الأجوبة المفيدة في مسائل العقيدة (7)
بإشراف واختصار حسين البلوشي وسيف بن دورة الكعبي
المسألة السادسة:
عدم تكفير أهل القبلة بالمعاصي والذنوب التي هي دون الكفر والشرك.
والمقال يتضمن:
قول أهل السنة
قول أهل البدع
دليل اهل السنة والجماعة
شبهات المخالفين
قال صاحبنا رامي في مشاركته:
من الأصول المجمع عليها عند أهل السنة: أنهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب- ما لم يستحله، ويقصدون بالذنب – الذي لا يكفر صاحبه- فعل الكبائر أو الصغائر أو ترك الواجبات، خلافاً للوعيدية، الذين يكفرون أهل الكبائر، وبعضهم يكفر أهل الصغائر، لكن قد يفهم البعض من عبارات السلف في ذلك أنهم لا يكفرون بكل ذنب، مطلقاً، فدفعاً لهذا اللبس (امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب، كما تفعله الخوارج وفرق بين النفي العام، ونفي العموم .. )
فالنفي العام قد يفهم منه عدم تكفير المعين مطلقاً مهما عمل من الذنوب، ولو عمل النواقض.
أما نفي العموم، فيفهم منه أنهم يكفرون ببعض الذنوب، ولا يكفرون ببعضها ….
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية:
وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج؛ بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي كما قال سبحانه وتعالى في آية القصاص: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 178]، وقال: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين [الحجرات:9]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10] ….
وقال الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله-في شرحه لكلام ابن تيمية المتقدم:
فالمسلم عند أهل السنة والجماعة لا يكفر بمطلق المعاصي والكبائر.
والفرق بين الشيء المطلق ومطلق الشيء: أن الشيء المطلق يعني الكمال، ومطلق الشيء؛ يعني: أصل الشيء.
فالمؤمن الفاعل للكبيرة عنده مطلق الإيمان؛ فأصل الإيمان موجود عنده لكن كماله مفقود.
فكلام المؤلف رحمه الله دقيق جداً.
آية القصاص وجه الدلالة من هذه الآية على أن فاعل الكبيرة لا يكفر أن الله سمى المقتول أخاً للقاتل، مع أن قتل المؤمن كبيرة من كبائر الذنوب.
وفي آية سورة الحجرات:
جعل الله تعالى الطائفة المصلحة إخوة للطائفتين المقتتلتين.
وعلى هذا؛ ففي الآية دليل على أن الكبائر لا تخرج من الإيمان.
فيسلم على الفاسق؛ إلا إذا كان في هجره مصلحة؛ فحينئذ أهجره للمصلحة؛ كما جرى لكعب بن مالك وصاحبيه الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، فهجرهم المسلمون خمسين ليلة حتى تاب الله عليهم ….
انتهت مشاركة رامي
—————–
قال صاحبنا أحمد بن علي في مشاركته:
قال ابن أبي العز:
قوله: (ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله، ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله.
ش: أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: “ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين”، يشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب.
واعلم – رحمك الله وإيانا – أن باب التكفير وعدم التكفير، باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم. فالناس فيه، في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، والمخالفة لذلك في اعتقادهم، على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية:
فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحدا، فتنفي التكفير نفيا عاما، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين.
وأيضا: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل كافرا مرتدا. والنفاق والردة مظنتهما البدع والفجور، كما ذكره الخلال في كتاب السنة، بسنده إلى محمد بن سيرين، أنه قال: إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء. وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره} … .
قيده الشيخ رحمه الله بقوله: “ما لم يستحله”.
وفي قوله: “ما لم يستحله”إشارة إلى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب، الذنوب العملية لا العلمية. وفيه إشكال فإن الشارع لم يكتف من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل، وليس العمل مقصورا على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح، وأعمال الجوارح تبع. إلا أن يضمن قوله: “يستحله”بمعنى: يعتقده، أو نحو ذلك.
شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز
……………………….
ثانيا: رأي الخوارج في حكم مرتكب الكبيرة مع المناقشة
رأي الخوارج في حكم مرتكب الكبيرة.
اختلف في هذه المسألة – فقال بعض كتاب الفرق كالكعبي والشهرستاني والرازي إن الخوارج يجمعون على تكفير مرتكب الكبيرة، وأنه مخلد في النار.
وقال بعضهم: كالأشعري والبغدادي إن هذه المسألة لم يجمعوا عليها وهو الأظهر – فقد قالت الإباضية: إن مرتكبي الكبائر موحدون لا مؤمنون لذا مناكحتهم جائزة، وموارثتهم حلال، لأنهم إنما كفروا كفر نعمة لا كفر ملة كذلك النجدات قالوا: الفاسق من موافقيهم كافر كفر نعمة
أما المحكمة الأولى، والأزارقة، والعجاردة، ومن وافقهم،
فقد قرروا: أن مرتكب الكبيرة من أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – كافر مخلد في النار
وقد وافقهم المعتزلة في الحكم الأخروي حيث قالوا: إن مرتكب الكبيرة في الآخرة مخلد في النار. إلا أنهم قالوا بأن عذابه أخف من عذاب الكافر
مجلة البحوث الإسلامية
(قلت حسين: قول الإباضية كما نٌقل أنهم يقولون أن صاحب الكبيرة وقع في كفر النعمة هذا معلوم من عقيدتهم لكن هنا نكتة أنهم يعدون صاحب كفر النعمة خالدا مخلدا في نار جهنم وأن حاله في الدنيا أنه من المنافقين فالخلاف بينهم وبين بقية فرق الخوارج خلاف لفظي من حيث حكم الآخرة أما في الدنيا فيعاملونهم معاملة المسلمين إلا في بعض الأمور)
(-قلت حسين: يذكر الأخ شبهات الخوارج الآن-)
الشبهة الأولى
استدلوا بما روى أبو هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» الحديث.
وجه الاستدلال: أن ظاهر الحديث يدل على نفي الإيمان عمن أتى شيئا من هذه الكبائر ومن نفى عنه الإيمان فهو كافر. …
الجواب: يقول ابن تيمية – رحمه الله -: الجمهور من السلف والخلف. . يقولون الإسلام أوسع من الإيمان، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا، ويقولون في قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» الحديث أنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام، ودوروا للإسلام دارة ودوروا للإيمان دارة أصغر منها في جوفها وقالوا: إذا زنى خرج من الإيمان إلى الإسلام ولا يخرجه من الإسلام إلى الكفر، ودليل ذلك أن الله تبارك وتعالى قال: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} الآية، فقد قال تعالى: {لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}
وهذا الحرف – أي لما – ينفي به ما قرب وجوده وانتظر وجوده ولم يوجد بعد. . . فلما قالوا: (آمنا) قيل (لم تؤمنوا) بعد بل الإيمان مرجو منتظر منكم. . فالخطاب لهؤلاء المخاطبين قد أخبر عنهم أنهم لما يدخل الإيمان في قلوبهم ومع ذلك قيل لهم: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا}
فلو لم يكونوا في هذه الحال مثابين على طاعة الله ورسوله لكان خلاف مدلول الخطاب. والإثابة على الطاعة تدل على وجود إيمان تصح به الطاعة ثم بين سبحانه وصف المؤمنين الذين أخرج هؤلاء منهم فقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} وهذا نعت محقق الإيمان لا نعت من معه مثقال ذرة من إيمان كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية، ومنه قوله – صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» وأمثال ذلك …
وعلى ذلك فالإيمان المنفي عن الزاني إنما هو الإيمان الكامل.
ونفي هذا الإيمان لا يقتضي ثبوت الكفر الذي يخلد في النار. ومما يؤكد ذلك ما ورد في الصحيحين عن أبي ذر – رضي الله عنه – أنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «أتاني جبريل – عليه السلام – فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟، قال: وإن زنى وإن سرق». . الحديث والله أعلم.
الشبهة الثانية:
قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}
وجه الدلالة:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ” وقد احتجت الخوارج والمعتزلة بهذه الآية وقالوا: صاحب الكبيرة ليس من المتقين فلا يتقبل الله منه عملا، فلا يكون له حسنة، وأعظم الحسنات الإيمان، فلا يكون معه إيمان فيستحق الخلود في النار ”
الجواب: قال شيخ الإسلام _ بعد أن أورد بعض الأجوبة على هذه الشبهة قال: والجواب الصحيح أن المراد من اتقى الله في ذلك العمل كما قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قال: أخلصه وأصوبه. قيل يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة فمن عمل لغير الله – كأهل الرياء – لم يقبل منه ذلك كما في الحديث الصحيح يقول الله عز وجل: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه»، وقال – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» أي فهو مردود غير مقبول. فمن اتقى الكفر وعمل عملا ليس عليه أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يقبل منه كمن صلى بغير وضوء لم يقبل منه؛ لأنه ليس متقيا في ذلك العمل وإن كان متقيا للشرك. . إلى أن قال: لا يجوز أن يراد بالآية إن الله لا يقبل العمل إلا ممن يتقي الذنوب كلها؛ لأن الكافر والفاسق حين يريد أن يتوب ليس متقيا، فلو كان قبول العمل مشروطا بكون الفاعل حين فعله لا ذنب له امتنع قبول التوبة. بخلاف ما إذا اشترط التقوى في العمل، فإن التائب حين يتوب يأتي بالتوبة الواجبة، وهو حين شروعه في التوبة منتقل من الشر إلى الخير لم يخلص من الذنب بل هو متق في حال تخلصه منه.
وأيضا فلو أتى الإنسان بأعمال البر – وهو مصر على كبيرة ثم تاب لوجب أن تسقط سيئاته بالتوبة وتقبل منه تلك الحسنات – وهو حين أتى بها كان فاسقا وأيضا: الكافر إذا أسلم وعليه للناس مظالم. . وكذلك الذمي إذا أسلم – قبل إسلامه مع بقاء مظالم العباد عليه؛ فلو كان العمل لا يقبل إلا ممن لا كبيرة عليه لم يصح إسلام الذمي حتى يتوب من الفواحش. . بل يكون مع إسلامه مخلدا.
وقد كان الناس مسلمين في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولهم ذنوب وعليهم تبعات فيقبل إسلامهم. . ولا نعرف أحدا من المسلمين جاءه ذمي يسلم فقال له لا يصح إسلامك حتى لا يكون عليك ذنب وكذلك سائر أعمال البر من الصلاة والزكاة وغيرهما
فإذا كان المراد بالمتقين في ذلك العمل الذي وعد بقبوله لم يلزم عدم قبول العمل من صاحب الكبيرة وبذلك يبطل الاستدلال بالآية على تخليد صاحب الكبيرة في النار. والله أعلم.
الشبهة الثالثة:
يقول شيخ الإسلام – بعد أن ذكر رأيهم في مرتكب الكبيرة -: ” وجماع شبهتهم في ذلك أن الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها كالعشرة فإنه إذا زال بعضها لم تبق عشرة، وكذلك الأجسام المركبة كالسكنجبين إذا زال أحد جزئيه خرج عن كونه سكنجبينا. قالوا: فإذا كان الإيمان مركبا من أقوال وأعمال ظاهرة وباطنة، لزم زواله بزوال بعضها. وهذا قول الخوارج والمعتزلة. . . ”
الجواب: يقال لهم لا يلزم من زوال بعض الأمور المجتمعة زوال سائرها، سواء سميت مركبة أو مؤلفة أو غير ذلك، لكن أكثر ما يقولون. . زالت الهيئة الاجتماعية وزال ذلك الاسم الذي استحقته الهيئة بذلك الاجتماع والتركيب كما يزول اسم العشرة والسكنجبين.
فيقال: أما كون ذلك المجتمع المركب ما بقي على تركيبه فهذا لا ينازع فيه عاقل، ولا يدعي عاقل أن الإيمان أو الصلاة أو الحج أو غير ذلك من العبادات المتناولة لأمور، إذا زال بعضها بقي ذلك المجتمع المركب كما كان قبل زوال بعضه. . ولكن لا يلزم زوال بقية الأجزاء.
وأما زوال الاسم فيقال لهم هذا (أولا) بحث لفظي، إذا قدر أن الإيمان له أبعاض وشعب، كما أن الصلاة والحج له أجزاء وشعب، ولا يلزم من زوال شعبة من شعبه زوال سائر الأجزاء والشعب … ونحن نسلم لهم أنه ما بقي إلا بعضه لا كله وأن الهيئة الاجتماعية ما بقيت كما كانت.
بقي النزاع هل يلزم زوال الاسم بزوال بعض الأجزاء، فيقال لهم: المركبات في ذلك على وجهين، منها: ما يكون التركيب شرطا في إطلاق الاسم، ومنها: ما لا يكون كذلك، فالأول كاسم العشرة …. ومنها ما يبقى الاسم بعد زوال بعض الأجزاء وجميع المركبات المتشابهة الأجزاء من هذا الباب وكذلك كثير من المختلفة الأجزاء، فإن المكيلات والموزونات كالحنطة تسمى حنطة وهي بعد النقص حنطة، وكذلك التراب والماء ونحو ذلك. وكذلك لفظ العبادة والطاعة …. وكذلك لفظ القرآن يقال على جميعه وعلى بعضه. . ومعلوم أن اسم (الإيمان) من هذا الباب فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة … » ثم من المعلوم أنه إذا زالت الإماطة ونحوها لم يزل اسم الإيمان. وقد ثبت عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان» فأخبر أنه يتبعض ويبقى بعضه والله أعلم.
الشبهة الرابعة:
قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}
وجه الدلالة: قالوا: والفاسق تحيط به جهنم فوجب أن يكون كافرا
الجواب: نقول: إن الآية تؤكد بأن جهنم محيطة بالكافرين وهو من أنواع عذاب الله لهم لكنها لم تقصر الإحاطة بهم؛ إذ أنه سبحانه لم يقل: وإن جهنم لا تحيط إلا بالكافرين وليس يلزم من كونها محيطة بقوم ألا تحيط بقوم سواهم، أي لا يلزم من كونها محيطة بالكافرين ألا تحيط بالفاسقين وعليه فلا دلالة في الآية على ما يزعمونه والله أعلم.
الشبهة الخامسة
استدلوا بعموم النصوص التي فيها الوعيد بالتخليد
لأصحاب الكبائر كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا}
وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}
وقوله تعالى: {وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} وغيرها كثير
وجه الاستدلال: قالوا هذه النصوص فيها الوعيد بالتخليد لأصحاب الكبائر في النار ولا يخلد في النار إلا الكفار.
الجواب: في الإجابة عن هذه النصوص أقوال منها.
الأول: أن المراد بالخلود لمستحل هذه الكبائر، والمستحل كافر إجماعا، والكافر مخلد لما روي عن ابن عباس في معنى قوله (متعمدا) أنه قال متعمدا: أي مستحلا لقتله فهذا يئول إلى الكفر إجماعا والكافر مخلد
وقال أبو السعود: ولا دليل في الآية على القول بخلود عصاة المؤمنين في النار لما قيل أنها في حق المستحل، كما هو رأي عكرمة وأحزابه، بدليل أنها نزلت في مقيس بن ضبابة الكناني المرتد.. .
وقال الطبري في قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} قال: فإن قال قائل: أو مخلد في النار من عصى الله ورسوله في قسمة الميراث؟ قيل: نعم. إذا جمع إلى معصيتهما في ذلك شكا في أن الله فرض عليه ما فرض على عباده في هاتين الآيتين، أو علم ذلك فحاد الله ورسوله في أمرهما
وقال الشوكاني في قوله: {وَلَا يَزْنُونَ} أي فيستحلون الزوجة المحرمة بغير نكاح. وعلى هذا فالآيات لا تتناول صاحب الكبيرة؛ لأنها في الكافر.
الثاني: أن الجزاء في الآيات ليس المقصود وقوعه وإنما الإخبار به
يقول الطبري: وقوله تعالى: {فَجَزَاؤُهُ} أي يستحق ما ذكره الله من العقاب إن شاء أن يجازيه وقال أبو السعود بمثل ذلك وإذا كان كذلك فلا دلالة في الآيات على تخليد أهل الكبائر في النار.
الثالث: وهو الأظهر: أن هذه النصوص مخصوصة بالنصوص الدالة على العفو بمشيئة الله، والتوبة، وأحاديث الشفاعة الدالة على إخراج الموحدين من النار.
يقول القرطبي بعد ذكر قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} الآية مخصوصة بآيات وأحاديث، فمن الآيات قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الآية، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}
وقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية.
وتوضيح ذلك أنه ليس الأخذ بظاهر هذه النصوص أولى من الأخذ بظاهر تلك النصوص، والأخذ بالظاهرين متناقض فلا بد من التخصيص.
وأما الأخبار المخصصة لعموم الآية فكثيرة، منها: حديث عبادة بن الصامت أنه – صلى الله عليه وسلم – قال: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا. . . إلى أن قال: فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه»
وحديث أبي هريرة في الرجل الذي قتل مائة نفس.
ثم إنهم _ الخوارج ومن وافقهم _ قد أجمعوا معنا في الرجل يشهد عليه بالقتل أو الزنا ويقر بأنه قتل أو زنى ويأتي السلطان فيقيم عليه الحد، فهذا غير نافذ عليه الوعيد في الآخرة إجماعا على مقتضى حديث عبادة. فقد انكسر عليهم ما تعلقوا به من عموم هذه النصوص ودخلها التخصيص بما ذكر. والله أعلم.
الشبهة السادسة:
قوله – صلى الله عليه وسلم -: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»
الجواب: يقول ابن حجر – بعد أن أورد هذا الحديث -: ولا مستمسك للخوارج فيه لأن ظاهره غير مراد … بل أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير معتمدا على ما تقرر من القواعد أن مثل ذلك لا يخرج عن الملة، مثل حديث الشفاعة، ومثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} أو أطلق عليه الكفر لشبهه به؛ لأن قتال المؤمن من شأن الكافر.
وقال ابن حزم: إن قوله – عليه الصلاة والسلام – (المسلم) هاهنا عموم للجنس ولا خلاف في أن من نابذ جميع المسلمين وقاتلهم لإسلامهم فهو كافر. برهان هذا هو ما ذكرنا قبل من نص القرآن في أن القاتل عمدا والمقاتل مؤمنان، وكلامه – صلى الله عليه وسلم – لا يتعارض ولا يختلف.
——
قال صاحبنا حمد الكعبي في مشاركته:
قال ابن تيميه رحمه الله في كتاب الإيمان الأوسط:
والعلماء قد تنازعوا في تكفير أهل البدع والأهواء وتخليدهم في النار، وما من الأئمة إلا من حكى عنه في ذلك قولان، كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وصار بعض أتباعهم يحكي هذا النزاع في جميع أهل البدع، وفي تخليدهم حتى التزم تخليدهم كل من يعتقد أنه مبتدع بعينه، وفي هذا من الخطأ ما لا يحصى، وقابله بعضهم فصار يظن أنه لا يطلق كفر أحد من أهل الأهواء، وإن كانوا قد أتوا من الإلحاد وأقوال أهل التعطيل والاتحاد.
والتحقيق في هذا أن القول قد يكون كفرًا كمقالات الجهمية الذين قالوا: إن الله لا يتكلم، ولا يرى في الآخرة، ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر، فيطلق القول بتكفير القائل، كما قال السلف: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ولا يكفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة كما تقدم، كمن جحد وجوب الصلاة، والزكاة، واستحل الخمر، والزنا وتأول. فإن ظهور تلك الأحكام بين المسلمين أعظم من ظهور هذه، فإذا كان المتأول المخطئ في تلك لا يحكم بكفره، إلا بعد البيان له واستتابته ـ
كما فعل الصحابة في الطائفة الذين استحلوا الخمر ـ
ففي غير ذلك أولى وأحرى، وعلى هذا يخرج الحديث الصحيح في الذي قال: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين. وقد غفر الله لهذا مع ما حصل له من الشك في قدرة الله وإعادته إذا حرقوه، وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع …. اهـ.