75 جامع الأجوبة الفقهية ص126
بإشراف سعيد الجابري وناصر الريسي وسيف بن دورة الكعبي
[باب الوضوء]
مسألة {1}:
اشتراط النية للوضوء.
”””’
مشاركة مجموعة ناصر الريسي:
اختلف العلماء في اشتراط النية في الطهارة من الحدث، هل تشترط لها النية أم لا؟
على ثلاثة أقوال.
القول الأول: النية شرط للوضوء. وهو مذهب المالكية.
القول الثاني: سنة وليست بشرط وهو مذهب الحنفية
القول الثالث: يجزئ الوضوء بلا نية. وهو قول الأوزاعي
راجع: (حاشية الدسوقي، والقوانين الفقهية)،
والشافعية (المجموع)،
والحنابلة (المغني).
والحنفية (بدائع الصنائع)
والأوسط لابن المنذر)
أدلة الجمهور على أن النية شرط.
الدليل الأول:
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم … } إلى أن قال: {وإن كنتم جنباً فاطهروا}
(المائدة: 6).
وجه الاستدلال:
أن الله سبحانه وتعالى قد شرط في صفة فعل الطهارة الصغرى والكبرى إرادة الصلاة، والشرطية مأخوذة من لفظ: إذا في قوله: إذا قمتم، فإذا كان قد شرط إرادة الصلاة في فعل الطهارة كان من فعله مريداً للتبرد، أو النظافة لم يفعله على الشرط الذي شرطه الله، وذلك يوجب أن لا يجزئه.
وقوله تعالى: إذا قمتم إلى الصلاة}: أي أردتم القيام إلى الصلاة، كقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} (النحل):. أي إذا أردت قراءته.
قال ابن قدامة: قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} أي للصلاة، كما يقال: إذا لقيت الأمير فترجل: أي له. وإذا رأيت الأسد فاحذر: أي منه (المغني).
الدليل الثاني:
حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه.
(متفق عليه).
وجه الاستدلال:
قال النووي: لفظة: (إنما) للحصر، وليس المراد صورة العمل، فإنها توجد بلا نية، وإنما المراد أن حكم العمل لا يثبت إلا بالنية، ودليل آخر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: وإنما لكل امرئ ما نوى. وهذا لم ينو الوضوء، فلا يكون له (المجموع).
وقال ابن قدامة: نفى أن يكون له عمل شرعي بدون نية. (المغني).
الدليل الثالث:
قوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (البينة، آية: 5).
والإخلاص: إنما هو النية، والوضوء من الدين، فوجب أن لا يجزئ بغير نية.
فإن قيل: ما دليلكم على أن الوضوء من الدين؟
فالجواب:
حديث أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك. كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها
(رواه مسلم).
فإذا كان الإيمان عبادة فشطره كذلك.
والوضوء عبادة مستقلة رتب الشارع عليها ثواباً عظيماً، وإذا كانت عبادة كانت مفتقرة إلى نية حتى تتميز عن العادة.
والدليل على أنه رتب على الوضوء ثواباً ما جاء من الأحاديث في فضل وثواب هذه العبادة:
ومنها: حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن، فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيا من الذنوب (رواه مسلم)
فدل على أن الوضوء عبادة، وإذا كانت كذلك لا تصح إلا بنية، لأنها قربة إلى الله تعالى، وطاعة له، وامتثال لأمره، ولا يحصل ذلك بغير نية.
الدليل الرابع:
القياس على طهارة التيمم، بجامع أن كلاً منها طهارة عن حدث.
الدليل الخامس:
الشريعة كلها إما مطلوب أو مباح، والمباح لا يتقرب به إلى الله تعالى، فلا معنى للنية فيه، والمطلوب نواه وأوامر، فالنواهي يخرج الإنسان من عهدتها وإن لم يشعر بها، فضلاً عن القصد إليها. فزيد المجهول حرم الله علينا دمه وعرضه، وقد خرجنا عن العهدة وإن لم نشعر به. نعم إن شعرنا بالمحرم ونوينا تركه حصل لنا الثواب مع الخروج من العهدة.
والأوامر منها ما يكون صورة فعله كافية في تحصيل مصلحته كأداء الديون، والودائع، ونفقة الزوجات والأقارب، فإن المقصود من هذه الأمور انتفاع أربابه، وذلك لا يتوقف على قصد الفاعل، فيخرج الإنسان من عهدتها وإن لم ينوها.
ومنها ما لا يكون صورة فعله كافية في حصول المقصود كالصلوات، والصيام، والنسك، فإن المقصود منها تعظيم الله تعالى والخضوع له، وذلك إنما يحصل إذا قصدت من أجله، وهذا هو الذي أمر الشرع فيه بالنيات، والطهارة من هذا الباب (مواهب الجليل).
أدلة من قال: إن النية مستحبة وليست بشرط.
الدليل الأول:
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} إلى قوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا}.
وجه الاستدلال:
أن الله سبحانه وتعالى أمر بالوضوء والغسل أمراً مطلقاً دون قيد النية ولا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل، فمن غسل أعضاءه، ومسح رأسه فقد امتثل الأمر وصح وضوءه، وكذلك من غسل بدنه
(انظر بدائع الصنائع).
الدليل الثاني:
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا}
(النساء آية (43).
وجه الاستدلال:
نهى الجنب عن قربان الصلاة إذا لم يكن عابر سبيل إلى غاية الاغتسال، وأطلق ولم يشترط النية، فيقتضي انتهاء حكم النهي عند الاغتسال، ولو لم يكن معه نية.
(انظر بدائع الصنائع).
الدليل الثالث:
قال تعالى بعد أن ذكر طهارة الوضوء والغسل:
{ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (المائدة).
وحصول الطهارة لا يقف على النية، بل على استعمال المطهر في محل قابل للطهارة.
(انظر بدائع الصنائع).
يوضح ذلك أيضاً أن النية إن اعتبرت بجريان الماء على الأعضاء فهو حاصل نوى أو لم ينو. وإن اعتبر لإزالة الحدث المتعلق بالأعضاء فإن الخبث المتعلق بها أقوى من الحدث، وزوال هذا الأقوى لا يتوقف على النية، فكيف للأضعف.
الدليل الرابع:
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:
إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف الطهور؟.
فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً، ثم مسح برأسه، وأدخل اصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه ثم غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم، أو، ظلم وأساء. (سنن أبي داود)
وجه الاستدلال:
فهذا الرجل وهو أعرابي كما في بعض الروايات، كان يجهل الطهور، وقد سأل عن الوضوء فلو كانت النية من شرائطه التي يتوقف عليها صحة الوضوء لذكر النبي صلى الله عليه وسلم النية له. فلما لم يذكرها علم أنها ليست بشرط.
وأجيب:
بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم المسيء صلاته كيفية الصلاة، ولم يذكر له النية، وقد قلتم بوجوبها للصلاة فما الفرق؟
الدليل الخامس:
القياس على إزالة النجاسة، فإذا كانت طهارة الخبث لا تتوقف على
نية فعدم توقف طهارة الحدث على النية أولى؛ وإنما قلنا إن طهارة الخبث أولى؛ لأن سببها وموجبها أمر حسي، وخبث مشاهد؛ ولأنه لا بدل لها من التراب، فقد ظهرت قوتها حساً وشرعاً.
وأجيب:
هناك فرق بين طهارة الحدث، وطهارة الخبث، فالأولى من باب فعل المأمور، ولم يكن الموجب لها نجاسة حسية، وتخصيصها بالأعضاء الأربعة في الصغرى تعبد، أما طهارة الخبث فالمطلوب التخلي منها، فهي من باب التروك، ولهذا لو صلى ناسياً حدثه أعاد، بخلاف طهارة الخبث، فما كان من باب فعل المأمور وجبت له النية كالصلاة، وما كان من باب التروك لم تجب كالنجاسة وترك الزنا ونحوهما.
الدليل السادس:
قال تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} (الفرقان،).
فإذا كان الماء خلق طهوراً، فهذه صفته وطبيعته، كما خلق الماء مروياً، وخلق مبرداً سائلاً، كل ذلك طبعه ووصفه الذي جعل عليه، فكما أنه لا يحتاج إلى النية في حصول الري والتبريد، فكذلك في حصول التطهير، فإذا كان الماء خلق طاهراً، وطاهريته لا تتوقف على نية، فكذلك طهوريته.
(بدائع الفوائد ـ ابن القيم).
الدليل السابع:
المراد من الوضوء النظافة والوضاءة، وقيام العبد بين يدي الرب
تبارك وتعالى على أكمل أحواله، مستور العورة، متجنباً للنجاسة، نظيف الأعضاء وضيئها، وهذا حاصل باتيانه بهذه الأفعال، نواها أو لم ينوها، يوضحه أن الوضوء غير مراد لنفسه، بل مراد لغيره، والمراد لغيره لا يجب أن ينوى؛ لأنه وسيلة. وإنما تعتبر النية في المراد لنفسه إذ هو المقصود المراد.
(بدائع الفوائد).
قال الأثيوبي في شرحه لحديث إنما الأعمال بالنية
في اختلاف العلماء في اشتراط النية في الوضوء:
احتج بالحديث من أوجب النية في الوضوء والغسل، وهو قول الأئمة الثلاثة مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وداود، وأبي ثور، وأبي عبيد، وبه يقول الزهري، وربيعة الرأي شيخ مالك، وهو قول جمهور أهل الحجاز، ويُروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وذهبت طائفة إلى أنه يصح الوضوء والغسل والتيمم بلا نية حكاه ابن المنذر عن الأوزاعي، والحسن بن صالح، وزفر.
وقال أبو حنيفة، وسفيان الثوري: يصح الوضوء والغسل بلا نية ولا يصح التيمم إلا بالنية، وهي رواية عن الأوزاعي ورواية شاذة عن مالك.
واحتج هؤلاء بأن الوضوء ليس مقصودا، وأن المقصود به النظافة، فأشبه إزالة النجاسة، واعترض على الحنفية بأنهم أوجبوها في التيمم، وليس مقصودا، وأجابوا بأنه طهارة ضعيفة فافتقر إلى النية تقوية له، وبأن الله ذكر النية في التيمم {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} أي اقصدوا، وهو النية ولم يذكر ذلك في الوضوء والغسل، واحتجوا أيضا بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء للأعرابي، ولم يَذْكُر له النية مع جهل الأعرابي بأحكام الوضوء، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ونُقضَ عليهم بتعليمه الصلاة للأعرابي المسيء صلاته ولم يذكر له النية، وقد قلتم بوجوبها في الصلاة فما الفرق؟ وإنما بَيَّن النبي صلى الله عليه وسلم لمن علمه الأفعال الظاهرة التي يقف الناظر على تركها لو تركها، فأما القصد للعبادة فكان معلوما عندهم. اهـ طرح بزيادة من المجموع.
قال الجامع عفا الله عنه: والراجح هو ما ذهب إليه الجمهور من اشتراط النية في الوضوء والغسل لحديث الباب، والله أعلم.
(ذخيرة العقبى في شرح المجتبى).
”””’
جواب سعيد الجابري:
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي في منظومة القواعد الفقهية:
النية شرط لسائر العمل
فيها الصلاح والفساد للعمل.
اشتراط النية لصحة العبادة، وقد اتفق العلماء على ذلك في العبادة المقصودة لعينها التي ليست وسيلة إلى غيرها، وحكى أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد المالكي في كتابه بداية المجتهد اتفاق العلماء على اشتراط النية في العبادات وحكى الاختلاف في الوضوء لاختلافهم في أنه وسيلة أو مقصد وحكى ابن التين السفاقسي أنهم لا يختلفون في أن العبادة المحضة مفتقرة إلى النية، والعبادة المفهومة المعنى غير مفتقرة إلى النية.
وذكر النووي في شرح مسلم أن الأعمال ضربان:
ضرب تشترط النية لصحته وحصول الثواب فيه كالأركان الأربعة وغير ذلك مما أجمع العلماء أنه لا يصح إلا بنية وكالوضوء، والغسل، والتيمم وطواف الحج، والعمرة، والوقوف مما اشترط النية فيه بعض العلماء،
وضرب لا تشترط النية لصحته لكن تشترط لحصول الثواب كستر العورة، والأذان، والإقامة وابتداء السلام ورده وتشميت العاطس ورده وعيادة المريض واتباع الجنائز وإماطة الأذى وبناء المدارس، والربط، والأوقاف، والهبات، والوصايا، والصدقات ورد الأمانات ونحوها.
وممن أوجب النية في الوضوء، والغسل، الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وداود وغيرهم
وخالف في ذلك أبو حنيفة والثوري والأوزاعي، وهي رواية شاذة عن مالك.
(طرح التثريب في شرح التقريب)
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: قوله والوضوء أشار به إلى خلاف من لم يشترط فيه النية كما نقل عن الأوزاعي وأبي حنيفة وغيرهما وحجتهم أنه ليس عبادة مستقلة بل وسيلة إلى عبادة كالصلاة ونوقضوا بالتيمم فإنه وسيلة وقد اشترط الحنفية فيه النية واستدل الجمهور على اشتراط النية في الوضوء بالأدلة الصحيحة المصرحة بوعد الثواب عليه فلا بد من قصد يميزه عن غيره ليحصل الثواب الموعود.
(فتح الباري شرح صحيح البخاري)