سلسلة التسهيل لأسماء الله الحسنى (27)
(من لديه فائدة أو تعقيب فليفدنا)
-مراجعة سيف بن دورة الكعبي.
-جمع وتأليف سيف بن غدير النعيمي.
=======================
(الودود)
*وروده في القرآن الكريم:
ورد اسم الله تعالى الودود مرتين في القرآن الكريم:
قال تعالى: (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُود) ٌ [هود:90]
وقال تعالى: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُود) ُ [البروج:14]
قال ابن جرير: (“ودود” يقول: ذو محبة لمن أناب وتاب إليه يوده ويحبه).
((جامع البيان)) (12/ 64).
وقال في قوله: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُود) ُ [البروج: 14]:
يقول تعالى ذكره وهو ذو المغفرة لمن تاب إليه من ذنوبه، وذو المحبة له).
((جامع البيان)) (30/ 89)، ونقل معناه ابن كثير (4/ 496).
*الودود من صيغ المبالغة وهي كلمة مثلثة معناها واحد من معانيها:
1ـ المحبة:
يأتي الود بمعنى المحبة، كما في قوله تعالى:
{لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}
(المجادلة الآية: 22)
2ـ التمني:
قال تعالى:
{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ}
(البقرة الآية: 96)
الشاهد: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ}
أي يتمنى أحدهم، من التمني.
3 ـ المعية و المرافقة و المصاحبة:
والودّ أيضاً في اللغة قد يأتي على معنى المعية، والمرافقة، والمصاحبة، وهذا كلازم من لوزام المحبة، إن أحببت إنساناً رافقته، صاحبته، كنت معه، ويدل على هذا المعنى حديث ابن عمر رضي الله عنهما ((أنَّ رجلًا من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله. وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، فقيل له: أصلحك الله! إنَّهم الأعراب، وإنَّهم يرضون باليسير.
فقال عبد الله: إنَّ أبا هذا كان وُدًّا لعمر بن الخطَّاب، وإنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنَّ أبَرَّ البِرِّ: صِلَة الولد أهل وُدِّ أبيه)).
رواه مسلم (2552).
قال النَّووي: ( … ((إنَّ أبا هذا كان وُدًّا لعمر)).
قال القاضي: رويناه بضم الواو وكسرها، أي: صديقًا من أهل مَوَدَّته، وهي محبَّته. انتهى كلام النووي
((شرح النووي على مسلم)) (16/ 109 – 110).
*ومن لطائف ودَّهُ: أنه لا يرفعه عن المذنبين، وإن تكررت ذنوبهم، فإذا تابوا منها وعادوا إليه شملهم بمحبته أعظم مما كانوا عليه .. أليس الله يحب التوابين؟
يقول ابن القيم “وهذا بخلاف ما يظنه من نقصت معرفته بربِّه من أنه سبحانه إذا غفر لعبده ذنبه فإنه لا يعود الودُّ الذي كان له منه قبل الجناية، واحتجوا فى ذلك بأثرٍ إسرائيليٍ مكذوب أن الله قال لداود: يا داود، أما الذنب فقد غفرناه، وأما الودُّ فلا يعود.
وهذا كذبٌ قطعاً، فإن الودُّ يعود بعد التوبة النصوح أعظمُ مما كان، فإنه سبحانه يحب التوابين، ولو لم يعد الودُّ لما حصلت له محبته، وأيضًا فإنه يفرح بتوبة التائب، ومحال أن يفرح بها أعظم فرح وأكمله وهو لا يحبه.
وتأمل سر اقتران هذين الاسمين فى قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِيءُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْودُود} [البروج: 13,14] .. تجد فيه من الرد والإنكار على من قال: لا يعود الودُّ والمحبة منه لعبده أبدًا، ما هو من كنوز القرآن ولطائف فهمه، وفى ذلك ما يُهَيِّج القلب السليم وياخذ بمجامعه ويجعله عاكفًا على ربِّه الذي لا إله إلا هو ولا ربُّ له سواه .. عكوف المحب الصادق على محبوبه الذي لا غنى له عنه، ولا بد له منه ولا تندفع ضرورته بغيره أبدًا.”
[طريق الهجرتين (23:98)]
قال السعدي: (“الودود” الذي يحب أنبياءه ورسله وأتباعهم، ويحبونه فهو أحب إليهم من كل شيء، قد امتلأت قلوبهم من محبته، ولهجت ألسنتهم بالثناء عليه، وانجذبت أفئدتهم إليه ودا وإخلاصاً وإنابة من جميع الوجوه).
((تيسير الكريم)) (5/ 302).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في
تفسيره لقوله تعالى: (وهو الغفور الودود … ):
___________________
قال تعالى: (وهو الغفور الودود * ذو العرش المجيد) [البروج:14 – 15].
.. الودود [البروج:14]: مأخوذة من الود، والود: هو خالص المحبة، فهو جل وعلا ودود.
وما معنى ودود؟ هل معناه أنه محبوب، أو أنه حاب؟
الجواب: يشمل الوجهين جميعا، قال الله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) [المائدة:54] فهو جل وعلا واد؛ يحب الأعمال، ويحب الأشخاص، ويحب الأمكنة.
وهو كذلك أيضا محبوب يحبه أولياؤه: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) [آل عمران:31].
فكلما كان الإنسان أتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحب إلى الله، فهو جل وعلا واد وهو أيضا مودود، أي: أنه يُحِب ويُحَب، يحب سبحانه وتعالى الأعمال، ويحب العاملين، ويحب الأشخاص، بمعنى: أن محبة الله قد تتعلق بشخص معين، مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام في يوم خيبر: (لأعطين الراية غدا رجلا يُحِب الله ورسوله ويُحِبُه الله ورسوله) فبات الناس، ثم غدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: (أين علي بن أبي طالب؟ قالوا: يشتكي عينيه، فدعا به، فأتى، فبصق في عينيه، فبرأ كأن لم يكن به وجع -في الحال-، ثم أعطاه الراية، وقال: انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام).
الشاهد قوله: (يُحِب الله ورسوله ويُحِبُه الله ورسوله) فهنا أثبت أن الله يحب هذا الرجل بعينه، وهو علي بن أبي طالب.
ولما بعث رجلا على سرية صار يقرأ لهم في الصلاة، ويختم بقراءة: (قل هو الله أحد) [الإخلاص:1] فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه بذلك؛ لأن عمله هذا غير معروف، أن الإنسان كلما قرأ في الصلاة يجعل آخر قراءته: (قل هو الله أحد) [الإخلاص:1] فقال: سلوه: لأي شيء كان يصنع ذلك! فسألوه، فقال: إنها صفة الله، وأنا أحب أن أقرأها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخبروه أن الله يحبه) فهنا تجدون محبة الله قد علقت بشخص معين. وقد تكون محبة الله معلقة بمعينين بأوصافهم، مثل قوله تعالى: (إن الله يحب المتقين) [التوبة:4].
وقوله تعالى: (إن الله يحب المحسنين) [البقرة:195].
وقوله تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) [الصف:4] هذا ليس فيه شخص معين؛ لكن فيه شخص موصوف بصفة. كذلك يحب الله سبحانه وتعالى الأماكن؛ فأحب البقاع إلى الله مساجدها.
وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (أن مكة أحب البقاع إلى الله) فهذه المحبة متعلقة بالأماكن.
فالله تعالى يحب ويحب، ولهذا قال: وهو الغفور الودود [البروج:14].
*ولم يرد اسم الودود في السنة، إنما ورد
في سرد الأسماء عند الترمذي وهو من إدراج الوليد بن مسلم كما تقدم.
*يقول ابن القيم في النونية:
وهوَ الودودُ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّهُ …
أحبابُهُ والفضلُ لِلْمَنَّانِ
وهوَ الذي جَعَلَ المَحَبَّةَ في قُلُو …
بِهِمُ وَجَازَاهُم بِحُبٍّ ثَانِ
هذا هوَ الإحسانُ حَقًّا لا مُعَا …
وَضَةً ولا لِتَوَقُّعِ الشُّكْرَانِ
لكنْ يُحِبُّ شُكُورَهُم وَشَكُورَهُم …
لا لاحْتِيَاجٍ منهُ للشُّكْرَانِ
[القصيدة النونية (245)]
(عجائب ودُّ الله)
يقول ابن القيم “ليس العجب من مملوك يتذلل لله ويتعبد له ولا يمل من خدمته مع حاجته وفقره إليه، إنما العجب من مالك يتحبب إلى مملوك بصنوف إنعامه ويتودد إليه بأنواع إحسانه مع غناه عنه.
كفى بك عزًّا أنك له عبد
وكفى بك فخراً أنه لك رب”
[الفوائد (1:38)]
الفرق بين الحبّ والودّ:
أنّ الحبّ يكون فيما يوجبه ميل الطباع والحكمة جميعاً ..
والودّ من جهة ميل الطباع فقط .. ألا ترى أنّك تقول: أحبّ فلاناً وأودّه، وتقول: أحبّ الصلاة، ولا تقول: أودّ الصلاة، وتقول: أودّ أنّ ذاك كان لي، إذا تمنّيتَ وِدادَه، وأودّ الرجل وُدّاً ومودّة ..
((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (1/ 121).
قال ابن سعدي _رحمه الله في فتح الرحيم الملك العلام: (الودود)
أي المتودد إلى خلقه بنعوته الجميلة، وآلائه الواسعة، وألطافه الخفية، ونِعَمِه الخفية والجليَّة، فهو الودود بمعنى الواد، وبمعنى المودود، يحب أولياءه وأصفياءه ويحبونه، فهو الذي أحبهم وجعل في قلوبهم المحبة، فلمّا أحبوه أحبهم حباً آخر جزاء لهم على حبِّهم.
فالفضل كلُّه راجع إليه، فهو الذي وضع كلَّ سبب يتوددهم به، ويجلب ويجذب قلوبهم إلى ودّه. تودَّد إليهم بذكر ما له من النعوت الواسعة العظيمة الجميلة، الجاذبة للقلوب السليمة والأفئدة المستقيمة، فإنَّ القلوب والأرواح الصحيحة مجبولة على محبة الكمال.
والله تعالى له الكمال التام المطلق، فكلُّ وصف من صفاته له خاصية في العبودية، وانجذاب القلوب إلى مولاها، ثم تودَّد لهم بآلائه ونعمه العظيمة التي بها أوجدهم، وبها أبقاهم وأحياهم، وبها أصلحهم، وبها أتم لهم الأمور، وبها كَمَّلَ لهم الضروريات والحاجيات والكماليات، وبها هداهم للإيمان والإسلام، وبها هداهم لحقائق الإحسان، وبها يسّر لهم الأمور، وبها فرّج عنهم الكربات وأزال المشقات، وبها شرع لهم الشرائع ويسّرها ونفى عنهم الحرج، وبها بيّن لهم الصراط المستقيم وأعماله وأقواله، وبها يسّر لهم سلوكه وأعانهم على ذلك شرعاً وقدراً، وبها دفع عنهم المكاره والمضار كما جلب لهم المنافع والمسارّ، وبها لطف بهم ألطافاً شاهدوا بعضها وما خفي عليهم منها أعظم.
فجميع ما فيه الخليقة من محبوبات القلوب والأرواح والأبدان
الداخلية والخارجية الظاهرة والباطنة، فإنَّها من كرمه وجوده، يتودد بها إليهم، فإنَّ القلوب مجبولة على محبة المحسن إليها، فأيُّ إحسان أعظم من هذا الإحسان الذي يتعذر إحصاء أجناسه فضلاً عن أنواعه، فضلاً عن أفراده، وكلُّ نعمة منه تطلب من العباد أن تمتلئ قلوبهم من مودته وحمده وشكره والثناء عليه.
ومن تودُّده أنَّ العبد يشرد عنه فيتجرأ على المحرِّمات، ويقصِّر في الواجبات. والله يستره ويحلم عنه ويمده بالنعم، ولا يقطع عنه منها شيئاً، ثم يقيّض له من الأسباب والتذكيرات والمواعظ والإرشادات ما يجلبه إليه، فيتوب إليه وينيب، فيغفر له تلك الجرائم، ويمحو عنه ما أسلفه من الذنوب العظائم، ويعيد عليه ودَّه وحبه. ولعل هذا والله أعلم سر اقتران الودود بالغفور في قوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)} [البروج].
ومن كمال مودته للتائبين: أنَّه يفرح بتوبتهم أعظم فرح يُقَدَّر، وأنَّه أرحم بهم من والديهم وأولادهم والناس أجمعين. وأنَّ من أحبّه من أوليائه كان معه وسدَّده في حركاته وسكناته، وجعله مجاب الدعوة وجيهاً عنده، كما في الحديث القدسي: «لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته».
وآثار حبه لأوليائه وأصفيائه عليهم لا تخطر ببال، ولا تحصيها الأقلام. وأما مودة أوليائه له فهي رُوْحهم ورَوْحهم وحياتهم وسرورهم، وبها فلاحهم وسعادتهم، بها قاموا بعبوديته، وبها حمدوه وشكروه، وبها لهجت ألسنتهم بذكره، وسعت جوارحهم لخدمته، وبها قاموا بما عليهم من
الحقوق المتنوعة، وبها كفّوا قلوبهم عن التعلق بغيره وخوفه ورجائه وجوارحَهم عن مخالفته، وبها صارت جميعُ محابهم الدينيةِ والطبيعيةِ تبعاً لهذه المحبة.
أما الدينية فإنَّهم لما أحبوا ربهم أحبوا أنبياءه ورسله وأولياءه، وأحبّوا كلَّ عمل يقرب إليه، وأحبّوا ما أحبه من زمان ومكان، وعمل وعامل.
وأما المحبة الطبيعية فإنَّهم تناولوا شهواتهم التي جبلت النفوس على محبتها من مأكل ومشرب، وملبس وراحة على وجه الاستعانة بها على ما يحبه مولاهم. وأيضاً فكما قصدوا بها هذه الغاية الجليلة فإنَّهم تناولوها بحكم امتثال الأوامر المطلقة في مثل قوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} [الأعراف: 31] ونحوها من الأوامر والترغيبات المتعلقة بالمباحات والراحات، فصار السبب الحامل لها امتثال الأمر، والغاية التي قصدت لها الاستعانة بها على محبوبات الرب، فصارت عاداتهم عبادات، وصارت أوقاتهم كلُّها مشغولة بالتقرّب إلى محبوبهم.
وكلُّ هذه الآثار الجميلة الجليلة من آثار المحبة التي تفضّل بها عليهم محبوبهم، وتقوى هذه الأمور بحسب ما في القلب من الحب الذي هو روح الإيمان، وحقيقة التوحيد، وعين التعبد، وأساس التقرب.
فكما أنَّ الله ليس له مثيل في ذاته وأوصافه، فمحبته في قلوب أوليائه ليس لها مثيل ولا نظير في أسبابها وغاياتها، ولا في قدرها وآثارها، ولا في لذتها وسرورها، وفي بقائها ودوامها، ولا في سلامتها من المنكِّدات والمكدِّرات من كلِّ وجه.