(بحث مجموع من أجوبة الإخوة وممن شارك الأخ أحمد بن علي وآخرين؛ بالتعاون مع مجموعة السلام، والمدارسة، والتخريج رقم 1)
[جمعها الأخ؛ سيف الكعبي]
مسألة: إذا وجبت الزكاة، وتمكن من أدائها، ثم مات قبل أن يخرجها؟
– اختلف الفقهاء في تأثير الموت على سقوط دين الزكاة إذا توفي من وجبت الزكاة في ماله قبل أدائها، وذلك على ثلاثة أقوال:
الأول: للشافعية والحنابلة، وهو أنه من وجبت عليه الزكاة وتمكن من أدائها، ولم يؤدها حتى مات، فإنها لا تسقط بموته، ويلزم إخراجها من رأس ماله وإن لم يوص بها، وهو مذهب عطاء والحسن البصري والزهري وقتادة وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر.
جاء في الأم: وإذا مات الرجل وقد وجبت في ماله زكاة وعليه دين وقد أوصى بوصاياه أخذت الزكاة من ماله قبل الدين والميراث والوصايا.
واحتجوا على ذلك؛ بأن دين الزكاة حق مالي واجب لزمه حال الحياة، فلم يسقط بموته، كدين العبد. ويفارق الصلاة، فإنها عبادة بدنية لا تصح الوصية بها ولا النيابة فيها.
وبعموم قوله تعالى في آية المواريث: {من بعد وصية يوصى بها أو دين} (1) حيث عمم سبحانه الديون كلها، والزكاة دين قائم لله تعالى وللمساكين والفقراء والغارمين وسائر من فرضها الله تعالى لهم بنص الكتاب المبين.
وبما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ (قال صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى). فدل ذلك على أن حقوق الله تعالى أحق أن تقضى، ودين الزكاة منها.
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما لما بعث معاذ رضي الله عنه إلى اليمن؛ وفيه (أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم) متفق عليه
قياسهما على دين الآدمي والحج، إذ إن الزكاة حق مالي واجب تصح الوصية به، فلا تسقط بموت من هي عليه كالدين، وكما أن الدين يخرج من جميع المال فكذلك الزكاة.
وقال ابن قدامة من الحنابلة: إذا كان عليه دين وضاق ماله عن الدين والزكاة اقتسموا ماله بالحصص كديون الآدميين إذا ضاق عنها المال، بل ويحتمل أن تقدم الزكاة إذا قلنا إنها تتعلق بالعين كما تقدم حق المرتهن عن سائر الغرماء بثمن الرهن لتعلقه به
قال النووي في المجموع:
وفي رواية (فالله أحق في الوفاء)
وهذا وارد في الحج فالاستدلال به معناه قياس الزكاة على الحج.
الثاني: للحنفية، وهو أن من مات، وعليه دين زكاة لم يؤده في حياته، فإنه يسقط بموته في أحكام الدنيا، ولا يلزم الورثة بإخراجها من تركته ما لم يوص بذلك، فإن أوصى بأدائها من تركته، فإنها تخرج من ثلثها كسائر الوصايا، وما زاد على الثلث لا ينفذ إلا بإجازة الورثة.
وهو قول ابن سيرين والشعبي والنخعي وحماد بن أبي سليمان وحميد الطويل وعثمان البتي وسفيان الثوري وغيرهم.
وتعليل ذلك أن المقصود من حقوق الله تعالى إنما هو الأفعال، إذ بها تظهر الطاعة والامتثال، وما كان ماليا منها، فالمال متعلق بالمقصود، وهو الفعل، وقد سقطت الأفعال كلها بالموت، لتعذر ظهور طاعته بها في دار التكليف، فكان الإيصاء بالمال الذي هو متعلقها تبرعا من الميت ابتداء، فاعتبر من الثلث.
وأيضا فإن الزكاة وجبت بطريق الصلة، ألا ترى أنه لا يقابلها عوض مالي، والصلات تبطل بالموت قبل التسليم.
وأيضا؛ المال انتقل بموته إلى الورثة.
والحنفية تفصيل في زكاة الزروع.
وهو مذهب مالك على تفصيل لهم في ذلك من اشتراط الوصية إن فرط في الزكاة وهل المال ظاهر أم باطن لكن في الجملة هم أقرب لهذا القول.
والظاهر أن عمدة الإمام مالك رحمه الله تعالى في عدم لزوم شيء إذا لم يوص بها سد الذريعة.
الوجه في ذلك: أنه إذا لزمت الورثة أدى ذلك إلى أن يترك الإنسان زكاة ماله طول عمره ربما … اعتمادًا على أن الورثة سيخرجونها بعد موته، وربما يتخذ ذلك ذريعة للإضرار بهم.
ولذلك تجعل من جنس الوصايا فتخرج من الثلث.
وأيضًا لو أجيز أخذ الوصية بالزكاة بأكثر من الثلث لجاز للإنسان أن يؤخر جميع زكاته طول عمره حتى إذا دنا من الموت وصى بها
الراجح:
قال ابن عثيمين:
والزكاة مقدمة على الوصية، وعلى الإرث.
وهذا فيما إذا كان الرجل لم يتعمد تأخير الزكاة، فإننا نخرجها من تركته، وتجزئ عنه، وتبرأ بها ذمته كرجل يزكي كل سنة، وتم الحول في آخر سنواته في الدنيا ثم مات، فهنا نخرجها وتبرأ بها ذمته.
أما إذا تعمد ترك إخراج الزكاة، ومنعها بخلاً ثم مات، فالمذهب [(38)] أنها تخرج وتبرأ منها ذمته.
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: إنها لا تبرأ منها ذمته ولو أخرجوها من تركته؛ لأنه مصِرٌّ على عدم الإخراج فكيف ينفعه عمل غيره؟ وقال: إن نصوص الكتاب والسنة وقواعد الشرع تدل على هذا [(39)].
وما قال ـ رحمه الله ـ صحيح في أنه لا يجزئ ذلك عنه، ولا تبرأ بها ذمته.
ولكن كوننا نسقطها عن المال هذا محل نظر؛ فإن غلبنا جانب العبادة، قلنا: بعدم إخراجها من المال؛ لأنها لا تنفع صاحبها، وإن غلبنا جانب الحق؛ أي: حق أهل الزكاة، قلنا: بإخراجها؛ لنؤدي حقهم، وإن كانت عند الله لا تنفع صاحبها.
والأحوط أننا نخرجها من تركته؛ لتعلق حق أهل الزكاة بها، فلا تسقط بظلم من عليه الحق، وسبق حقهم على حق الورثة، ولكن لا تنفعه عند الله؛ لأنه رجل مصر على عدم إخراجها.
إذا مضت عليه سنون لا يؤدي الزكاة، ثم أراد إخراجها؟
قال النووي: إذا مضت عليه سنون ولم يؤد زكاتها؛ لزمه إخراج الزكاة عن جميعها، سواء علم وجوب الزكاة أم لا، وسواء كان في دار الإسلام أم دار الحرب.
قال ابن المنذر: لو غلب أهل البغي على بلد، ولم يؤد أهل ذلك البلد الزكاة أعواما، ثم ظفر بهم الإمام؛ أخذ منهم زكاة الماضي في قول مالك والشافعي وأبي ثور، قال: وقال أصحاب الرأي: لا زكاة عليهم لما مضى. وقال أصحاب الرأي: لو أسلم قوم في دار الحرب، وأقاموا سنين، ثم خرجوا إلى دار الإسلام؛ لا زكاة عليهم لما مضى والله أعلم.
الراجح: الوجوب لأنها حق المال فلا تسقط بالبخل أو الجهل (شرح البلوغ لابن حزام ص394)
قال ابن عثيمين: إذا مات وعليه دين ‘زكاة فأيهما يقدم:
في المسألة ثلاثة أقوال:
قال بعض العلماء: يقدم دين الآدمي؛ لأنه مبني على المشاحة؛ ولأن الآدمي محتاج إلى دفع حقه إليه في الدنيا، أما حق الله فالله غني عنه، وحقه سبحانه وتعالى مبني على المسامحة.
وقال بعض العلماء: يقدم حق الله لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اقضوا الله فالله أحق بالوفاء».
وقال بعض العلماء: إنهما يتحاصان؛ لأن كلاً منهما واجب في ذمة الميت، فيتساويان، ويجاب عن الحديث أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يحكم بين دينين أحدهما للآدمي، والثاني لله، وإنما أراد القياس؛ لأنه سأل: «أرأيتِ لو كان على أمكِ دين أكنتِ قاضيتَهُ؟» قالت: نعم، قال: «اقضوا الله فالله أحق بالوفاء» [(40)].
فكأنه قال: إذا كان يقضى دين الآدمي، فدين الله من باب أولى وهذا هو المذهب، وهو الراجح.
الشرح الممتع للعثيمين
وقال الشيخ ابن باز:
إذا كان الميت ما زكى ماله، فعلى الورثة أن يزكّوا المال إذا كان مورثهم لم يؤدِّ الزكاة سنة أو سنتين، وجب عليهم إخراجها.
نور على الدرب ابن باز