1158 – فتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم .
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1158):
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج ٤ ص ٢٧٢): حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن سماك عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم نهاره، والقائم ليله، حتى يرجع متى يرجع».
قال الوادعي رحمه الله: هذا حديث حسنٌ.
وأخرجه البزار كما في «كشف الأستار» (ج ٢ ص ٣٥٦)، وابن أبي شيبة (ج ٥ ص ٢٨٦) فقال رحمه الله: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك به.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
تخريج :
قال صاحب أنيس الساري :
“٣٤١٩ – «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم نهاره القائم ليله»
قال الحافظ: ولأحمد والبزار من حديث النعمان بن بشير مرفوعا: فذكره.
صحيح
يرويه سِماك بن حرب واختلف عنه:
– فقال حسين بن علي الجُعْفي: عن زائدة بن قدامة عن سماك عن النعمان بن بشير
مرفوعا به وزاد ((حتى يرجع متى يرجع)) أخرجه أحمد (٤/ ٢٧٢) عن حسين الجعفي به.
ومن طريقه أخرجه شمس الدين المقدسي في «فضل الجهاد» (٧)
وأخرجه البزار (كشف ١٦٤٥)
عن موسى بن عبد الرحمن المسروقي
وابن أبي عاصم في «الجهاد» (٣١)
عن أحمد بن الفرات الرازي
قالا: ثنا حسين بن علي الجعفي به.
قال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح«المجمع ٥/ ٢٧٥
– وقال غير واحد: عن سماك عن النعمان قوله.
أخرجه عبد الرزاق (٩٥٣٧)
عن إسرائيل بن يونس الكوفي
وابن أبي شيبة (٥/ ٢٨٦) وعنه ابن أبي عاصم في»الجهاد«(٣٢)
عن أبي الأحوص سَلام بن سليم الكوفي
والبزار (كشف ١٦٤٧)
عن حفص بن جُميع الكوفي
ثلاثتهم عن سماك عن النعمان قوله.
قال البزار: لا نعلم أسنده إلا حسين عن زائدة»
قلت: وهما ثقتان، وزائدة من الأثبات فالقول قوله، وسماك احتج مسلم بروايته عن النعمان بن بشير، ووثقه ابن معين وغيره، وضعفه ابن المبارك وغيره، فالإسناد حسن.
وللحديث شاهد عن أبي هريرة مرفوعا «مثل المجاهد في سبيل الله -والله أعلم بمن يجاهد في سبيله- كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صيام ولا صدقة حتى يرجع …»
متفق عليه”. انتهى.
من أنيس الساري (تخريج أحاديث فتح الباري) ٧/٤٧٩٢
بينما رجح محققو المسند 30/350 الموقوف حيث أوقفه إسرائيل بن يونس وسلام بن سليم وحفص بن جميع
المهم حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين.
تبويبات الوادعي :
أورد الوادعي رحمه الله الحديث في عدة مواضع في جامعه، وبوب عليه: (٣ – فضل الصوم) (2/برقم١٤٤٨) (١٠٨ – الشِّعْر)، (١ – فضل الجهاد في سبيل الله) (ج3/برقم١٩٤٢)، (ج5/برقم٣٧٠٨)، (١١٥ – قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}) (ج5/برقم٤٠٠٨).
في ، [صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب: أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حديث رقم(2660)]، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَثَلُ المُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، -وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ-، كَمَثَلِ الصَّائِمِ القَائِمِ، وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ، بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ)).
ورواه مسلم رحمه الله[صحيح مسلم، كِتَابُ الْإِمَارَةِ ، بَابُ فَضْلِ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، حديث رقم(3601)]، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟” قَالَ: ((لَا تَسْتَطِيعُونَهُ))، قَالَ : فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: ((لَا تَسْتَطِيعُونَهُ))، وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: ((مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ، لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ، وَلَا صَلَاةٍ، حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى)).
وقد أورد مسلم رواية أخرى في الباب عن النُّعْمانُ بْنُ بَشِيرٍ، قالَ: كُنْتُ عِنْدَ مِنبَرِ رَسُولِ اللهِ – ﷺ -، فَقالَ رَجُلٌ: ما أُبالِي أنْ لا أعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الإسْلامِ، إلّا أنْ أُسْقِيَ الحاجَّ، وقالَ آخَرُ: ما أُبالِي أنْ لا أعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الإسْلامِ، إلا أنْ أعْمُرَ المَسْجِدَ الحَرامَ، وقالَ آخَرُ: الجِهادُ فِي سَبِيلِ اللهِ أفْضَلُ مِمّا قُلْتُمْ، فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ، وقالَ: لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ عِنْدَ مِنبَرِ رَسُولِ اللهِ – ﷺ -، وهُوَ يَوْمُ الجُمُعَةِ، ولَكِنْ اِذا صَلَّيْتُ الجُمُعَةَ دَخَلْتُ، فاسْتَفْتَيْتُهُ فِيما اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ، فَأنْزَلَ اللهُ – عز وجل -: ﴿أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجِّ وعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرامِ كَمَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ الآيَةَ إلى آخِرِها [التوبة ١٩]).
(فاسْتَفْتَيْتُهُ)؛ أي: سألته (فِيما اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ) قال الأبيّ – رحمه الله -: إنما قال ذلك عمر – رضي الله عنه – ليتبيّن الراجح من الأقوال، وإنما الذي يُضعّف أن يكون اختلافهم اختلاف علماء مجتهدين ما يأتي أن الآية نزلت قبل اختلافهم، لا في اختلافهم؛ إذ لا يجوز الاجتهاد مع وجود النصّ. انتهى.
الآية نزلت عند اختلافهم مشكل؛ لأنها إنما نزلت قبل ذلك مبطلةً لمن افتخر من المشركين بسقاية الحاجّ، وعمارة المسجد الحرام، قال السدّيّ: افتخر العبّاس بسقاية الحاجّ، وافتخر شيبة بعمارة المسجد الحرام، وافتخر عليّ بالإيمان والجهاد، فنزلت الآية مصدّقةً لعليّ، ومكذّبةً لهما، ويدلّ على أنها إنما نزلت في المشركين خَتْمها بقوله – سبحانه وتعالى -: ﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ [البقرة ٢٥٨]؛ إذ لا يليق أن يقال للثلاثة الذين في الحديث في الذي اختلفوا فيه: ﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ [آل عمران ٨٦]، وأيضًا فإن الثلاثة المذكورين في الحديث لم يختلفوا في أن السقاية، والعمارة أفضل من الإيمان، والجهاد، وإنما اختلفوا في أي الأعمال أفضل بعد الإيمان؟، وإذا أشكل أن الآية نزلت عند اختلافهم، فيُحلّ الإشكال بأن يكون بعض الرواة تسامح في قوله: فأنزل الله الآية، وإنما الواقع أنه – ﷺ – قرأها على عمر – رضي الله عنه – حين سأله مستدلًّا بها على أن الجهاد أفضل مما قال أولئك، فظنّ الراوي أنها نزلت حينئذ”، من البحر المحيط. وسيأتي الحديث عن وجه تفضيل الجهاد من الآية إن شاء الله تعالى.
الأول: شرح الحديث:
[عن سماك عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم]،
وفي رواية مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه (قالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ – ﷺ -)، وفي رواية البخاريّ: (قال: جاء رجل إلى رسول الله – ﷺ -، فقال: دُلّني على عمل يَعْدل الجهاد)، قال الحافظ: لم أقف على الرجل. (ما) استفهاميّة، (يَعْدِلُ) بكسر الدال المهملة؛ أي: يماثله.
(الجِهادَ فِي سَبِيلِ اللهِ – عز وجل -؟ قالَ) – ﷺ – («لا تَسْتَطِيعُونَهُ»)؛ أي: لا تستطيعون القيام بما يعادل الجهاد؛ لأنه أشقّ.
(قالَ) الراوي، وهو أنس – رضي الله عنه -، (فَأعادُوا) السؤال (عَلَيْهِ) – ﷺ – (مَرَّتَيْنِ، أوْ ثَلاثًا، كُلُّ ذَلِكَ)؛ أي: كلّ السؤال المعاد (يَقُولُ) فيه النبيّ – ﷺ – («لا تَسْتَطِيعُونَهُ»)، وفي رواية البخاريّ قال – ﷺ – في الجواب: «لا أجده»، قال: «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك، فتقوم، ولا تفتُر، وتصوم، ولا تُفطر؟»، قال: ومن يستطيع ذلك؟ قال أبو هريرة: إن فرس المجاهد ليستنّ في طِوَله، فيُكتب له حسنات.
وأخرج الطبرانيّ نحو هذا الحديث من حديث سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، وقال في آخره: «لم يبلغ العُشر من عمله». (وقالَ فِي الثّالِثَةِ)؛ أي: في المرّة الثالثة من مرّات السؤال.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: [((مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم نهاره، والقائم ليله، حتى يرجع متى يرجع))].
وفي مسلم: ((مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ، لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ، وَلَا صَلَاةٍ، حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى)).
وفي رواية البخاريّ: «مَثَل المجاهد في سبيل الله – والله أعلم بمن يجاهد في سبيله – كمَثَل الصائم، القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالِمًا مع أجر، أو غنيمة».
وفي رواية النسائي: «مَثَل المجاهد في سبيل الله – والله أعلم بمن يجاهد في سبيله – كمثل الصائم القائم الخاشع الراكع الساجد»، وفي «الموطأ»، وابن حبان: «كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صيام ولا صلاة، حتى يرجع».
فالإخلاصُ شرطُ قَبولِ العملِ، وقد يكون العملُ وَبالًا على صاحبِه إذا لم يُخلِصِ النِّيَّةَ للهِ سبحانه وتعالى، وفي هذا الحديثِ ذكَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَعْدَ اللهِ تعالى للمُجاهِدِ في سبيل الله، وهو مخلِصٌ نيَّتَه للهِ ؛ ولذلك قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((في سبيل الله))، ولم يخرج ليحصّل متاعَ الدُّنيا، والشُّهرةَ والبطولةَ؛ فمَن خرَج مُخلِصًا للهِ تعالى فإنَّ أجرَه مِثلُ أجرِ الصَّائمِ القائمِ يُصلِّي.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: [((كمثل الصائم نهاره، والقائم ليله))]. والمراد مثله في الأجر، قاله الصنعاني.
وقوله صلى الله عليه وسلم: [((حتى يرجع متى يرجع))].
من جهاده فأجره موفور كأجر من ذكر إلى أن يدخل منزله راجعًا من جهاده. قاله الصنعاني. في (التنوير شرح الجامع الصغير)، تحت حديث (٨١٣٧).
وفي رواية البخاري: ((وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ، بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ))، أي: تكفَّل ووعَد مَن خرَج مجاهدًا بإحدى الحُسنيَيْنِ، إمَّا أن يتوفَّاه شهيدًا فيُدخِلَه الجنَّةَ، أو يرجِعَه سالِمًا مأجورًا بجهادِه أعداءَ اللهِ، سواءٌ رجَع بلا غنيمةٍ فيكونُ له الأجرُ وحده، أو رجَع بالغنيمةِ، فيكونُ له الأجرُ مع الغنيمةِ.
الثاني: مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(الأولى): فقه الجهاد وفضله
أ – تعريف «الشهيد»:
من قتله الكفّار في المعركة، فَعِيلٌ بمعنى مفعول؛ لأن ملائكة الرحمة شهِدت غسله، أو شهدت نقل روحه إلى الجنّة، أو لأن الله تعالى شَهِد له بالجنّة، قاله الفيّوميّ – رحمه الله -.
وقال القرطبيّ – رحمه الله -: سُمي الشهيد شهيدًا؛ لأنه يُرزق، ويُشاهِد الجنة، وما أكرمه الله تعالى به، وقيل: لأنه ممن يَشهَد على الأمم يوم القيامة، وقيل: لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالرضا والرضوان، فعلى هذا يكون فعيل بمعنى: مفعول؛ أي: مشهود له، وعلى التأويلين الأوَّلين بمعنى: فاعل. انتهى.
وقال النوويّ – رحمه الله -: وأما سبب تسميته شهيدًا، فقال النضر بن شُميل: لأنه حيٌّ، فإن أرواحهم شَهِدت، وحضرت دار السّلام، وأرواح غيرهم إنما تشهدها يوم القيامة.
وقال ابن الأنباريّ: لأن الله تعالى، وملائكته – عليهم الصلاة والسلام – يشهدون له بالجنة، وقيل: لأنه شَهِد عند خروج روحه ما أعدّه الله تعالى له من الثواب والكرامة، وقيل: لأن ملائكة الرحمة يشهدونه، فيأخذون روحه، وقيل: لأنه شُهِد له بالإيمان، وخاتمة الخير بظاهر حاله، وقيل: لأن عليه شاهدًا بكونه شهيدًا، وهو الدم، وقيل: لأنه ممن يشهد على الأمم يوم القيامة بإبلاغ الرسل الرسالةَ إليهم، وعلى هذا القول يشاركهم غيرهم في هذا الوصف. انتهى. من البحر المحيط.
ب. وأما ما يتعلق بالجهاد وفقهه وفضله فقد مر في (الصحيح المسند) (ج2/برقم1109).
(الثانية):
[فإن قلت]: فبم شُبّه حال المجاهد في سبيل الله بحال الصائم ؟
[أجيب]: بأن ذلك في نيل الثواب في كل حركة وسكون، في كلّ حين وأوان؛ لأن المراد من الصائم القائم: من لا يفتر ساعةً من ساعاته آناء الليل وأطراف النهار من صومه وصلاته، شُبّه حال المجاهد الذي لا تخلو ساعةٌ من ساعاته من أجر وثواب، سواء كان قائمًا، أو نائمًا، يقاتل العدوّ، أم لا، كما قال في الحديث: «إن المجاهد لتستنّ فرسه، فيكتب له حسنات»، بالصائم القائم الذي لا يفتر عما هو فيه، فهو من التشبيه الذي المشبّه به مفروض، غير محقّق؛ وهذا ما يؤخذ من قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكُفّارَ ولا يَنالُونَ مِن عَدُوٍّ نَيْلًا إلّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ (١٢٠) ولا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً ولا يَقْطَعُونَ وادِيًا إلّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [التوبة ١٢٠، ١٢١]. انتهى كلام الطيبيّ – رحمه الله – بتصرّف.[راجع: «الكاشف عن حقائق السنن» ٨/ ٢٦٢٣ – ٢٦٢٤]. بواسطة (البحر المحيط).
المسألة (الثالثة):
[فإن قيل]: ما وجه تفضيل الجهاد من الآية –كما في حديث النُّعْمانُ رضي الله عنه الذي أورده مسلم-، والردّ بها على الرجلين، فإنها إنما نزلت على نفي المساواة، ونفي المساواة بين أمرين لا يدلّ على تعيين الأرجح منهما، ولذا نجده ينصّ على تعيين الأرجح من الأمرين بعد نفي المساواة بينهما، كما في قوله تعالى: ﴿لا يَسْتَوِي أصْحابُ النّارِ وأصْحابُ الجَنَّةِ أصْحابُ الجَنَّةِ هُمُ الفائِزُونَ (٢٠)﴾ [الحشر ٢٠]، وهنا لم ينصّ؟
[الجواب]: قد نصّ هنا على تعيينه بقوله بعده: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وهاجَرُوا وجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأمْوالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ أعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وأُولَئِكَ هُمُ الفائِزُونَ (٢٠)﴾ [التوبة ٢٠]؛ لأنه من تمام ما نزل، أو يقال: إن الآية وحدها كافية في بيان أن الجهاد أفضل دون نظر إلى ما بعدها؛ لأنها خرجت مخرج إنكار أن يكون كلّ واحد من الأمرين أفضل من الجهاد، وقد نُفيت المساواة بين أحدهما والجهاد، فيتعيّن أن يكون الجهاد أفضل، ولا يمكن أن يُدّعى أن السقاية، أو العمارة أفضل؛ لأنه المنكر.[«شرح الأبيّ» ٥/ ٢٢٤ – ٢٢٥].
(﴿أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجِّ وعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرامِ كَمَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾)، قال النسفيّ – رحمه الله – في «تفسيره»: السقاية والعمارة مصدران، مِن سَقى، وعَمَر؛ كالصيانة والوقاية، ولا بد من مضاف محذوف تقديره: أجعلتم أهل سقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام، كمن آمن بالله؟ وقيل: المصدر بمعنى الفاعل، يصدّقه قراءة ابن الزبير: (سُقاة الحاج وعَمَرة المسجد الحرام)، والمعنى: إنكار أن يُشَبّه المشركون بالمؤمنين، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة، وأن يُسَوّى بينهم، وجعل تسويتهم ظلمًا بعد ظلمهم بالكفر؛ لأنهم وضعوا المدح والفخر في غير موضعهما انتهى.
وقوله: (الآيَةَ إلى آخِرِها) بنصب «الآية» بفعل مقدّر؛ أي: اقرأ الآية إلى آخرها.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ – رحمه الله – في «تفسيره»: قوله تعالى: ﴿أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجِّ﴾ التقدير في العربية: أجعلتم أصحاب سقاية الحاج، أو أهل سقاية الحاج مثلَ من آمن بالله، وجاهد في سبيله؟ ويصح أن يقدّر الحذف في ﴿مَن آمَن﴾؛ أي: أجعلتم عَمَلَ سقي الحاجّ كعمل من آمن؟ وقيل: التقدير: كإيمان من آمن.
والسقاية مصدر كالسعاية، والحماية، فجُعل الاسم بموضع المصدر؛ إذ عُلِم معناه، مثل: إنما السخاء حاتم، وإنما الشعر زهير.
وعمارة المسجد الحرام مثل ﴿واسْألِ القَرْيَةَ﴾ [يوسف ٨٢].
وقرأ أبو وجزة: «أجعلتم سُقاة الحاج وعَمَرة المسجد الحرام» سُقاة جمع ساق، والأصل: سُقَيَةٌ على فُعَلة، كذا يُجمع المعتل من هذا، نحو قاض وقُضاة وناس ونُساة، فإن لم يكن معتلًّا جُمع على فَعَلة نحو ناسئ ونَسَأة، للذين كانوا يَنسئون الشهور، وكذا قرأ ابن الزبير، وسعيد بن جبير: «سُقاة وعَمَرة»، إلا أن ابن جبير نصب «المسجدَ» على إرادة التنوين في «عَمَرة»، وقال الضحاك: سُقاية بضم السين، وهي لغة، والحاج اسم جنس الحجاج، وعمارة المسجد الحرام: معاهدته، والقيام بمصالحه.
وظاهر هذه الآية أنها مُبطلة قول من افتخر من المشركين بسقاية الحاجّ، وعمارة المسجد الحرام، كما ذكره السديّ، قال: افتخر عباس بالسقاية، وشيبة بالعمارة، وعليّ بالإسلام والجهاد، فصدّق الله عليًّا، وكذّبهما، وأخبر أن العمارة لا تكون بالكفر، وإنما تكون بالإيمان، والعبادة، وأداء الطاعة، وهذا بَيِّن لا غبار عليه.
ويقال: إن المشركين سألوا اليهود وقالوا: نحن سُقاة الحاج وعُمّار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أمْ محمد – ﷺ – وأصحابه – رضي الله عنهم -؟ فقالت لهم اليهود عنادًا لرسول الله – ﷺ -: أنتم أفضل.
وقد اعتُرِض هنا إشكال، وهو ما جاء في «صحيح مسلم» عن النعمان بن بشير – رضي الله عنهما – قال: كنت عند منبر رسول الله – ﷺ -، وساق حديث الباب، ثم قال: وهذا المساق يقتضي أنها إنما نزلت عند اختلاف المسلمين في الأفضل من هذه الأعمال، وحينئذ لا يليق أن يقال لهم في آخر الآية: ﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾، فتعيّن الإشكال.
وإزالته بأن يقال: إن بعض الرواة تسامَحَ في قوله، فأنزل الله الآية.
وإنما قرأ النبيّ – ﷺ – الآية على عمر حين سألة، فظنّ الراوي أنها نزلت حينئذ.
واستدَلّ بها النبيّ – ﷺ – على أن الجهاد أفضل مما قال أولئك الذين سمعهم عمر، فاستفتى لهم، فتلا عليه ما قد كان أنزل عليه، لا أنها نزلت في هؤلاء، والله أعلم.
فإن قيل: فعلى هذا يجوز الاستدلال على المسلمين بما أنزل في الكافرين، ومعلوم أن أحكامهم مختلفة.
قيل له: لا يُستبعد أن يُنتزَع مما أنزل الله في المشركين أحكام تليق بالمسلمين.
وقد قال عمر – رضي الله عنه -: إنا لو شئنا لاتخذنا سلائق وشواء، وتوضع صحفة، وترفع أخرى، ولكنا سمعنا قول الله تعالى: {أذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا واسْتَمْتَعْتُمْ بِها} الآية [الأحقاف ٢٠]، وهذه الآية نصّ في الكفار، ومع ذلك فَهِم منها عمر الزجرَ عما يناسب أحوالهم بعض المناسبة، ولم يُنكر عليه أحد من الصحابة، فيمكن أن تكون هذه الآية من هذا النوع، وهذا نفيس، وبه يزول الإشكال، ويرتفع الإبهام، والله أعلم. انتهى كلام القرطبيّ – رحمه الله – [«تفسير القرطبيّ» ٨/ ٩١ – ٩٢]، وهو بحث نفيسٌ”. بواسطة (البحر المحيط).
المسألة (الرابعة): في فوائده:
1 – (منها): بيان فضل الجهاد في سبيل الله – سبحانه وتعالى -، قال النوويّ – رحمه الله -: في هذا الحديث عظيم فضل الجهاد؛ لأن الصلاة، والصيام، والقيام بآيات الله أفضل الأعمال، وقد جُعل المجاهد مثل من لا يفتر عن ذلك في لحظة من اللحظات، ومعلوم أن هذا لا يتأتى لأحد، ولهذا قال – ﷺ -: «لا تستطيعونه».
وقال القاضي عياض – رحمه الله -: اشتَمَل حديث الباب على تعظيم أمر الجهاد؛ لأن الصيام وغيره مما ذُكر من أفاضل الأعمال قد عدلها كلّها الجهادُ حتى صارت جميع حالات المجاهد، وتصرفاته المباحة معادلة لأجر المواظب على الصلاة وغيرها، ولهذا قال – ﷺ -: «لا تستطيعون ذلك». انتهى[«إكمال المعلم» ٦/ ٢٩٧].
وقال أبو عمر بن عبد البرّ – رحمه الله -: هذا الحديث من أجلّ حديثٍ رُوي في فضل الجهاد؛ لأنه مثَّله بالصلاة، والصيام، وهما أفضل الأعمال، وجَعَل المجاهد بمنزلة من لا يفتر عن ذلك ساعةً، فأيّ شيء أفضل من شيء، يكون صاحبه راكبًا، وماشيًا، وراقدًا، ومتلذّذًا بكثير ما أبيح له، من حديث رفيقه، وأكله، وشربه، وهو في ذلك كله كالمصلي التالي للقرآن في صلاته الصائم المجتهد؟ ولذلك قلنا إن الفضائل لا تُدرك بقياس، وإنما هو تفضّل من الله – عز وجل -، قال الله – عز وجل -: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِن عَذابٍ ألِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأمْوالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١)﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾ [الصف ١٠ – ١٣]. انتهى [«الاستذكار» ٥/ ٤].
2 – (ومنها): أن فيه استعمالَ القياس، والتشبيه، والتمثيل في الأحكام؛ لأنه شَبَّه المجاهد بالصائم القائم.
3 – (ومنها): أن الفضائل لا تُدرك بالقياس، وإنما هي إحسان من الله تعالى لمن شاء.
4 – (ومنها): أنه استُدِلّ به على أن الجهاد أفضل الأعمال مطلقًا؛ لِما تقدم تقريره، وقال ابن دقيق العيد – رحمه الله -: القياس يقتضي أن يكون الجهاد أفضل الأعمال التي هي وسائل؛ لأن الجهاد وسيلة إلى إعلان الدين، ونشره، وإخماد الكفر، ودَحْضه، ففضيلته بحسب فضيلة ذلك، والله أعلم. [وقد تقدم كلام الصنعاني رحمه الله]
5 – (ومنها): ما قاله في «الفتح»: وهذه فضيلة ظاهرة للمجاهد في سبيل الله تقتضي أن لا يعدل الجهادَ شيء من الأعمال، وأما ما جاء في حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – مرفوعًا: «ما العمل في أيام أفضل منه في هذه» – يعني: أيام العشر – قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد»، فَيَحْتَمِل أن يكون عموم حديث الباب خُصّ بما دلّ عليه حديث ابن عباس، ويَحْتَمِل أن يكون الفضل الذي في حديث الباب مخصوصًا بمن خرج قاصدًا المخاطرة بنفسه وماله، فأصيب، كما في بقية حديث ابن عباس – رضي الله عنهما -: «خَرَج يخاطر بنفسه، وماله، فلم يرجع بشيء»، فمفهومه أن من رجع بذلك لا ينال الفضيلة المذكورة.
قال: وأشدّ مما تقدم في الإشكال ما أخرجه الترمذيّ وابن ماجه وأحمد، وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء، مرفوعًا: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟» قالوا: بلى، قال: «ذِكْر الله»، فإنه ظاهر في أن الذِّكر بمجرّده أفضل من أبلغِ ما يقع للمجاهد، وأفضل من الإنفاق مع ما في الجهاد، والنفقة من النفع المتعدي. انتهى.
قال [الأثيوبي رحمه الله]: هكذا استشكل في «الفتح»، ولم يذكر جوابه، ويجاب بأن هذا أيضًا مخصوص من عموم حديث الباب، فيكون الذكر أفضل، وذلك فضل من الله – عز وجل -، ﴿واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ [البقرة ١٠٥].[وقد تقدم كلام الصنعاني رحمه الله]
6 – (ومنها): بيان أن الجهاد في سبيل الله تعالى أجلّ الأعمال”. انتهى من البحر المحيط، بتصرف يسير.
(الخامسة) كتب في الباب
هناك كتاب بعنوان:
فضل الجهاد والمجاهدين، المؤلف: أَبُو العَبَّاسِ أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ بنِ أَحْمَدَ المَقْدِسِيُّ، الحَنْبَلِيُّ، المُلَقَّبُ بِالبُخَارِيِّ (المتوفى: ٦٢٣هـ)، المحقق: مبارك بن سيف الهاجري، الناشر: الدار السلفية، الطبعة: الأولى ١٤٠٨ هـ – ١٩٨٨ م، عدد الأجزاء: ١