(بحث مجموع من أجوبة الإخوة وممن شارك الأخ أحمد بن علي وآخرين)
[جمعها الأخ؛ سيف الكعبي]
حديث أنس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: يا ابن آدم، لو اتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة) أخرجه الترمذي
وعلاقته بالتوحيد؛
———————
حديث أنس الراجح وقفه فقد رفعه كثير بن فائد وخالفه سلم ابن قتيبة (جامع العلوم)
وله شاهد عن أبي ذر عند أحمد (5/ 154) وفيه شهر بن حوشب واضطرب في شيخه
وورد عند مسلم من حديث أبي ذر 2687 قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقول الله عز وجل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد … ومن أتاني يمشي اتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة)
ومن شواهده حديث أبي ذر رضي الله عنه مرفوعا (يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار … ) أخرجه مسلم 2577
قال العلامة الشيخ محمد ابن عثيمين في شرح الأربعين النووية:
التوحيد له فضيلة وأنه سبب لمغفرة الذنوب، وقد قال الله عز وجل: ” قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف “، فمهما عظمت الذنوب إذا انتهى الإنسان عنها؛ بالتوحيد غفر الله له
قوله: ” لو أتيتني بقراب الأرض “. قراب الأرض، بضم القاف، وقيل بكسرها، والضم أشهر، وهو ملؤها أو ما يقارب ملءها.
قوله: ” ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا “. شرط ثقيل في الوعد بحصول المغفرة، وهو السلامة من الشرك كثيره وقليله، صغيره وكبيره، ولا يسلم من ذلك إلا من سلمه اللّه، وذلك هو القلب السليم. كما قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 3.
قال ابن رجب: من جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه اللّه بقرابها مغفرة، لكن هذا مع مشيئة اللّه عز وجل فإن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار، بل يخرج منها ثم يدخل الجنة، فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه للّه تعالى فيه، وقام بشروطه بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها ومنعه من دخول النار بالكلية، فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه، أخرجت منه كل ما سوى اللّه محبة وتعظيما وإجلالاً ومهابة وخشية وتوكلاً، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر، وربما قلبتها حسنات، فإن هذا التوحيد هو الإكسير الأعظم، فلو وضع منه ذرة على جبال الذنوب والخطايا لقلبها حسنات.
وقال شيخ الإسلام: الشرك نوعان: أكبر، وأصغر، فمن خلص منهما
وجبت له الجنة، ومن مات على الأكبر، وجبت له النار، ومن خلص من الأكبر، وحصل له بعض الأصغر مع حسنات راجحة على ذنوبه، دخل الجنة، فإن تلك الحسنات توحيد كثير مع يسير من الشرك الأصغر، ومن خلص من الأكبر، ولكن كثر الأصغر حتى رجحت به سيئاته دخل النار، فالشرك يؤاخذ به العبد إذا كان أكبر أو كان كثيرًا أصغر، والأصغر القليل في جانب الإخلاص الكثير لا يؤاخذ به.
قال العلامة ابن القيم – رحمه الله تعالى – في معنى الحديث: “ويعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك. فلو لقي الموحد الذي لم يشرك بالله شيئا ألبته ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة; ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده؛ فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب؛ لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه، وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة والدافع لها قوي”. اهـ.
و قوله: (لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا أتيتك بقرابها مغفرة) فلا يدل على أن ما عدا الشرك كله صغائر بل يدل على أن من لم يشرك بالله شيئا فذنوبه مغفورة كائنة ما كانت ولكن ينبغي أن يعلم ارتباط إيمان القلوب بأعمال الجوارح وتعلقها بها وإلا لم يفهم مراد الرسول صلى الله عليه وسلم ويقع الخلط والتخبيط فاعلم أن هذا النفي العام للشرك أن لا يشرك بالله شيئا ألبتة لا يصدر من مصر على معصية أبدا ولا يمكن مدمن الكبيرة والمصر على الصغيرة أن يصفو له التوحيد حتى لا يشرك بالله شيئا هذا من أعظم المحال ولا يلتفت إلى جدلي لاحظ له من أعمال القلوب بل قلبه كالحجر أو أقسى يقول: وما المانع وما وجه الإحالة ولو فرض ذلك واقعا لم يلزم منه محال لذاته فدع هذا القلب المفتون بجدله وجهله واعلم أن الإصرار على المعصية يوجب من خوف القلب من غير الله ورجائه لغير الله وحبه لغير الله وذله لغير الله وتوكله على غير الله: ما يصير به منغمسا في بحار الشرك والحاكم في هذا ما يعلمه الإنسان من نفسه إن كان له عقل فإن ذل المعصية لا بد أن يقوم بالقلب فيورثه خوفا من غير الله تعالى وذلك شرك ويورثه محبة لغير الله واستعانة بغيره في الأسباب التي توصله إلى غرضه فيكون عمله لا بالله ولا لله وهذا حقيقة الشرك … والمقصود: أن من لم يشرك بالله شيئا يستحيل أن يلقى الله بقراب الأرض خطايا مصرا عليها غير تائب منها مع كمال توحيده الذي هو غاية الحب والخضوع والذل والخوف والرجاء للرب تعالى
(مدارج السالكين – ابن قيم الجوزية)
ومنه قوله تعالى (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)
{أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} وكأن في الكلام محذوفًا دل عليه السياق، وتقديره: وأوصاكم (1) {أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}؛ ولهذا قال في آخر الآية: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
وفي الصحيحين من حديث أبي ذر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئًا من أمتك، دخل الجنة. قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق. قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق. قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق، وإن شرب الخمر”: وفي بعض (3) الروايات أن القائل ذلك إنما هو أبو ذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه، عليه (4) السلام، قال في الثالثة: “وإن رغم أنفُ أبي ذر” (5) فكان أبو ذر يقول بعد تمام الحديث: وإن رغم أنف أبي ذر.
وفي بعض المسانيد والسنن عن أبي ذر [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يقول الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني فإني أغفر لك على ما كان منك ولا أبالي، ولو أتيتني بقراب الأرض خطيئة أتيتك بقرابها مغفرة ما لم تشرك بي شيئا، وإن أخطأت حتى تبلغ خطاياك عَنَان السماء ثم استغفرتني، غفرت لك”.
ولهذا شاهد في القرآن، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود: “من مات لا يشرك بالله شيئًا، دخل الجنة”
والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدًا.
وانظر تفسير ابن كثير
وتأمل قوله تعالى: ” إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم “. كيف تجد تحته بألطف دلالة وأدقها وأحسنها أنه من اجتنب الشرك جميعه كفرت عنه كبائره، وأن نسبة الكبائر إلى الشرك كنسبة الصغائر إلى الكبائر فإذا وقعت الصغائر مكفرة باجتناب الكبائر فالكبائر تقع مكفرة باجتناب الشرك،
وتأمل قوله تعالى:” وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون * لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون ” كيف: نبههم بالسفر الحسي على السفر إليه؟ وجمع له بين السفرين كما جمع لهم الزادين في قوله: “وتزودوا فإن خير الزاد التقوى” فجمع لهم بين زاد سفرهم وزاد معادهم؟ وكما جمع بين اللباسين في قوله: ” يا بني آدم قد أنز الاخ محمد الرحيمي يقول دخلوني واته يحضر الدروس بقدر الاستطاعة
– ووجود ما يحبه الله من التوحيد والطاعات أعظم عند الله من فعل ما يكرهه من المعاصي؛
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى
فإن ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي من أكثر من ثلاثين وجها ذكرها شيخنا رحمه الله في بعض تصانيفه ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم- وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينا والله المستعان وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع ودينه يترك وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم …… الخ
إعلام الموقعين – (2/ 177)
يتبع
وقال في موضع آخر
فائدة جليلة قال سهل بن عبد الله ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهى لأن آدم نهى عن أكل الشجرة فأكل منها فتاب عليه وابليس أمر أن يسجد لآدم فلم يسجد فلم يتب عليه قلت هذه مسالة عظيمة لها شان وهى أن ترك الأوامر أعظم عند الله من أرتكاب المناهى وذلك من وجوه عديدة أحدها ما ذكره سهل من شأن آدم وعدو الله ابليس الثاني أن ذنب ارتكاب النهى مصدره فى الغالب الشهوة والحاجة وذنب ترك الأمر مصدره فى الغالب الكبر والعزة ولا يدخل الجنة من فى قلبه مثقال ذرة من كبر …… الخ
الفوائد – (1/ 119)
وقال في موضع آ خر
الوجه الثامن عشر: أن آثار ما يكرهه وهو المنهيات أسرع زوالا بما يحبه من زوال آثار ما يحبه بما يكرهه, فآثار كراهته سريعة الزوال وقد يزيلها سبحانه بالعفو والتجاوز, وتزول بالتوبة والاستغفار والأعمال الصالحة والمصائب المكفرة والشفاعة والحسنات يذهبن السيئات, ولو بلغت ذنوب العبد عنان السماء ثم استغفره غفر له ولو لقيه بقراب الأرض خطايا, ثم لقيه لا يشرك به شيئا لأتاه بقرابها مغفرة وهو سبحانه يغفر الذنوب وإن تعاظمت ولا يبالي, فيبطلها ويبطل آثارها بأدنى سعي من العبد وتوبة نصوح وندم على ما فعل , وما ذاك إلا لوجود ما يحبه من توبة العبد وطاعته وتوحيده, فدلّ على أن وجود ذلك أحب إليه وأرضى له. يوضحه الوجه التاسع عشر: وهو أنه سبحانه قدر ما يبغضه ويكرهه من المنهيات لما يترتب عليها مما يحبه ويفرح به من المأمورات. فإنه سبحانه أفرح بتوبة عبده من الفاقد الواجد, والعقيم الوالد, والظمآن الوارد. وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لفرحه بتوبة العبد مثلا (في صحيح مسلم في كتاب التوبة باب في الحض على التوبة والفرح بها 4\ 2104 رقم (7) عن أنس بن مالك ” لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه … ” وهو في صحيح البخاري بلفظ آخر.)
-ليس في هذا الحديث دليل للمرجئة؛
فهذا الحديث والنصوص التي تدل على أن من اجتنب الشرك دخل الجنة-سواء كانت تلك النصوص من القرآن الكريم أو من السنة النبوية فإن الجواب على ذلك:
“إن هذه النصوص تفيد أن من لم يقع في الشرك مع التوبة والقيام بأمر الله والانتهاء عن نهيه-أن الله يغفر له الذنوب التي هي دون الشرك، فإذا مات على بعض الذنوب يرجى له المغفرة ابتداء، أو يعاقبه الله بذنبه ثم يدخله الجنة، كما هو مذهب السلف في أهل الذنوب حسب ما تفيده النصوص من الكتاب والسنة.
صالح آل الشيخ: العموم في حديث «يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة» فَهِمْ من العموم أنَّ هذا يعارض كون صاحب الكبيرة تحت المشيئة إذا مات غير تائب.
وهذا غير وارد لأنَّ النصوص يُصَدِّقُ بعضها بعضاً، والآيات يفسر بعضها بعضاً، والأحاديث يفسر بعضها بعضاً، وكذلك الوعد لا ينافي الوعيد، فقوله «أتيتك بقرابها مغفرة» هذا وعدٌ من الله – عز وجل – لمن حقَّقَ التوحيد لا يُشْرِكُ بالله شيئا، وكون صاحب الكبيرة تحت المشيئة لا يُعَارِضُ هذا الأصل؛ لأنَّ هذا والوعد والوعيد يُطلقان ويكونان على إطلاقهما، وكذلك يجتمعان في حق المعين، فيجتمع في حق المعين الوعد والوعيد، وهذا في حق مرتكب الكبيرة، ويدخُلُ في عموم أهل الإيمان الذين وعدهم الله – عز وجل – بالجنة، كل مؤمن وعَدَهُ الله – عز وجل – بالجنة، يدخل في المسلمين الذين جعل الله – عز وجل – لهم مغفرة وأجرا عظيما كما في آية الأحزاب {الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35] ونحو ذلك.
فأهل السنة والجماعة في مثل هذه الأدلة التي فيها الوعد وفيها الوعيد، يُعمِلُونَ الوعد ويُعمِلُونَ الوعيد والوعد بشرطه والوعيد أيضا بشرطه، فلا مُنافاةَ ما بين الأدلة بل الأدلة يُصدِّق بعضها بعضا.
قال يحيى بن معاذ: ” من أعظم الاغترار عند التمادى فى الذنوب مع رجاء العفو من غير ندامة، وتوقع القرب من الله تعالى بغير طاعة، وانتظار زرع الجنة ببذر النار، وطلب دار المطيعين بالمعاصى، وانتظار الجزاء بغير عمل، والتمنى على الله عز وجل مع الإفراط “.
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها … إن السفينة لا تجرى على اليبس
قال ابن تيمية:
والله – سبحانه – لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب بل يغفر الشرك وغيره للتائبين كما قال – تعالى -: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم}، وهذه الآية عامَّة مطلقة لأنَّها للتائبين!، وأما قوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فإنها مقيَّدة خاصَّة لأنَّها في حق غير التائبين! لا يغفر لهم الشرك، وما دون الشرك معلَّق بمشيئة الله – تعالى -. [مجموع الفتاوى (2/ 358)].
وقال ابن تيمية:
وقد قال – تعالى -في كتابه: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فجعل ما دون ذلك الشرك معلَّقا بمشيئته، ولا يجوز أن يُحمل هذا على التائب؛ فإن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره! كما قال – سبحانه – في الآية الأخرى {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً} فهنا عمَّم وأطلق؛ لأن المراد به التائب! وهناك خصَّ وعلَّق.
(7/ 484، 485).
وقال ابن القيم:
الوجه الرابع: أن الذنوب تُغفر بالتوبة النصوح، فلو بلغت ذنوب العبد عنان السماء وعدد الرمل والحصا ثم تاب منها: تاب الله عليه قال – تعالى -: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم} فهذا في حق التائب! فإن التوبة تجبُّ ما قبلها، والتائب مِن الذنب كمن لا ذنب له، والتوحيد يكفِّر الذنوب كما في الحديث الصحيح الإلهي ” ابن آدم لو لقيتَني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لقيتُك بقرابِها مغفرة “. ” هداية الحيارى ” (130).
وقال ابن القيم:
وكاتكال بعضهم على قوله – تعالى -: {إن الله يغفر الذنوب جميعاً} وهذا أيضاً مِن أقبح الجهل! فإن الشرك داخل في هذه الآية، فإنه رأس الذنوب وأساسها، ولا خلاف! أن هذه الآية في حق التائبين فإنه يغفر ذنب كلِّ تائبٍ أي ذنب كان.
ولو كانت الآية في حق غير التائبين لبطلت نصوص الوعيد كلها وأحاديث إخراج قوم من الموحدين من النار بالشفاعة، وهذا إنما أوتي صاحبه من قلة علمه وفهمه! فإنه – سبحانه – ها هنا عمَّم وأطلق، فعلم أنه أراد التائبين، وفي سورة ” النساء ” خصَّص وقيَّد فقال {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فأخبر الله – سبحانه – أنَّه لا يَغفر الشرك، وأخبر أنه يغفر ما دونه، ولو كان هذا في حق التائب لم يفرق بين الشرك وغيره. ” الجواب الكافي ” (ص 12).
وقال ابن كثير:
وهذه الآية التي في سورة تنزيل أي: الزمر – مشروطة بالتوبة، فمن تاب من أيِّ ذنب! وقد تكرر منه: تاب الله عليه، ولهذا قال {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا} أي: بشرط التوبة، ولو لم يكن كذلك: لدخل الشرك فيه، ولا يصح ذلك!! لأنه – تعالى -قد حكم هاهنا بأنه ” لا يغفر الشرك “! وحكم بأنه يغفر ما عداه لمن يشاء! أي: وإن لم يتب صاحبه، فهذه أرجى من تلك من هذا الوجه، والله أعلم. [” التفسير ” (1/ 512)].
وقال الشنقيطي:
قوله – تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء / 48] ذكر في هذه الآية الكريمة أنه – تعالى -لا يغفر الإشراك به، وأنه يغفر غير ذلك لمن يشاء، وأن من أشرك به فقد افترى إثماً عظيماً.
وذكر في مواضع أخر: أن محل كونه لا يغفر الإشراك به إذا لم يتب المشرك من ذلك، فإن تاب: غفر له، كقواه {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحاً} الآية، فإن الاستثناء راجع لقوله: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر} وما عطف عليه؛ لأن معنى الكل جمع في قوله: {ومن يفعل ذلك يلق أثاماً} الآية، وقوله: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف} … [” أضواء البيان ” (1/ 290، 291)].
قال النووي رحمه الله: ” وأما قوله صلى الله عليه – وإن زنى وإن سرق فهو حجة لمذهب أهل السنة أن أصحاب الكبائر لا يقطع لهم بالنار، وأنهم إن دخلوها أخرجوا منها وختم لهم بالخلود بالجنة) شرح النووي على مسلم (2/ 97).
– كذلك أحاديث الوعيد ليس فيها حجة للخوارج:
قال النووي رحمه الله: في قوله صلى الله عليه وسلم ” تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا … ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه ” رواه مسلم. المراد به ما سوى الشرك وإلا فالشرك لا يغفر له ” شرح مسلم (11/ 223)، ثم ذكر من فوائد الحديث (الدلالة لمذهب أهل الحق أن المعاصي غير الكفر لا يقطع لصاحبها بالنار إذا مات ولم يتب منها، بل هو بمشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه) شرح مسلم (11/ 224)
وقال الإمام الصابوني رحمه الله: (ويعتقد أهل السنة أن المؤمن وإن أذنب ذنوباً كثيرة صغائر وكبائر، فإنه لا يكفر بها، إن خرج من الدنيا غير تائب منها، ومات على التوحيد والإخلاص، فإن أمره إلى الله – عز وجل – إن شاء عفا عنه، وأدخله الجنة يوم القيامة سالماً غانماً غير مبتلى بالنار ولا معاقب على ما ارتكبه واكتسبه ثم استصحبه إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار، وإن شاء عفا عنه وعذبه مدة بعذاب النار، وإن عذبه لم يخلد فيها، بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار) (عقيدة السلف أصحاب الحديث)
وقال الإمام البغوي رحمه الله: اتفق أهل السنة على أن المؤمن لا يخرج عن الإيمان بارتكاب شيء من الكبائر إذا لم يعتقد إباحتها، وإذا عمل شيئاً منها، فمات قبل التوبة، لا يخلد في النار، كما جاء به الحديث، بل هو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه بقدر ذنوبه، ثم أدخله الجنة برحمته. شرح السنة (1/ 103).
وقال الإمام ابن بطة رحمه الله: وقد أجمعت العلماء – لا خلاف بينهم – أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب ولا نخرجه من الإسلام بمعصية، نرجو للمحسنين، ونخاف على المسيء. الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة) المسمى بـ (الإبانة الصغرى) ص 292
وقال الإمام الطحاوي رحمه الله: ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله، ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، وأهل الكبائر في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون. شرح الطحاوية في العقيدة السلفية (1/ 393)
وقال الإمام ابن أبي العز الحنفي في تعليقه على كلام الإمام الطحاوي: إن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية، كما قالت الخوارج؛ إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة لكان مرتداً يقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولي القصاص، ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر، وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام، ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود مع الكافرين .. شرح الطحاوية في العقيدة السلفية (2/ 255).
تكفر الذنوب بأمور منها:
أولاً: التوبة إلى الله عز وجل:
ثانياً: تحقيق التوحيد واجتناب الشرك:
ثالثاً: الأعمال الصالحة:
رابعاً: اجتناب السيئات والذنوب:
خامساً: الإحسان إلى الناس وكف الأذى عنهم:
سادساً: المصائب والبلاء الذي يصيب المسلم في الحياة الدنيا.
سابعاً: دعاء الله عز وجل.
يستفاد من الحديث:
1 – سعة كرم الله تعالى وجوده ورحمته، حيث وعد عباده أن العبد لو أتاه بملء الأرض خطايا وقد مات على التوحيد فإنه يقابله بالمغفرة الواسعة التي تسع ذنوبه.
2 – الرد على الذين يكفرون المسلمين بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بالمنزلة بين المنزلتين، بمعنى أنه ليس بمؤمن و لا كافر في الدنيا، ويخلد في النار في الآخرة. والصواب قول أهل السنة: أن العاصي لا يسلب عنه اسم الإيمان، ولا يعطاه على الإطلاق، بل يقال: هو مؤمن عاص، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، وعلى هذا يدل الكتاب والسنة، وأجماع سلف الأمة.
3 – بيان معنى لا إله إلا الله: أنه هو إفراد الله بالعبادة، وترك الشرك قليله وكثيره.
4 – حصول المغفرة بهذه الأسباب الثلاثة:
الدعاء مع الرجاء، والاستغفار والتوحيد وهو السبب الأعظم الذي فقه فقد المغفرة، ومن جاء به فقد جاء بأعظم أسباب المغفرة.
5 – العقيدة السليمة تقبل معها الأعمال وتنفع صاحبها؛ قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
وعلى العكس من ذلك؛ فالعقيدة الفاسدة تحبط جميع الأعمال؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وقال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
6 – فيه رد على الرافضة حيث جعلوا الولاية أصل قبول الأعمال؛ والصواب أن التوحيد هو أصل قبول الأعمال
7 – فيه منزلة الذكر
8 – منزلة حياة القلب
9 – خطر الشرك
10 – محبة الله لاوليائه
11 – على الدعاة إلى الله أن يبدؤوا بالتوحيد
12 – كثرة ثواب التوحيد.
13 – والرد على الخوارج الذين يكفرون المسلم بالذنوب، وعلى المعتزلة الذين يقولون بالمنْزلة بين المنزلتين وهي منْزلة الفاسق، فيقولون: ليس بمؤمن ولا كافر ويخلد في النار والصواب في ذلك قول أهل السنة أنه لا يسلب عنه اسم الإيمان على الإطلاق، ولا يعطاه على الإطلاق، بل يقال: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن عاصٍ أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. وعلى هذا يدل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.
وراجع (تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد)