بحث مجموع من أجوبة الإخوة وممن شارك الأخ أحمد بن علي وآخر لا أذكر أسمه)
[جمعها الأخ؛ سيف الكعبي]
(من لديه فائده أو تعقيب)
بحث؛ {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}:
لما أبطل الله تعالى في هذه السورة مذاهب المشركين: منَ ادعائهم الأنداد والشركاء له سبحانه وتعالى، وطعنهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وافترائهم الكذب على الله في التحليل والتحريم, مع قولهم نحن على ملة أبينا إبراهيم، جاءَت هذه الآية للثناء على إِبراهيم ووصفه بصفات تدل دلالة قاطعة على أنه عليه السلام، بريءٌ من الشرك والمشركين وأنهم أعق الأبناء لأَكرم الآباء.
المعنى: إن إبراهيم كان أمة أي بمنزلة جماعة عظيمة في الإيمان باللهِ وحده والإِخلاص له في العبادة. اهـ:
وذلك لاستجماعه من الخيرات والفضائل ما لا يكاد يوجد إلا متفرقا في أمه
فهو إمام الموحدين , وقدوة أَهل اليقين، نصب أدلة التوحيد ورفع أعلامه، وخفض رايات الشرك وحطَّم أصنامه، وبذل نفسه وأسلم وجهه لله رب العالمين. وقال مجاهد: سمِّى عليه السلام أُمة، لانفراده بالإيمان في وقته مدةً ما. وفي صحيح البخاري ومسلم أنه قال لامرأته: يا سارَّة، ليس على وجه الأرض مؤْمن غيري وغيرك ..
والأمام: الإمام المعلم الناس الخير، وسماه أمة لئلا يستوحش سالك طريق الخير مع قلة السالكين.
وقد نال هذه الصفه بفضل من الله تعالى؛ وما ذاك إلا لتكميله مقام الصبر واليقين اللذين تنال بهما الإمامة في الدين.
{قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}:
أي مطيعًا لله سبحانه، مائلا عن كل دين باطل إلى دين الحق غير زائل عنه.
والقانت: الخاشع المطيع لله. والقنوت: دوام الطاعة.
{وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} في أَمر من أمور دينهم، صرح بذلك مع ظهوره للرد على كفار قريش في قولهم: نحن على ملة أبينا إبراهيم، وزعمهم أَنه عليه السلام كان علي ما هم عليه.
الكتاب: التفسير الوسيط للقرآن الكريم
المؤلف: مجموعة من العلماء بإشراف مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر
قوله – تعالى -: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً (الآية.
والأمة: هو الذي يؤتم به؛ قال – تعالى -: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ([البقرة: 124] قال مجاهد: كان مؤمناً وحده، والنَّاس كلهم كانوا كفَّاراً، فلهذا المعنى كان وحده أمَّة، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول في زيد بن عمرو بن نفيل: ” يَبْعثهُ الله أمَّةً وحْدَهُ “. وقيل: إنَّه – صلوات الله وسلامه عليه – هو السَّبب الذي لأجله جعلت أمَّته ممتازين عمَّن سواهم بالتَّوحيد والدِّين الحقِّ، ولما جرى مجرى السبب لحصول تلك الأمة سمَّاها الله تعالى بالأمة إطلاقاً لاسم المسبب على السَّبب.
والأمة تطلق على الجماعة؛ لقوله – تعالى -: (أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ([القصص: 23] وتطلق على أتباع الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام -، كقولك: نحن من أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) وتطلق على الدِّين والملَّة؛ كقولهم: (إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ([الزخرف: 23] وتطلق على الحين والزمان؛ كقوله – تعالى -: (إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ ([هود: 8] وقوله – جل ذكره -: (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ([يوسف: 45] أي: بعد حين، وغيرها من المعاني.
قوله تعالى: (قَانِتاً لِلَّهِ (القانت: هو القائم بأمر الله تعالى. وقال ابن عبَّاس: مطيعاً لأمر الله تعالى. والقانت قال شيخ الإسلام؛:الدائم الطاعة {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}
قوله تعالى: ” حَنِيفاً “: [مائلاً] إلى ملَّة الإسلام ميلاً لا يزول عنه، وقيل حنيفاً: مستقيماً على دين الإسلام. وقيل: مخلصاً
وقيل حنيفا: مائلا عن الشرك قاصدا إلى التوحيد.
(وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي: أنَّه كان من الموحِّدين في الصِّغر والكبر، أما في حال صغره: فإنكاره بالقول للكواكب على عدم ربوبيتها، وأما في كبره: فمناظرته لملك زمانه، وكسر الأصنام حتى آل أمره أنه ألقي في النار.
{وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120] يَقُولُ: وَلَمْ يَكُ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، فَيَكُونُ مِنْ أَوْلِيَاءِ أَهْلِ الشِّرْكِ بِهِ، وَهَذَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَهْلَ الشِّرْكِ بِهِ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ مِنْهُمْ بَرِيءٌ، وَأَنَّهُمْ مِنْهُ بَرَاءٌ {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل: 121] يَقُولُ: كَانَ يُخْلِصُ الشُّكْرَ للَّهِ فِيمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجْعَلْ مَعَهُ فِي شُكْرِهِ فِي نِعَمِهِ عَلَيْهِ شَرِيكًا مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا يَفْعَلُ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ. {اجْتَبَاهُ} [النحل: 121] يَقُولُ: اصْطَفَاهُ وَاخْتَارَهُ لِخُلَّتِهِ. {وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 121] يَقُولُ: وَأَرْشَدَهُ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَذَلِكَ دِينُ الْإِسْلَامِ، لَا الْيَهُودِيَّةِ وَلَا النَّصْرَانِيَّةِ (تفسير الطبري) فهو سالم من الشرك في القول والعمل والاعتقاد.
قلت: يوضح هذا قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} أي على دينه من إخوانه المرسلين، قاله ابن جرير – رحمه الله تعالى -: {إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَأَىءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} 2، وذكر تعالى عن خليله – عليه السلام – أنه قال لأبيه آزر: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيّاً} 3 فهذا هو تحقيق التوحيد. وهو البراءة من الشرك وأهله، واعتزالهم والكفر بهم وعداوتهم وبغضهم. فالله المستعان.
————–
فالخلاصة؛
يخبرنا الله -سبحانه وتعالى- في هذه الآية الكريمة أن رسوله إبراهيم -عليه السلام- كان إماما في الدين ومعلما للخير، ودائما في خشوعه وطاعته
لربه، وأنه معرض عن الشرك بكله، مقبل على التوحيد بجمعه خالصا من الشرك بجميع أنواعه قولا وعملا واعتقادا.
————–
الفوائد:
1. أن التوحيد أصل الأديان كلها.
2. وجوب الاقتداء بإبراهيم في إخلاصه لله.
3. ينبغي للداعية أن يكون قدوة بنفسه للغير.
4. دوام العبادة من صفات الأنبياء.
5. لا يصح التوحيد إلا بإنكار الشرك.
6. الرد على قريش الجاهلية الذين زعموا أنهم على ملة إبراهيم في شركهم.
- لا ينال الإمامة أحد من الظالمين؛ قال الله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة: 124] فبين أن عهده بالإمامة لا يتناول الظالم، فلم يأمر الله سبحانه أن يكون الظالم إماما، وأعظم الظلم الشرك.
8. وفيه رد على اليهود والنصارى بدعواهم أن إبراهيم عليه السلام ينتسب إليهم؛ قال تعالى: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين} [آل عمران: 68].
وقال تعالى: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين} [آل عمران: 67]
9. إكرام الله عز وجل إبراهيم بالإمامة؛ بسبب أقواله وأفعاله وجهاده؛ فإنه جاهد قومه وحصل منهم عليه ما حصل، وألقي في النار فصبر. ثم ابتلاه الله سبحانه وتعالى – بالأمر بذبح ابنه، وهو وحيده،
10. نشَّأ إبراهيم أبناءه على التوحيد؛ لذا تبعوه في الدعوة والصبر؛ ومنه قول إسماعيل عليه السلام {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.
فالسين في قوله: ستجدني تدل على التحقيق، وهو مع ذلك لم يعتمد على نفسه، بل استعان بالله في قوله: {إِنْ شَاءَ اللَّهُ}.
11. فضيلة دوام الطاعة؛ لذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يذكر الله عزوجل على كل أحيانه.
12. طلب الترقي في مراتب الصبر ومراتب اليقين؛ كحال إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ حيث بلغ أعلى مراتبه.
13. ثناء الله على أحد من خلقه؛ يقصد منه أمران هامان:
الأول: محبة هذا الذي أثنى الله عليه خيرا، كما أن من ذكره الله عزوجل بالشر؛ فإننا نبغضه ونكرهه.
الثاني: أن نقتدي به في هذه الصفات التي أثنى الله بها عليه؛ لأنها محل الثناء، ولنا من الثناء بقدر ما اقتدينا به فيها، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111] - و (أل) -كما هو معلوم في العربية- إذا دخلت على اسم الفاعل، أو اسم المفعول، فإنها تكون موصولة؛ والاسم الموصول عند الأصوليين يدل على العموم، فيكون معنى قوله-إذا- (ولم يك من المشركين) إنه لم يك فاعلا للشرك بأنواعه، ولم يك منهم.
15. المباعدة عن الشرك وأهله فقوله تعال: (ولم يك من المشركين) يدل؛ على أنه ابتعد عنهم، لأن (من) تحتمل أن تكون تبعيضية، فتكون المباعدة بالأجسام، ويحتمل أن تكون بيانية، فتكون المباعدة بمعنى الشرك.
16. ثبت في الصحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من غير وجه أنه قال: «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا» وقال: «لو كنت متخذ من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله» – وقال: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» وكل هذا في الصحيح. وفيه أنه قال: ذلك قبل موته بأيام، وذلك من تمام رسالته.
فإن في ذلك تحقيق تمام مخاللته لله التي أصلها محبة الله تعالى للعبد، ومحبة العبد لله خلافا للجهمية.
وفي ذلك تحقيق توحيد الله، وأن لا يعبدوا إلا إياه، ورد على أشباه المشركين.
وفيه رد على الرافضة الذين يبخسون الصديق حقه، وهم أعظم المنتسبين إلى القبلة.
” والخلة ” هي كمال المحبة المستلزمة من العبد كمال العبودية لله، ومن الرب سبحانه كمال الربوبية لعباده الذين يحبهم ويحبونه، ولفظ العبودية يتضمن كمال الذل، وكمال الحب، (الفتاوى الكبرى لابن تيمية).
مناسبة الآية للباب:
حيث دلت الآية الكريمة على أن من اتصف بهذه الصفات الأربع، فقد استحق الجنة كما استحقها إبراهيم بغير حساب ولا عقاب.