1174 فتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1174):
١١٧٤ – قال أبو داود رحمه الله (ج ١٢ ص ٣٨٧): حدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال ذات يوم «من رأى منكم رؤيا؟» فقال رجل أنا رأيت كأن ميزانًا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر ووزن عمر وعثمان فرجح عمر ثم رفع الميزان فرأينا الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن علي بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال ذات يوم «أيكم رأى رؤيا؟» -فذكر معناه ولم يذكر الكراهية- قال: فاستاء لها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم -يعني فساءه ذلك- فقال «خلافة نبوة ثم يؤتي الله الملك من يشاء».
هذا حديث صحيحٌ. وأشعث هو ابن عبد الملك الحُمْرانِيُّ، وعلي بن زيد هو ابن جدعان، مختلف فيه والراجح ضعفه، ولا يضر هنا؛ إذ هو متابع.
الحديث أخرجه الترمذي (ج ٦ ص ٥٦٦) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
ذكر الحديث الترمذي رحمه الله في السنن، “32-أبواب الرؤيا”، “١٠ – بابُ ما جاءَ فِي رُؤْيا النَّبِيِّ ﷺ المِيزانَ والدَّلْوَ”، برقم (٢٢٨٧).
وأبو داود في السنن، “39- كتاب السنة”، “بابٌ فِي الخُلَفاءِ”، برقم (٤٦٣٤).
وبوب عليه البيهقي في دلائل النبوة: “بابُ ما جاءَ فِي الإخْبارِ عَنِ الوُلاةَ بَعْدَهُ وما وقَعَ مِنَ الفِتْنَةِ فِي آخِرِ عَهْدِ عُثْمانَ، ثُمَّ فِي أيّامِ عَلِيٍّ حَتّى لَمْ يَسْتَقِمْ لَهُ أمْرُ الوِلايَةِ كَما اسْتَقامَ لِأصْحابِهِ، واغْتِمامِ النَّبِيِّ ﷺ بِذَلِكَ”.
والوادعي رحمه الله جعله في الجامع:
“16-كتاب الفضائل”، “١٠ – فضائل أبي بكر وعمر وعثمان – رضي الله عنهم -“، برقم (٢٤٤٧).
و”24-كتاب الإمارة”، “١٧ – الله يؤتي الملك من يشاء”، برقم (٣١٧٩).
و”25-كتاب الرؤيا”، “١٢ – سؤال الرجل أصحابه: من رأى منكم رؤيا”، برقم (٣٢٤٣).
و”33-كتاب التفسير، “٧٤ – قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشاءُ وتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وتُعِزُّ مَن تَشاءُ﴾”، برقم (٣٩٤٢).
أولاً: شرح الحديث:
أورد أبوداود حديث أبي بكرة وهذا مثل الذي قبله، يدل على خلافة الخلفاء بعد رسول الله ﷺ على هذا الترتيب، وأن أبا بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان بعد عمر رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين.
فهو دال على خلافتهم وعلى أن كل واحد منهم يأتي بعد الآخر، وأما ذكر أنهم رأوا الكراهية في وجه الرسول ﷺ، فلعل ذلك لما يحصل لـ عثمان في آخر الأمر مما قد حصل ووقع.[ شرح سنن أبي داود للعباد].
ثانيًا: مباحث وومضات في الرؤيا:
أولاً: ومضات:
أولاً: تعريف الرؤيا:
قال القرطبيّ رحمه الله: الرؤيا: مصدر رأى في المنام رؤيا، على وزن فُعْلى، وألفه للتأنيث؛ ولذلك لم ينصرف، والرؤية: مصدر رأى بعينه في اليقظة رؤية، هذا المعروف من لسان العرب.
وقال بعض العلماء: إن الرؤيا قد تجيء بمعنى الرؤية؛ وحَمَل عليه قوله تعالى: ﴿وما جَعَلْنا الرُّؤْيا الَّتِي أرَيْناكَ إلّا فِتْنَةً لِلنّاسِ﴾ الآية [الإسراء ٦٠]، وقال: إنما يعني بها: رؤية النبيّ -ﷺ- في الإسراء لَمّا أراه الله من عجائب السماوات، والملكوت، وكان الإسراء من أوله إلى آخره في اليقظة، وقد ذكرنا هذا في «باب الإسراء» من «كتاب الإيمان». انتهى [»المفهم«٥/ ٦ – ٦].
ثانيًا:
إضافة الرؤيا إلى الله تعالى:
وقال في (العمدة): إضافة الرؤيا إلى الله للتشريف، كما في قوله تعالى: ﴿فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وسُقْياها (١٣)﴾ [الشمس ١٣].
والرؤيا المضافة إلى الله لا يقال لها: حُلُم، والتي تضاف إلى الشيطان لا يقال لها: رؤيا، وهذا تصرّف شرفي، وإلا فالكل يسمى رؤيا. انتهى. [»عمدة القاري” ٢٤/ ١٣٢].
ونقل النووي نحوه للمازريّ: . [«شرح النوويّ» ١٥/ ١٩].
ثالثًا:
إضافة الحلم إلى الشيطان:
وقال المهلّب: سَمّى الشارع الرؤيا الخالصة من الأضغاث صالحة، وصادقةً، وأضافها إلى الله تعالى، وسَمّى الأضغاث حُلُمًا، وأضافها إلى الشيطان؛ إذ كانت مخلوقة على شاكلته، فأعلمَ الناس بكيده، وأرشدهم إلى دفعه؛ لئلا يُبْلغِوه أرَبه في تحزينهم، والتهويل عليهم. [«شرح ابن بطّال على البخاريّ» ٩/ ٥١٤، و«الفتح» ١٦/ ٣٠٧، كتاب «التعبير» رقم (٦٩٨٤)]
رابًع:
مفردات في باب الرؤيا:
أ- (والحُلْمُ) – وفتح اللام، من باب نصر: إذا رأى في منامه الرؤيا، ويقال: احتلم أيضًا، ومنه حلَم الصبيّ، واحتلم: إذا بلغ مبلغ الرجال، وأما حَلُم بمعنى صفح، وستر، فهو بضمّ اللام؛ ككرُم، حِلْمًا بكسر، فسكون [راجع: «المصباح المنير» ١/ ١٤٨]
ب- وقوله: (“الرُّؤْيا الصّالِحَةُ)؛ أي قال عياض تبعًا للباجيّ: يَحْتَمِل أن معنى الصالحة والحسنة: حسنُ ظاهرها، ويحْتَمِل أن المراد: صحتها.
خامسًا:
في حديث أبي رزين عند الترمذيّ: «ولا يقصّها إلا على وادّ- بتشديد الدال، اسم فاعل من الوُدّ- أو ذي رأي»، وفي أخرى: «ولا يحدّث بها إلا لبيبًا، أو حبيبًا»، وفي أخرى: «ولا يقصّ الرؤيا إلا على عالم، أو ناصح».
قال القاضي أبو بكر ابن العربيّ: أما العالِم فإنه يؤولها له على الخير، مهما أمكنه، وأما الناصح فإنه يُرشد إلى ما ينفعه، وُيعِينُه عليه، وأما اللبيب، وهو العارف بتأويلها، فانه يُعْلِمه بما يُعَوِّل عليه في ذلك، أو يسكت، وأما الحبيب فإن عرف خيرًا قاله، وان جهل، أو شكّ سكت.
قال الحافظ: والأولى الجمع بين الروايتين، فإن اللبيب عُبِّر به عن العالِم، والحبيب عُبّر به عن الناصح، وسيأتي عند مسلم في حديث أبي سعيد: «فليحمد الله عليها، ولْيُحَدِّث بها» [«الفتح» ١٦/ ٣٠٦، كتاب «التعبير» رقم (٦٩٨٤)].
سادسًا:
ماذا يفعل إذا وجدت ما يكره ؟
وقال النوويّ:
أكثر الروايات: «فلينفث»، وهو النفخ اللطيف، بلا ريق، فيكون التفل، والبصق محمولين عليه مجازًا.
وتعقبه الحافظ بأن المطلوب طرد الشيطان، وإظهار احتقاره، واستقذاره، كما نقله هو عن عياض كما مرّ، فالذي يَجمع الثلاثة الحمل على التفل، فإنه نفخٌ معه ريق لطيف، فبالنظر إلى النفخ قيل له: نفث، وبالنظر إلى التفل قيل له: بصق. انتهى [»شرح الزرقاني على الموطّأ«٤/ ٤٥٣].
وفي الحديث (عَنْ يَساره ثَلاثًا)؛ أي: ثلاث مرّات،
(ولْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِن شَرِّها)؛ أي: شرّ هذه الرؤيا التي كرهها، (فَإنَّها لَنْ تَضُرَّهُ«) قال القرطبيّ عند قوله:»والحلم من الشيطان«: فإذا استعاذ الرائي منه صادقًا في التجائه إلى الله تعالى، ونفث عن يساره ثلاثًا، وتحوَّل عن جَنْبه كما أمره النبيّ -ﷺ- هذا الحديث، وصلى؛ أذهب الله عنه ما أصابه، وما يخافه من مكروه ذلك، ولم يصبه منه شيء ببركة صدق الالتجاء إلى الله تعالى، وامتثال أوامر رسوله -ﷺ-.
وفائدة أمْرِه بالتحول عن جنبه الذي كان عليه؛ ليتكامل استيقاظه، وينقطع عن ذلك المنام المكروه،
وفائدة الأمر بالصلاة، أن تكمل الرغبة، وتصح الطَّلِبة، فإنّ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. انتهى [«المفهم»٩/ ٦ – ١٠]، وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله تعالى، والله تعالى أعلم.
سابعا :
[تنبيه آخر]: قال الإمام أبو عمر بن عبد البرّ – بعد ذِكر اختلاف الروايات في عدد الأجزاء – ما خلاصته: اختلاف آثار هذا الباب في عدد
أجزاء الرؤيا من النبوة ليس ذلك عندي باختلاف تضادّ، وتدافع، والله أعلم،
لأنه يَحْتَمِل أن تكون الرؤيا الصالحة من بعض من يراها على ستة وأربعين
جزءًا، أو خمسة وأربعين جزءًا، أو أربعة وأربعين جزءًا، أو خمسين جزءًا، أو
سبعين جزءًا، على حَسَب ما يكون الذي يراها من صِدْق الحديث، وأداء
الأمانة، والدين المتين، وحُسن اليقين، فعلى قَدْر اختلافَ الناس فيما وصفنا تكون الرؤيا منهم على الأجزاء المختلفة العدد، والله أعلم، فمن خَلَصَت له
نيّته في عبادة ربه، ويقينه، وصِدْق حديثه كانت رؤياه أصدق، وإلى النبوة
أقرب .
قال أبو عمر: هذا على أنّه يكلمه جبريل كثيرًا بالوحي في الأغلب من
أمره، وقد قال – ﷺ -: «إن روح القدس نَفَث في رُوعي، أنه لن تموت نفس حتى
تستكمل رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، خذوا ما حَلَّ، ودَعُوا ما حَرُم».
وفي حديث عائشة – – أن رسول الله – ﷺ – قيل له: كيف يأتيك الوحي؟
قال: «يأتيني الوحي أحيانأ في مثل صلصلة الجرس، … وكان أولُ
ما ابتدئ من النبوة أنه كان يرى الرؤيا، فتأتي كأنها فَلَق الصبح …..
وقد يَحْتَمِل أن تكون الرؤيا جزءًا من النبوة؛ لأنّ فيها ما يُعجِز، ويمتنع؛
كالطيران، وقلب الأعيان، ولها التأويل الحسن، وربما أغنى بعضها عن التأويل.
وجملة القول في هذا الباب أن الرؤيا الصادقة من الله، وأنها من النبوة،
وأن التصديق بها حقّ، وفيها من بديع حكمة الله ولطفه ما يزيد المؤمن في
إيمانه، ولا أعلم بين أهل الدين والحقّ من أهل الرأي والأثر، خلافًا فيما
وصفت لك، ولا ينكر الرؤيا إلّا أهل الإلحاد، وشِرْذمة من المعتزلة. انتهى
كلام ابن عبد البرّ – رحمه الله – [«التمهيد» لابن عبد البرّ ١/ ٢٨٣ – ٢٨٤]، وهو تحقيق نفيسٌ، وبحثٌ أنيسٌ، والله تعالى أعلم.
ثامنًا: في اختلاف أهل العلم في معنى قوله -ﷺ-: «فقد رآني»:
وقال في «الفتح»: قال القاضي أبو بكر ابن العربيّ: رؤية النبيّ -ﷺ-
بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة، ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال، فإن
الصواب أن الأنبياء لا تغيّرهم الأرض، ويكون إدراك الذات الكريمة حقيقةً،
وإدراك الصفات إدراك المِثْل، قال: وشذّ بعض القَدَرية، فقال: الرؤيا لا
حقيقة لها أصلًا، وشذّ بعض الصالحين، فزعم أنها تقع بعيني الرأس حقيقةً،
وقال بعض المتكلمين: هي مدركة بعينين في القلب.
قال: وقوله: «فسيراني» معناه: فسيرى تفسير ما رأى؛ لأنه حقّ وغيب
أُلقي فيه، وقيل: معناه: فسيراني في القيامة، ولا فائدة في هذا التخصيص.
وأما قوله: «فكأنما رآني» فهو تشبيه؛ ومعناه: أنه لو رآه في اليقظة لطابق
ما رآه في المنام، فيكون الأول حقًّا، وحقيقةً، والثاني حقًّا وتمثيلًا، قال:
وهذا كله إذا رآه على صورته المعروفة، فإن رآه على خلاف صفته، فهي
أمثال، فإن رآه مقبلًا عليه مثلًا، فهو خير للرائي، وفيه، وعلى العكس
فبالعكس.
وقال النوويّ [«شرح النوويّ» ١٥/ ٢٤]: قال عياض [«إكمال المعلم» ٧/ ٢١٩]: يَحْتَمِل أن يكون المراد بقوله: «فقد
رآني»، أو «فقد رأى الحقّ» أن من رآه على صورته في حياته كانت رؤياه حقًّا،
ومن رآه على غير صورته كانت رؤيا تأويل، وتعقبه، فقال: هذا ضعيفٌ، بل
الصحيح أنه يراه حقيقةً، سواءٌ كانت على صفته المعروفة، أو غيرها. انتهى.
قال الحافظ: ولم يظهر لي من كلام القاضي ما ينافي ذلك، بل ظاهر
قوله: إنه يراه حقيقةً في الحالين، لكن في الأُولى تكون الرؤيا مما لا يحتاج
إلى تعبير، والثانية مما يحتاج إلى التعبير.
والحاصل من الأجوبة ستة:
أحدها: أنه على التشبيه والتمثيل، ودلّ عليه قوله في الرواية الأخرى: «فكأنما رآني في اليقظة».
ثانيها: أن معناها سيرى في اليقظة تأويلها، بطريق الحقيقة، أو التعبير.
قال القرطبي :
قوله: «فقد رأى الحقّ»؛ أي:
رأى الحقّ الذي قُصد إعلام الرائي به، فإن كانت على ظاهرها، وإلا سَعى في
تأويلها، ولا يُهْمِل أمرها؛ لأنها إما بشرى بخير، أو إنذار من شرّ، إما ليُخِيف
الرائي، وإما لينزجر عنه، وإما لينّبه على حكم يقع له في دينه، أو دنياه.
وقال ابن بطال [«شرح البخاريّ» لابن بطّال ٩/ ٥٢٧]: قوله: «فسيراني في اليقظة» يريد تصديق تلك الرؤيا في
اليقظة، وصحتها، وخروجها على الحقّ،
ثالثها: أنه خاصّ بأهل عصره، ممن آمن به قبل أن يراه.
رابعها: أنه يراه في المرآة التي كانت له، إن أمكنه ذلك، وهذا من أبعد المحامل.
قال الحافظ: وهذا مشكل جدًّا، ولو حُمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة، ويعكُر عليه أن جمعًا جَمًّا رأوه في المنام، ثم لم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة، وخبر الصادق لا يتخلف.
خامسها: أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية، لا مطلق من يراه حينئذ، ممن لم يره في المنام.
ورد بأن كل المؤمنين سيرونه
سادسها: أنه يراه في الدنيا حقيقةً، ويخاطبه، وفيه ما تقدم من الإشكال. فرده ابن عبد البر بأنه لوازم باطلة .
وقال القرطبي: قد تقرر أن الذي يُرى في المنام أمثلة للمرئيات، لا أنفسها، غير أن تلك الأمثلة تارةً تقع مطابقةً، وتارةً يقع معناها، فمن الأول رؤياه -ﷺ- عائشة -، وفيه: «فإذا هي أنتِ»، فأخبر أنه رأى في اليقظة ما رآه في نومه بعينه، ومن الثاني رؤيا البقر التي تُنحر، والمقصود بالثاني التنبيه على معاني تلك الأمور.
ومن فوائد رؤيته -ﷺ- تسكين شوق الرائي؛ لكونه صادقًا في محبته؛ ليعمل على مشاهدته، وإلى ذلك الإشارة بقوله: «فسيراني في اليقظة»؛ أي: من رآني رؤية مُعَظِّم لحرمتي، ومشتاق إلى مشاهدتي، وصل إلى رؤية محبوبه، وظَفِر
بكل مطلوبه، قال: ويجوز أن يكون مقصود تلك الرؤيا معنى صورته، وهو
دينه، وشريعته، فيُعْبَر بحسب ما يراه الرائي من زيادة، ونقصان، أو إساءه،
وإحسان.
قال الحافظ: وهذا جواب سابع، والذي قبله لم يظهر لي، فإن ظهر فهو ثامن.
قال: وقال المازريّ: اختَلَف المحققون في تأويل هذا الحديث، فذهب
القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أن المراد بقوله: “من رآني في المنام، فقد رآني» أن رؤياه صحيحةٌ، لا تكون أضغاثًا، ولا من تشبيهات الشيطان، قال:
ويعضده قوله في بعض طرقه: «فقد رأى الحقّ»، قال: وفي قوله: «فإن
الشيطان لا يتمثل بي» إشارة إلى أن رؤياه لا تكون أضغاثًا.
ثم قال المازريّ: وقال آخرون: بل الحديث محمول على ظاهره،
والمراد: أن من رآه فقد أدركه، ولا مانع يمنع من ذلك، ولا عقل يحيله، حتى
يُحتاج إلى صرف الكلام عن ظاهره.
قال الأتيوبي عفا الله عنه: هذا القول هو المختار عندي، فالحقّ حَمْل الحديث على ظاهره، وأن رؤيته -ﷺ- رؤية حقّ، لا تمثيل، فحقيقة ذاته -ﷺ- تُرى في المنام، وأما مخالفة بعض صفاته التي رآها الرائي؛ فإنه يعود إلى صفة
الرائي، لا المرئيّ، فقد يكون غلطًا، وقد يكون التباسًا، ولذا قال أصحاب
هذا القول:
وأما كونه قد يُرى على غير صفته، أو يُرى في مكانين مختلفين معًا، فإن
ذلك غلطٌ في صفته، وتخيُّل لها على غير ما هي عليه، وقد يظنّ بعض
الخيالات مرئيات؛ لكون ما يتخيل مرتبطًا بما يرى في العادة، فتكون ذاته -ﷺ-
مرئيةً، وصفاته متخيلةً، غير مرئية، والإدراك لا يُشترط فيه تحديق البصر، ولا
قُرب المسافة، ولا كون المرئي ظاهرًا على الأرض، أو مدفونًا، وإنما يُشترط
كونه موجودًا، ولم يقم دليل على فناء جسمه -ﷺ-، بل جاء في الخبر الصحيح
ما يدل على بفائه، وتكون ثمره اختلاف الصفات اختلاف الدلالات، كما قال
بعض علماء التعبير: إن من رآه شيخًا فهو عامُ سِلْم، أو شابًّا فهو عام حَرْب [انظر: كتاب الرؤيا، البحر المحيط الثجاج].
من مباحث الرؤيا:
المبحث الأول:
حاصل ما ذُكر في هذه الأحاديث من آداب الرؤيا المكروهة أربعة أشياء:
أن يتعوذ بالله من شرّها، ومن شر الشيطان، وأن يتفل حين يَهُمث من نومه عن يساره ثلاثًا، ولا يذكرها لأحد أصلًا،
ووقع عند الشيخين من حديث أبي هريرة -﵁- خامسةٌ، وهي الصلاة، ولفظه: «فمن رأى شيئًا يكرهه، فلا يقصّه على أحد، وليقم، فليصلّ»، لكن لم يصرح البخاريّ بوصله، وصرح به مسلم، كما سيأتي.
وغفل القاضي أبو بكر ابن العربيّ، فقال: زاد الترمذي على «الصحيحين»
بالأمر بالصلاة. انتهى.
وزاد مسلم سادسةً، وهي التحول عن جنبه الذي كان عليه.
وفي الجملة فتكمل الآداب ستة:
الأربعة الماضية، والصلاة، والتحول.
قال الحافظ: ورأيت في بعض الشروح ذَكَر سابعةً، وهي قراءة آية
الكرسيّ، ولم يذكر لذلك مستندًا، فإن كان أخذه من عموم قوله في حديث أبي
هريرة: «ولا يقربنك شيطان»، فيتّجه، وينبغي أن يقرأها في صلاته
المذكورة [«الفتح» ١٦/ ٣٠٨، كتاب «التعبير» رقم (٦٩٨٤)]، والله تعالى أعلم.
المبحث الثاني:
فيما قاله العلماء من الحكمة في الأمر بالاستعاذة، وغيرها:
قال في «الفتح»: قد ذكر العلماء حكمة هذه الأمور، فأما الاستعاذة بالثه من شرها فواضح، وهي مشروعة عند كل أمر يكره.
وأما الاستعاذة من الشيطان: فَلِما وقع في بعض طرق الحديث أنها منه، وأنه يُخَيِّل بها لقصد تحزين الآدميّ، والتهويل عليه، كما تقدم.
وأما التفل: فقال عياض: أمر به طردًا للشيطان الذي حضر الرؤيا المكروهة؛ تحقيرًا له، واستقذارًا، وخُصّت به اليسار؛ لأنها محل الأقذار،
ونحوها، قال الحافظ: والتثليث للتأكيد.
وقال القاضي أبو بكر ابن العربيّ: فيه إشارة إلى أنه في مقام الرُّقية؛
ليتقرر عند النفس دَفْعه عنها، وعَبَّر في بعض الروايات بالبصاق؛ إشارةً إلى استقذاره، وقد ورد بثلاثة ألفاظ: التفث، والتفل، والبصق.
قال النوويّ في الكلام على النفث في الرقية تبعًا لعياض: اختُلِف في
التفث، والتفل، فقيل هما بمعنى، ولا يكونان إلا بريق.
وقال أبو عبيد: يُشترط في التفل ريق يسير، ولا يكون في التفث، وقيل: عكسه، وسئلت عائش -﵄- عن التفث في الرقية، فقالت: كما ينفث آكل الزبيب، لا ريق معه، قال: ولا اعتبار بما يخرج معه من بلّة بغير قصد، قال:
وقد جاء في حديث أبي سعيد في الرقية بفاتحة الكتاب، فجعل يجمع بُزاقه،
قال عياض: وفائدة التفل التبرك بتلك الرطوبة، والهواء، والتفث المباشر للرقية
المقارن للذِّكر الحسن، كما يتبرك بغسالة ما يُكتب من الذِّكر والأسماء.
وقال النوويّ أيضًا: أكثر الروايات في الرؤيا: «فلينفث»، وهو نفخ لطيف
بلا ريق، فيكون التفل، والبصق محمولين عليه، مجازًا.
قال الحافظ: لكن المطلوب في الموضعين مختلف؛ لأن المطلوب في
الرقية التبرك برطوبة الذِّكر كما تقدم، والمطلوب هنا طرد الشيطان، وإظهار
احتقاره، واستقذاره، كما نقله هو عن عياض، كما تقدم، فالذي يجمع
الثلاثة: الحمل على التفل، فإنه نفخٌ معه ريق لطيف، فبالنظر إلى النفخ قيل
له: تفث، وبالنظر إلى الريق قيل له: بصاق.
قال النوويّ: وأما قوله: «فإنها لا تضرّه» فمعناه أن الله تعالى جَعَل ما
ذُكر سببًا للسلامة من المكروه المترتب على الرؤيا، كما جعل الصدقة وقاية
للمال. انتهى.
وأما الصلاة:
فَلِما فيها من التوجه إلى الله تعالى، واللجأ إليه، ولأن في
التحرّم بها عصمة من الأسواء، وبها تكمل الرغبة، وتصح الطَّلِبة؛ لِقُرْب
الصلي من ربه عزوجل زعند سجوده.
وأما التحول: فللتفاؤل بتحول تلك الحال التي كان عليها، قال النوويّ:
وينبغي أن يُجمع بين هذه الروايات كلِّها، ويعْمَل بجميع ما تضمّنه، فإن اقتصر
على بعضها أجزأه في دفع ضررها بإذن الله تعالى، كما صرَّحت به الأحاديث.
قال الحافظ: لم أر في شيء من الأحاديث الاقتصار على واحدة، نعم
أشار المهلَّب إلى أن الاستعاذة كافية في دَفْع شرّها، وكأنه أخذه من قوله تعالى: ﴿فَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى
الَّذِينَ آمَنُوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩)﴾ [النحل ٩٨، ٩٩]، فيحتاج مع الاستعاذة
إلى صحة التوجه، ولا يكفي إمرار الاستعاذة باللسان.
وقال القرطبيّ في «المفهم»: الصلاة تجمع ذلك كله؛ لأنه إذا قام،
فصلى تحوّل عن جَنْبه، وبصق، ونفث عند المضمضة في الوضوء، واستعاذ
قبل القراءة، ثم دعا الله في أقرب الأحوال إليه، فيكفيه الله شرها بمنه وكرمه.
وورد في صفة التعوذ من شرّ الرؤيا أثر صحيح، أخرجه سعيد بن
منصور، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، بأسانيد صحيحة، عن إبراهيم النخعيّ
قال: «إذا رأى أحدكم في منامه ما يكره، فليقل إذا استيقظ: أعوذ بما عاذت
به ملائكة الله، ورسله، من شرّ رؤياي هذه، أن يصيبني فيها ما أكره في ديني،
ودنياي».
وورد في الاستعاذة من التهويل في المنام ما أخرجه مالك، قال: «بلغني
أن خالد بن الوليد قال: يا رسول الله إني أُرَؤَع في المنام، فقال: قل: أعوذ
بكلمات الله التامات من شر غضبه، وعذابه، وشر عباده، ومن همزات
الشياطين، وأن يحضرون»، وأخرجه النسائيّ من رواية عمرو بن شعيب، عن
أبيه، عن جدّه، قال: كان خالد بن الوليد يفزع في منامه، فذكر نحوه، وزاد
في أوله: «إذا اضطجعت، فقل: باسم الله …»، فذكره، وأصله عند أبي
داود، والترمذيّ، وحسّنه، والحاكم، وصححه.
واستثنى الداوديّ من عموم قوله: «إذا رأى ما يكره» ما يكون في الرؤيا
الصادقة؛ لكونها قد تقع إنذارًا، كما تقع تبشيرًا، وفي الإنذار نوعُ ما يكرهه
الرائي، فلا يُشْرَع إذا عُرف أنها صادقة ما ذَكَره من الاستعاذة، ونحوها،
واستند إلى ما ورد من مرائي النبيّ -ﷺ-؛ كالبقر التي تُنحر، ونحو ذلك.
ويمكن أن يقال: لا يلزم من ترك الاستعاذة في الصادقة، أن لا يتحول
عن جنبه، ولا أن لا يصلي، فقد يكون ذلك سببًا لدفع مكروه الأنذار، مع
حصول مقصود الإنذار، وأيضًا فالمنذورة قد ترجع إلى معنى المبشِّرة؛ لأن من
انذِر بما سيقع له، ولو كان لا يسرّه أحسن حالًا ممن هُجِم عليه ذلك، فوإنه
ينزعج ما لا ينزعج من كان يعلم بوقوعه، فيكون ذلك تخفيفًا عنه، ورفقًا به.
قال الحكيم الترمذيّ: الرؤيا الصادقة أصلها حق تُخبر عن الحقّ، وهو
بشرى، وإنذار، ومعاتبة؛ لتكون عونًا لِما نُدِب إليه، قال: وقد كان غالب أمور
الأؤَلين الرؤيا، إلا أنها قلَّت في هذه الأمة؛ لِعِظَم ما جاء به نبيّها -ﷺ- من
الوحي، ولكثرة من في أمته من الصدِّيقين من المُحَدَّثين بفتح الدال، وأهل
اليقين، فاكتفَوْا بكثرة الإلهام والملْهَمين عن كثرة الرؤيا التي كانت في
المتقدِّمين.
قال الأتيوبي عفا الله عنه: قوله: «وقد كان غالب أمور الأوَّلين الرؤيا» لم يذكر مستنده في هذا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.-
وقال القاضي عياض: يَحْتَمِل قوله: الرؤيا الحسنة، والصالحة أن يرجع إلى حُسن ظاهرها، أو صِدْقها، كما أن قوله: الرؤيا المكروهة، أو السوء يَحْتَمِل سوء الظاهر، أو سوء التأويل.
وأما كتمها:
مع أنها قد تكون صادقة، فخَفِيَتْ حكمته، ويحتمل أن يكون
لمخافة تعجيل اشتغال سرّ الرائي بمكروه تفسيرها؛ لأنها قد تبطئ، فإذا لم
يُخبِر بها زال تعجيل رَوْعها وتخويفها، ويبقى إذا لم يعبِّرها له أحد بين الطمع
في أن لها تفسيرًا حسنًا، أو الرجاء في أنها من الأضغاث، فيكون ذلك أسكن
لنفسه، والله تعالى أعلم [«الفتح» ١٦/ ٣١١، كتاب «التعبير» رقم (٦٩٨٤)].
المبحث الثالث:
في ذكر ما قيل في كيفيّة الرؤيا:
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: وقد اختلف الناس في حقيقة الرؤيا قديمًا وحديثًا،
فقال غير المتشرِّعين أقوالًا مختلفة، وصاروا فيها إلى مذاهب مضطربة، قد عَرِيت عن البرهان، فأشبهت الهذيان، وسبب ذلك التخليط العظيم: الإعراض عما جاءت به الأنبياء من الطريق المستقيم.
وبيان ذلك أن حقيقة الرؤيا إنما هي من إدراكات النفس، وقد غُيِّب عنا عِلْم حقيقتها، وإذا لم يعلم ذلك لعدم الطريق الموصل إليه كان أحرى، وأولى ألّا نعلم ما غُيِّب عنا من إدراكاتها، بل نقول: إنا لا نعلم حقيقةَ كثير مما قد انكشف لنا جملته من إدراكاتها؛ كحس السمع، والعين، والأذن، وغير ذلك، فإنا إنما نعلم منها أمورًا جُمْلية، لا تفصيلية، وأوصافًا لازمة، أو عَرَضية، لا حقيقية، وسبيل العاقل ألّا يطمع في معرفة ما لم يُنْصَب له عليه دليل عقليّ،
ولا حسيّ، ولا مركَّب منهما؛ إلا أن يُخْبِر بذلك صادق، وهو الذي دلَّ الدليل
القطعيّ على صدقه، وهم الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- فإنّهم دَلّت
على صدقهم دلائل المعجزات، وإذا كان كذلك، فسبيلنا أن نُعْرِض عن أحوال
المعرضين، ونتشاغل بالبحث عن ذلك في كلام الشارع، والمتشرّعين.
قال الإمام أبو عبد الله المازريّ: المذهب الصحيح ما عليه أهل السُّنَّة،
وهو أن الله تعالى يخلق في قلب النائم اعتقادات، كما يخلقها في قلب
اليقظان، وهو تبارك اسمه يفعل ما يشاء، وما يمنعه من فعله نوم، ولا يقظة،
وكانه سبحانه جعل هذه الاعتقادات عَلَمًا على أمور أُخَر يخلقها في ثاني حال،
أو كان قد خلقها.
وقال غيره: إن دثه تعالى مَلَكًا موكّلًا يَعْرِض المرئيّات على المحل
المُدْرِك من النائم، فيمثّل له صورًا محسوسة؛ فتارة تكون تلك الصور أمثلة
موافقةً لِما يقع في الوجود، وتارة تكون أمثلة لمعاني معقولة غير محسوسة،
وفي الحالتين تكون مبشرة ومنذرة.
قال القرطبيّ: وهذا مِثل الأول في المعنى؛ غير أنه زاد فيه قضية المَلَك،
ويحتاج في ذلك إلى توقيف من الشرع؛ إذ يجوز أن يخلق الله تعالى تلك
التمثيلات من غير مَلَك. وقيل: إن الرؤيا إدراك أمثلة منضبطة في التخيل
جعلها الله إعلامأ على ما كان، أو يكون؛ وهو أشبهها.
فإنْ قيل: كيف يقال: إن الرؤيا إدراك مع أن النوم ضد الإدراك؛ فإنه من
الأضداد العامة؛ كالموت، فلا يجتمع معه إدراك؛
فالجواب: أن الجزء المدرِك من النائم لم يحلِّه النوم، فلم يجتمع معه،
فقد تكون العين نائمة، والقلب يقظان؛ كما قال النبيّ -ﷺ-: «إن عيني تنامان،
ولا ينام قلبي»، وإنما قال: منضبطة التخيل؛ لأنَّ الرائي لا يرى في منامه إلا
من نوع ما أدركه في اليقظة بحسِّه، غير أنه قد تُركَب المتخيَّلات في النوم
تركيبأ يحصل من مجموعها صورة لم يوجد لها مثال في الخارج، تكون عَلَمًا
على أمر نادر؛ كمن يرى في نومه موجودًا رأسه رأس الإنسان، وجسده جسد الفرس مثلًا، وله جناحان، إلى غير ذلك مما يمكن من التركيبات التي لا يوجد
مثلها في الوجود، وإن كانت آحادُ أجزائها في الوجود الخارجيّ، وإنّما قال:
جعلها الله إعلامًا على ما كان، أو يكون؛ لأنّه يعني به: الرؤيا الصحيحة
المنتظمة الواقعة على شروطها على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
ثمّ إن النبيّ -ﷺ- قد ذكر أنواع الرؤيا هنا، وفيما رواه الترمذيّ من حديث
أبي هريرة -رضي الله عنه – قال: قال رسول الله -ﷺ-: «الرؤيا ثلاث: فرؤيا حقّ، ورؤيا
يحدِّث المرء بها نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان»، وذَكَر الحديث، فرؤيا
الحقّ هي المنتظمة التي لا تخليط فيها، وقد سَمّاها في رواية أخرى:
«الصادقة»، وفي أخرى: «الصالحة»، وهي التي يحضل بها التنبيه على أمر في
اليقظة صحيح، وهي- التي إذا صدرت من الإنسان الصالح- جزء من أجزاء
النبوة؛ أي: خصلة من خصال الأنبياء التي بها يعلمون الوحي من الله تعالى.
وأما الثانية: فهي التي تكون عن أحاديث نفس متوالية، وشهواتٍ غالبة،
وهموم لازمة، ينام عليها، فيرى ذلك في نومه، فلا التفات إلى هذا، وكذلك
الثالثة، فإنها تحزين، وتهويل، وتخويف، يُدخل كل ذلك الشيطان على
الإنسان في نومه، ليشوّش يقظته، وقد يجتمع هذان السببان، أعني هموم
النفس، وأُلقيات الشيطان في منام واحد، فتكون أضغاث أحلام لاختلاطها،
والضغث: هي القبضة من الحشيش المختلط. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله [«المفهم»٦/ ٦ – ٩]، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
المبحث الرابع: فيما قاله العلماء في إدراج قوله: «وأحبّ القيد، وأكره الغلّ … إلخ»:
قال أبو بكر الخطيب البغداديّ – – في كتابه «الفصل للوصل المدرج»
بعد إيراده الحديث من طرق ما نصّه: جاء في هذه الأحاديث التي ذكرناها أن
جميع هذا المتن قول رسول الله – ﷺ – إلّا ذكر القيد، والغُلّ، فإنه من قول أبي
هريرة، أدرجه هؤلاء الرواة في الحديث، وبئنه معمر بن راشد في روايته عن
أيوب، عن محمد بن سيرين .
بين ابن حجر الإدراج في الفتح وقال : الغل
إن كان من حَبْل، فلأمر في الدين، وإن كان من خشب، فلأمر فيه نفاق، كان كان
من حطب، فلتهمة، وإن كان من خرقة، أو خيط فلأمر لا يدوم.
قال الأتيوبي عفا الله عنه: لا يخفى مخالفة ما قاله أهل التعبير من التفصيلات لإطلاق حديث الباب، فليُتأمل بالإنصاف، والله تعالى أعلم..
قال الحافظ: وقد يكون الغلّ في بعض المرائي محمودًا كما وقع لأبي
بكر الصديق – رضي الله عنه-، فأخرج أبو بكر بن أبي شيبة، بسند صحيح، عن مسروق
قال: «مَرَّ صهيب بأبي بكر، فأعرض عنه، فسأله، فقال: رأيت يدك مغلولة
على باب أبي الحشر، رجل من الأنصار، فقال أبو بكر: جُمِع لي ديني إلى
يوم الحشر».
قال الأتيوبي عفا الله عنه: قد أسلفت لك أن هذه التأويلات، والمناسبات التي سبق ذِكرها في كلام الحافظ – تكلّفات، وتخرّصات لا يليق الخوض فيها، ولا اتّباع الخائضين فيها، بل الصواب الذي نعتقده، ونرى أنه الحقّ: أن رؤيا المؤمن جزء من ستّة وأربعين جزءًا من النبوّة، ونَكِلُ علم حقيقة ذلك إلى عالم الغيب والشهادة، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
: فوائد كتاب الرؤيا:
1 – (ومنها): أن الرؤيا ثلاثة أنواع:
الأولى: الرؤيا الصالحة، وهي بُشرى من الله تعالى لعبده المسلم.
والثانية: رؤيا هي تحزين من الشيطان للمؤمن، ولا تضرّه.
والثالثة: رؤيا من نوع ما يُحدّث المرء به نفسه.
2 – (منها): والرؤيا إذا لم تكن من الأضغاث، والأهاويل، فهي الرؤيا الصادقة، وقد تكون الرؤيا الصادقة من الكافر، ومن الفاسق؛ كرؤيا الملِك التي فسَّرها يوسف -ﷺ-، ورؤيا الفَتَيَيْن في السجن، ورؤيا بختنصر التي فسَّرها دانيال في ذهاب مُلكه، ورؤيا كسرى في ظهور النبيّ -ﷺ-، ورؤيا عاتكة عمة رسول الله -ﷺ- أمر النبي – ﷺ-، ومثل هذا كثير، وقد قسم رسول الله -ﷺ- الرؤيا أقسامًا تغني عن قول كل قائل، ثم أخرج بسنده حديث عوف بن مالك عن رسول الله -ﷺ- قال: «الرؤيا ثلاثة: منها أهاويل الشيطان؛ ليحزن ابن آدم، ومنها ما يَهُمّ به في يقظته، فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة». انتهى [«التمهيد» لابن عبد البرّ ١/ ٢٨٦].
3 – (ومنها): بيان آداب من رآى ما يكرهه، وهو أن ينفث عن يساره ثلاثًا، ويتعوّذ بالله من شرها، فإنها لا تضرّه.
4 – (ومنها): أن من آداب من رآى رؤيا يكرهها أن يقوم من منامه، فيصلي، وأن لا يحدّث بها الناس، فإنها لا تضرّه.
5 – (ومنها): بيان عداوة الشيطان للإنسان في كلّ أحواله، في يقظته، ومنامه، فلا يتركه في أيّ حال من الأحوال إلا يتعرّض لأذيّته، وأنه لا ملجأ ولا منجى له إلا بالالتجاء إلى الله، والتحصّن بذكره، فإنه الكافي عبدَه، فقد وعد بذلك حيث قال: ﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وكَفى بِرَبِّكَ وكِيلًا (٦٥)﴾ [الإسراء ٦٥].
6 – (ومنها): بيان آداب الرؤيا الصالحة، وهي ثلاثة أشياء: أن يحمد الله تعالى عليها، وأن يستبشر بها، وأن يتحدث بها، لكن لمن يُحِبّ دون من يكره.
7 – (ومنها): أنه استُدِلّ بقوله: «ولا يذكرها» على أن الرؤيا تقع على ما يُعَبَّر به.
8 – (ومنها): أنه استُدِلّ به أيضًا على أن للوهم تأثيرًا في النفوس؛ لأن التفل، وما ذُكر معه يدفع الوهم الذي يقع في النفس من الرؤيا، فلو لم يكن للوهم تأثير لَما أرشد إلى ما يدفعه، وكذا في النهي عن التحديث بما يكره لمن يكره، والأمر بالتحديث بما يحب لمن يحب.
9 – (ومنها): أنه وقع في حديث أبي سعيد الخدريّ –رضي الله عنه- عند البخاريّ:
«وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان»، قال في «الفتح»: ظاهر الحصر أن الرؤيا الصالحة لا تشتمل على شيء مما يكرهه الرائي، ويؤيده مقابلة رؤيا البشرى بالحلم، وإضافة الحلم إلى الشيطان، وعلى هذا ففي قول أهل التعبير، ومن تبعهم: إن الرؤيا الصادقة قد تكون بشرى، وقد تكون إنذارًا نظرٌ؛ لأن الإنذار غالبًا يكون فيما يكره الرائي.
ويمكن الجمع بأن الإنذار لا يستلزم وقوع المكروه، وبأن المراد بما يكره ما هو أعمّ من ظاهر الرؤيا، ومما تعبَّر به.
وقال القرطبيّ في «المفهم»: ظاهر الخبر أن هذا النوع من الرؤيا- يعني: ما كان فيه تهويل، أو تخويف، أو تحزين- هو المأمور بالاستعاذة منه؛ لأنه من تخيلات الشيطان، فإذا استعاذ الرائي منه صادقًا في التجائه إلى الله تعالى، وفَعَل ما أُمر به من التفل، والتحول، والصلاة، أذهب الله عنه ما به، وما يخافه من مكروه ذلك، ولم يصبه منه شيء.
وقيل: بل الخبر على عمومه فيما يكرهه الرائي، بتناول ما يتسبب بهالشيطان، وما لا تسبُّب له فيه، وفِعل الأمور المذكورة مانع من وقوع المكروه،
كما جاء أن الدعاء يدفع البلاء، والصدقة تدفع ميتة السوء، وكل ذلك بقضاء الله وقدره، ولكن الأسباب عادات، لا موجودات، وأما ما يرى أحيانًا مما يُعجب الرائي، ولكنه لا يجده في اليقظة، ولا ما يدل عليه، فإنه يدخل في قسم آخر، وهو ما كان الخاطر به مشغولًا قبل النوم، ثم يحصل النوم، فيراه، فهذا قسم لا يضرّ، ولا ينفع. [«الفتح» ١٦/ ٣١١ – ٣١٢، كتاب «التعبير» رقم (٦٩٨٥)]، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط]
10 – (منها): بيان أنه إذا اقترب الزمان لا تكاد رؤيا المسلم تكذب، واختلف في المراد باقتراب الزمان، فلا تنس.
11 – (ومنها): بيان أن من كان أصدق في حديثه كان أصدق في رؤياه.
12 – (ومنها): أن رؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءًا من النبوَّة.
13 – (ومنها): أن المسلم إذا رآى القيد في منامه كان خيرًا له؛ لأنه يدلّ على ثباته في دينه.
14 – (ومنها): أن رؤيا الغُلّ مذموم؛ لأنه من صفة أهل النار، كما أخبر الله عنهم في قوله: ﴿إذِ الأغْلالُ فِي أعْناقِهِمْ والسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١)﴾ [غافر: ٧١]، والله تعالى أعلم.
15 – (منها): بيان وقوع رؤية النبيّ -ﷺ- في المنام.
16 – (ومنها): بيان أن رؤيته -ﷺ- حقّ من الله تعالى، وليست من أضغاث الأحلام، ولا تلاعب الشيطان.
قال القاضي عياضٌ: قال بعض العلماء: خَصّ الله تعالى النبيّ -ﷺ- بأن رؤية الناس إياه صحيحة، وكلها صدق، ومَنَع الشيطان أن يتصور في خلقته؛ لئلا يكذب على لسانه في النوم، كما خرق الله تعالى العادة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالمعجزة، وكما استحال أن يتصور الشيطان في صورته في اليقظة، ولو وقع
لاشتبه الحقّ بالباطل، ولم يوثَق بما جاء به مخافة من هذا التصور، فحماها الله تعالى من الشيطان، ونزغه، ووسوسته، وإلقائه، وكيده، قال: وكذا حمى رؤيتهم نفسهم.[«إكمال الكمال» ٧/ ٢١٩ – ٢٢٠].
17 – (ومنها): بيان ما أكرم الله تعالى نبيّه -ﷺ- حيث منع الشيطان أن يتصوّر بصورته الشريفة.
18 – (ومنها): أن رؤيته -ﷺ-، وإن كانت حقًّا، فإنّها لا تغيّر ما ثبت من شرعه، فإن رآه الرائي يأمره بشيء مما ثبت في السنن الصحيحة، فتلك كرامة، وتثبيت له على سُنَّته -ﷺ-، فهي بشرى حقيقيّة، فليشكر الله تعالى عليها، وإن رآه يأمره بشيء من البدع، والخرافات، فإنها رؤيا دخلها غلط، فلا يُعتمد عليها.
ومن ذلك ما حُكي أن بعضهم رأى النبيّ -ﷺ- منامًا، فأمره أن يذهب إلى المكان الفلانيّ، فإن فيه كنزًا، فخذه، وليس عليك خُمس، أو كما قال،
فذهب الرجل إلى ذلك المكان، فوجد الكنز كما قال، ثم أشكل عليه حكم خُمسه، فذهب إلى عالم، فاستفتاه في ذلك، فقال له: رؤياك حقّ، وقوله:
«ليس عليك خمس» غلط، فإن هذا مما ثبت في سُنَّته الصحيحة، «وفي الركاز الخُمس»، فلا يمكن أن يأمر بخلافه بعد موته.
والحاصل: أن هذا المقام مقام تزلّ فيه الأقدام، فإن كثيرًا ممن ينتسب إلى العبادة والخلوة يكثر زعمهم رؤيته -ﷺ- في المنام، بل ربما ادّعى ذلك بعضهم في اليقظة، ثم يقول: إنه أمره بكذا وكذا من أنواع العبادات التي لم
يشرعها -ﷺ- في حياته، أو من أنواع الخرافات، فيُظهر ذلك للناس، فيتّبعه على ذلك عوامّ الناس، بل وبعض من ينتسب إلى العلم، فإلى الله المشتكى، ما أعظم المصيبة، وما أقلّ العلم بالسُّنَّة، وما أكثر مسارعة الناس إلى البدع والخرافات، فإنّا لله، وإنا إليه راجعون.
19 – (ومنها): ما قال في «الفتح»: ويؤخذ من هذا الحديث أن النائم لو رأى النبيّ -ﷺ- يأمره بشيء، هل يجب عليه امتثاله، ولا بدّ؟ أو لا بدّ أن يعرضه على الشرع الظاهر؟ فالثاني هو المعتمد. انتهى [«الفتح» ١٦/ ٣٣٧، كتاب «التعبير» رقم (٦٩٩٣)].
قال الأتيوبي عفا الله عنه: العرض على الشريعة الظاهرة من أوجب الواجبات، فلا يحلّ لأحد رأى النبيّ -ﷺ- يأمره بشيء أن يُقدم عليه، إلا بعد عرضه على الكتاب والسُّنَّة، ومعرفة موافقته لهما، فإن وافق، فهو كرامة من الله تعالى لعبده، وتقوية لإيمانه، وإلا فإنه من وسوسة الشيطان، وحديث النفس، فلا يحلّ الإقدام عليه، والله تعالى أعلم.[ البحر المحيط الثجاج، بتصرف].
تنبيه: راجع مسائل الرؤيا في الصحيح المسند [ج2/(1102)،(1035)] وسبق في صحيح مسلم تفصيل ذلك، وفي الصحيح المسند (1035) تم ذكر قواعد في الرؤيا.