1091 التعليق على الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمداللرسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله . ورفع درجته في عليين وحكام الإمارات ووالديهم ووالدينا )
——‘——-‘——-‘
———-‘——-‘——–‘
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1091):
قال الإمام النسائي: أخبرنا إسحق بن إبراهيم قال أنبأنا سفيان عن الزهري عن صفوان بن عبد الله عن أم الدرداء عن كعب بن عاصم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليس من البر الصيام في السفر)).
قال أبو عبدالرحمن: صحيح على شرط مسلم، وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطني البخاري ومسلما أن يخرجاها.
الحديث رواه ابن ماجة، وعبد الرزاق، والإمام أحمد.
وعند أحمد: ((ليس من امبر امصيام في امسفر)).
ومن طريقين آخرين: ((ليس من البر الصيام في السفر))، ومدار الحديث على الزهري رحمه الله.
ورواية: ((ليس من امبر)) تصحيف كما في (الكفاية) للخطيب، و(التلخيص الحبير) لابن حجر، بل قال الزهري: لم أسمعه أنا: ((ليس من امبر امصيام في السفر)) كما عند الحميدي في (مسنده)، فعلم من هذا أن الحديث باللغة الحميرية لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل صحفها الصحابي على لغته. قال الحافظ في (التلخيص): وهو الأوجه عندي. اهــ.
قلت: وفي ثبوته أيضًا عن الصحابي نظر؛ لأن الزهري يقول: إنه لم يسمعه باللغة الحميرية.
===================
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في السند. (ترجمة الرواي، تخريجه).
أ – ترجمة الراوي
جاء في (أسد الغابة في معرفة الصحابة) لابن الأثير: ” كعب بن عاصم الأشعري. كنيته أبو مالك، وقيل: اسم أبي مالك عمرو. وعداده في أهل الشام، وقيل: سكن مصر. وكان من أصحاب السقيفة.
روى عنه جابر، وأم الدرداء، وعبد الرحمن بن غنم، وخالد بن أبي مريم مخرج حديثه عن أهل المدينة.
روى ابن جريح، عن ابن شهاب، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان، عن أم الدرداء، عن كعب بن عاصم الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ”ليس من البر الصيام في السفر”.
قال أبو عمر: روت عنه أم الدرداء، ويقال: هو أبو مالك الأشعري الذي روى عنه عبد الرحمن بن غنم والشاميون. وقيل: إنهما اثنان- قال: ولا أعلم أنهما يختلفون أن اسم أبي مالك الأشعري كعب بن عاصم إلا من شذ فقال فيه: عمرو بن عاصم، وليس بشيء.
أخرجه الثلاثة”. اهـ.
ب – التخريج:
الوجه الثاني: شرح وفقه الحديث.
يظهر فقه الحديث في إيراد الروايات، ومعرفة سبب وروده، كما سيأتي – إن شاء الله تعالى -، وأما الفقه الحديث العام، وشرحه:
أولاً: معنى الحديث:
قال السندي :
قَوْله ( لَيْسَ مِنْ الْبِرّ إِلَخْ ) أَيْ: مِنْ الطَّاعَة وَالْعِبَادَة اهـ
قال النووي : مَعْنَاهُ : إِذَا شَقَّ عَلَيْكُمْ وَخِفْتُمْ الضَّرَر , وَسِيَاق الْحَدِيث يَقْتَضِي هَذَا التَّأْوِيل . . . فالْحَدِيث فِيمَنْ تَضَرَّرَ بِالصَّوْمِ اهـ
وهذا المعنى هو الذي فهمه البخاري رحمه الله من الحديث ، فإنه ترجم له بقوله :
بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ الْحَرُّ لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ اهـ
قال الحافظ : أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَنَّ سَبَب قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ ” مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ اهـ
وقال ابن القيم في تهذيب السنن : وَأَمَّا قَوْله : “لَيْسَ مِنْ الْبِرّ الصِّيَام فِي السَّفَر” , فَهَذَا خَرَجَ عَلَى شَخْص مُعَيَّنٍ , رَآهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ , وَجَهِده الصَّوْم , فَقَالَ هَذَا الْقَوْل , أَيْ : لَيْسَ الْبِرّ أَنْ يُجْهِد الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ حَتَّى يَبْلُغ بِهَا هَذَا الْمَبْلَغ , وَقَدْ فَسَّحَ اللَّه لَهُ فِي الْفِطْر اهـ
ثانيًا : لا يمكن حمل هذا الحديث على عمومه وأنه ليس من البر الصوم في أي سفر من الأسفار؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم في السفر .
ولهذا قال الخطابي رحمه الله :
هَذَا كَلَام خَرَجَ عَلَى سَبَب فَهُوَ مَقْصُور عَلَى مَنْ كَانَ فِي مِثْل حَاله كَأَنَّهُ قَالَ لَيْسَ مِنْ الْبِرّ أَنْ يَصُوم الْمُسَافِر إِذَا كَانَ الصَّوْم يُؤَدِّيه إِلَى مِثْل هَذِهِ الْحَال , بِدَلِيلِ صِيَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَره عَام الْفَتْح اهـ من عون المعبود. [معنى حديث : ( ليس من البر الصوم في السفر)]
الوجه الثالث: ما يستفاد من الحديث، فوق ما تقدم:
سيأتي إن شاء الله تعالى.
الوجه الرابع: المسائل الملحقة: خمسة مسائل:
بحث في : [حكم الصوم للمسافر، ومدى أفضلية الصيام في السفر]
أوَّلًا: النصوص الواردة في الباب:
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَامَ الفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الغَمِيمِ، فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ، فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: «إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ»، فَقَالَ: «أُولَئِكَ العُصَاةُ، أُولَئِكَ العُصَاةُ»» رواه مسلمٌ وغيرُه([أخرجه مسلمٌ في «الصيام» (٧/ ٢٣٢) بابُ جوازِ الصوم والفطر في شهرِ رمضانَ للمسافر، والترمذيُّ في «الصوم» (٣/ ٨٩) بابُ ما جاء في كراهية الصوم في السفر، والنسائيُّ في «الصيام» (٤/ ١٧٧)، مِنْ حديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما.]).
وعنه ـ أيضًا ـ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟» فَقَالُوا: «صَائِمٌ»، فَقَالَ: «لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ»» مُتَّفَقٌ عليه، واللفظُ للبخاريِّ( [أخرجه البخاريُّ في «الصوم» (٤/ ١٨٣) بابُ قولِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لمَنْ ظُلِّل عليه واشتدَّ الحرُّ: «ليس مِنَ البرِّ الصومُ في السفر»، ومسلمٌ في «الصيام» (/ ٢٣٣) بابُ جوازِ الصوم والفطر في شهرِ رمضانَ للمسافر، وأبو داود في «الصوم» (٢/ ٧٩٦) بابُ اختيارِ الفطر، والنسائيُّ في «الصيام» (٤/ ١٧٦) بابُ العلَّة التي مِنْ أجلها قِيلَ ذلك، أي: كراهة الصيام في السفر، مِنْ حديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما.]).
وفي روايةِ النسائيِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَجُلٍ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ يُرَشُّ عَلَيْهِ المَاءُ، قَالَ: «مَا بَالُ صَاحِبِكُمْ هَذَا؟» قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللهِ، صَائِمٌ»، …» فذَكَره.
وفي لفظٍ لمسلمٍ: «عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللهِ الَّذِي رَخَّصَ لَكُمْ»(-[«صحيح مسلم» (٧/ ٢٣٣).])، وفي رواية النسائيِّ بزيادةِ: «فَاقْبَلُوهَا»(-[«سنن النسائي» (٤/ ١٧٦).]).
ثانيًا:
ورد فيما أخرجه مسلمٌ والترمذيُّ والنسائيُّ، ٍ: «فَقِيلَ لَهُ: «إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ»، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ العَصْرِ»، وأصلُه في الصحيحين مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما(٧-[أخرجه البخاريُّ في «الصوم» (٤/ ١٨٠) باب: إذا صام أيَّامًا مِنْ رمضان ثمَّ سافر، و(٤/ ١٨٦) بابُ مَنْ أفطر في السفر ليراه الناسُ، ومسلمٌ في «الصيام» (٧/ ٢٣١) بابُ جوازِ الصوم والفطر في شهرِ رمضانَ للمسافر، [انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٨٢)].]).
ـ «عام الفتح»: هو فتحُ مكَّة، وكان سنةَ ثمانٍ مِنَ الهجرة، وكان خروجُه صلَّى الله عليه وسلَّم يومَ العاشر مِنْ رمضان.
ـ «كُرَاعُ الغميم»: وادٍ أمامَ عُسْفان، و«الكُرَاع»: جبلٌ أسودُ عن يسار الطريقِ، طويلٌ شبيهٌ بالكُرَاع، و«الغميمُ» بجانبِ المَرَاض، و«المَرَاض» بين رابغٍ والجُحْفة(١١-[انظر: «مُعْجَمَ ما استعجم» للبكري (٣/ ٩٥٦، ١٠٠٦)، «شرح مسلم» للنووي (٧/ ٢٣٠)، «مراصد الاطِّلاع» للصفيِّ البغدادي (٣/ ١١٥٣).]).
ـ «يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ»: أي: أنَّ الصحابة ـ مع المَشقَّة الحاصلة عليهم ـ تحرَّجوا مِنَ الإفطار وبَقُوا صائمين؛ تأسِّيًا بفعل النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، حيث كانوا يرَوْنه صائمًا فيُتابِعونه على الصوم لنيلِ شرفِ التبعية له؛ لذلك سارع النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالإفطار علانِيَةً؛ جلبًا للتيسير ودفعًا للمَشقَّة.
ـ «ظُلِّل عليه»: أي: حُجِب مِنْ حرِّ الشمس بساترٍ مِنْ كساءٍ أو عودٍ أو شجرةٍ، كما في رواية النسائيِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَجُلٍ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ يُرَشُّ عَلَيْهِ الَماءُ»، ويحتمل أنَّهم سَتَروه منها بالقيام عليه أو بوضع اليد على رأسه.
ـ «البِرِّ»: اسْمٌ جامعٌ للخير والاتِّساعِ في الإحسان ولكُلِّ فعلٍ مَرْضيٍّ(١٢-[انظر: «الكُلِّيَّات» لأبي البقاء (٢٣١).]).
خامسًا: مختلف الحديث:
قال ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ: «قال [القاضي] عياضٌ: اختلفَتِ الرواياتُ في الموضع الذي أفطر صلَّى الله عليه وسلَّم فيه، والكُلُّ في قِصَّةٍ واحدةٍ، وكُلُّها متقاربةٌ، والجميعُ مِنْ عملِ عُسْفان»(١٨-[«فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٨١)، وفي «نيل الأوطار» للشوكاني (٥/ ٣٠٢): «والكُلُّ في قضيَّةٍ واحدةٍ».]).
سادسًا: الفوائد والأحكام المستنبطة مِنَ الحديث:
١ ـ فيه مشروعيةُ الفطرِ للمسافر في رمضان، والأخذِ برخصة الفطر في السفر لأنَّه مظنَّةُ المَشقَّة؛ كما أنَّ فِعْلَه صلَّى الله عليه وسلَّم يُفيدُ جوازَ الصيامِ فيه لمَنْ قَدَر عليه مِنْ غير مَشقَّةٍ؛ والمسألةُ خلافيةٌ، وسيأتي بيانُها.
٢ ـ فيه دليلٌ على تحريم الصوم في السفر لمَنْ شقَّ عليه، وأنَّ صومه ـ في هذه الحالِ ـ معصيةٌ، وفاعِله مِنَ العُصاة؛ لكونِ الفطر عزمةً مِنْ عَزَماتِ الشرع.
َ([انظر: «تيسير العلَّام» للبسَّام (١/ ٤٤٨).]).
٤ ـ فيه تفضيلُ الفطرِ على الصوم في السفر لمَنْ شقَّ عليه الصيامُ، أو إذا اقترنَتْ به مصلحةٌ مِنَ التقوِّي على الأعداء، أو لمَنْ كان مُعْرِضًا عن قَبولِ الرخصة متحرِّجًا منها، وهذا محلُّ اتِّفاقٍ بين أهل العلم؛ ولكِنْ يختلفون فيمَنْ لا يشقُّ عليه السفرُ: هل الأفضلُ له الصومُ أم الفطرُ؟ وسيأتي تفصيلُه في فقه الحديث.
٥ ـ فيه تقشُّفُ الصحابة رضي الله عنهم بحيث لا يَجِدُ أكثرُهم ما يُظِلُّه عن حرِّ الشمس، وظهورُ تآزُرِهم فيما بينهم بما تَيسَّر مِنْ حالٍ ومالٍ دون ترفُّعٍ أو تكبُّرٍ، ولم تمنعهم رِقَّةُ حالهم في الدنيا مِنَ التأسِّي بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وارتكابِ الصِّعاب، وقطعِ المفازات والمسافات، وتجشُّمِ المخاطر، وتحمُّلِ عناء السفر وحرِّ الهاجرة في الجهاد في سبيل الله تعالى.
٦ ـ فيه حكمةٌ تربويةٌ بليغةٌ، تتجلَّى في تفقُّدِ الإمام أحوالَ رعاياهُ، وعدمِ إهمالهم، والرِّفقِ بهم، ورعايةِ حالهم(٢٠-[انظر: «رياض الأفهام» للفاكهاني (٣/ ٤٣١).])؛ وأنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أَبطلَ صومَه ليُزيلَ عنهم الحرجَ ويدفعَ عنهم المَشقَّة؛ واعتبر مُخالَفةَ ذلك عصيانًا؛ لمخالفةِ أمرِه صلَّى الله عليه وسلَّم لا لمجرَّد الصوم في السفر.
٧ ـ فيه دلالةٌ على جواز الفطر في السفر مُطلَقًا، سواءٌ بَدَأ في الصوم وهو مُقيمٌ أو بَدَأ فيه وهو مسافرٌ ـ ولو بعد مُضِيِّ أغلب النهار ـ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَفطرَ بعد العصر.
٨ ـ (٢١-[لا خلافَ بين العلماء في إباحة الفطر لمَنْ يدخل عليه شهرُ رمضانَ في السفر، أو يُفارِقُ عمرانَ بلدِه قبل الفجر، [انظر: «المغني» لابن قدامة (٣/ ١٠٠)، «المجموع» للنووي (٦/ ٢٦١)].])
استُدِلَّ بالحديث على جواز إفطار المسافر نهارًا مطلقًا بعد أَنْ نوى الصيامَ مِنَ الليل
وهو أحَدُ قولَيِ الشافعيِّ وأحمد؛ خلافًا للحنفية والمالكية الذين يُوجِبون عليه الصومَ، بل يذهب المالكيةُ إلى وقوع الكفَّارة عليه إِنْ أفطر وحملوا حديثَ الباب على جوازِ ذلك في حقِّ مَنْ كان بالليل مُسافِرًا: إِنْ نوى الصومَ جاز له أَنْ يُفطِر في النهار، أمَّا لو نوى الصومَ ـ وهو مُقيمٌ ـ ثمَّ سافر في أوَّلِ النهارِ أو أثناءَه، ثمَّ بَدَا له أَنْ يفطر فليس له ذلك؛ مُستدِلِّين بقوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُ﴾ [البقرة: ١٨٥]، وقد شَهِد الشهرَ بعد أَنْ طَلَع عليه الفجرُ، ولم يُفارِقِ العمرانَ، ولا يُوصَفُ بكونه مسافرًا حتَّى يخرج مِنْ بلده؛ لذلك كان معدودًا في حكم الحاضرين، فتَنطبِقُ عليه أحكامُهم، ولقوله تعالى: ﴿وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِ﴾ [البقرة: ١٨٧]؛ فالآيةُ ظاهرةٌ في وجوبِ صومِ مَنْ طَلَع عليه الفجرُ، وهي شاملةٌ للمُقيمِ إذا سافر فلا يُفطِرُ حتَّى يُتِمَّ الصيامَ إلى الليل؛ ولأنَّه بيَّت الصومَ ليلةَ سفرِه فلم يَجُزْ له أَنْ يُبْطِل صومَه؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُبۡطِلُوٓاْ أَعۡمَٰلَكُمۡ ٣٣﴾ [محمَّد]، ولأنَّ الصوم عبادةٌ تختلف بالسفر والحَضَر؛ فإذا اجتمعا فيها غُلِّب حكمُ الحَضَر كالصلاة(٢٣-[انظر: «معالم السنن» للخطَّابي (٢/ ٨٠٠)، «المغني» لابن قدامة (٣/ ١٠٠)، «الفتح الربَّاني» للبنَّا (١٠/ ١١٦ ).]) .
أمَّا حديثُ الباب فلا حجَّةَ فيه على هذه المسألة؛ لكون النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في موضعٍ يبعد عن المدينة عدَّةَ أيَّامٍ؛ فهو محمولٌ على حالة الاتِّفاق المتقدِّمة.
والصحيح المذهبُ الأوَّل؛ لشمولِ قوله تعالى: ﴿أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٤، ١٨٥] المتأهِّبَ للسفر ولمَّا يخرج؛ إذ المتأهِّبُ آخِذٌ بأسباب الحركة، مسافرٌ مِنْ حيث إنَّه يَستصحِبُ النيَّةَ المقرونة بالعمل والنهوض؛ بخلاف المُقيم، فلا يحتاج إلى عملٍ، ويشهد لذلك حديثُ الباب ـ وإِنْ لم تقم به حجَّةٌ ظاهرةٌ على إفطارِ مَنْ أصبح في الحَضَر مسافرًا ـ إلَّا أنَّ حديثَ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما يقوِّي هذه الحجَّةَ، قال: «خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ إِلَى حُنَيْنٍ وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ: فَصَائِمٌ وَمُفْطِرٌ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ أَوْ مَاءٍ فَوَضَعَهُ عَلَى رَاحَتِهِ ـ أَوْ: عَلَى رَاحِلَتِهِ ـ ثُمَّ نَظَرَ إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ المُفْطِرُونَ لِلصُّوَّامِ: «أَفْطِرُوا»»(٢٤-[أخرجه البخاريُّ في «المغازي» (٨/ ٣) بابُ غزوةِ الفتح في رمضان، مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما.])؛ كما يدلُّ عليه ما أخرجه الترمذيُّ مِنْ حديثِ محمَّد بنِ كعبٍ، قال: «أَتَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ يُرِيدُ سَفَرًا، وَقَدْ رُحِلَتْ لَهُ رَاحِلَتُهُ وَلَبِسَ ثِيَابَ السَّفَرِ، فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأَكَلَ، فَقُلْتُ لَهُ: «سُنَّةٌ؟» قَالَ: «سُنَّةٌ»، ثُمَّ رَكِبَ»(٢٥-[أخرجه الترمذيُّ في «الصوم» (٣/ ١٦٣) بابُ مَنْ أَكَل ثمَّ خَرَج يريد سفرًا. والحديث حسَّنه الترمذيُّ، والأرناؤوط في «جامع الأصول» (٦/ ٤١١ ـ ٤١٢)، وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح سنن الترمذي» (١/ ٢٤٠).
وقد روى أحمد وأبو داود عن عُبَيْدِ بْنِ جَبْرٍ قال: «كُنْتُ مَعَ أَبِي بَصْرَةَ الغِفَارِيِّ صَاحِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفِينَةٍ مِنَ الفُسْطَاطِ-[هو اسْمُ عَلَمٍ لمصر العتيقة، قال اليعقوبيُّ: «لَمَّا فَتَح عمرو بنُ العاص رضي الله عنه مصرَ اختطَّ منازلَ العرب حول الفسطاط، فسُمِّي: الفسطاطَ لهذا»، [انظر: «مراصد الاطِّلاع.]) فِي رَمَضَانَ، فَرُفِعَ ثُمَّ قُرِّبَ غَدَاهُ، قَالَ جَعْفَرٌ فِي حَدِيثِهِ: فَلَمْ يُجَاوِزِ البُيُوتَ حَتَّى دَعَا بِالسُّفْرَةِ، قَالَ: «اقْتَرِبْ»، قُلْتُ: «أَلَسْتَ تَرَى البُيُوتَ؟» قَالَ أَبُو بَصْرَةَ: «أَتَرْغَبُ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟» قَالَ: فَأَكَلَ»(٢٨-[أخرجه أبو داود في «الصوم» (٢/ ٧٩٩) باب: متى يفطر المسافرُ إذا خَرَج؟ وأحمد (٦/ ٧، ٣٩٨). والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «صحيح سنن أبي داود» (٢/ ٧٢)، وحسَّنه الأرناؤوط في «جامع الأصول» (٦/ ٤١٣).]).
وقد صرَّح هذان الصحابيَّان بأنَّ إفطار المسافر قبل مجاوزة البيوت هو مِنَ السنَّة(٢٩-[انظر: «نيل الأوطار» للشوكاني (٥/ ٣٠٦ ـ ٣٠٧).]).
ولأنَّ السَّفر إِنْ وُجِد ليلًا واستمرَّ في النهار جاز له الفطرُ، وهو الأصلُ المنصوصُ عليه، وهو حالةٌ لا يختلف فيها الحكمُ إِنْ وُجِد السفرُ في أثنائه كالحالة الأولى
قلت سيف :
وهذه المسألة قد اختلف العلماء فيها على أقوال:
أحدها: وهو قول أكثر أهل العلم أن من أصبح صائما ثم سافر فليس له أن يفطر ذلك اليوم البتة لا قبل الشروع في السفر ولا بعده، وهو قول إبراهيم النخعي والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري والأوزاعي وأبي حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي وأبي ثور.
والثاني: أنه له الفطر إذا خرج وبرز عن البيوت، وهو قول أحمد بن حنبل وروى عن عبد الله بن عمر والشعبي.
واحتج بعضهم على جواز الفطر بالحديث الصحيح في خروجه صلى الله عليه وسلم في رمضان إلى مكة وأنه صام حتى بلغ الكديد ثم أفطر، وفي رواية حتى بلغ كراع الغميم فتوهم من استدل بهذا أن الكديد والكراع بقرب المدينة وأن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح بالمدينة صائما ثم بلغهما في بقية يومه فأفطر، فالاستدلال بهذا الحديث على ذلك باطل.
والثالث: إن له الفطر إذا وضع رجله في الرحل، وبه قال داود وحكاه ابن عبد البر عن إسحق وهو مخالف لما حكاه الترمذي عنه من أن له الفطر في بيته قبل أن يخرج إلا أن يحمل على أنه وضع رجله في الرحل وهو في بيته ثم أكل قبل أن يخرج، وحديث أنس مخالف له في أنه دعا بطعامه فأكل ثم ركب والله أعلم.
والرابع: أن له الفطر في بيته يوم يريد أن يخرج، وهو قول أنس والحسن البصري.
والأدلة على القول الرابع -وهو الراجح-:
1- من القرآن هو قول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فإن قوله: {عَلَى سَفَرٍ} يشمل من تأهب للسفر ولما يخرج.
2- ما ثبت عن الصحابي دحية بن خليفة رضي الله عنه أنه خرج من قريته إلى قريب من قرية عقبة في رمضان ثم إنه أفطر وأفطر معه ناس وكره آخرون أن يفطروا قال: فلما رجع إلى قريته قال: والله لقد رأيت اليوم أمرا ما كنت أظن أن أراه إن قوما رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقول ذلك للذين صاموا ثم قال عند ذلك: “اللهم اقبضني إليك”.
هذه خلاصة لـ: رسالة الألباني ( تصحيح إفطار الصائم قبل سفره).
تنبيه : حديث أنس أنه السنة أعله ابوحاتم ورجح أن أنس قال : ليس سنه .
وحديث أبي بصره يحمل إن صح لم يجاوز البيوت على معنى لم يجاوزها بمسافة كثيرة وإن كان خرج منها
وقال ابن خزيمة : باب إباحة الفطر في اليوم الذي يخرج المرء فيه مسافرا من بلده إن ثبت الخبر . ثم قال : لست أعرف كليب بن ذهل ولا عبيد بن جبر ولا أقبل دين من لا أعرفه بعدالة .
وقال ابن قدامة : وهذا يعني أنه لا يباح له الفطر حتى يخلف البيوت وراء ظهره يعني يجاوزها ويخرج من بين بنيانها
اما حديث ابن عباس كما ذكروا ورد في رواية : فلما بلغ الكديد قال ابن حجر بين المدينة وكديد عدة أيام
وفي مسلم قيل له إن الناس قد شق عليهم. …
فلفظة شق عليهم يدل أنهم سافروا .
(٣٠-[لا يُقاسُ السفرُ على عذر المرض المبيح للإفطار؛ للفارق بينهما، مِنْ جهةِ أنَّ المرض لا يمكن دفعُه، أي: أنَّ المرض شيءٌ يحدث عليه لا باختياره، بخلافِ السفر فهو مِنْ فعلِه الذي يُنشِئُه باختياره، [انظر: «معالم السنن» للخطَّابي (٢/ ٨٠٠)].]).
أمَّا الاستدلال بالآية فهي خارجةٌ عن محلِّ النزاع؛ لأنَّ شهود الشهر لمَنْ حَضَره مُقيمًا دون المسافر؛ وأمَّا الآية الأخرى فقَدْ ثَبَت مِنْ فعلِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ بعد نزولها عليه ـ ما لا يُوافِقُ المعنى الذي ذَكَروه؛ ولا شكَّ أنَّه أعلمُ الخَلْق بمعناها؛ وأمَّا عمومُ آيةِ: ﴿وَلَا تُبۡطِلُوٓاْ أَعۡمَٰلَكُمۡ ٣٣﴾ [محمَّد] فقَدْ وَرَد ما يخصِّصها، و«الخَاصُّ يَقْضِي عَلَى العَامِّ ويَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ» ـ كما هو مقرَّرٌ أصوليًّا ـ.
والقياس على الصلاة لا يصحُّ للفارق بينهما؛ فالصلاةُ يَلْزَمُ إتمامُها بنيَّته بخلاف الصوم؛ إذ الصلاةُ فعلٌ والصومُ كفٌّ فافترقا(٣١-[مِنْ آثارِ هذا الخلاف: ما لو جامَع فيه: هل تَلْزَمه الكفَّارةُ أم لا؟ [انظر: «المغني» لابن قدامة (٣/ ١٠٢)، «المجموع» للنووي (٦/ ٢٦١)].]).
٩ ـ السفر المُعتبَرُ ـ شرعًا ـ هو البروزُ مِنْ محلِّ الإقامة بنيَّةٍ وهيئةٍ ومدَّةٍ يعتبرها العرفُ سفرًا، فيُباحُ فيه القَصْرُ والجمعُ والفطر؛ وقد اختُلِف في تحديده، والأقوى بقاؤه غيرَ مُقيَّدٍ بمسافةٍ؛ فيُترخَّصُ في كُلِّ ما يُسمَّى سفرًا ـ طال أم قَصُر ـ مِنْ غيرِ تحديدِ السفر بمدَّةٍ أو مسافةٍ أو كونِه سفرَ طاعةٍ، وهو مذهبُ ابنِ تيمية ـ رحمه الله ـ(٣٢-[انظر ترجمته في: «تحرير المَقال في فقه حديث الصوم والإفطار لرؤية الهلال» (ص ٤٤).])(٣٣-[انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٩/ ٢٤٣ وما بعدها، ٢٤/ ٣٥ وما بعدها).])؛ قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ(٣٤): «وأمَّا ما يُرْوى عنه مِنَ التحديد باليوم أو اليومين أو الثلاثة فلم يصحَّ عنه منها شيءٌ ألبتَّةَ»(٣٥).
١٠ ـ وظاهِرُ الحديث أنَّ المسافر لا يَلْزَمه الصومُ ولو عَلِم اليومَ الذي يَصِلُ إلى محلِّ إقامته، وهو الصحيحُ لأنَّه لا يزال مسافرًا، والأحكامُ المترتِّبة على السفر لا تنقطع إلَّا بانقطاعه.
١١ ـ وقوله: «عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ»: فيه جوازُ إتيانِ رُخَصِ الله تعالى التي خفَّف بها على عباده، ويكون الفطرُ واجبًا لمَنْ يشقُّ عليه الصومُ ويشتدُّ ويتضرَّر؛ ويدلُّ على كونه عزيمةً ورخصةً واجبةً قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم في رواية النسائيِّ: «فَاقْبَلُوهَا»، وفي قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ»، كذلك مَنْ كان مُعْرِضًا عن قَبولِ الرخصة متحرِّجًا منها فالفطرُ أفضلُ له، ويدلُّ عليه حديثُ ابنِ عمر رضي الله عنهما أنه قال: «إِذَا سَافَرْتَ فَلَا تَصُمْ؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَصُمْ قَالَ أَصْحَابُكَ: «اكْفُوا الصَّائِمَ»، «ارْفَعُوا لِلصَّائِمِ»، وَقَامُوا بِأَمْرِكَ وَقَالُوا: «فُلَانٌ صَائِمٌ»؛ فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَذْهَبَ أَجْرُكَ»(٣٦-[أورده ابنُ حجرٍ في «فتح الباري» (٤/ ١٨٣) مِنْ رواية الطبريِّ مِنْ طريقِ مجاهدٍ، وسَكَت عنه، كما ذَكَره الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (١/ ١٢٥) مِنْ رواية الفريابيِّ، وقال: «رجالُه ثِقاتٌ».])، وفي حديثِ أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه مرفوعًا: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال للمفطرين حين خدموا الصُّوَّامَ: «ذَهَبَ المُفْطِرُونَ اليَوْمَ بِالأَجْرِ»(٣٧-[أخرجه البخاريُّ في «الجهاد والسِّيَر» (٦/ ٨٤) بابُ فضلِ الخدمة في الغزو، ومسلمٌ في «الصيام» (٧/ ٢٣٥) بابُ جوازِ الصوم والفطر في شهرِ رمضانَ للمسافر، والنسائيُّ في «الصيام» (٤/ ١٨٢) بابُ فضلِ الإفطار في السفر على الصيام، مِنْ حديثِ أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه.]).
١٢ ـ فيه استحبابُ التمسُّكِ بالرخصة عند الحاجة إليها، وكراهةُ تركِها على وجه التشدُّد والتعمُّق والتنطُّع في الدِّين(٣٨-[انظر: «رياض الأفهام» للفاكهاني (٣/ ٤٣٣)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٨٦).]).
١٣ ـ ظاهرُ الحديثِ أنَّ الترخُّص بالفطر في رمضان إنَّما هو في سفر الطاعة اتِّفاقًا؛ واختلفوا في جواز الترخُّص في سفر المعصية: فمَنَع ذلك الجمهورُ جريًا على قاعدةِ: «الرُّخَصُ لَا تُنَاطُ بِالمَعَاصِي»(٣٩-[انظر: «الأشباه والنظائر» للسيوطي (١٣٨).])؛ خلافًا للحنفية والظاهرية، فإنَّ المعاصيَ ـ عندهم ـ لا تمنع مِنَ الإتيان بالرُّخَص(٤٠-[انظر: «المغني» لابن قدامة (٢/ ٢٦١)، «تفسير القرطبي» (٢/ ٢٧٧)، «فواتح الرحموت» للأنصاري (١/ ١٦٤).]).
١٤ ـ والحديث ـ بظاهره ـ يُفيدُ أنَّ الفطر ما دام قد أُبيحَ رخصةً وتخفيفًا فلا يصحُّ للمسافر أَنْ يصوم في رمضان عن غيره كالنذر والقضاء؛ لأنَّه إِنْ لم يُرِدِ التخفيفَ عن نَفْسِه لَزِمه أَنْ يأتيَ بالأصل، وهو مذهبُ الجمهور؛ أمَّا مذهبُ أبي حنيفة وابنِ حزمٍ رحمهما الله فيقع ما نواهُ إِنْ كان واجبًا؛ لأنَّه شَغَل الوقتَ بالأهمِّ، ورخصتُه متعلِّقةٌ بمطلق السفر وقد وُجِد، و«إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»(٤١-[أخرجه البخاريُّ في «بدء الوحي» (١/ ٩) باب: كيف كان بدءُ الوحيِ إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟ ومسلمٌ في «الإمارة» (١٣/ ٥٣) بابُ قولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنما الأعمالُ بالنيَّة»، مِنْ حديثِ عمر بنِ الخطَّاب رضي الله عنه.])؛
أمَّا ابنُ حزمٍ ـ رحمه الله ـ فحَمَل أحاديثَ الصيام في السفر على ما هو واجبٌ غير رمضان؛ جمعًا بين الأدلَّة(٤٢-[انظر: «المحلَّى» لابن حزم (٦/ ٢٤٣)، «المغني» لابن قدامة (٣/ ١٠٢)، «تبيين الحقائق» للزيلعي (١/ ٣١٦).]).
والصحيح المذهب الأوَّل؛ لأنَّ الفطر إنَّما يُباحُ للعذر، فلا يصحُّ أَنْ يصومه عن غير رمضان، كالمريض إِنْ نوى عن واجبٍ آخَرَ، كما ينتقض إِنْ نوى صومَ النفل في رمضان؛ أمَّا جمعُ ابنِ حزمٍ ـ رحمه الله ـ فسيأتي في المناقشة اللاحقة.
سابعًا: مواقف العلماء مِنَ الحديث (فقه الحديث):
- تحرير محلِّ النزاع:
لا خلافَ بين أهل العلم في مشروعية الفطر للمسافر، وأنَّ المفطر في رمضان يَلْزَمه القضاءُ في أيَّامٍ أُخَرَ(٤٣-[انظر تقريرَ الإجماع في: «المغني» لابن قدامة (٣/ ١٣٥، ١٤٩)، «المجموع» للنووي (٦/ ٢٦١).])؛ ومُستنَدُ الإجماعِ قولُه تعالى: ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٥]؛ وإنَّما اختلفوا في جواز الصوم في السفر، وفي أفضليَّته على الفطر عند المجيزين للصوم فيه.
وأتعرَّض لهاتين المسألتين على الوجه التالي:
المسألة الأولى: في حكم الصوم في السفر:
أ) مذاهب العلماء:
اختلف العلماءُ في هذه المسألةِ على مذهبين:
المذهب الأوَّل: أنَّ الصوم في السفر لا يجزئ عن الفرض، بل مَنْ صام في السفر وَجَب عليه قضاؤه في الحَضَر، غير أنَّه يجوز صيامُ واجبٍ غيرِ رمضانَ في السفر: كصومِ قضاءٍ سابقٍ أو نذرٍ، وهو مذهبُ الظاهرية والشيعة، وهو مرويٌّ عن ابنِ عمر وابنِ عبَّاسٍ وعبد الرحمن بنِ عوفٍ وأبي هريرة رضي الله عنهم، وبه قال الزُّهْريُّ، وإبراهيم النَّخَعيُّ.
المذهب الثاني: أنَّ الصَّوم في السفر يُجزِئه عن فرضِ رمضان وعن غيره ولو كان تطوُّعًا، وهو مذهبُ جماهيرِ أهل العلم مِنَ الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم، وبه قال الأئمَّة الأربعةُ ومَنْ وافقهم(٤٦-[انظر: «المحلَّى» لابن حزم (٦/ ٢٤٣)، «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٢٩٥)، «المغني» لابن قدامة (٣/ ١٤٩)، «تفسير القرطبي» (٢/ ٢٧٩)، «المجموع» للنووي (٦/ ٢٦٤)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٨٣).]).
ب) أدلَّة المذهبين:
استدلَّ كُلٌّ مِنَ الفريقين المُتنازِعَيْن في هذه المسألةِ بجملةٍ مِنَ الأدلَّة، أتناولها مع مذهب الظاهرية أوَّلًا، ثمَّ مع مذهب الجمهور ثانيًا
١) أدلَّة الظاهرية:
احتجَّ الظاهريةُ ومَنْ وافقهم على عدمِ إجزاء الصوم في السفر عن الفرض بالكتاب والسنَّة والآثار:
ـ أمَّا مِنَ الكتاب فبقوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٥]، ووجهُ دلالةِ الآية: أنَّ الله تعالى فَرَض الصومَ على مَنْ شَهِده وحَضَره، وأمَّا المريض والمسافر ففَرْضُهما الأيَّامُ الأُخَرُ، ولا يُصارُ إلى الإضمار في هذه الآيةِ لأنَّه خلافُ الأصل؛ إذ الأصلُ أَنْ يُحْمَلَ فيه اللفظُ على الاستقلال لقلَّةِ اضطرابه.
ـ أمَّا مِنَ السنَّة فاستدلُّوا بحديثِ الباب، مِنْ جهةِ كونِ صيامِه صلَّى الله عليه وسلَّم لرمضان قد نَسَخه بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أُولَئِكَ العُصَاةُ»، ويقوِّي ذلك قولُ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما في ذاتِ القصَّة: «وَكَانَ صَحَابَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّبِعُونَ الأَحْدَثَ فَالأَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ»(٤٧-[أخرجه مالكٌ في «الموطَّإ» (١/ ٢٧٥)، ومسلمٌ في «الصيام» (٧/ ٢٣١) بابُ جوازِ الصوم والفطر في شهرِ رمضانَ للمسافر، والبغويُّ في «شرح السنَّة» (٦/ ٣١٠)، مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما.])؛ فصار الفطرُ فرضًا والصومُ معصيةً(٤٨-[انظر: «المحلَّى» لابن حزم (٦/ ٢٤٣).]).
كما استدلُّوا بالرواية الأخرى مِنْ حديثِ جابرٍ رضي الله عنه مرفوعًا: «لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ»، وفي رواية النسائيِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَجُلٍ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ يُرَشُّ عَلَيْهِ المَاءُ، قَالَ: «مَا بَالُ صَاحِبِكُمْ هَذَا؟» قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللهِ، صَائِمٌ»، قَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ البِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ، وَعَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا»»(٤٩-[تقدَّم تخريجه، انظر: نصَّ الحديث.]).
والحديث فيه آكديةُ الفطرِ في السفرِ ووجوبُ قَبولِ الرخصة، وهي غيرُ قاصرةٍ على حالِ ذلك الرَّجلِ دون غيره؛ لأنَّ تلك الحالَ يَحْرُمُ البلوغُ إليها باختيار المرء للصوم في الحَضَر والسفر سواءً؛ فدلَّ ذلك على وجوبِ أخذِ كلام النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم على عمومه؛ لأنَّ «العِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ»
(٥٠-[اختلفَتْ أنظارُ الأصوليِّين في تقريرِ هذه المسألةِ أصوليًّا، فمذهبُ الجمهور: أنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ وخالف المُزَنيُّ وأبو ثورٍ والدقَّاقُ والقفَّال في المسألة، ورأَوْا أنَّ العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، وبهذا قال مالكٌ وأحمد في إحدى الروايتين عنهما؛ وفصَّل المسألةَ فريقٌ ثالثٌ، وتوقَّف آخَرون؛ والصحيحُ المذهبُ الأوَّل؛ لأنَّ الأحكام متعلِّقةٌ بلفظِ صاحبِ الشرع دون السبب؛ ذلك لأنَّه لو انفرد صاحبُ الشرعِ بلفظٍ لَتعلَّق به الحكمُ، بخلاف السبب فلا يتعلَّق به الحكمُ حالَ انفراده؛ فكان الاعتبارُ لاحقًا بما تَعلَّق به الحكمُ دون غيره.
انظر تفصيلَ المذاهب في: «المعتمد» لأبي الحسين (١/ ٣٠٢)، «العُدَّة» لأبي يعلى (٢/ ٥٩٦)، «التبصرة» (١٤٤) و«شرح اللُّمَع» (١/ ٣٩٢) كلاهما للشيرازي، «إحكام الفصول» (٢٧٠) و«الإشارة» [بتحقيقي] (٢٣٥) كلاهما للباجي، والمصادر الأخرى المُثْبَتة على هامش (٢٣٧)].])
ويؤيِّد هذا المعنى قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ»(٥١-[رواه أحمد في «مسنده» (٢/ ١٠٨)، والبيهقيُّ في «سننه الكبرى» (٣/ ١٤٠)، وابنُ خزيمة في «صحيحه» (٢/ ٧٣)، مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما، وأورده الهيثميُّ في «موارد الظمآن» (١٤٤). والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «إرواء الغليل» (٣/ ٩)، وهو صحيحٌ ـ أيضًا ـ بلفظ: «…كما يُحِبُّ أَنْ تُؤْتى عزائمُه»، قال الألبانيُّ ـ رحمه الله ـ في «إرواء الغليل» (٣/ ١٣): «وأمَّا إنكارُ شيخِ الإسلام ابنِ تيمية اللفظَ الثانيَ في أوَّلِ كتابِ: «الإيمان» فممَّا لا يُلتفَتُ إليه بعد ورودِه مِنْ عدَّةِ طُرُقٍ بعضُها صحيحٌ كما سَلَف».]).
ومِنَ السنَّة ـ أيضًا ـ: احتجُّوا بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّ اللهَ تَعَالَى وَضَعَ شَطْرَ الصَّلَاةِ ـ أَوْ: نِصْفَ الصَّلَاةِ ـ وَالصَّوْمَ عَنِ المُسَافِرِ، وَعَنِ المُرْضِعِ أَوِ الحُبْلَى»، وفي روايةٍ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنِ المُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ، وَعَنِ الحَامِلِ أَوِ المُرْضِعِ الصَّوْمَ أَوِ الصِّيَامَ»، وفي لفظٍ آخَرَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ، وَعَنِ الْمُسَافِرِ وَالْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ الصَّوْمَ أَوِ الصِّيَامَ»(٥٢-[أخرجه أبو داود في «الصوم» (٢/ ٧٩٦) بابُ اختيارِ الفطر، والترمذيُّ في «الصوم» (٣/ ٩٤) بابُ ما جاء في الرخصة في الإفطار للحُبْلى والمُرْضِع، والنسائيُّ في «الصيام» (٤/ ١٨٠)، وابنُ ماجه في «الصيام» (١/ ٥٣٣) بابُ ما جاء في الإفطار للحامل والمُرْضِع، وأحمد (٤/ ٣٤٧)، والبغويُّ في «شرح السنَّة» (٦/ ٣١٥)، والبيهقيُّ في «السنن الكبرى» (٤/ ٢٣١)، مِنْ حديثِ أنس بنِ مالكٍ الكعبيِّ رضي الله عنه، وهو غيرُ الأنصاريِّ رضي الله عنه.
والحديث حسَّنه الترمذيُّ، وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح أبي داود» (٢/ ٧١)، والأرناؤوط في «جامع الأصول» (٦/ ٤١٠).])، ووجهُ دلالتِه: عدمُ جوازِ الصوم للمسافر لكونه موضوعًا عنه كشطر الصلاة، وهذا يَستلزِمُ عدمَ صحَّةِ الصوم نصًّا، وبدلالة الاقتران ـ أيضًا ـ.
ـ أمَّا مِنَ الآثار فبقولِ ابنِ عمر رضي الله عنهما: «إِنْ صَامَ قَضَاهُ»(٥٣-[انظر: «المجموع» للنووي (٦/ ٢٦٤).])، و«كَانَ لَا يَصُومُ فِي السَّفَرِ»(٥٤-[أخرجه مالكٌ في «الموطَّإ» في «الصوم» (١/ ٢٧٦) بابُ ما جاء في الصيام في السفر.])، ورُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: «لَا يُجْزِئُهِ الصِّيَامُ»(٥٥-[أخرجه ابنُ حزمٍ في «المحلَّى» (٦/ ٢٥٧).])، وعن عبد الرحمن بنِ عوفٍ رضي الله عنه قال: «الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالمُفْطِرِ فِي الحَضَرِ»(٥٦-[أخرجه النسائيُّ في «الصيام» (٤/ ١٨٣) بابُ ذِكْرِ قوله: الصائمُ في السفر كالمفطر في الحَضَر، قال البيهقيُّ في «السنن الكبرى» (٤/ ٢٤٤): «وهو موقوفٌ، وفي إسناده انقطاعٌ».
ورواه ابنُ ماجه مرفوعًا في «الصيام» (١/ ٥٣٢) بابُ ما جاء في الإفطار في السفر، وإسنادُه ضعيفٌ، [انظر: «ضعيفَ سننِ ابنِ ماجه» (١٣١) و«السلسلة الضعيفة» (١/ ٥٠٥) كلاهما للألباني].
ورواه النسائيُّ مِنْ طريقِ ابنِ أبي ذئبٍ عن الزهريِّ عن أبي سَلَمة بنِ عبد الرحمن بنِ عوفٍ عن أبيه رضي الله عنه موقوفًا، وإسنادُه صحيحٌ، قال الحافظ في «التلخيص» (٢/ ٢٠٥): «صحَّح كونَه موقوفًا: ابنُ أبي حاتمٍ عن أبيه، والدارقطنيُّ في «العِلَل»، والبيهقيُّ».])، وحُكِي ـ أيضًا ـ بطلانُ صومِ المسافر عن أبي هريرة رضي الله عنه(٥٧-[أخرجه ابنُ حزمٍ في «المحلَّى» (٦/ ٢٥٧).]).
٢) أدلَّة الجمهور:
احتجَّ الجمهورُ على مذهبهم في جواز الصوم في السفر بالأحاديث والقياس على الوجه التالي:
أمَّا الأحاديث التي احتجُّوا بها فكثيرةٌ جدًّا منها:
أ ـ حديثُ البابِ الدالُّ على جواز الصيام في السفر وجوازِ الأخذ بالرخصة، ويؤيِّده ما ثَبَت مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه قال: «سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ»، قَالَ: «فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَالفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ»، فَكَانَتْ رُخْصَةً، فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلًا آخَرَ فَقَالَ: «إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ، وَالفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ؛ فَأَفْطِرُوا»، وَكَانَتْ عَزْمَةً فَأَفْطَرْنَا»، ثُمَّ قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُنَا نَصُومُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ»(٥٨-[أخرجه مسلمٌ في «الصيام» (٧/ ٢٣٦) بابُ جوازِ الصوم والفطر في شهرِ رمضانَ للمسافر، وأبو داود في «الصوم» (٢/ ٧٩٥) باب الصوم في السفر، مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه.]).
ب ـ وحديث حمزة بنِ عمروٍ الأسلميِّ رضي الله عنه قال: «يَا رَسُولَ اللهِ، أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟» فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ؛ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ»(٥٩-[أخرجه مسلمٌ في «الصيام» (٧/ ٢٣٨) بابُ جوازِ الصوم والفطر في شهرِ رمضانَ للمسافر، مِنْ حديثِ حمزة بنِ عمرٍو الأسلميِّ رضي الله عنه.])، وفي حديثِ عائشة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال لحمزةَ بنِ عمرٍو الأسلميِّ رضي الله عنه: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ»(٦٠-[أخرجه البخاريُّ في «الصوم» (٤/ ١٧٩) باب الصوم في السفر والإفطار، ومسلمٌ في «الصيام» (٧/ ٢٣٦ ـ ٢٣٧) بابُ جوازِ الصوم والفطر في شهرِ رمضانَ للمسافر، والسؤالُ لم يَرِدْ على خصوصِ رمضان، و«تَرْكُ الاِسْتِفْصَالِ فِي حِكَايَةِ الحَالِ، مَعَ قِيَامِ الاِحْتِمَالِ، يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ العُمُومِ فِي المَقَالِ، وَيَحْسُنُ بِهِ الاِسْتِدْلَالُ»
(٦١-[هذه القاعدةُ مرويَّةٌ عن الإمام الشافعيِّ ـ رحمه الله ـ، [انظر: «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (١٨٦)، «القواعد والفوائد الأصولية» للبعلي (٢٣٤)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (٣/ ١٧٢)].]).
ﺟ ـ حديث أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: «كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى المُفْطِرِ، وَلَا المُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ»(٦٢-[أخرجه البخاريُّ في «الصوم» (٤/ ١٨٦) باب: لم يَعِبْ أصحابُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعضُهم بعضًا في الصوم والإفطار، ومسلمٌ في «الصيام» (٧/ ٢٣٥) بابُ جوازِ الصوم والفطر في شهرِ رمضانَ للمسافر، ]).
د ـ عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ»(٦٣-[أخرجه البخاريُّ في «الصوم» (٤/ ١٨٢) باب: إذا صام أيَّامًا مِنْ رمضان ثمَّ سافر، ومسلمٌ في «الصيام» (٧/ ٢٣٨) بابُ جوازِ الصوم والفطر في شهرِ رمضانَ للمسافر، .]).
ﻫ ـ وحديث أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَر، فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا المُفْطِرُ»، قَالَ: «فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ، أَكْثَرُنَا ظِلًّا صَاحِبُ الكِسَاءِ، وَمِنَّا مَنْ يَتَّقِي الشَّمْسَ بِيَدِهِ»، قَالَ: «فَسَقَطَ الصُّوَّامُ، وَقَامَ المُفْطِرُونَ فَضَرَبُوا الأَبْنِيَةَ وَسَقَوُا الرِّكَابَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَهَبَ المُفْطِرُونَ اليَوْمَ بِالأَجْرِ»»(٦٤-[تقدَّم تخريجه، انظر: (الهامش ٣٧).]).
وحاصلُ وجهِ دلالةِ هذه الأحاديث: أنَّها تُفيدُ جوازَ الصيام في السفر بإقرار النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لهم كُلًّا منهم على حاله، سواءٌ في شهر رمضان أو في غيره مِنْ غير تفريقٍ؛ خلافًا لمذهبِ ابنِ حزمٍ ـ رحمه الله ـ الذي يفرِّق بين صومِ رمضانَ في السفر الذي لا يجيزه، وبين صومِ واجبٍ لَزِمه أو صومِ نذرٍ أو قضاءٍ عن رمضانٍ سابقٍ فإنَّه يجوز ـ عنده ـ صومُه في السفر(٦٥-[انظر: «المحلَّى» لابن حزم (٦/ ٢٤٣).]).
و ـ واستدلُّوا بقياس المسافر على المريض بجامعِ وجود المَشَقَّة في الصوم لكُلٍّ منهما، وإذا أجزأ صومُ المريض فإنَّ صوم المسافر يجزئ ـ أيضًا ـ؛ قال ابنُ رشدٍ ـ رحمه الله ـ: «قال أبو عمر(٦٦-[هو أبو عمر يوسف بنُ عبد الله بنِ محمَّد بنِ عبد البرِّ الأندلسيُّ، انظر ترجمته في: «القول الممسَّك في فقه حديث النهي عن صيام يوم الشكِّ» (١٨).]): والحجَّةُ على أهل الظاهر: إجماعُهم على أنَّ المريض إذا صام أجزأه صومُه»(٦٧-[«بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٢٦٩).]).
ﺟ) مناقشة الأدلَّة:
أبتدئ بمناقشةِ أدلَّة الجمهور أولًا، وأعقبها بمناقشةِ أدلَّةِ الظاهرية ثانيًا:
١) مناقشة أدلَّة الجمهور:
نُوقِشَتْ أدلَّةُ الأحاديثِ التي احتجَّ بها الجمهورُ مِنْ جهة الجمع أوَّلًا، ومِنْ جهة النسخ ثانيًا.
ـ أمَّا مِنْ جهة الجمع فيمكن حملُ أدلَّةِ الجمهور في حقِّ مَنْ صام في السفر صومًا واجبًا لَزِمه غير رمضان: كصومِ قضاءٍ سابقٍ، أو نذرٍ في السفر؛ أمَّا الأحاديث الناهية عن الصوم في السفر فتُحْمَلُ على صوم رمضان؛ توفيقًا بين الأدلَّة وتحقيقًا للجمع بينها.
ـ أمَّا مِنْ جهة النسخ فنُوقِشَتْ أدلَّةُ الجمهور بأنَّها منسوخةٌ بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أُولَئِكَ العُصَاةُ»
وأمَّا قياسُ المسافر على المريض الذي استدلَّ به الجمهورُ فلا حجَّةَ فيه عند أهل الظاهر لنَفْيِهم للقياس،
٢) مناقشة أدلَّة الظاهرية:
أمَّا أدلَّة الظاهرية فقَدْ نُوقِشَتِ الآيةُ التي استدلُّوا بها بأنَّ جُلَّ العلماءِ وأهلِ التفسير ذَكَروا فيها مقدَّرًا وهو «فأفطر» أي: ومَنْ كان منكم مريضًا أو على سفرٍ [فأفطر] فعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَرَ، وهذا التقدير ـ وإِنْ كان فيه إضمارٌ، والإضمارُ مُخالِفٌ للأصل ـ إلَّا أنَّ هذا الأخير ظَهَر رجحانُه بدليلٍ مُنفصِلٍ، وهو صيامُه صلَّى الله عليه وسلَّم بعد نزولِ هذه الآيةِ عليه ـ وهو أعلمُ الخَلْق بمعناها ـ وأَقرَّ الصحابةَ رضي الله عنهم على صيامهم كما تَقدَّم في الأحاديث السابقة مِنْ أدلَّة الجمهور(٦٨-[انظر: أدلَّةَ الجمهور في حكم الصوم للمسافر.]).
ـ أمَّا قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أُولَئِكَ العُصَاةُ» عصيانُهم مِنْ أجلِ مخالفتهم لأمرِه لا لصيامهم(٦٩-[انظر: «وبل الغمام» للشوكاني (١/ ٥٠٢).])؛ إذ لو كان الصومُ في السفر غيرَ جائزٍ لَمَا تابَع النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم صومَه غالِبَ النهار، وهو إلى ما بعد العصر، مع ما يُلاقيهِ الناسُ مِنْ مَشقَّةٍ(٧٠-[والتصريح بالرخصة في الحديث عند قوله: «عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا» مُشْعِرٌ بأنَّ الصوم عزيمةٌ ما لم يَخْشَ على نفسِه الهلاكَ، فيكون الفطرُ ـ عندئذٍ ـ عزيمةً، قال الشوكانيُّ ـ رحمه الله ـ: «والفطر للمسافر ونحوِه رخصةٌ، إلَّا أَنْ يخشى التلفَ أو الضعفَ عن القتال فعزيمةٌ» [«الدراري المُضيَّة» (٢/ ٢٤)].])، ولَمَا صامَه صلَّى الله عليه وسلَّم هو وأصحابُه رضي الله عنهم بعد ذلك.
ـ أمَّا جملةُ: «وَكَانَ صَحَابَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّبِعُونَ الأَحْدَثَ فَالأَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ» فهي زيادةٌ مُدْرَجةٌ مِنْ قول الزُّهْريِّ، وبذلك جَزَم البخاريُّ(٧١-[انظر: «صحيح البخاري» (٨/ ٣).])، قال الحافظ ـ رحمه الله ـ: «وظاهرُه أنَّ الزُّهريَّ ذَهَب إلى أنَّ الصوم في السفر منسوخٌ، ولم يُوافَقْ على ذلك»(٧٢-[«فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٨١).])؛ وفي هذا الصددِ تَرْجَم ابنُ خزيمة رحمه الله ـ بيانًا لذلك ـ بقوله: «بابُ ذِكْرِ البيان على أنَّ هذه الكلمة: «وإنَّما يُؤخَذُ بالآخِر» ليس مِنْ قولِ ابنِ عبَّاسٍ»(٧٣-[«صحيح ابن خزيمة» (٣/ ٢٦٢).]).
ـ وكذلك حديثُ: «لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ» فإنما قاله صلَّى الله عليه وسلَّم في حقِّ مَنْ شقَّ عليه الصومُ
ـ والاستدلال بحديثِ وضعِ الصوم عن المسافر ـ كما تَقدَّم(٧٨-[سبق تخريجه، انظر: (الهامش ٥٢).]) ـ فلا يَلْزَم مِنَ الوضعِ عدمُ صحَّةِ الصوم في السفر، وهو محلُّ النزاع(٧٩-[انظر: «نيل الأوطار» للشوكاني (٥/ ٣٠١).]).
ـ أمَّا ما رُوِي عن عبد الرحمن بنِ عوفٍ رضي الله عنه مِنْ قوله: «الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالمُفْطِرِ فِي الحَضَرِ»، فقَدْ قال البيهقيُّ ـ رحمه الله ـ(٨٤): «هو موقوفٌ، وفي إسناده انقطاعٌ، ورُوِي مرفوعًا وإسنادُه ضعيفٌ»(٨٥)، وضعَّف إسنادَه النوويُّ ـ رحمه الله ـ(٨٦-[انظر: «المجموع» للنووي (٦/ ٢٦٥). وقد تقدَّم تخريجه، انظر: (الهامش ٥٦).]).
وعلى تقديرِ صحَّة الموقوف وصحَّةِ الآثار الأخرى فهي محمولةٌ على مَنْ شقَّ عليه الصومُ؛ جمعًا بين كافَّة الأدلَّة(٨٧-[انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٨٤).])،
####
####
####
المسألة الثانية: في أفضلية الفطر في السفر:
- تحرير محلِّ النزاع في المسألة:
لا خلافَ بين أهل العلم القائلين بجواز الصوم في السفر: أنَّ الفطر في السفر أفضلُ مِنَ الصوم لمَنْ يشقُّ عليه ويتضرَّر بإمساكه، أو اقترنَتْ به مصلحةٌ مِنَ التقوِّي على الأعداء، أو كان مُعْرِضًا عن قَبولِ الرخصة مُتحرِّجًا منها، أو خاف على نَفْسِه العُجْبَ أو الرِّياء أو الغرور، أو خَشِيَ قيامَ أصحابه في السفر بأمرِه وخدمتِه باعتبارهم مُفْطِرين، ونحوِ ذلك مِنَ الأحوال التي اتَّفقوا على تفضيلِ الفطر على الصوم فيها(٨٨-[انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٨٣).])، لكنَّهم يختلفون فيما عَدَا ذلك.
أ) مذاهب العلماء:
اختلف العلماء في أفضلية الفطر في السفر على مذهبين مشهورَيْن(٨٩-[فيه مذهبٌ ثالثٌ يرى أنَّ ذلك على التخيير مطلقًا، وأَنْ ليس أحَدُهما أفضلَ مِنَ الآخَر؛ للتخيير الوارد في قصَّةِ حمزة بنِ عمرٍو الأسلميِّ رضي الله عنه: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ» ، ولتعادلِ الأحاديث في الحكم والمدلول وتكافُئِها في الدرجة والقوَّة كما هو ظاهرٌ مِنْ حديثِ أنسٍ رضي الله عنه: «كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى المُفْطِرِ، وَلَا المُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ» ، وظاهرُه التسويةُ بين الإفطار والصوم.
وقال آخَرُون: أفضلُهما أيسرُهما؛ لقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ﴾ [البقرة: ١٨٥]: فإِنْ كان الفطرُ أيسرَ عليه فيكونُ ـ في حقِّه ـ أفضلَ مِنَ الصوم، وإلَّا كان الصومُ أفضلَ إِنْ كان يسهل عليه، ويشقُّ عليه قضاؤه بعد ذلك، وهو مذهبُ عمر بنِ عبد العزيز، واختاره ابنُ المنذر، [انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٢٩٦)، «تفسير القرطبي» (٢/ ٢٨٠)، «المجموع» للنووي (٦/ ٢٦٥)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٨٣)، «سُبُل السلام» للصنعاني (٢/ ٣٣٠)].]):
المذهب الأوَّل: يرى أنَّ مَنْ وَجَد قوَّةً فصام فهو أفضلُ، وبه قال الجمهور، ومنهم الحنفيةُ والمالكيةُ والشافعية، ومِنَ الصحابة: أنس بنُ مالكٍ وحُذَيْفةُ ابنُ اليمانِ وعثمانُ بنُ العاص رضي الله عنهم، ورجَّحه ابنُ حجرٍ(٩٠-[انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٨٣).]).
المذهب الثاني: يرى أنَّ الفطر أفضلُ مطلقًا في رمضان وفي غيره، وبه قال أحمد والأوزاعيُّ وبعضُ المالكية كابنِ الماجشون(٩١)، وهو مذهبُ ابنِ عبَّاسٍ وابنِ عمر رضي الله عنهم(٩٢-[انظر: «الكافي» لابن عبد البرِّ (١٢١)، «المغني» لابن قدامة (٣/ ١٥٠)، «العُدَّة» للمقدسي (١٥٠)، «تفسير للقرطبي» (٢/ ٢٨٠)، «المجموع» للنووي (٦/ ٢٦٥)، «الاختيار» لابن مودود (١/ ١٣٤)، «القوانين الفقهية» لابن جُزَيٍّ (١٢٢).]).
ب) أدلَّة المذهبين:
احتجَّ علماءُ كُلِّ مذهبٍ ـ في هذه المسألةِ ـ بمجموعةٍ مِنَ الأدلَّة، فأتعرَّض لأدلَّةِ مذهبِ الجمهور أوَّلًا، ثمَّ أعقبه بأدلَّةِ مذهبِ الحنابلة ثانيًا.
١) أدلَّة الجمهور:
استدلَّ الجمهورُ القائلون بأفضلية الصوم على الفطر لمَنْ وَجَد قوَّةً بالأدلَّة التالية:
١ ـ مِنَ الكتاب: بقوله تعالى: ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ﴾ [البقرة: ١٨٤]، فالآيةُ صريحةٌ في أنَّ الصوم أفضلُ مِنَ الفطر، وهي عامَّةٌ للمُقيمِ والمسافر، ويُستثنى منها مَنْ وَجَد مَشقَّةً بحديث الباب وغيرِه(٩٣-[انظر: «تفسير القرطبي» (٢/ ٢٩٠)، «مواهب الجليل» للحطَّاب (١/ ٤٠١)، «الفواكه الدواني» للنفراوي (١/ ٣٦٤).]).
٢ ـ مِنَ السنَّة: بحديثِ سَلَمَةَ بْنِ المُحَبَّقِ الهُذَلِيِّ رضي الله عنه: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ حَمُولَةٌ تَأْوِي إِلَى شِبَعٍ فَلْيَصُمْ رَمَضَانَ حَيْثُ أَدْرَكَهُ»(٩٤-[أخرجه أبو داود في «الصوم» (٢/ ٧٩٨ ـ ٧٩٩) بابُ مَنِ اختار الصومَ. والحديث ضعَّفه الألبانيُّ في «ضعيف سنن أبي داود» (١٨٦)، وعبد القادر الأرناؤوط في «جامع الأصول» (٦/ ٤١٤).])، والحديث يُفيدُ أفضليةَ الصومِ على الفطر مطلقًا في رمضانَ أو في غيره.
٣ ـ وحديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبْدُ الله بن رواحة ؛ وفي الحديث دليلٌ على جواز الصيام في السفر لمَنْ قَوِيَ عليه، وأنَّه لا يُكْرَه له ذلك(٩٦-[انظر: «نيل الأوطار» للشوكاني (٥/ ٥٩٩).])؛ وما فَعَله النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم هو الأفضلُ؛ إذ خيرُ الهديِ هديُ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم.
٤ ـ حديث أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه: «مَنْ أَفْطَرَ ـ يَعْنِي: فِي السَّفَرِ ـ فَرُخْصَةٌ، وَمَنْ صَامَ فَالصَّوْمُ أَفْضَلُ»(٩٧-[أخرجه ابنُ أبي شيبة (٢/ ٢٨٠). وضعَّف الألبانيُّ رَفْعَه في «السلسلة الضعيفة» (٢/ ٣٣٦)، وقال: «الصواب في هذا الحديثِ الوقفُ ـ أي: عن أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه ـ وأنَّه شاذٌّ مرفوعًا».])، والحديث نصٌّ قاطعٌ في هذه المسألة.
٥ ـ مِنَ المعقول: استدلُّوا بأنَّ الصوم عزيمةٌ والفطرَ رخصةٌ، والعزيمةُ أفضلُ لكونها الأصلَ الكُلِّيَّ في التكليف الثابت المُتَّفَقِ عليه المقطوعِ به، وهو أصلٌ عامٌّ مُطْلَقٌ على جميع المكلَّفين؛ بخلاف الرخصة فهي وإِنْ كانَتْ مقطوعًا بها، لكنَّ سبب الترخيص ظنِّيٌّ، وهو المَشقَّة، وليسَتْ مُنضبِطةً، بل تَتفاوَتُ بحسب الأشخاص والأحوال والأوقات، ثمَّ إنَّ الرخصة عارضٌ طارئٌ على العزيمة ترجع إلى حالةٍ جزئيةٍ حَسَب المكلَّفين المعذورين؛ وعليه فإنَّ المقرَّر أصوليًّا ـ حالَ التعارض بين أمرٍ كُلِّيٍّ وآخَرَ جزئيٍّ ـ «تَقْدِيمُ الكُلِّيِّ تَرْجِيحًا لِاقْتِضَائِهِ مَصْلَحَةً عَامَّةً وَتَحْقِيقِهِ مَنْفَعَةً كُلِّيَّةً».
٦ ـ كما احتجُّوا بأنَّ الصوم تبرأ به الذمَّةُ، وما تبرأ به الذمَّةُ أفضلُ، ولأنَّ الصوم في رمضانَ أكثرُ أجرًا لأنَّه أشدُّ حُرمةً، بدليلِ أنَّ مَنْ أفطر في رمضان عليه الكفَّارة، ولا كفَّارةَ على مَنْ أفطر في قضاءِ رمضان(٩٨-[انظر: «مواهب الجليل» للحطَّاب (٢/ ٤٠١)، «الفواكه الدواني» للنفراوي (١/ ٣٦٤).]).
٢) أدلَّة الحنابلة:
احتجَّ الحنابلةُ على أنَّ الفطر أفضلُ مِنَ الصوم مطلقًا بما يلي:
١ ـ بحديث الباب وأحاديثِ الأمر بالفطر للمسافر؛ فإنَّها تُفيدُ أنَّ الصوم في السفر ليس مِنَ البرِّ؛ والأخذ بالرخصة متعيِّنٌ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ»(٩٩-[تقدَّم تخريجه، انظر: (الهامش ٥١).]).
٢ ـ بما أخرجه مسلمٌ مِنْ حديثِ حمزة بنِ عمرٍو الأسلميِّ رضي الله عنه أنه قال: «يَا رَسُولَ اللهِ، أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟» فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ؛ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ»، وفي حديثِ عائشة رضي الله عنها: أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟» ـ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ ـ فَقَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ»(١٠٠-[هذا الحديث وما قبله تقدَّم تخريجهما، انظر: (الهامش ٥٩، والهامش ٦٠).]).
والحديث ظاهرٌ في تفضيل الفطر على الصوم، مِنْ ناحيةِ أنَّه اكتفى بنفي الجناح والإثمِ عمَّنْ أَحبَّ أَنْ يصوم في السفر مع القدرة عليه وعدمِ المَشقَّة، وهو مُشْعِرٌ بمرجوحية الصيام، لا سيَّما مع مقابلته بقوله في الفطر: «فَحَسَنٌ»، فأفاد ذلك أنَّ الفطر في السفر أفضلُ مِنَ الصوم فيه(١٠١-[انظر: «المحلَّى» لابن حزم (٦/ ٢٤٨)، «المنتقى» لمجد الدِّين ابن تيمية (٥/ ٢٩٨).]).
كما يُشْعِرُ قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ» بأنَّ السؤال وَرَد عن صيام الفرض؛ لأنَّ إطلاق لفظةِ: «الرخصة» إنَّما تكون في مقابلةِ ما هو واجبٌ، وهو شهرُ رمضان، ولمَّا كان هذا الشهرُ المفروض أَفْضَلَ الوقتين كان الفطرُ في أفضلِ وقتَيِ الصوم أفضلَ منه في غيره.
ويؤكِّد هذا أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يَستفصِلْ في السؤال: إِنْ كان عن صيامِ رمضانَ أو غيره، فيجري فيه العمومُ؛ عملًا بقاعدةِ: «تَرْكُ الاِسْتِفْصَالِ فِي مَقَامِ الاِحْتِمَالِ، يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ العُمُومِ فِي المَقَالِ».
٣ ـ ولأنَّ الإجماع مُنعقِدٌ على جواز الفطر للمسافر، بينما يختلفون في جواز الصوم فيه؛ وتقديمُ محلِّ الاتِّفاق للخروج مِنَ الخلاف أحوطُ وأَوْلى، كالقَصْر في السفر(١٠٢-[انظر: «المغني» لابن قدامة (٣/ ١٥٠).]).
ﺟ) مناقشة الأدلَّة السابقة:
١) مناقشة أدلَّة الجمهور:
نُوقِشَتْ أدلَّةُ الجمهور بالأجوبة التالية:
١ ـ أمَّا الاستدلال بقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدۡيَةٞ طَعَامُ مِسۡكِينٖۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٤﴾ [البقرة: ١٨٣ ـ ١٨٤]، على أفضلية الصوم على الإفطار فجوابُه: أنَّها نزلَتْ ـ ابتداءً ـ في بيانِ صورةِ الصوم المنسوخة، على ما يدلُّ عليه سياقُها، ويتجلَّى ـ واضحًا ـ أنَّ الصوم كان أفضلَ في أوَّلِ نزول صومِ رمضانَ، حيث كان الحكمُ على التخيير بين الصوم والفطر مع إطعامِ مسكينٍ مكانَ كُلِّ يومٍ، وكونُ بعضِ الواجب المخيَّرِ أفضلَ مِنْ بعضٍ لا إشكالَ فيه؛ والاستدلالُ بهذه الآيةِ على هذه الصورةِ خارجٌ عن محلِّ النِّزاع؛ إذ ليس للسفر فيها أيُّ بدلٍ أصلًا، ولا للإطعام مَدْخَلٌ في الفطر أصلًا(١٠٣-[انظر: «المحلَّى» لابن حزم (٦/ ٢٤٩).]).
٢ ـ أمَّا الحديث الذي أخرجه أبو داود مِنْ حديثِ سَلَمةَ بنِ المُحبَّق رضي الله عنه فضعيفٌ، لا يصحُّ الاستدلالُ به؛ لأنَّ في سنده: عبدَ الصمد بنَ حبيبٍ وهو ضعيفٌ، ووالدُه مجهولٌ، والحديثُ ضعَّفه أحمد والبخاريُّ والبيهقيُّ وابنُ حزمٍ والنوويُّ وغيرُهم(١٠٤-[انظر: المصدر السابق، الجزء والصفحة نفسهما، «المجموع» للنووي (٦/ ٢٦٦). وقد تقدَّم تخريجه، انظر: (الهامش ٩٤).])، وعلى فرضِ صحَّته فهو مُعارَضٌ بحديثِ حمزة بنِ عمرٍو الأسلميِّ رضي الله عنه الثابتِ في الصحيح، وهو أقوى منه سندًا.
أمَّا حديثُ أبي الدرداء رضي الله عنه فإنَّ فِعْلَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيه يَحتمِل الخصوصيةَ؛ لأنَّ الله تعالى يُطْعِمُه ويسقيه، وأمَّا فعلُ عبد الله بنِ رواحة رضي الله عنه فيدلُّ على المشروعية لا على الأفضلية؛ لمكانِ حديثِ حمزة بنِ عمرٍو الأسلميِّ رضي الله عنه المتقدِّم الذي يُقابِلُه، وهو ظاهرٌ في تفضيل الفطر على الصوم قولًا منه صلَّى الله عليه وسلَّم، بينما حديثُ أبي الدرداء رضي الله عنه فإنَّ غايةَ ما يدلُّ عليه ـ أيضًا ـ جوازُ الصومِ في السفر، وليس فيه دلالةٌ على تفضيل الصوم، ولو سُلِّمَ لَكانَتْ دلالتُه فعليةً، والقولُ أقوى وأَوْلى، وهو مقدَّمٌ على الفعل على ما تَقرَّر في قواعد الترجيح بالمتن.
٣ ـ أمَّا حديثُ أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه فلا يصحُّ مرفوعًا، ولو صحَّ لكان نصًّا قاطعًا، لكنَّه موقوفٌ عنه، فلا يعدو أَنْ يكون رأيًا له، وقد وَرَد مِنْ أقوالِ غيرِه مِنَ الصحابة رضي الله عنهم ما يُخالِفه، والأصلُ ـ عند اختلافهم ـ تخيُّرُ ما يشهد له الدليلُ منها.
وسبق أن بعض الأئمة يرى أن الأصح لفظ ( ليس من السنة )
٤ ـ إذا تَقرَّر أنَّ الرخصة ثابتةٌ بالشرع ـ قطعًا ـ فهي كالعزيمة كما في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُه»، فإنَّ سبب الترخيص ـ وإِنْ كان ظنِّيًّا ـ فهو يجري مجرى القَطْع؛ إذ الشارعُ اعتبره في ترتيب الأحكام، فمتى وُجِدَتِ المظنَّةُ وُجِد الحكمُ.
ثمَّ إنَّ الرخصة ـ وإِنْ كانَتْ ترجع إلى حالةٍ جزئيةٍ ـ فلا ينافي ذلك تقديمَها؛ لإمكانِ اعتبارها مِنْ قبيل الأمر المُستثنى مِنْ قاعدةٍ عامَّةٍ وهي العزيمة؛ فهي ـ إذَنْ ـ بمَثابةِ تخصيص العامِّ وتقييد المطلق؛ ولا يخفى ـ أصوليًّا ـ أنَّ «الخَاصَّ يُقَيِّدُ العَامَّ وَيَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَالمُقَيَّدَ يَتَرَجَّحُ عَلَى المُطْلَقِ وَيَقْضِي عَلَيْهِ».
أمَّا الصوم ـ وإِنْ بَرِئَتْ به الذمَّةُ ـ فلا يدلُّ على أفضليَّته على الفطر إلَّا مِنْ جهة الاجتهاد الذي يُعارِضُه النصُّ في دلالته على أفضلية الفطر ـ مطلقًا ـ كما ثَبَتَ مِنْ حديثِ حمزة بنِ عمرٍو الأسلميِّ رضي الله عنه، وقد تَقرَّر أَنْ «لَا اجْتِهَادَ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ»، ويُنْقَضُ الحكمُ المُجتهَدُ فيه وجوبًا لمُخالَفتِه له(١٠٧-[انظر معنَى هذه القاعدةِ في: «المستصفى» للغزَّالي (٢/ ٣٨٢)، «المحصول» للرازي (٢/ ٣/ ٩١)، «أدب القضاء» لابن أبي الدم (١٦٤)، «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (٤٤١)، «فواتح الرحموت» للأنصاري (٢/ ٣٩٥)، «المدخل إلى مذهب الإمام أحمد» لابن بدران (٣٨٣).]).
كما أنَّ تأسيسَ أفضليةِ الصوم على الفطر بمجرَّدِ أنَّه تبرأ الذمَّةُ به يظهر انتقاضُه بصومِ أيَّام الكراهة وصومِ المريض إذا شقَّ عليه، فإنَّه تبرأ ذمَّتُه في الصورتين السابقتين، ولا يدلُّ على أفضلية الصوم، بل استحباب الفطر لكونه الأفضلَ(١٠٨-[انظر: «المغني» لابن قدامة (٣/ ١٥٠).]).
٢) مناقشة أدلَّة الحنابلة:
ونُوقِشَتْ أدلَّةُ الحنابلة بالأجوبة التالية:
١ ـ أنَّ حديث الباب والنصوصَ التي تُفيدُ أنَّ الصوم ليس مِنَ البرِّ، وأنَّ مَنْ صام في السفر فهو مِنَ العُصاة، محمولةٌ على مَنْ يشقُّ عليه السفرُ، وهو الأفضلُ اتِّفاقًا، خاصَّةً إذا تَضمَّن مصلحةَ التَّقَوِّي على الأعداء والقيامِ بمصالح الدنيا والدِّين، وهذا خارجٌ عن محلِّ النزاع؛ لأنَّ الصوم ـ لمَنْ يشقُّ عليه ـ معصيةٌ، والفطر ـ في هذه الحالِ ـ عزيمةٌ(١٠٩-[انظر: «وبل الغمام» (١/ ٥٠٢) و«الدراري المُضيَّة» (٢/ ٢٤) كلاهما للشوكاني.])؛ وبالعكس فإنَّ حديث الباب لا يصلح دليلًا لتفضيل الفطر، بل هو أقربُ إلى تفضيل الصوم؛ ذلك لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ابتدأ صيامَه في سفره، وقضى غالِبَ النهار وهو صائمٌ إلى ما بعد العصر، مع ما يُلاقيه الناسُ مِنْ مَشقَّةٍ؛ وإنَّما أفطر وأَمَرهم بالفطر عندما شقَّ عليهم الصيامُ وخَشِيَ أَنْ يُتابَع فيه فيهلكوا؛ ويُؤيِّده أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم صام في مناسبةٍ أخرى كما في حديثِ أبي الدرداء رضي الله عنه وغيرِه.
٢ ـ أمَّا حديث حمزة بنِ عمرٍو الأسلميِّ(١١٠) رضي الله عنه فهو مُعارَضٌ بحديث الباب المتقدِّم، وبحديثِ أبي الدرداء رضي الله عنه: «وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ»(١١١-[تقدَّم تخريجه، انظر: (الهامش ٦٣).])، وإنَّما أخَذَا بالأفضل لوجودِ قوَّةٍ على الصوم، كما يُعارِضُه ما أخرجه مسلمٌ مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه قال: «سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ»، قَالَ: «فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَالفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ»، فَكَانَتْ رُخْصَةً، فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلًا آخَرَ فَقَالَ: «إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ، وَالفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ؛ فَأَفْطِرُوا»، وَكَانَتْ عَزْمَةً فَأَفْطَرْنَا»، ثُمَّ قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُنَا نَصُومُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ»(١١٢-[تقدَّم تخريجه، انظر: (الهامش ٥٨).])؛ إذ يَتبيَّن مِنْ صيامهم معه صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ الصوم هو الأفضلُ؛ وليس معنَى قولِه في حديثِ حمزة الأسلميِّ رضي الله عنه: «فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ» أنَّه دون الحسن؛ غايةُ ما في الأمر أنَّه ذَكَره لبيان الجواز ونفيِ الحرج لا للتفضيل؛ فالثوابُ والتفضيل لا يُؤخَذُ مِنْ هذا النصِّ بذاته، وإنَّما مِنْ نصوصٍ خارجيةٍ عنه؛ ذلك لأنَّ رَفْعَ الجُناح يُطْلَق ـ غالبًا ـ على نفي الإثم والمؤاخذة مع استواء الفعل والتَّرك، مثل قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِ لَيْسَ عَلَى المُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ: الغُرَابُ، وَالِحدَأَةُ، وَالعَقْرَبُ، وَالفَأْرَةُ، وَالكلب العقور . البخاريُّ في «جزاء الصيد» (٤/ ٣٤) بابُ ما يقتل المُحْرِمُ مِنَ الدوابِّ، ومسلمٌ في «الحجِّ» (٨/ ١١٦) بابُ ما يُنْدَبُ قتلُه للمُحْرِم وغيرِه في الحِلِّ والحَرَم،
وقد يُطْلَق رفعُ الحرج عن فعلٍ مع ترجيح الفعل على الترك على وجه الاستحباب أو الوجوب؛ لذلك قد تَرِدُ الآياتُ بنفي الجُناح ولا يَلْزَم منه عدمُ أولويَّته كما هو شأنُ الخُلع على المال؛ فقَدْ نَفَتِ الآيةُ الجُناحَ مع أنَّه تعتريه بعضُ الأحكام كالوجوب أو الندب، ومثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِۖ فَمَنۡ حَجَّ ٱلۡبَيۡتَ أَوِ ٱعۡتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ [البقرة: ١٥٨]، قالت عائشة رضي الله عنها: «وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا؛ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا»(١١٤-[أخرجه البخاريُّ في «الحجِّ» (٣/ ٤٩٨) بابُ وجوبِ الصفا والمروة، وجُعِل مِنْ شعائر الله، وأحمد (٦/ ١٤٤، ٢٢٧)، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.]).
ويؤيِّد هذا المعنى حديثُ أبي سعيدٍ رضي الله عنه قال: «كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ، فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا المُفْطِرُ، فَلَا يَجِدُ الصَّائِمُ عَلَى المُفْطِرِ، وَلَا المُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ، يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ قُوَّةً فَصَامَ فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَيَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ ضَعْفًا فَأَفْطَرَ فإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ»(١١٥-[أخرجه مسلمٌ في «الصيام» (٧/ ٢٣٤ ـ ٢٣٥) بابُ جوازِ الصوم والفطر في شهرِ رمضانَ للمسافر، مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه. وقد تقدَّم حديثُ أنسٍ رضي الله عنه، انظر تخريجه: (الهامش ٦٢).]).
قال ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ: «وهذا التفصيل هو المُعتمَدُ، وهو نصٌّ رافعٌ للنزاع»(١١٦-[«فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٨٦).]).
٣ ـ أمَّا القياس على القَصْر في السفر فهو قياسٌ مع ظهور الفارق؛ لأنَّ القصر ليس برخصةٍ مُستحَبَّةٍ، بل عزيمةٌ ـ على الصحيح ـ للأحاديث المصرِّحة بما يقتضي وجوبَ القصر؛ منها: حديثُ عمر بنِ الخطَّاب رضي الله عنه مرفوعًا: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ؛ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»(١١٧-[أخرجه مسلمٌ في «صلاة المسافرين» (٥/ ١٩٦)، وحديثُ عائشة رضي الله عنها: «الصَّلَاةُ ـ أَوَّلَ مَا فُرِضَتْ ـ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَأُتِمَّتْ صَلَاةُ الحَضَرِ»(١١٨-[أخرجه البخاريُّ في «تقصير الصلاة»
ومنها قولُ عمر رضي الله عنه: «صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ»(١١٩)
ولمَّا كان العملُ بالرخصة الواجبةِ مِنْ غيرِ تفريقٍ بين مَنْ يشقُّ عليه السفرُ ومَنْ لا يشقُّ عليه؛ امتنع القياسُ للفرق بين المقيس والمقيس عليه؛ ثمَّ إنَّ هذا القياس ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ وَقَع في مُقابَلةِ النصوص والآثار الثابتة والدالَّةِ على أنَّ مَنْ وَجَد قوَّةً على الصيام فصامَ فحسنٌ، فضلًا عن التيسير الوارد في حديثِ حمزة بنِ عمرٍو الأسلميِّ رضي الله عنه المُطابِقِ للآية: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ﴾ [البقرة: ١٨٥].
أمَّا قاعدةُ: «الخُرُوجُ مِنَ الخِلَافِ مُسْتَحَبٌّ» فإنَّما يصحُّ العملُ بها إذا لم يكن مأخذُ المخالف ضعيفًا؛ لأنَّ شرطه أَنْ لا تؤدِّيَ مُراعاتُه إلى تركِ واجبٍ أو إهمالِ سنَّةٍ ثابتةٍ أو خرمِ إجماعٍ، بل الورعُ في مخالفته لموافقة الشرع؛ فإنَّ ذلك أحفظُ وأبرأُ للدِّين والذمَّة، ولا ريبَ أنَّ ما فَعَله النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وصحبُه أَوْلى بالإعمال.
ـ ففيما عَدَا الأحوال التي اتَّفقوا على تفضيل الفطر فيها على الصوم ـ فإنَّ الأفضل ـ عندي ـ أيسرُهما، وهو مذهبُ عمر بنِ عبد العزيز ـ رحمه الله ـ، واختاره ابنُ المنذر ـ كما تقدَّم(١٢٣) ـ فإِنْ كان الصومُ أيسرَ عليه، كمَنْ يسهل عليه الصومُ مع الجماعة في شهر رمضان، ويشقُّ عليه قضاؤه تفرُّدًا بعد مُضِيِّ الشهر؛ فالصومُ ـ في حقِّه ـ أفضلُ، ومَنْ كان يسهل عليه أداءُ الصوم بعد عودته إلى محلِّ إقامته، ولا يشقُّ عليه القضاءُ إِنْ أفطر ترخُّصًا؛ كان الفطرُ ـ في حقِّه ـ أفضلَ.
واختيارُ هذا الرأيِ مبنيٌّ على وجوهِ التعليلات الآتية:
١ ـ لقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ﴾ [البقرة: ١٨٥]، فالآيةُ تُفيدُ أنَّ الله تعالى لا يريد إعناتَ الناسِ بأحكامه، وإنَّما يريد اليُسْرَ بهم، وخيَّرهم: فإِنْ كان الصومُ أيسرَ عليه فهو ـ في حقِّه ـ الأفضلُ، وإلَّا فالفطرُ أفضلُ؛ قال الشعبيُّ ـ رحمه الله ـ: «مَا خُيِّرَ رَجُلٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ فَاخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا إِلَّا كَانَ ذَلِكَ أَحَبَّهُمَا إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»(١٢٤-[«معالم التنزيل» للبغوي (٢/ ١٥٣).]).
٢ ـ ولورود النَّصِّ في بعض الروايات صريحًا ومُفْصِحًا عن سببِ تخيير المسافر بين الصوم والإفطار، مِنْ حديثِ حمزة بنِ عمرٍو الأسلميِّ رضي الله عنه: أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: «أَيُّ ذَلِكَ أَيْسَرُ عَلَيْكَ فَافْعَلْ»(١٢٥-[أخرجه تمَّامٌ في «فوائده» (٢/ ٢٤). والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٦/ ٢/ ٨٩٨).])، يعني: إفطارَ رمضان أو صيامَه في السفر؛ وهذا الحديث مُبيِّنٌ للروايات الأخرى؛ لأنَّ غايةَ ما يدلُّ عليه لفظُ: «فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ»: جوازُ الصوم في السفر، ورفعُ المؤاخذةِ والإثمِ عن الصائم؛ وليس فيه ما يدلُّ على ترجيح الإفطار على الصيام، كما لا يدلُّ ما يُقابِله بقوله في الفطر: إنَّه «حسنٌ» على أفضلية الفطر؛ لأنَّ نفي الجُناح قد يُطْلَق ويرادُ منه نفيُ الإثم مع استواء الفعل والترك، كما يُطْلَق ويرادُ به رفعُ الحرج عن الفعل مع ترجيحِ جهة الفعل على وجه الاستحباب أو الوجوب ـ كما تقدَّم(١٢٦-[انظر: معنى نفي الحرج.]) في المناقشة ـ. ويؤكِّد تماثُلَ الصومِ والفطرِ التخييرُ الوارد في الرواية الأخرى مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها: «صُمْ إِنْ شِئْتَ، وَأَفْطِرْ إِنْ شِئْتَ»(١٢٧-[تقدَّم تخريجه، انظر: (الهامش ٦٠)، وهو لفظُ أبي داود ولفظٌ لمسلمٍ.])، والقصَّةُ واحدةٌ، ولم يفضِّلِ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أحَدَهما على الآخَرِ، بل خيَّره بين الأمرين على سبيل التساوي والتماثل، فجاءَتْ روايةُ التيسير لتبيِّنَ الأفضليةَ كما هو ظاهرٌ مِنْ سببِ ترخيصه صلَّى الله عليه وسلَّم للحُكْمين: الصومِ والفطر، فيرجع الحسنُ إلى أحَدِهما بحسب التيسير والسهولة عليه.
٣ ـ ولأنَّ الاستدلال بحديثِ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ»(١٢٨-[تقدَّم تخريجه، انظر: (الهامش ٥١).]) على أفضليَّة الفطر مُقيَّدٌ بانتفاء الحرج بالقضاء، وليس عليه حرجٌ في الأداء، وإلَّا تجرَّدَتِ الرخصةُ عن المعنى الذي شُرِعَتْ مِنْ أجله، ويؤيِّده قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَيُّ ذَلِكَ أَيْسَرُ عَلَيْكَ فَافْعَلْ».
٤ ـ ولأنَّه لا أفضليةَ للعزيمة على الرخصة ولا للرخصة على العزيمة مِنَ الناحية الأصولية على الأظهر مِنْ قولَيِ العلماء؛ لعدمِ انضباط العذر ـ المتمثِّل في: المَشقَّة والحاجة والضرورة التي هي سببُ الرخصة ـ ما بين المكلَّفين؛ فالعذرُ الحاصل للمكلَّف أمرٌ إضافيٌّ نسبيٌّ لا أصليٌّ، يرجع إلى اجتهاده الشخصيِّ ووُسْعِه وطاقته الخاصَّة؛ فكُلُّ مكلَّفٍ فقيهُ نفسِه في الأخذ بها ما لم يجد فيها حدًّا شرعيًّا يقف عنده، وهو موكولٌ لدِينه في تقدير العذر اللاحقِ به؛ وفي هذا السياقِ يقول الشيخ الخضري ـ رحمه الله ـ: «إنَّ سببَ الرخصةِ المَشقَّةُ، والمَشاقُّ تختلف بحسبِ قوَّة العزائم وضعفِها، وبحسب الأفعال، وليس كُلُّ الناسِ ـ في المَشاقِّ وتحمُّلها ـ على حدٍّ سواءٍ، وإذا كان كذلك فليس للمَشقَّات المُعتبَرةِ في التخفيف ضابطٌ مخصوصٌ ولا حَدٌّ محدودٌ يَطَّرِد في جميع النَّاس؛ لذلك أقام الشارعُ ـ في جملةٍ منها ـ المظنَّةَ(١٢٩-[وفي الأصل: «إلى المظنَّة».]) مَقامَ الحكمة؛ فاعتبرَ السفرَ لأنَّه أقربُ مَظانِّ المَشقَّة، وتَرَك جملةً منها إلى الاجتهاد كالمرض»(١٣٠-[«أصول الفقه» للشيخ الخضري بك (٧٠).]).
هذا، والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.