم يجعله مشهورا عندهم، ولعل ذلك لئلا يعبد، والله أعلم ” انتهى.
” المفهم ” (6/ 222). وانظر: ” عمدة القاري ” للعيني (12/ 474)
ثانيا:
في هذا الحديث دليل على حياة الأنبياء بعد موتهم، وأنهم يتميزون عن سائر الأموات، إلا الشهداء، بأن الله يحييهم مرة أخرى حياة خاصة، فيها من النعيم والكرامة ما لا يتعرض له أحد من الناس.
وقد دلت على ذلك أدلة أخرى كثيرة، من أصحها وأشهرها حديث الإسراء والمعراج، حيث جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الأنبياء في السماوات، وصلى بهم إماما في بيت المقدس.
ومنها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون)
رواه البزار (256)، وحسنه الألباني في ” السلسلة الصحيحة ” (621)
وقد قرر ذلك أهل العلم في كتبهم، حتى صنف الإمام البيهقي في هذه المسألة جزءًا بعنوان: ” حياة الأنبياء بعد وفاتهم “، وصنف الإمام السيوطي جزءًا بعنوان: ” إنباء الأذكياء بحياة الأنبياء “.
وقال البيهقي رحمه الله:
” لِحياة الأنبياء بعد موتهم صلوات الله عليهم شواهدُ من الأحاديث الصحيحة ” انتهى.
” حياة الأنبياء ” (ص/77)
وقال السيوطي رحمه الله:
” حياة النبي صلى الله عليه وسلّم في قبره هو وسائر الأنبياء معلومة عندنا علماً قطعياً؛ لما قام عندنا من الأدلة في ذلك، وتواترت به الأخبار ” انتهى.
” الحاوي للفتاوي ” (2/ 139)
ثالثا:
قال القرطبي رحمه الله:
” وهذا الحديث يدل بظاهره على: أنه صلى الله عليه وسلم رأى موسى رؤية حقيقية في اليقظة، وأن موسى كان في قبره حيا، يصلي فيه الصلاة التي كان يصليها في الحياة، وهذا كله ممكن لا إحالة في شيء منه، وقد صح أن الشهداء أحياء يرزقون، ووجد منهم من لم يتغير في قبره من السنين، وإذا كان هذا في الشهداء كان في الأنبياء أحرى وأولى ” انتهى.
” المفهم ” (6/ 192)
وقال ابن القيم رحمه الله:
” الأنبياء إنما استقرت أرواحهم هناك – يعني في السماء – بعد مفارقة الأبدان، وروح رسول الله صلى الله عليه وسلم صعدت إلى هناك في حال الحياة ثم عادت – يعني في الإسراء والمعراج -، وبعد وفاته استقرت في الرفيق الأعلى مع أرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومع هذا فلها إشراف على البدن، وإشراق، وتعلق به، بحيث يرد السلام على من سلم عليه، وبهذا التعلق رأى موسى قائما يصلى في قبره، ورآه في السماء السادسة، ومعلوم أنه لم يعرج بموسى من قبره ثم رد إليه، وإنما ذلك مقام روحه واستقرارها، وقبره مقام بدنه واستقراره إلى يوم معاد الأرواح إلى أجسادها، فرآه يصلى في قبره، ورآه في السماء السادسة، كما أنه صلى الله عليه وسلم في أرفع مكان في الرفيق الأعلى مستقرا هناك، وبدنه في ضريحه غير مفقود، وإذا سلم عليه المسلم رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام، ولم يفارق الملأ الأعلى.
ومن كَثُف إدراكه وغلظت طباعه عن إدراك هذا، فلينظر إلى الشمس في علو محلها، وتعلقها وتأثيرها في الأرض، وحياة النبات والحيوان بها، هذا وشأن الروح فوق هذا، فلها شأن، وللأبدان شأن، وهذه النار تكون في محلها، وحرارتها تؤثر في الجسم البعيد عنها، مع أن الارتباط والتعلق الذي بين الروح والبدن أقوى وأكمل من ذلك وأتم، فشأن الروح أعلى من ذلك وألطف ” انتهى.
” زاد المعاد ” (3/ 40 – 41)
وقال الشيخ الألباني رحمه الله:
” حياته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته مخالفة لحياته قبل الوفاة، ذلك أن الحياة البرزخية غيب من الغيوب، ولا يدري كنهَها إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن من الثابت والمعلوم أنها تختلف عن الحياة الدنيوية، ولا تخضع لقوانينها، فالإنسان في الدنيا يأكل ويشرب ويتنفس ويتزوج ويتحرك ويتبرز ويمرض ويتكلم، ولا أحد يستطيع أن يثبت أن أحدا بعد الموت حتى الأنبياء عليهم السلام – وفي مقدمتهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم – تعرض له هذه الأمور بعد موته. ومما يؤكد هذا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في مسائل كثيرة بعد وفاته، ولم يخطر في بال أحد منهم الذهاب إليه صلى الله عليه وسلم في قبره ومشاورته في ذلك وسؤاله عن الصواب فيها لماذا؟ إن الأمر واضح جدا وهو أنهم كلهم يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم انقطع عن الحياة الدنيا، ولم تعد تنطبق عليه أحوالها ونواميسها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حي أكمل حياة يحياها إنسان في البرزخ، ولكنها حياة خاصة لا تشبه حياة الدنيا، ولعل مما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)، وعلى كل حال فإن حقيقتها لا يدريها إلا الله سبحانه وتعالى، ولذلك فلا يجوز قياس الحياة البرزخية أو الحياة الأخروية على الحياة الدنيوية، كما لا يجوز أن تعطى واحدة منها أحكام الأخرى، بل لكل منها شكل خاص، وحكم معين، ولا تتشابه إلا في الاسم، أما الحقيقة فلا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى ” انتهى.
” التوسل ” (ص/60)
رابعا:
صلاة موسى عليه السلام وسائر الأنبياء في قبورهم ليست على وجه التكليف، إذ التكليف منقطع بالموت، وإنما هي على وجه التنعم والتلذذ بعبادة الله وإقامة ذكره.
قال القرطبي رحمه الله:
” فإن قيل: كيف يصلون بعد الموت وليس تلك الحال حال تكليف؟
فالجواب: أن ذلك ليس بحكم التكليف، وإنما ذلك بحكم الإكرام لهم والتشريف، وذلك أنهم كانوا في الدنيا حببت لهم عبادة الله تعالى والصلاة بحيث كانوا يلازمون ذلك، ثم توفوا وهم على ذلك، فشرَّفهم الله تعالى بعد موتهم بأن أبقى عليهم ما كانوا يحبون، وما عرفوا به، فتكون عبادتهم إلهامية كعبادة الملائكة، لا تكليفية، وقد وقع مثل هذا لثابت البناني رضى الله عنه؛ فإنه حببت الصلاة إليه حتى كان يقول: اللهم إن كنت أعطيت أحدا يصلي لك في قبره، فأعطني ذلك، فرآه مُلَحِّدُهُ بعدما سوى عليه لحده قائما يصلي في قبره، وقد دل على صحة ذلك كله قول نبينا صلى الله عليه وسلم: (يموت المرء على ما عاش عليه، ويحشر على ما مات عليه)، وقد جاء في الصحيح: (أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما تلهمون النفس) انتهى.
” المفهم ”
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
” هذه الصلاة ونحوها مما يتمتع بها الميت ويتنعم بها كما يتنعم أهل الجنة بالتسبيح، فإنهم يلهمون التسبيح كما يلهم الناس في الدنيا النَّفَس؛ فهذا ليس من عمل التكليف الذي يطلب له ثواب منفصل، بل نفس هذا العمل هو من النعيم الذي تتنعم به الأنفس وتتلذذ به ” انتهى.
” مجموع الفتاوى ” (4/ 330)
خامسا:
حياة الأنبياء بعد موتهم، وخصائصها، وكيفيتها، وما يتعلق بذلك: كله أمر غيبي لا يرجع المرء من تكلف التنقير عنه بطائل، فالتسليم أولى، وتفويض العلم إلى الله هو الواجب ابتداء وانتهاء.
جاء في “فتاوى اللجنة الدائمة”:
” كل ذلك حق يجب الإيمان به والتسليم له، وإثبات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى موسى عليه السلام في قبره يصلي، ورآه أيضا في السماء، والله على كل شيء قدير، ولا يجوز إنكار ما ثبت في النصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم لحيرة العقول فيه، أو قياس عالم الغيب وعالم البرزخ على عالم الشهادة، أو دعوى أن ذلك من مختلقات اليهود، فكل ذلك خطأ وضلال، وانحراف عن الصراط المستقيم ” انتهى.
” سئل الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن أيضا – رحمهم الله – عما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى موسى وهو يصلي في قبره، ورآه يطوف بالبيت، ورآه في السماء، وكذلك الأنبياء.
فأجاب: هذه الأحاديث وأشباهها تُمَرُّ كما جاءت ويُؤمَن بها، إذ لا مجال للعقل في ذلك؛ ومن فتح على نفسه هذا الباب هلك في جملة من هلك ; وقد غضب مالك بن أنس لمَّا سأله رجل عن الاستواء، فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، إلى آخر كلامه، ثم قال: وما أراك إلا رجل سوء، فأمر بإخراجه ; هذه عادة السلف ” انتهى.
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله:
” قوله تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ) الآية، هذه الآية تدل بظاهرها على أن الشهداء أحياء غير أموات , وقد قال في آية أخرى لمن هو أفضل من كل الشهداء صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)
والجواب عن هذا:
أن الشهداء يموتون الموتة الدنيوية، فتورث أموالهم، وتنكح نساؤهم بإجماع المسلمين , وهذه الموتة التي أخبر الله نبيه أنه يموتها صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في الصحيح عن صاحبه الصِّدِّيق رضي الله عنه أنه قال لما توفي صلى الله عليه وسلم: (بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين , أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها) وقال: (من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات)، واستدل على ذلك بالقرآن ورجع إليه جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
وأما الحياة التي أثبتها الله للشهداء في القرآن، وحياته صلى الله عليه وسلم التي ثبت في الحديث أنه يرد بها السلام على من سلم عليه: فكلتاهما حياة برزخية، ليست معقولة لأهل الدنيا.
أما في الشهداء فقد نص تعالى على ذلك بقوله: (وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) , وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم: (تجعل أرواحهم في حواصل طيور خضر ترتع في الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش فهم يتنعمون بذلك)
وأما ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أنه (لا يسلم عليه أحد إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام) و (أن الله وَكَّل ملائكته يبلغونه سلام أمته) فإن تلك الحياة أيضا لا يعقل حقيقتها أهل الدنيا؛ لأنها ثابتة له صلى الله عليه وسلم مع أن روحه الكريمة في أعلى عليين مع الرفيق الأعلى، فوق أرواح الشهداء، فتعلق هذه الروح الطاهرة التي هي في أعلى عليين بهذا البدن الشريف الذي لا تأكله الأرض يعلم الله حقيقته، ولا يعلمها الخلق، كما قال في جنس ذلك: (وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ)، ولو كانت كالحياة التي يعرفها أهل الدنيا لما قال الصديق رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم مات، ولما جاز دفنه، ولا نصب خليفة غيره، ولا قتل عثمان، ولا اختلف أصحابه، ولا جرى على عائشة ما جرى، ولسألوه عن الأحكام التي اختلفوا فيها بعده، كالعول، وميراث الجد، والإخوة، ونحو ذلك.
وإذا صرح القرآن بأن الشهداء أحياء في قوله تعالى: (بل أحياء)، وصرح بأن هذه الحياة لا يعرف حقيقتها أهل الدنيا بقوله: (وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) , وكان النبي صلى الله عليه وسلم أثبت حياته في القبر بحيث يسمع السلام ويرده، وأصحابه الذين دفنوه صلى الله عليه وسلم لا تشعر حواسهم بتلك الحياة، عرفنا أنها حياة لا يعقلها أهل الدنيا أيضا , ومما يقرب هذا للذهن حياة النائم، فإنه يخالف الحي في جميع التصرفات، مع أنه يدرك الرؤيا، ويعقل المعاني والله تعالى أعلم ” انتهى.
” دفع إيهام الاضطراب ” (24 – 25)
والله أعلم.
=============
تنبيه على قوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) للعلامة الشنقيطي رحمه الله لسورة البقرة من تفسير أضواء البيان
في هذه الآية الكريمة، أعني قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}
في هذه الآية، إشكال قوي معروف. ووجهه: أنه ثبت في حديث أبي هريرة المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم قال: “لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله”، وثبت أيضا في حديث أبي سعيد المتفق عليه: “لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة” الحديث، وفي رواية: “لا تفضلوا بين أنبياء الله”، وفي رواية: “لا تخيروني من بين الأنبياء”.
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه: وهذه الآية مشكلة، والأحاديث ثابتة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تخيروا بين الأنبياء ولا تفضلوا بين أنبياء الله”، رواها الأئمة الثقات، أي: لا تقولوا فلان خير من فلان، ولا فلان أفضل من فلان، اهـ.
قال ابن كثير في الجواب عن هذا الإشكال ما نصه: والجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل، وفي هذا نظر.
الثاني: أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع.
الثالث: أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذا الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر.
الرابع: لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية.
الخامس: ليس مقام التفضيل إليكم، وإنما هو إلى الله عز وجل، وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به، اهـ منه بلفظه.
وذكر القرطبي في “تفسيره” أجوبة كثيرة عن هذا الإشكال، واختار أن منع التفضيل في خصوص النبوة، وجوازه في غيرها من زيادة الأحوال والخصوص والكرامات
قال العباد:
وهذا النهي المقصود به: أنهم لا يخيرون من تلقاء أنفسهم من غير أن يكون مبنياً على أساس، أو أن يكون في التخيير تقليل من شأن بعضهم، وأما إذا كان التخيير مبنياً على علم ومبنياً على النصوص؛ فإن هذا أمر مطلوب، مع توقير الجميع وتعظيم الجميع ومحبة الجميع،
وسأل ابن عثيمين: هل الرسل عليهم الصلاة والسلام سواء في الفضيلة؟
الإجابة: الرسل عليهم الصلاة والسلام، ليسوا سواء في الفضيلة لقوله تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات}، وقوله تعالى: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض}.
ويجب علينا أن نؤمن بجميع الرسل أنهم حق صادقون فيما جاؤوا به، مصدقون فيما أوحي إليهم، لقوله تعالى: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم}، إلى قوله: {لا نفرق بين أحد منهم}، ولأن هذا طريق النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، قال الله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله}.
فلا نفرق بين أحد من الرسل في الإيمان به، وأنه صادق، مصدوق ورسالته حق ولكن نفرق في أمرين:
الأول: الأفضلية: فنفضل بعضهم على بعض كما فضل الله بعضهم على بعض ورفع بعضهم درجات، لكن لا نقول ذلك على سبيل المفاخرة أو التنقص للمفضول … وذكر أحاديث الباب
الثاني: الاتباع، فلا نتبع إلا من أرسل إلينا وهو محمد صلى الله عليه وسلم، لأن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم نسخت جميع الشرائع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى و رسائل الشيخ محمد صالح العثيمين المجلد الأول – باب الرسل ص 312 – 313.
قال العلماء في نهيه صلى الله عليه وسلم عن التفضيل بين الأنبياء: إنما نهى عن ذلك من يقوله برأيه لا من يقوله بدليل أو من يقوله بحيث يؤدي إلى تنقيص المفضول أو يؤدي إلى الخصومة والتنازع، أو المراد لا تفضلوا بجميع أنواع الفضائل بحيث لا يترك للمفضول فضيلة، فالإمام مثلا إذا قلنا إنه أفضل من المؤذن لا يستلزم نقص فضيلة المؤذن بالنسبة إلى الأذان، وقيل: النهي عن التفضيل إنما هو في حق النبوة نفسها كقوله تعالى: لا نفرق بين أحد من رسله ولم ينه عن تفضيل بعض الذوات على بعض لقوله: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض. وقال الحليمي الأخبار الواردة في النهي عن التخيير إنما هي في مجادلة أهل الكتاب وتفضيل بعض الأنبياء على بعض بالمخايرة، لأن المخايرة إذا وقعت بين أهل دينين لا يؤمن أن يخرج أحدهما إلى ازدراء بالآخر فيفضي إلى الكفر
، فأما إذا كان التخيير مستندا إلى مقابلة الفضائل لتحصيل الرجحان فلا يدخل في النهي.
قال ابن كثير
وبالجملة فشريعة موسى عليه السلام كانت عظيمة، وأمته كانت أمة كثيرة، ووجد فيها أنبياء، وعلماء، وعباد، وزهاد، وألباء، وملوك، وأمراء، وسادات، وكبراء، لكنهم كانوا فبادوا، وتبدلوا كما بدلت شريعتهم، ومسخوا قردة وخنازير، ثم نسخت بعد كل حساب ملتهم، وجرت عليهم خطوب وأمور، يطول ذكرها، ولكن سنورد ما فيه مقنع، لمن أراد أن يبلغه خبرها، إن شاء الله، وبه الثقة، وعليه التكلان.
البداية والنهاية/الجزء الأول/باب ذكر فضائل موسى عليه السلام وشمائله وصفاته ووفائه
فأحسن ما قيل في توجيه النهي المذكور ما يلي:
1 – أن التفضيل بين الأنبياء إذا كان يؤدي إلى التخاصم والتشاحن والعصبية فيترك، ودل على هذا سبب قوله: ((لا تخيروني على موسى)) فقد حصل بين مسلم ويهودي أن كل واحد يفضل نبيه مما أدى إلى أن المسلم لطم اليهودي واختصما بعد ذلك إلى النبي: فقال: ((لا تخيروني على موسى)).
2 – أن التفضيل إذا كان فيه تنقص وازدراء بالمفضول فهذا منهي عنه، وعلى هذا فلا محذور في إثبات التفاضل بين الأنبياء إذا كان خاليا مما ذكر قبل، والله أعلم)).
وأما قوله: ” ومن قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب ” قال العلماء: إنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك تواضعاً إن كان قاله بعد أن أعلم أنه أفضل الخلق، وإن كان قاله قبل علمه بذلك فلا إشكال.
– وأما التفريق بين الرسل فهو يعني الإيمان ببعضهم والكفر ببعضهم كما فعلت اليهود وكما فعلت النصارى: فاليهود موقفهم من الرسل أنهم آمنوا بالبعض وكفروا بالبعض، حيث كفروا بعيسى وبمحمد عليهما الصلاة والسلام، والبعض الآخر من الرسل قتلوه؛ كما قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]. فاليهود هذا موقفهم من الرسل؛ فرَّقوا بينهم فكفروا ببعضهم وقتلوا بعضهم، وحتى الذين آمنوا به منهم لم يؤمنوا به إيمانًا صحيحًا؛ لأنهم لا يؤمنون إلا بما يوافق أهواءهم مما جاء به، وما خالف أهواءهم كفروا به وتركوه. والنصارى أيضًا كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فهم فرّقوا بين الرسل.
– البعث والنشور من أركان الإيمان الستة التي يجب الإيمان بها، وقد أنكر البعض هذا الركن وقالوا إن الناس إذا ماتوا لا يبعثون.
معنى حج موسى عليه الصلاة والسلام:
من الأقوال التي سبق ذكرت: أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحياء في قبورهم لكن كما ذكر الأئمة أن المقصود حياة برزخية وهذا كما في حديث حج موسى عليه الصلاة والسلام لكن ما هو توجيه حديث حج موسى عليه الصلاة والسلام.
روى مسلم هـذا الحديث من طريق أبي العالية عن ابن عباس بلفظ: كأني أنظر إلى موسى هـابطا من التثنية واضعا إصبعيه في أذنيه مارا بهذا الوادي وله جؤار إلى الله بالتلبية. وكذلك جاء ذكر يونس في هـذا الحديث، أفيقال إن الراوي الآخر غلط فيه؟ وقال الكرماني في الرد: أما من روى إذ انحدر، بلفظ: إذ للماضي فيصح موسى بأن يراه النبي صلى الله عليه وسلم في المنام أو يوحى إليه بذلك، وسلم الغلط في رواية إذا، لأنه إخبار عما يكون في المستقبل. قلت: لو اطلع الكرماني على حقيقة الحديث لما قسم هـذا التقسيم، فلا يحتاج إلى هـذا التكليف، لأن الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، أحياء عند ربهم يرزقون. فلا مانع أن يحجوا في هـذه الحال كما ثبت في (صحيح مسلم) من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم: رأى موسى قائما في قبره يصلي. فإن قلت: ما الداعي إلى عبادتهم بعد الموت وموضع العبادة دار الدنيا؟ قلت: حببت إليهم العبادة فهم متعبدون بما يجدونه من دواني أنفسهم لا بما يلزمون به، وذلك كما يلهم أهـل الجاهـلية الذكر، ويؤيده أن أعمال الآخرة ذكر ودعاء. كقوله تعالى: {دعواهـم فيها سبحانك اللهم … }
(يونس: 01). الآية، ويجوز أن يكون مثلت لهم أحوالهم التي كانت في الحياة الدنيا كيف تعبودا وكيف حجوا وكيف لبوا، ولهذا قال: كأني، ويحتمل أن يكون إخباره ذلك بالوحي عنه، ويحتمل أن يكون ذلك في المنام، ومنام الأنبياء وحي، وحديث مسلم المذكور حجة على المهلب، ورد لما قاله وقال الكرماني: المناسب لذكر الدجال ذكر عيسى، عليه الصلاة والسلام، قلت: قال ذلك بالنظر إلى أن عيسى، عليه الصلاة والسلام، هـو الذي يقتل الدجال، ولو كان له اطلاع على الحديث المذكور لما ادعى هـذه المناسبة.
عمدة القاري شرح البخاري