(بحث مجموع من أجوبة الإخوة وممن شارك الأخ أحمد بن علي وسعيد بن راشد الكلباني وفيصل وأبو عبدالله)
[جمعها الأخ؛ سيف الكعبي]
أرسل بعض الأخوة بحث طيب حول هذه المسألة فأضفت إليه إضافات يسيرة؛
أجمع العلماء على وجوب الزكاة في مال المسلم البالغ العاقل (5)، لكنهم اختلفوا في وجوبها في مال الصبي والمجنون ومن في حكمهما، مثل: المعتوه، والعبد المكاتب، ونحوهم ممن لا يستطيعون الاستقلال في التصرفات المالية.
والمراد بالصبي، هو: غير البالغ، والبلوغ يعرف بأمارات طبيعية أو بالسن، أما الأمارات فمنها متفق عليها، مثل: الاحتلام، والحيض، والحمل، ومنها مختلف في تحقق البلوغ بها، مثل: غلظ الصوت.
أما السن التي يحصل بها البلوغ فهي خمس عشرة سنة عند الشافعية (6)، والحنابلة (7)، وهو المفتى به عند الحنفية (8)، ودليلهم على ذلك: خبر ابن عمر رضي الله عنهما عندما قال: «عُرِضْت عَلَى النَّبيّ ? يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي – في المقاتلة-، وَعُرِضْت عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَجَازَنِي» (9).
ويرى المالكية أن سن البلوغ تمام ثماني عشرة سنة (10)، وهو قول أبي حنيفة في الذكر، أما الأنثى فسن بلوغها عنده سبع عشرة سنة (11)، ووجهتهم أن تلك السن هي التي يقع فيها اليأس من الاحتلام.
والراجح في ذلك قول الجمهور؛ لاستناده إلى النص، وعلى هذا فإذا لم يحصل بلوغ طبيعي ثبت بلوغ الصبي أو الصبية خمس عشرة سنة.
أما المجنون فهو من أصابه الجنون وهو اختلال في العقل ينشأ عنه اضطراب وهيجان، وقد يكون مطبقًا، أي: مستمرًا، أو غير مطبق، أي: متقطع، وأيضًا فقد يكون أصليًّا، وقد يكون طارئًا، فالأصلي أن يبلغ الشخص مجنونًا، والطارئ هو ما يقع بالشخص بعد بلوغه عاقلًا.
والمراد بالجنون هنا عند الحنفية الجنون الأصلي وكذا الطارئ الذي يدوم سنة أو أكثر، أما الطارئ الذي لا يدوم سنة فالصحيح أن صاحبه يُعَد كالسليم بالنسبة للزكاة (12)، ووجهتهم في ذلك: أن السنة للزكاة كالشهر، أي: شهر رمضان بالنسبة للصوم والإفاقة، فالإفاقة في جزء من الشهر توجب صوم الشهر، فكذا الإفاقة في جزء من السنة تكفي لانعقاد الحول على المال، قال أبويوسف: العبرة في الطارئ الذي لا يدوم سنة بأكثر السنة، فإن أفاق أكثر السنة كان كالصحيح، وإلا فلا، لأن للأكثر حكم الكل، فمن كان مفيقًا في معظم السنة عُدَّ مفيقًا في كلها.
هذا والذي يجن ويفيق كالصحيح، لأنه بمنزلة النائم والمغمى عليه وهؤلاء كالصحيح بالنسبة للزكاة.
أما المعتوه فهو قليل الفهم مختلط الكلام فاسد التدبير وإن كان لا يضرب ولا يشتم كما يفعل المجنون، وهو في حكم الصحيح بالنسبة للزكاة (13).
وبعد هذا التوضيح لمفردات العنوان أقول: اختلف الفقهاء في وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون، إلا أن هذا الخلاف يتطلب منا الوقوف على محل تحرير النزاع أولًا، فأقول: إن الاتفاق قائم على وجوب إخراج زكاة الفطر عن الصبي، وعن المجنون؛ وذلك لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: «فرض رسول الله ص زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ أَوْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» (14).
وكذلك الاتفاق قائم على وجوبها في زكاة مال أبي الصبي والمجنون إن لم يكن للصبي أو المجنون مال (15)، لأن نفقتهما واجبة على الأب، أما إن كان لهما مال فقد اتفق عامة أهل العلم على وجوبها في مالهما؛ لأنها حق الفقير والمسكين، وحق العبد لا يمنع وجوبه صِبًى ولا جنون، ولم يخالف في هذا أحد سوى محمد بن الحسن وزفر من الحنفية (16)، حيث قالا بوجوبها حينئذ في مال أبيه أيضًا، أي: كما لو لم يكن للصبي أو المجنون مال، ووجه قولهما: إنها عبادة والعبادات لا تجب على الصبي أو المجنون كالصوم والصلاة.
والراجح القول الأول؛ لأنها ليست عبادة محضة كما سيتبين لنا فيما بعد، مع العلم أن الخلاف الآتي إنما هو في غير زكاة الفطر، وبيانه على النحو التالي:
اختلف الفقهاء في وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون على عدة آراء يمكن إجمالها في رأيين، بيانهما فيما يلي:
الرأي الأول: ذهب جمهور العلماء من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وأهل الظاهر، إلى أن الزكاة عبادة مالية واجبة في مال الصبي والمجنون مطلقًا ذكرًا كان أو أنثى، أي: سواء أكان زروعًا أم ثمارًا، وسواء أكان ظاهرًا كالنعم، أم باطنًا كالذهب، وسواء أكان ينمى ويستثمر أم كان لا ينمى (17)، وهذا مروي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم منهم أم المؤمنين عائشة، وابن عمر، وعلي بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم (18).
لكن هؤلاء قد اختلفوا فيمن يتولى إخراج تلك الزكاة، أهو الولي أم الصبي بعد بلوغه والمجنون بعد إفاقته؟ فذهب أكثرهم إلى أنه الولي فإن لم يفعل تقصيرًا أو اعتقادًا لعدم وجوبها في مالهما وجب على كل منهما بعد البلوغ أو الإفاقة إخراجها عما مضى من سنين (19).
وذهب ابن مسعود والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلي إلى أنه الصبي بعد بلوغه والمجنون بعد إفاقته أي: إنها تجب في مال كليهما لكن لا تخرج منه حتى يبلغ الصبي أو يفيق المجنون فيخبره الولي بما عليه من زكاة فيقوم بدفعها (20).
وبناء على هذا القول، فالولي ينوب عنهما في إخراج زكاة أموالهما، وتفريقها، ومن ثم ينوي عنهما؛ لأنهما لا نية لهما، فلما تعذرت منهما قام بها الولي قياسًا على الإخراج عنهما (21).
إذن الولي يقوم مقامهما في أداء ما عليهما، ومن ثم تعتبر نيته في الإخراج كما تعتبر النية من رب المال، وذلك باتفاق القائلين بوجوب الزكاة في أموالهما في الجملة (22).
وقال النووي في المجموع (5/ 302):
” الزكاة عندنا واجبة في مال الصبي والمجنون بلا خلاف، ويجب على الولي إخراجها من مالهما كما يخرج من مالهما غرامة المتلفات، ونفقة الأقارب وغير ذلك من الحقوق المتوجهة إليهما , فإن لم يخرج الولي الزكاة وجب على الصبي والمجنون بعد البلوغ والإفاقة إخراج زكاة ما مضى ; لأن الحق توجه إلى مالهما , لكن الولي عصى بالتأخير فلا يسقط ما توجه إليهما ” انتهى
وقريب منه كلام ابن قدامة في المغني
الرأي الثاني: لا تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون، وبعض من ذهب إلى ذلك لا يستثنون شيئًا من المال وهم سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والشعبي والحسن البصري كما حكى ابن رشد عنه، لكن أكثرهم يستثنون بعض أموالهما فيوجبون الزكاة فيه، ومعظم هؤلاء يستثنون زروع وثمار كل من الصبي والمجنون فيوجبون الزكاة فيهما، وهؤلاء هم الحنفية وزيد بن علي وجعفر الصادق من أئمة الشيعة، وبعضهم يستثنون أموالهما الظاهرة، أو النامية كالنعم والثمار والزروع فيوجبون فيها الزكاة وهم ابن شبرمة والحسن البصري كما حكى ابن حزم عنه (23).
والسبب في الاختلاف أمران:
الأول: اختلاف العلماء في مفهوم الزكاة الشرعية، هل هي عبادة كالصلاة والصيام أم هي حق العبد للفقراء ونحوهم على الأغنياء؟ فمن قال: إنها عبادة، قال: الصبي والمجنون ليسا من أهل وجوب العبادة، فلا تجب عليهما الزكاة كما لا تجب عليهما الصلاة والصوم، ومن قال: إنها حق العبد، قال: الصبي والمجنون من أهل وجوب حقوق العباد كضمان المتلفات وأروش الجنايات ونفقة الأقارب والزوجات (24).
الثاني: لقد وردت بعض الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على وجوب الزكاة في أموال الصغار، ومن ثبتت عنده تلك الأحاديث، قال: بوجوب الزكاة في أموالهم، ومن لم تثبت عنده تلك الأحاديث، أو رآها أضعف من أن تخصص العمومات الواردة بعدم تكليفهم، قال: بعدم وجوب الزكاة في أموالهم (25).
وقد استدل القائلون بوجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون بأدلة كثيرة هاك بعضًا منها:
الدليل الأول: النصوص العامة في الزكاة الواردة في الكتاب والسنة والتي دلت على وجوب الزكاة في أموال المسلمين ولم تفصل بين البالغين والصبيان ولا بين العقلاء والمجانين، بل أمرت بأخذ الصدقة من أموال المسلمين عمومًا دون استثناء لمال الصبي والمجنون، ومنها قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقه} (التوبة:103)، فهذا النص عام في كل صغير وكبير وعاقل ومجنون؛ لأنهم جميعًا بحاجة إلى التطهير والتزكية والدعاء، ومنها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: « … فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» (26)، فهذا النص أيضًا عام يشمل كل أغنياء المسلمين صغارًا أو كبارًا، عقلاء أو مجانين، كما أنه عام في فقرائهم، إذ لم يقل أحد بأن الصغير الفقير أو المجنون الفقير لا يأخذ من الزكاة.
الدليل الثاني: إن المقصود من الزكاة هو مواساة الفقير والمسكين، وتطهير مال الغني وحصوله على الثواب، وكل من الصبي والمجنون بحاجة إلى التطهير والثواب، كما أنهما من أهل المواساة، ولهذا يجب في مالهما نفقة أصولهما وفروعهما المحتاجين، وإذا ملك أي منهما أباه الرقيق فإنه يعتق عليه ويصير حرًّا بمجرد ملكه إياه، فتجب الزكاة في أموالهما.
الدليل الثالث: الزكاة حق العباد، والصبي والمجنون أهل بالاتفاق لوجوب حقوق العباد في أموالهما كضمان المتلفات، وأروش الجنايات، ونفقة الأقارب والزوجات، ويدل على أنها حق العبد ما يلي:
– قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} (التوبة:60)، وقوله جل وعلا: {والذين في أموالهم حق معلوم < للسائل والمحروم} (المعارج: (24) -25)، والإضافة بحرف اللام تقتضي الاختصاص على جهة الملك إذا كان المضاف إليه من أهل الملك كما في الآيتين الكريمتين.
– الإجماع على أن من عليه الزكاة إذا وهب جميع النصاب للفقير بدون نية أداء الزكاة سقطت عنه الزكاة، والعبادة لا تحصل بدون نية، فدل ذلك على أنها حق للعبد.
– الزكاة يجري فيها الجبر على الأداء والاستخلاف من الساعي، ويصح فيها توكيل الذمي بأدائها وهو ليس من أهل العبادات، لأن شرط صحة أداء العبادات الإسلام، ولو كانت الزكاة عبادة ما صح ذلك.
الدليل الرابع:
1 – أن الزكاة حق المال قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا). فالزكاة واجبة في المال، فهي عبادة مالية تجب متى توفرت شروطها، كملك النصاب، ومرور الحول.
الدليل الخامس: ما رواه الترمذي (641) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: (أَلا مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ وَلا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَاكُلَهُ الصَّدَقَةُ) وهو حديث ضعيف وكذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، ضعفها النووي في المجموع (5/ 301) والألباني في ضعيف الترمذي. وراجع علل الدارقطني 2/ 156 حيث رجح الموقوف، والشاهد الذي ذكره ابن حجر في البلوغ 592 فيه علتان: علة الإرسال وعنعنة ابن جريج
وقد ثبت ذلك من قول عمر رضي الله عنه، رواه عنه عبدالرزاق 4/ 68 وابن أبي شيبة 3/ 150، والبيهقي (4/ 178) وقال: إسناده صحيح. وأقره النووي على تصحيحه كما في “المجموع”.
الدليل السادس: حكى ابن المنذر وجوب الزكاة في مال الصبي عن عمر بن الخطاب وعلي وابن عمر وعائشة وجابر رضي الله عنهم.
وأموالهم كلها صحيحة محتج بها أخرجها عبدالرزاق 4/ 66 وابن أبي شيبة 3/ 149 والبيهقي 4/ 107
روى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه قال: كانت عائشة تليني وأخا لي يتيمين في حجرها فكانت تخرج من أموالنا الزكاة ” انتهى.
تنبيه 1:جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ أنه قال: من ولي يتيما، فليحص عليه السنين، فإذا دفع إليه ماله أخبره بما فيه من الزكاة؛ فإن شاء زكَّى، وإن شاء ترك. أخرجه عبدالرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي و فيه علتان: إحداهما: ليث بن أبي سليم ضعيف مختلط، والثانية: انقطاع بين مجاهد، وابن مسعود.
تنبيه 2: ذهب من المعاصرين بالقول بوجوب الزكاة في مال الصبي؛ علماء اللجنة الدائمة وابن باز في فتاويه وابن عثيمين.
(9) ابريل، (2014) (11): (29) م – احمد بن علي: بسم الله الرحمن الرحيم
بحث في بيان حكم إحياء ديار ثمود
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
هذا بحث في بيان حكم إحياء ديار ثمود: فمن العلماء من منعه، ومنهم من أجازه، ولكل منهما مستند.
وفيما يلي بيان لبعض القائلين بكل قول، وبيان أدلتهم، ووجه الدلالة منها، والمقارنة بين الأدلة، وذكر بعض النظائر، ويختم البحث بذكر حكمة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن دخول ديار ثمود، ثم بعد ذلك قائمة بأسماء المصادر التي أعد هذا البحث منها، والله ولي التوفيق.
أما القائلون بالمنع: فمنهم أحمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي، وأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ومحمود بن أحمد العيني، ومحمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية، والإمام أحمد، والحارثي وغيرهم، واستدلوا بما أخرجه البخاري في [صحيحه] بسنده، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر
(الجزء رقم: 3، الصفحة رقم: 52)
قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين ثم قنع رأسه، وأسرع السير حتى أجاز الوادي وأخرج أيضا بسنده، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثلما أصابهم.
وأخرج البخاري أيضا بسنده، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم.
وأخرج البخاري في [صحيحه] بسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألا يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها، واستقينا، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء.
وقال البخاري: ويروى عن سبرة بن معبد، وأبي الشموس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإلقاء الطعام، وقال أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: من اعتجن بمائه.
ثم ساق البخاري بسنده، عن عبيد الله، عن نافع، أن ابن عمر رضي الله عنهما أخبره: أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض ثمود الحجر،
(الجزء رقم: 3، الصفحة رقم: 53)
واستقوا من بئرها، واعتجنوا به، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا من بئارها، وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كان تردها الناقة، تابعه أسامة عن نافع.
ثم ساق البخاري بسنده، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم، ثم تقنع بردائه وهو على الرحل.
ثم ساق البخاري بسنده عن سالم، أن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم.
هذه الأدلة التي سبقت؛ منها ما أخرجه البخاري مسندا، ومنها ما رواه معلقا بصيغة التمريض، ومنها ما رواه بصيغة الجزم، ومنها ما ذكره على سبيل المتابعة.
أما ما ذكره مسندا فقد أشير إليه فيما سبق، وأما ما رواه معلقا بصيغة التمريض فإنه ذكر حديثين بين ابن حجر رحمه الله اتصال سند كل منهما فقال: أما حديث سبرة بن معبد فوصله أحمد والطبراني من طريق عبد العزيز بن الربيع بن سبرة بن معبد عن أبيه عن جده سبرة – وهو بفتح المهملة وسكون الموحدة – الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين
(الجزء رقم: 3، الصفحة رقم: 54)
راح من الحجر: من كان عجن منكم من هذا الماء عجينة، أو حاس به حيسا فليلقه.
وأما حديث أبي الشموس – وهو بمعجمة، ثم مهملة، وهو بكري لا يعرف اسمه، فوصل حديثه البخاري في [الأدب المفرد] والطبراني وابن منده من طريق سليم بن مطير عن أبيه عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك – فذكر الحديث – وفيه فألقى ذو العجين عجينه، وذو الحيس حيسه، ورواه ابن أبي عاصم، من هذا الوجه، وزاد فقلت: يا رسول الله قد حسيت حيسة، أفألقمها راحتلي؟ قال: نعم.
وأما المعلق بصيغة الجزم فهو حديث واحد، قال ابن حجر، وصله البزار من طريق عبد الله بن قدامة عنه، أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فأتوا على واد، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم إنكم بواد ملعون، فأسرعوا وقال: من اعتجن عجينة أو طبخ قدرا فليكبها الحديث، وقال: لا أعلمه إلا بهذا الإسناد.
وأما ما أخرجه البخاري على سبيل المتابعة فقد قال ابن حجر. قوله: (تابعه أسامة) يعني: ابن زيد الليثي، (عن نافع) أي: عن ابن عمر روينا هذه الطريق موصولة في حديث حرملة عن ابن وهب قال: أخبرنا أسامة بن زيد – فذكر حديث عبيد الله، وهو ابن عمر العمري، وفي آخره: وأمرهم أن ينزلوا على بئر ناقة صالح ويستقوا منها.
هذه أدلة القائلين بالمنع، أما وجه استدلالهم بها فقد قال
(الجزء رقم: 3، الصفحة رقم: 55)
الخطابي: وفيه دلالة على أن مساكن هؤلاء لا تسكن بعدهم، ولا تتخذ وطنا؛ لأن المقيم المستوطن لا يمكنه دهره باكيا أبدا، وقد نهي أن تدخل دورهم إلا بهذه الصفة، وفيه المنع من المقام بها والاستيطان.
انتهى بواسطة نقل الكرماني عنه.
وقال ابن حجر: وفي الحديث الحث على المراقبة، والزجر عن السكنى في ديار المعذبين، والإسراع عند المرور بها.
وذكر العيني وجه الدلالة، كما ذكره الخطابي، إلا أنه أبدل لفظة (مساكن) التي ذكرها الخطابي – أبدلها بقوله: (ديار)، كما ذكر الجملة الأخيرة من كلام ابن حجر.
وقال ابن القيم: ومنها: أن من مر بديار المغضوب عليهم والمعذبين لم ينبغ له أن يدخلها، ولا يقيم بها، بل يسرع السير، ويتقنع بثوبه حتى يجاوزها، ولا يدخل عليهم إلا باكيا معتبرا.
وقال محمد بن مفلح: وسأله مهنا عمن نزل الحجر أيشرب من مائها أو يعجن به؟ قال: لا، إلا من ضرورة، لا يقيم بها. انتهى.
وقال مرعي بن يوسف، ومصطفى السيوطي: (قال الحارثي: مساكن) ديار (ثمود) لا تملك؛ لعدم دوام البكاء مع السكنى، (ومع
(الجزء رقم: 3، الصفحة رقم: 56)
الانتفاع) على رواية الأظهر خلافها. انتهى.
وكما استدل بتلك الأدلة التي سبقت على منع إحياء ديار ثمود أخذا من نهيه صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلا في حالة البكاء دائما ما دام فيها، وأن هذا متعذر، ومن كونه صلى الله عليه وسلم قنع رأسه وأسرع السير حتى اجتاز الوادي فقد أخذ منها أيضا منع الأحياء من وجه آخر، وهو منع الصلاة فيها، والطهارة من مائها، والتيمم بترابها، واستعمال مائها للشرب والطبخ، وهذه الطائفة من كلام أهل العلم في ذلك:
قال البخاري في [صحيحه]، باب الصلاة في مواضع الخسف، العذاب، وذكر على أثر علي الدال على منع الصلاة في مواضع الخسف، ثم ذكر حديث النهي عن دخول ديار ثمود إلا في حالة البكاء.
فهذا يدل على أن البخاري يرى منع الصلاة فيها.
ونقله العيني عن أبي بكر بن العربي المالكي.
وقال القرطبي: منع بعض العلماء الصلاة بهذا الموضع، وقال: لا تجوز الصلاة فيها؛ لأنها دار سخط، وبقعة غضب.
وقد سبق قول الإمام أحمد رحمه الله (لا يقيم فيها)، وهذا يدل على أن يرى منع الصلاة فيها.
هذا بالنسبة لمنع الصلاة فيها.
وأما عدم جواز استعمال مائها للطهارة والشرب والطبخ، وكذلك
(الجزء رقم: 3، الصفحة رقم: 57)
استعمال التراب للتيمم – فقد قال القرطبي: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهرق ما استقوا من بئر ثمود وإلقاء ما عجن وخبز به؛ لأنه ماء سخط، فلم يجز الانتفاع به؛ فرارا من سخط الله، وقال: اعلفوه الإبل. قال مالك: إن ما لا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أن تعلفه الإبل والبهائم، إذا لا تكليف عليها.
وقال النووي بعد سياق الأدلة: قلت: فاستعمال ماء هذه الآبار المذكورة في طهارة وغيرها مكروه أو حرام إلا لضرورة؛ لأن هذه سنة صحيحة لا معارض لها، وقد قال الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي، فيمنع استعمال آبار ثمود إلا بئر الناقة، ولا يحكم بنجاستها؛ لأن الحديث لم يتعرض للنجاسة، والماء طهور بالأصالة.
وقال موسى بن أحمد بن سالم المقدسي، ومنصور بن يونس البهوتي: (ولا يباح ماء آبار) ديار (ثمود غير بئر الناقة).
(فظاهره) أي: ظاهرة القول بتحريم ماء غير بئر الناقة من ديار ثمود (لا تصح الطهارة) أي: الوضوء والغسل (به)؛ لتحريم استعماله كماء مغصوب أو) ماء (ثمنه المعين حرام) في البيع فلا يصح الوضوء بذلك ولا الغسل به؛ لحديث: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.
(فيتيمم معه) أي: مع ماء غير بئر الناقة من ديار ثمود، ومع المغصوب وما ثمنه المعين الحرام (لعدم غيره) من المباح، ولا يستعمله؛ لأنه ممنوع
(الجزء رقم: 3، الصفحة رقم: 58)
منه شرعا، فهو كالمعدوم حسا، انتهى.
وتقدم جواب الإمام أحمد رحمه الله لما سأله مهنا عمن نزل الحجر أيشرب من مائها أو يعجن به؟ قال: لا إلا من الضرورة، لا يقيم بها.
وحاصل ما سبق: أن من ذكر من العلماء استدل بالأدلة التي سبقت على عدم جوازها إحياء ديار ثمود، وأنه لا يجوز استعمال مائها للطهارة أو شرب أو طبخ، ولا يجوز التيمم بترابها، وأن الأدلة دلت على ذلك، وأن توجيه الاستدلال منها كما يأتي:
1 – نهى صلى الله عليه وسلم عن دخول ديار ثمود، إلا في حال البكاء، وأنه لا بد من ملازمة البكاء ما دام باقيا فيها، ولو أنه بقي في أي جزء منها بدون هذه الصفة صدق عليه أنه دخل ذلك الجزء وهو غير باك فيكون منهيا عن الدخول فيه، فكما أنه منهي عن الدخول ابتداء إلا وهو متصف بالبكاء فنهيه عن الاستمرار بدون البكاء من باب أولى، فهذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم، والنهي يقتضي التحريم والفساد، هذه هي القاعدة العامة في ذلك، ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بدليل يدل على ذلك، وكما صدر القول منه صلى الله عليه وسلم في النهي عن دخول ديارهم إلا في حالة الاتصاف بالبكاء، فقد قنع رأسه، وأسرع السير وهو على الرحل حتى اجتاز الوادي، والإحياء يترتب عليه البقاء فيها وبناء المساكن، ولا يمكن دوام البقاء مع ملازمة البكاء، ودوام البقاء مع ملازمة البكاء ممتنع، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم، فيمتنع الإحياء لامتناع البقاء مع ملازمة البكاء.
2 – أمره صلى الله عليه وسلم بعدم الشرب من مائها، وعدم الطبخ، وأمره صلى الله عليه وسلم بطرح العجين الذي عجنوا به من مائها، وبإهراق الماء الذي استقوا من الآبار،
(الجزء رقم: 3، الصفحة رقم: 59)
وأمرهم بأن يستقوا من بئر الناقة.
والأصل في الأمر أنه يقتضي الوجوب، ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل، ولا نعلم دليلا يصرفه عن أصله واستعماله للطهارة أولى من استعماله للشرب والطبخ فيمنع، وقيس التيمم بترابه على الطهارة من مائه فيمتنع التيمم بترابه.
والإحياء لهذه البقعة بالزرع وبغرس النخل والأشجار يترتب عليه استعمال البقعة، والبقاء فيها، واستعمال الماء لما ذكره، وهو مثل استعمال الماء الذي عجن به العجين، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بإلقاء العجين، فدل على أن فعلهم حرام، فيحرم استعمال الماء للإحياء، وأما البقاء فيها فقد سبق منعه إلا في حالة الاتصاف بالبكاء ما دام فيها، وأن استدامة البكاء متعذرة، وإذا كان الأمر على ما وصف فكيف الإحياء والبقاء؟!
يتبع
المذهب الثاني: جواز الإحياء، وهذا المذهب مأخوذ من عموم كلام الحنفية والمالكية، والشافعي، والثوري، والرملي، ونص عليه الماوردي، وهو أظهر الروايتين في مذهب أحمد.
أما المذهب الحنفي: فقد قال محمد أمين الشهير بابن عابدين قال في [الملتقي]: الموات: أرض لا ينتفع بها عادية، أو مملوكة في الإسلام ليس لها مالك معين مسلم أو ذمي، وعند محمد: إن ملكت في الإسلام لا تكون مواتا. اهـ.
ومثله في [الدرر]، و [الإصلاح]، و [القدوري]، و [الجوهرة]،
(الجزء رقم: 3، الصفحة رقم: 60)
وقوله: عادية أي تقدم خرابها، كأنها ضربت في عهد عاد. انتهى المقصود.
وأما المذهب المالكي: فقال خليل: موات الأرض: ما سلم عن الاختصاص بعمارة ولو اندرست إلا الإحياء، وبحريمها كمحتطب ومرعي. إلخ.
وقال محمد بن محمد بن عبد الرحمن المعروف بالحطاب: والموات: بفتح الميم، ويقال: موتان بفتح الميم والواو: الأرض التي ليس لها مالك، ولا بها ماء ولا عمارة، ولا ينتفع بها إلا أن يجري إليها ماء، أو تستنبط فيها، أو يحفر فيها بئر.
والتعريف المذكور تبع المصنف فيه ابن الحاجب، وهو تبع ابن شاس، وهو تبع الغزالي، وهو قريب مما قال أهل اللغة في معناه، وقال ابن عرفة إحياء الموات لقب لتعمير داثر الأرض بما يقتضي عدم انصراف المعمر عن انتفاعه بها، وموات الأرض، قال ابن رشد في رسم الدور من سماع يحيى بن القاسم، من كتاب [السداد والأنهار]: روى ابن غانم: موات الأرض هي التي لا نبات فيها؛ لقوله تعالى: وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا فلا يصح الإحياء إلا في البوار، انتهى المقصود.
ووجه دلالة هذا الكلام، وكلام الحنفية قبله على جواز إحياء ديار ثمود أنه لم يرد عنهم استثناء، فدل على أنها باقية على الأصل.
(الجزء رقم: 3، الصفحة رقم: 61)
وأما المذهب الشافعي: فقد قال الشافعي: والموات الثاني: ما لم يملكه أحد في الإسلام بعرف ولا عمارة، ملك في الجاهلية، أو لم يملك، فذلك الموات الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: من أحيا مواتا فهو له.
وقال النووي: وإن كانت عمارة جاهلية فقولان: ويقال وجهان: أحدهما: لا تملك بالإحياء؛ لأنها ليست بموات، وأظهرهما تملك كالركاز.
وقال ابن سريج وغيره: إن بقي أثر العمارة أو كان معمورا في الجاهلية قريبة لم تملك بالإحياء، وإن اندرست بالكلية وتقادم عهدها ملكت.
وقال الرملي: وإن كانت العمارة جاهلية جهل دخولها في أيدينا فالأظهر أنه – أي: المعمور – يملك بالإحياء، إذ لا حرمة لملك الجاهلية، والثاني: المنع؛ لأنها ليست بموات.
وقال الماوردي: والضرب الثاني من الموات: ما كان عامرا فخرب فصار مواتا عاطلا، وذلك ضربان: أحدهما: ما كان جاهليا كأرض عاد وثمود، فهي كالموات الذي لم يثبت فيه عمارة ويجوز إقطاعه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عادي الأرض لله ولرسوله، وثم هي لكم مني، يعني: أرض عاد.
(الجزء رقم: 3، الصفحة رقم: 62)
وأما المذهب الحنبلي:
فقد قال عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة:
النوع الثاني: ما يوجد فيه آثار ملك قديم جاهلي؛ كآثار الروم ومساكن ثمود ونحوهم – فهذا يملك بالإحياء في أظهر الروايتين؛ لما ذكرنا من الأحاديث. إلخ. إلى أن قال: والرواية الثانية: لا تملك؛ لأنها إما لمسلم، أو ذمي أو بيت المال، أشبه ما لو تبين مالكه. انتهى المقصود.
وقال محمد بن الحسن الفراء الحنبلي: الضرب الثاني من الموات: ما كان عامرا فضرب وصار مواتا عاطلا، فذلك ضربان: أحدهما: ما كان جاهليا؛ كأرض عاد وثمود، فهو كالموات الذي لم يثبت فيه عمارة، ويجوز إقطاعه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عادي الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني، يعني: أرض عاد. انتهى.
وقال مصطفى السيوطي: بعد ذكره جواز ملك ديار ثمود، وقول الحارثي: إنها لا تملك، وشيء من أدلة المذهب، وقال بعد ذلك: ولم يذكر القاضي في [الأحكام السلطانية]، والموفق في [المغني] خلافا في جواز إحيائه، قال في [الإنصاف]: وهو طريقة صاحب المحرر والوجيز وغيرهما، قال الحارثي: وهو الحق والصحيح من المذهب، فإن أحمد وأصحابه لا يختلف قولهم في البئر العادية، وهو نص منه في خصوص النوع، وصحح الملك فيه بالإحياء صاحب [التلخيص والفائق والفروع
(الجزء رقم: 3، الصفحة رقم: 63)
والتصحيح] وغيرهم. انتهى.
واستدل أهل هذا المذهب: بما ثبت في [صحيح البخاري] بسنده في المزارعة عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أعمر أرضا ليست لأحد فهو أحق.
وهذا الحديث ورد من طرق كثيرة وبألفاظ مختلفة، ولكن معناها هو المعنى الذي دل عليه هذا الحديث، وكذلك ورد آثار بهذا المعنى، ترك ذكر الأحاديث والآثار اكتفاء بما أخرجه البخاري.
وجه الدلالة: أن هذا الحديث دل بعمومه على أن الأصل في الأرض كلها اتصافها بعدم المانع من تملكها، فمن أعمر أرضا، أي: أحياها فهو أحق بها من غيره، ويدخل في هذا العموم أرض الحجر فيجوز إحياؤها.
واعترض على الاستدلال بهذا الحديث: بأن الأحاديث التي دلت على المنع من دخول ديار ثمود إلا في حالة الاتصاف بالبكاء ما دام فيها، وعلى منع استعمال الماء، وقد سبق تقرير ذلك – جاءت تلك الأدلة خاصة، وهذا الدليل عام، والقاعدة المقررة: أنه إذا تعارض عام وخاص يخالف العام في الحكم فإنه يخرج الخاص من العام كذا هنا.
وأما من أجاز الصلاة فيها، والتوضؤ من مائها والتيمم بترابها فقد استدل بالعموم؛ كحديث: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل، وكقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ الآية.
(الجزء رقم: 3، الصفحة رقم: 64)
قال القرطبي: الصحيح – إن شاء الله – الذي يدل عليه النظر والخبر: أن الصلاة بكل موضع طاهر جائزة صحيحة، وما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: إن هذا واد به شيطان، وقد رواه معمر عن الزهري فقال: واخرجوا عن الموضع الذي أصابتكم فيه الغفلة، وقول علي: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة وقوله عليه الصلاة والسلام حين مر بالحجر من ثمود: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، ونهيه عن معاطن الإبل. . إلى غير ذلك مما في هذا الباب، فإنه مردود إلى الأصول المجتمع عليها، والدلائل الصحيح مجيئها.
قال الإمام الحافظ أبو عمر ابن عبد البر: المختار عندنا في هذا الباب: أن ذلك الوادي وغيره من بقاع الأرض جائز أن يصلى فيها كلها ما لم تكن فيه نجاسة متيقنة تمنع من ذلك، ولا معنى لاعتلال من اعتل بأن موضع النوم عن الصلاة موضع شيطان، وموضع ملعون لا يجب أن تقام فيه الصلاة، وكل ما روي في هذا الباب من النهي عن الصلاة في المقبرة وبأرض بابل وأعطان الإبل، وغير ذلك مما في هذا المعنى – كل ذلك عندنا منسوخ ومرفوع؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: جعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا، وقوله صلى الله عليه وسلم مخبرا أن ذلك من فضائله ومما خص به، وفضائله عند أهل العلم لا يجوز عليها النسخ ولا التبديل ولا النقص – قال صلى الله عليه وسلم أوتيت خمسا وقد روي: ستا وقد روي ثلاثا و أربعا وهي تنتهي إلى أزيد من تسع. قال فيهن: لم يؤتهن أحد قبلي: بعثت إلى
(الجزء رقم: 3، الصفحة رقم: 65)
الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب، وجعلت أمتي خير الأمم، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا اهـ.
ويورد على دعوى النسخ: أن النسخ لا يثبت إلا بدليل شرعي من كتاب أو سنة أو إجماع.
ونقل القرطبي عن ابن العربي أنه قال: فصارت هذه البقعة مستثناة من قوله صلى الله عليه وسلم: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فلا يجوز التيمم بترابها، ولا الوضوء من مائها، ولا الصلاة فيها. انتهى المقصود.
ذكر القرطبي هذا الكلام عن ابن العربي بعد قوله: منع بعض العلماء الصلاة بهذا الموضع، وقال: لا تجوز الصلاة فيها؛ لأنها دار سخط وبقعة غضب.
وأما النظائر فمن ذلك:
1 – إسراعه صلى الله عليه وسلم حينما مر بوادي محسر في حجة الوداع بعد دفعه من مزدلفة، فقد روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم أوضع في وادي محسر، رواه داود والنسائي والترمذي، قال ابن الأثير: أوضع: إذا أسرع السير.
قال ابن القيم: فلما أتى بطن محسر حرك ناقته وأسرع السير، وهذه كانت عادته في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه.
وكذلك فعل في سلوكه الحجر (ديار ثمود) فإنه تقنع بثوبه، وأسرع
(الجزء رقم: 3، الصفحة رقم: 66)
السير.
2 – قال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا إلى قوله تعالى: لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا
قال ابن القيم رحمه الله: ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها وهدمها، كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار، وأمر بهدمه، وهو مسجد يصلى فيه ويذكر اسم الله فيه – لما كان بناؤه إضرارا وتفريقا بين المؤمنين، وإرصادا، ومأوى للمنافقين المحاربين لله ورسوله، وكل مكان هذا شأنه فواجب على الإمام تعطليه؛ إما بهدمه وتحريقه، وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع له. انتهى.
3 – ثبت في [صحيح مسلم] عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وامرأة من الأنصار على ناقة، فضجرت، فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذوا ما عليها، ودعوها، فإنها ملعونة قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد.
وأما الحكمة، فقد قال ابن حجر:
قول: (لا يصيبكم) بالرفع على أن لا نافية، والمعنى: لئلا يصبكم، ويجوز الجزم على أنها ناهية، وهو أوجه، وهو نهي بمعنى الخبر، وللمصنف في أحاديث الأنبياء (أن يصيبكم) أي: خشية أن يصيبكم
(الجزء رقم: 3، الصفحة رقم: 67)
ووجه هذه الخشية: أن البكاء يبعثه على التفكر والاعتبار، فكأنه أمرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء من تقدير الله تعالى على أولئك بالكفر، مع تمكينه لهم في الأرض، وإمهالهم مدة طويلة، ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه، وهو سبحانه مقلب القلوب، فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك.
والتفكر أيضا في مقابلة أولئك نعمة الله بالكفر وإهمالهم إعمال عقولهم فيما يوجب الإيمان به والطاعة له، فمن مر عليهم، ولم يتفكر فيما يوجب البكاء اعتبارا بأحوالهم فقد شابههم في الإهمال، ودل على قساوة قلبه وعدم خشوعه، فلا يأمن أن يجره ذلك العمل بمثل أعمالهم فيصيبه ما أصابهم. انتهى.
هذا ما تيسر ذكره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد، وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء