1206 فتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير ومحمد البلوشي وكديم وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الشيخ مقبل الوادعي في الصحيح المسند (ج2/ رقم 1206):
مسند أبي إسرائيل رضي الله عنه
١٢٠٦ – قال الإمام أحمد رحمه الله (ج ٤ ص ١٦٨): حدثنا عبد الرزاق حدثنا ابن جريج ومحمد بن بكر قال أخبرني ابن جريج قال أخبرني ابن طاوس عن أبيه عن أبي إسرائيل قال: دخل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المسجد وأبو إسرائيل يصلي فقيل للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو ذا يا رسول الله لا يقعد ولا يكلم الناس ولا يستظل وهو يريد الصيام فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم «ليقعد وليكلم الناس وليستظل وليصم».
هذا حديث صحيحٌ، وأصله في «الصحيحين» من حديث ابن عباس كما في «الإصابة».
===================
الحديث سيكون من وجوه:
الوادعي رحمه الله ذكر الحديث في الجامع:
7-كتاب الصوم، ٢٢ – من قرن قربة بما ليس بقربة فليف بالقربة، (١٤٧٨).
و32- كتاب الأدب، ٩٥ – الاقتصاد في العبادة، (٣٦٥٥). وسيأتي ذكر الأحاديث التي أوردها الشيخ رحمه الله تعالى.
وفي (مصنف عبد الرزاق الصنعاني): كِتابٌ الأيْمانُ والنُّذُورُ، بابٌ: لا نَذَرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، (١٥٨١٨). وذكر عدة أحاديث في الباب.
الأول: شرح الحديث:
قال ابن الملقن رحمه الله في (البدر المنير) بعد أن أورد الحديث: “ورَواهُ الشّافِعِي عَن سُفْيان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عن طاوس: «أن رَسُول الله ﷺ مر بِأبي إسْرائِيل وهُوَ قائِم فِي الشَّمْس …» الحَدِيث، وفِي آخِره: «ولم يَأْمر بكفارة». قالَ البَيْهَقِيّ: هَذا مُرْسل جيد.
قالَ: وفِيه: وفِيما قبله دلالَة عَلى أنه لم يَأْمُرهُ بكفارة.
قالَ: ورَواهُ الحسن بن عمارَة عَن حبيب بن أبي ثابت، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبّاس بِمثلِهِ، وفِي آخِره: «ولم يَأْمُرهُ بِالكَفّارَةِ».
ورُوِيَ [عَن] مُحَمَّد بن كريب عَن أبِيه عَن ابْن عَبّاس، وفِيه الأمر بِالكَفّارَةِ، ومُحَمّد بن كريب ضَعِيف. ثمَّ ذكره بِإسْنادِهِ، وفِي آخِره: «فَقالَ لَهُ رَسُول الله ﷺ: اقعد واستظل وتكلم وكفر». قالَ البَيْهَقِيّ: كَذا وجدته: «وكفر» وعِنْدِي أن ذَلِك خطأ وتصحيف، وإنَّما هُوَ «وصم» كَما فِي سائِر الرِّوايات.
ورَواهُ ابْن ماجَه من رِوايَة إسْحاق بن مُحَمَّد الفَروِي، نا عبد الله بن عمر، عَن أخِيه عبيد الله بن عمر، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبّاس «أن رَسُول الله ﷺ مر بِرَجُل قائِم فِي الشَّمْس، فَقالَ: ما هَذا …» الحَدِيث، عبد الله – المكبر فِيهِ – ضَعِيف، ورَوى لَهُ مُسلم مَقْرُونا، وقالَ ابْن معِين: صُوَيْلِح. وتكلم فِيهِ غَيره، والاعتماد فِي طرق هَذا الحَدِيث عَلى ما تقدم.
(فائِدَة): أبُو إسْرائِيل المَذْكُور فِي الحَدِيث قالَ الخَطِيب البَغْدادِيّ فِي «المبهمات»: هُوَ أبُو إسْرائِيل العامري، قيل: اسْمه: قَيْصر.
قالَ عبد الغَنِيّ بن سعيد البَصْرِيّ: لَيْسَ فِي أصْحاب رَسُول الله ﷺ من كنيته أبُو إسْرائِيل غير هَذا، ولا من اسْمه: قَيْصر. غَيره، ولا يعرف إلّا فِي هَذا الحَدِيث.
قلت: وقيل اسْمه قُشَيْر، قالَه المنيعي، عَن أبي القاسِم البَغَوِيّ، وابْن [معن] فِي «التنقيب» عَن أبي نعيم، وقالَهُ أيْضا الحافِظ أبُو مُوسى الأصْبَهانِيّ فِي «معرفَة الصَّحابَة» وهَذا نَصه: قُشَيْر أبُو إسْرائِيل الَّذِي نذر أن يَصُوم ولا يتَكَلَّم ويقوم فِي الشَّمْس.
ذكره البَغَوِيّ وسَماهُ قشيرًا، وكَذَلِكَ رُوِيَ عَن ابْن عَبّاس قالَ: «نذر أبُو إسْرائِيل قُشَيْر» رَواهُ كريب عَنهُ، ووَقع فِي بعض نسخ «المُهَذّب»: ابْن إسْرائِيل، وهُوَ غلط، والصَّواب أبُو إسْرائِيل، كَما وقع فِي بعض نسخه، نبه عَلى ذَلِك النَّوَوِيّ فِي «التَّهْذِيب» وغَيره.”. انتهى.
ضابط الأسماء الأعجمية:
أنديرا: (2)
ومن الأسماء المحرمة على المسلمين: التسمية بالأسماء الأعجمية المولدة للكافرين الخاصة بهم، والمسلم المطمئن بدينه يبتعد عنها، وينفر منها، ولا يحوم حولها.
وقد عظمت الفتنة بها في زماننا، فيلتقط اسم الكافر من أمم الكفر. وهذا من أشد مواطن الإثم، وأسباب الخذلان
معجم المناهي اللفظية (ص163)
وجاء في عبق الياسمين شرح رياض الصالحين (١٥٦):
ذكر [النووي] – رحمه الله – في “باب الاقتصاد في العبادة” هذا الحديث؛ الذي نذر فيه رجل يقال له أبو إسرائيل؛ قال ابن حجر: “أبو إسرائيل المذكور لا يشاركه أحد في كنيته من الصحابة واختلف في اسمه فقيل قشير بقاف وشين معجمة مصغر وقيل يسير بتحتانية ثم مهملة مصغر أيضا وقيل قيصر باسم ملك الروم وقيل بالسين المهملة بدل الصاد وقيل بغير راء في آخره وهو قرشي ثم عامري وترجم له ابن الأثير في الصحابة تبعا لغيره فقال: أبو إسرائيل الأنصاري. واغتر بذلك الكرماني فجزم بأنه من الأنصار، والأول أولى”.
وفي راوية الخطيب: (رجل من قريش) فلعله الأقرب أنه من قريش.
فهذا الرجل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد، وأن يصمت ولا يتكلم، وأن يصوم، وكان النبي ﷺ يخطب، قال ابن حجر: “قوله: (بينا النبي ﷺ يخطب) زاد الخطيب في «المبهمات» من وجه آخر: «يوم الجمعة».
وفي هذه الرواية أنه كان قائم: زاد أبو داود في (الشمس)، فرأى هذا الرجل قائمًا في الشمس، فسأل عنه فأخبر عن قصته، قال القاضي: “الظاهر من اللفظ أن المسئول عنه هو اسمه، ولذا أجيب بذكر اسمه وأن ما بعده زيادة في الجواب”.
فيه: تكلم الخطيب والسؤال عن الأحوال المستغربة، وبيان ما يحتاجه الناس وهو على المنبر.
فقال النبي ﷺ: ((مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه)). انتهى من عبق الياسمين.
(مسألة): في بيان أقسام النذر، ومذاهب العلماء في حكم كلّ قسم منها:
ذكر العلّامة ابن قُدامة رحمه الله في كتابه «المغني» أن النذر سبعة أقسام:
(أحدها): نذر اللَّجاج والغضب، وهو الذي يُخرجه مخرج اليمين للحثّ على فعل شيء، أو المنع منه، غير قاصد به النذر، ولا القربة، فهذا حكمه حكم اليمين.
(القسم الثاني): نذر طاعة وتبرّر، مثلُ الصلاة، والصيام، والحج، والعمرة، والعتق، والصدقة، والاعتكاف، والجهاد، وما في معناها، فهذا يلزم الوفاء به؛ لقوله تعالى: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ [الإنسان ٧]، وقوله: {ولْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج ٢٩]، ولحديث عائشة -رضي الله عنها-، قالت: قال رسول الله ﷺ: «من نذر أن يطيع الله، فليُطعه …» الحديث، رواه البخاريّ، وحديث عمران بن حصين -رضي الله عنهما-، مرفوعًا: «ثم يجيء قوم ينذرون، ولا يَفُون …» الحديث، رواه البخاريّ أيضًا، قال: وهو ثلاثة أنواع:
[أحدها]: التزام طاعة في مقابلة نعمة استجلبها، أو نقمة استدفعها؛ كقوله: إن شفاني الله، فللَّه عليّ صوم شهر، فتكون الطاعة الملتزمة مما له أصل في الوجوب بالشرع؛ كالصوم، والصلاة، والصدقة، والحج، فهذا يلزم الوفاء به بإجماع أهل العلم.
[النوع الثاني]: التزام طاعة من غير شرط؛ كقوله ابتداءً: لله على صوم شهر، فيلزمه الوفاء به، في قول أكثر أهل العلم، وهو قول أهل العراق، وظاهر مذهب الشافعيّ، وقال بعض أصحابه: لا يلزم الوفاء به؛ لأنّ أبا عمر غلام ثعلب قال: النذر عند العرب وعد بشرط، ولأن ما التزمه الآدميّ بعوض يلزمه بالعقد؛ كالمبيع، والمستأجر، وما التزمه بغير عوض، لا يلزمه بمجرّد العقد؛ كالهبة.
[النوع الثالث]: نذر طاعة، لا أصل لها في الوجوب؛ كالاعتكاف، وعيادة المريض، فيلزمه الوفاء به عند عامّة أهل العلم، وحُكي عن أبي حنيفة أنه لا يلزمه الوفاء به؛ لأنّ النذر فرع على المشروع، فلا يجب به ما لا يجب له نظير بأصل الشرع.
قال: ولنا قول النبيّ ﷺ: «من نذر أن يُطيع الله فليُطعه»، وذمّه الذين ينذرون، ولا يوفون، وقول الله تعالى: ﴿ومِنهُمْ مَن عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكُونَنَّ مِنَ الصّالِحِينَ (٧٥) فَلَمّا آتاهُمْ مِن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وتَوَلَّوْا وهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأعْقَبَهُمْ نِفاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أخْلَفُوا اللَّهَ ما وعَدُوهُ وبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧)﴾ [التوبة ٧٥ – ٧٧]، وقد صحّ أن عمر -رضي الله عنه- قال للنبيّ ﷺ: إني نذرت أن أعتكف ليلةً في المسجد الحرام؟، فقال له النبيّ ﷺ: «أوف بنذرك». متّفقٌ عليه، ولأنه ألزم نفسه قربةً على وجه التبرّر، فتلزمه، كموضع الإجماع، وكما لو ألزم نفسه أضحيّة، أو أوجب هديًا، وكالاعتكاف، وكالعمرة، فإنهم قد سلّموها، وليست واجبة عندهم، وما ذكروه يَبطُلُ بهذين الأصلين، وما حكوه عن أبي عمر لا يصحّ، فإن العرب تسمّي نذرًا، وإن لم يكن بشرط، قال جَميل [من الطويل]:
فَلَيْتَ رِجالًا فِيكِ قَدْ نَذَرُوا دَمِي … وهَمُّوا بِقَتْلِي يا بُثَيْنُ لَقُونِي
والجَعالةُ وعد بشرط، وليست بنذر.
(القسم الثالث): النذر المبهم، وهو أن يقول: لله عليّ نذرٌ، فهذا تجب به الكفّارة في قول أكثر أهل العلم، وروي ذلك عن ابن مسعود، وابن عبّاس، وجابر، وعائشة -رضي الله عنهم-، وبه قال الحسن، وعطاء، وطاوس، والقاسم، وسالِمٌ، والشعبيّ، والنخعيّ، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومالكٌ، والثوريّ، ومحمد بن الحسن، ولا أعلم فيه مخالفًا إلّا الشافعيّ، قال: لا ينعقد نذره، ولا كفّارة فيه؛ لأنّ من النذر ما لا كفّارة فيه. ولنا ما رواه عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «كفّارة النذر إذا لم يُسمّ كفّارة يمين»، رواه الترمذيّ، وقال: هذا حديث حسنٌ صحيح غريب.
قال الأتيوبي عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث في إسناده محمد بن يزيد مولى المغيرة بن شعبة مجهول، فتصحيح الترمذيّ له لعله من تساهلاته، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: ولأنه نصٌّ، وهذا قول من سمّينا من الصحابة والتابعين، ولا نعرف لهم في عصرهم مخالفًا، فيكون إجماعًا.
(القسم الرابع): نذر المعصية، فلا يحلّ الوفاء به إجماعًا؛ ولأن النبيّ ﷺ قال: «من نذر أن يعصي الله فلا يعصه»، ولأن معصية الله تعالى لا تحلّ في حال، ويجب على الناذر كفّارة يمين. روي نحو هذا عن ابن مسعود، وابن عبّاس، وجابر، وعمران بن حصين، وسمُرة بن جندب -رضي الله عنهم-، وبه قال الثوريّ، وأبو حنيفة، وأصحابه، وروي عن أحمد ما يدلّ على أنّه لا كفّارة عليه، فإنه قال فيمن نذر لَيهدِمنّ دار غيره لبنةً لبنةً: لا كفّارة عليه، وهذا في معناه. وروي هذا عن مسروق، والشعبيّ، وهو مذهب مالك، والشافعيّ؛ لقوله ﷺ: «لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد»، رواه مسلم، وقال: «ليس على الرجل نذرٌ فيما لا يملك»، متّفقٌ عليه، وقال: «لا نذر إلّا ما ابتُغي به وجه الله»، رواه أبو داود، وقال: “من نذر أن يعصي الله فلا
يعصه»، ولم يأمر بكفّارة. ولما نذرت المرأة التي كانت مع الكفّارت، فنجت على ناقة رسول الله ﷺ أن تنحرها، قالت: يا رسول الله، إني نذرت إن أنجاني الله عليها أن أنحرها؟ قال: «بئسما جزيتها، لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد»، رواه مسلم، ولم يأمرها بكفّارة، وقال لأبي إسرائيل حين نذر أن يقوم في الشمس، ولا يقعد، ولا يستظلّ، ولا يتكلّم: «مُرُوه، فليتكلّم، وليجلس، وليستظلّ، وليُتِمّ صومه»، رواه البخاريّ، ولم يأمره بكفّارة، ولأن النذر التزام الطاعة، وهذا التزام معصية، ولأنه نذر غير منعقد، فلم يوجب شيئًا؛ كاليمين غير المنعقدة.
ووجه الأول ما روت عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله ﷺ: قال: «لا نذر في معصية، وكفّارته كفّارة يمين»، رواه الإمام أحمد في «مسنده»، وأبو داود في «سننه»، وقال الترمذيّ: هو حديث غريب، وعن أبي هريرة، وعمران بن حُصين -رضي الله عنهم- عن النبيّ ﷺ مثله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث صحيح من حديث عائشة -رضي الله عنها- لا من حديث أبي هريرة، وعمران -رضي الله عنهما-، كما بيّنته في «شرح النسائيّ».
قال: روى الجوزجانيّ بإسناده عن عمران بن حُصين قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «النذر نذران: فما كان من نذر في طاعة الله، فذلك لله، وفيه الوفاء، وما كان من نذر في معصية الله، فلا وفاء فيه، ويكفّره ما يكفّر اليمين». وهذا نصّ.
قال الأتيوبي عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث ضعيف، كما بيّنته في «شرح النسائيّ»، فتنبّه [وصححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله، والظاهر أن تصحيحه لشواهده، فليُتنبّه].
قال: ولأن النذر يمين، بدليل ما روي عن النبيّ ﷺ أنه قال: «النذر حَلْفَة»، وقال النبيّ ﷺ لأخت عقبة -رضي الله عنه- لَمّا نذرت المشي إلى بيت الله الحرام، فلم تطقه: «تكفّر يمينها»، صحيحٌ [بل ضعيف؛ لأن في سنده شريكًا القاضي، وقد عنعنه، وهو مدلّس، ومتكلّم فيه] أخرجه أبو داود، وفي رواية:
«ولتصم ثلاثة أيام» [حديث الأمر بالصيام ضعيف، وإنما الصحيح الأمر بالهدي، فتنبّه]، قال أحمد: إليه أذهب. وقال ابن عبّاس في التي نذرت ذبح ابنها: كفّري يمينك [صحيح موقوفًا]، ولو حلف على فعل معصية لزمته الكفّارة، فكذلك إذا نذرها.
فأما أحاديثهم، فمعناها لا وفاء بالنذر في معصية الله، وهذا لا خلاف فيه، وقد جاء مصرّحًا به هكذا في رواية مسلم، ويدلّ على هذا أيضًا أن في سياق الحديث: «ولا يمين في قطيعة رحم»؛ يعني: لا يبَرُّ فيها، ولو لم يبيّن الكفّارة في أحاديثهم، فقد بيَّنها في أحاديثنا، فإن فعل ما نذره من المعصية، فلا كفّارة عليه، كما لو حلف ليفعلنّ معصيةً، ففعلها. ويحتمل أن تلزمه الكفّارة حتمًا؛ لأن النبيّ ﷺ عيّن فيه الكفّارة، ونهى عن فعل المعصية.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الاحتمال الثاني هو الظاهر؛ لظاهر النصّ، فتأمّل.
والحاصل أن الأرجح وجوب الكفّارة على من نذر أن يفعل معصية، سواء تركها، وهو الواجب عليه، أو فعلها مع حرمتها؛ لإطلاق النصّ، والله تعالى أعلم.
(القسم الخامس): المباح، كلبس الثوب، ورُكوب الدابّة، وطلاق المرأة على وجه مباح، فهذا يتخيّر الناذر فيه بين فعله، فيبَرُّ بذلك؛ لِما رُوي أن امرأة أتت النبيّ ﷺ، فقالت: إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدّفّ، فقال رسول الله ﷺ: «أوف بنذرك»، رواه أبو داود، ولأنه لو حلف على فعل مباح برّ بفعله، فكذلك إذا نذره؛ لأنّ النذر كاليمين، وإن شاء تركه، وعليه كفّارة يمين، ويتخرّج أن لا كفّارة فيه، فإن أصحابنا قالوا فيمن نذر أن يعتكف، أو يصلّي في مسجد معيّن: كان له أن يصلي، ويعتكف في غيره، ولا كفّارة، ومن نذر أن يتصدّق بماله كلّه: أجزأه الصدقة بثلثه بلا كفّارة، وهذا مثله. وقال مالك، والشافعيّ: لا ينعقد نذره؛ لقول النبيّ ﷺ: «لا نذر إلّا فيما ابتغي وجه الله». وقد رَوى ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: بينما النبي ﷺ يَخْطُبُ، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه؟، فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس، ولا يستظلّ، ولا يتكلّم، ويصوم، فقال النبيّ ﷺ: «مروه، فليجلس، وليستظلّ، وليتكلّم، وليُتمّ صومه»، رواه البخاريّ. وعن أنس -رضي الله عنه- قال: نذرت امرأة أن تمشي إلى بيت الله الحرام، فسئل النبيّ ﷺ عن ذلك؟ فقال: «إن الله لغنيّ عن مشيها، مروها فلتركب»، قال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح، ولم يأمر بكفّارة. وأن النبيّ ﷺ رأى رجلًا يُهادى بين اثنين، فسأل عنه؟ فقالوا: نذر أن يحجّ ماشيًا، فقال: «إن الله لغنيّ عن تعذيب هذا نفسه، مروه فليركب». متّفقٌ عليه، ولم يأمره بكفّارة، ولأنه نذرٌ غير موجب لفعل ما نذره، فلم يوجب كفّارةً؛ كنذر المستحيل.
قال: ولنا ما تقدّم في القسم الذي قبله، فأما حديث التي نذرت المشي، فقد أمر فيه بالكفّارة في حديث آخر، ففيه زيادة عند أبي داود، ولفظه: «مروها، فلتركب، ولتكفّر عن يمينها» [ضعيف بهذا اللفظ؛ لأن في سنده شريكًا القاضي، وإنما الصحيح بلفظ: «ولتُهد هديًا»، أو «ولتُهد بدنة»، فتنبّه]، وهذه زيادة يجب الأخذ بها، ويجوز أن يكون الراوي للحديث روى البعض، وترك البعض، أو يكون النبيّ ﷺ ترك ذكر الكفّارة في بعض الحديث إحالةً على ما عُلم من حديثه في موضع آخر.
ومن هذا القسم إذا نذر فعل مكروه؛ كطلاق امرأته، فإنه مكروه، بدليل قول النبيّ ﷺ: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق»[رواه أبو داود، وابن ماجه، وهو حديث ضعيف، ومنهم من حسّنه؛ لطرقه]، فالمستحبّ أن لا يفي، ويكفّر، فإن وفى بنذره، فلا كفّارة عليه، والخلاف فيه كالذي قبله.
(القسم السادس): نذر الواجب؛ كالصلاة المكتوبة، فقال أصحابنا: لا ينعقد نذره، وهو قول أصحاب الشافعيّ؛ لأنّ النذر التزامٌ، ولا يصحّ التزام ما هو لازم له، ويَحْتَمِل أن ينعقد نذره موجبًا كفّارة يمين إن تركه، كما لو حلف على فعله، فإن النذر كاليمين، وقد سمّاه النبيّ ﷺ يمينًا، وكذلك لو نذر معصيةً، أو مباحًا، لو يلزمه، ويكفّر إذا لم يفعله.
(القسم السابع): نذر المستحيل؛ كصوم أمس، فهذا لا ينعقد، ولا يوجب شيئًا؛ لأنه لا يُتصوّر انعقاده، ولا الوفاء به، ولو حلف على فعله لن تلزمه كفّارة، فالنذر أولى.
وعقدُ الباب في صحيح المذهب أن النذر كاليمين، وموجبه موجبها، إلّا في لزوم الوفاء به، إذا كان قربةً، وأمكنه فعله، ودليل هذا الأصل قول النبيّ ﷺ لأخت عقبة لَمّا نذرت المشي، فلم تطقه: «ولتكفّر يمينها» [تقدَّم أنه ضعيف بلفظ: «ولتكفّر عن يمينها»، وكذا بلفظ: «فلتصم ثلاثة أيام»، وإنّما الصحيح بلفظ: «ولتُهد هديًا»، فتنبّه]، وفي رواية: «فلتصم ثلاثة أيام»، قال أحمد: إليه أذهب. وعن عقبة -رضي الله عنه- أن النبيّ ﷺ قال: «كفّارة النذر كفّارة اليمين»، أخرجه مسلم. وقول ابن عبّاس -رضي الله عنهما- للتي نذرت ذبح ولدها: «كفّري يمينك» [موقوفٌ صحيح]، ولأنه قد ثبت أن حكمه حكم اليمين في أحد أقسامه، وهو نذر اللجاج، فكذلك سائره في سوى ما استثناه الشرع. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله [«المغني» لابن قُدامة ١٣/ ٦٢٢ – ٦٢٩]، وإنما نقلته بطوله؛ لاستيفائه معظم أقوال أهل العلم بأدلتها في هذه الأقسام السبعة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب. [البحر المحيط الثجاج].
* [فوائد الحديث:]
1- (منها): “وفي حديثه أن السكوت عن المباح ليس من طاعة الله». قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله.
2- (منها): «وفيه: أن كل شيء يتأذى به الإنسان ولو مآلا مما لم يرد بمشروعيته كتاب أو سنة كالمشي حافيا والجلوس في الشمس ليس هو من طاعة الله فلا ينعقد به النذر فإنه ﷺ أمر أبا إسرائيل بإتمام الصوم دون غيره وهو محمول على أنه علم أنه لا يشق عليه وأمره أن يقعد ويتكلم ويستظل». قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله.
3- (منها): «فمن تقرب إلى الله بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله، فعمله باطل مردود عليه، وهو شبيه بحال الذين كانت صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية، وهذا كمن تقرب إلى الله تعالى بسماع الملاهي، أو بالرقص، أو بكشف الرأس في غير الإحرام، وما أشبه ذلك من المحدثات التي لم يشرع الله ورسوله التقرب بها بالكلية.
وليس ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها مطلقا فقد رأى النبي ﷺ رجلا قائما في الشمس … » الحديث. قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله، في جامع العلوم والحكم.
4- (منها): “فيه: دليل أيضا على إبطال ما أحدثته الجهلة المتصوفة من الأشغال الشديدة المحدثة والأعمال الشاقة المنكرة ويزعمون أنها طريقة تزكية أنفاسهم، وهذا جهل منهم عن أحكام..
.. الشريعة فإن النبي ﷺ ما ترك لنا شيئا إلا بينه فمن أين وجدوها؟ ومن أين أخذوها؟». قاله صاحب عون المعبود رحمه الله.
5- (منها): “في هذا الحديث: دليل على أنّ من تقرَّب إلى الله تعالى بعمل لم يتعبده الله به، أنه لا يلزمه فعله، وإنْ نذره، ومن نذر عبادة مشروعة لزمه فعلها”. قاله فيصل آل مبارك رحمه الله في التطريز.
6- (منها): “ليس من الدين الصمت إلا عما حرم الله وعما يشق، أما يصمت عن حاجته مع أهله وعن السلام على إخوانه ونحو ذلك لا؟ يصمت عما حرم الله عن الشيء الذي لا فائدة فيه كما قال النبي ﷺ: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت))، أما أن يصمت دائما لا يتكلم يتعبد بهذا منكر وبدعة، فلهذا أنكره النبي ﷺ على أبي إسرائيل …”. قاله ابن باز رحمه الله تعالى. انتهى من (عبق الياسمين)، بتصرف يسير.
وفي ([الفوائد المنتقاه من شرح مختصر صحيح مسلم، (١١١) ٤٣٥٦ – ٤٣٤٥]):
7- (منها): الحث على الاقتداء بالنبي ﷺ في أفعاله وأقواله. والأصل فيه قوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [الأحزاب ٢١] وقد ذهب جمع إلى وجوبه، لدخوله في عموم الأمر، بقوله تعالى وما ءاتاكم الرسول فخذوه [الحشر ٧] وبقوله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران ٣١] وبقوله تعالى فاتبعوه [الأنعام ١٥٣،١٥٥] فيجب اتباعه في فعله، كما يجب اتباعه في قوله، حتى يقوم دليل على الندب أو الخصوصية، وقال آخرون: يحتمل الوجوب والندب والإباحة، فيحتاج إلى القرينة، والجمهور للندب، إذا ظهر وجه القربة، وقيل: ولو لم يظهر، ومنهم من فصل بين التكرار وعدمه، وقال آخرون: ما يفعله ﷺ، إن كان بيانا لمجمل، فحكمه حكم ذلك المجمل، وجوبا أو ندبا أو إباحة، فإن ظهر وجه القربة فللندب، وما لم يظهر فيه وجه التقرب فللإباحة.
وأما تقريره ﷺ على ما يفعل بحضرته فيدل على الجواز، وإذا تعارض فعله وقوله. قيل: يقدم القول، لأن له صيغة، تتضمن المعاني، بخلاف الفعل، وقيل: يقدم الفعل، لأنه لا يطرقه من الاحتمال ما يطرق القول، ثالث الأقوال: يلجأ إلى الترجيح، وكل ذلك ما لم تقم قرينة تدل على الخصوصية.
وذهب الجمهور إلى القول الأول والحجة له أن القول يعبر عنه عن المحسوس والمعقول، بخلاف الفعل، فيختص بالمحسوس، فكان القول أتم، وبأن القول متفق على أنه دليل، بخلاف الفعل، ولأن القول يدل بنفسه، بخلاف الفعل، فيحتاج إلى واسطة، وبأن تقديم الفعل يقضي إلى ترك العمل بالقول، والعمل بالقول يمكن معه العمل بما دل عليه الفعل، فكان القول أرجح بهذه الاعتبارات.
قال ابن بطال – بعد أن حكى الاختلاف في أفعاله ﷺ محتجا لمن قال بالوجوب بحديث الخاتم، فقد خلع خاتمه، فخلعوا خواتيمهم، ونزع نعله في الصلاة، فنزعوا، ولما أمرهم في الحديبية بالتحلل، وتأخروا عن المبادرة، رجاء أن يؤذن لهم في القتال، وأن ينصرفوا فيكملوا عمرتهم، قالت له أم سلمة: اخرج إليهم، واحلق واذبح، ففعل، فتابعوه مسرعين فدل ذلك على أن الفعل أبلغ من القول، ولما نهاهم عن الوصال، قالوا: إنك تواصل، فقال: إني أطعم وأسقى، فلولا أن لهم الاقتداء به لقال: وما في مواصلتي ما يبيح لكم الوصال، لكنه عدل عن ذلك، وبين لهم وجه اختصاصه بالمواصلة. اهـ.
قال الحافظ ابن حجر: وليس في جميع ما ذكره ابن بطال ما يدل على المدعي، من الوجوب بل على مطلق التأسي به ﷺ.
8- (منها): وذم التعمق، والمغالاة في الدين، لقوله تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم [النساء:١٧١] والغلو هو المبالغة في الشيء، والتشديد فيه، بتجاوز الحد، وعند النسائي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ «إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من قبلكم الغلو في الدين»
9- (منها): وأن الخير في الاتباع، سواء كان ذلك في العزيمة، أو الرخصة.
10- (منها): وأن استعمال الرخصة، بقصد الاتباع، في المحل الذي وردت فيه، أولى من استعمال العزيمة، بل ربما كان استعمال العزيمة حينئذ مرجوحا، كما في إتمام الصلاة في السفر، وربما كان مذموما، إذا كان رغبة عن السنة.
ونقل ابن التين عن الداودي أن التنزه عما ترخص فيه ﷺ من أعظم الذنوب، لأنه يرى نفسه أتقى لله من رسوله، وهذا إلحاد.
قال الحافظ ابن حجر: لا شك في إلحاد من اعتقد ذلك، ولكن الذي اعتل به من أشير إليهم في الحديث أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلا يكون إلحادا.
11- (منها): شدة رغبة الصحابة في العبادة.
12- (منها): لا بد في الورع من علم: فقد يكون الورع مبني على الظن أو الميل النفسي فحسب.
وعن هذا يتحدث شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فيقول: «.. إذا فعل الواجب والمشتبه وترك المحرم والمشتبه فينبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة، وبالعلم لا بالهوى، وإلا فكثير من الناس تنفر نفسه من أشياء لعادة ونحوها، فيكون ذلك مما يقوي تحريمها واشتباهها عنده، ويكون بعضهم فى أوهام وظنون كاذبة، فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد … ومن هذا الباب الورع الذي ذمه الرسول ﷺ في الحديث الذي في الصحيح لما ترخص في أشياء فبلغه أن أقوامًا تنزهوا عنها، فقال: ((ما بال رجال يتنزهون عن أشياء أترخص فيها؟ والله أني لأرجو أن أكون أعلمهم بالله وأخشاهم» [٤].
ولهذا يحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه في الدين، وإلا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه، كما فعله الكفار وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم «أهـ.
سُئلت اللجنة الدائمة:
13- (منها): التزام السنة ليس من التشدد
س٤: في الفترة الأخيرة التحيت وأصلي الفرائض وتمسكت بالسنة النبوية الشريفة، وعندنا في قريتنا يعتبرون المتمسك بالسنة متشددا في الدين، وترد عليهم فيقولون (هلك المتنطعون)، فمن هم المتنطعون؟ وهل يعتبر التمسك بالسنة تشددا؟
ج٤: أحمد الله تعالى أن هداك إلى الحق، وأشكره أن وفقك إلى العمل به، وبين لمن عارضك أن الإسلام سمح، وأن الدين يسر، وأن التنطع في الدين هو التكلف والغلو في العمل بالزيادة على ما شرع الله وأنك لم تزد، وإنما تمسكت بما شرع الله فقط. السؤال الرابع من الفتوى رقم (٨٩٧٣)”. انتهى بتصرف يسير.
وفي (البحر المحيط):
14 – (منها): بيان أنه لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد.
15 – (ومنها): بيان أن من نذر بمعصية الله تعالى؛ كشرب الخمر، ونحو ذلك فنذره باطل، لا ينعقد، وفي لزوم الكفّارة له خلاف، قال القرطبيّ رحمه الله: وفيه دليل: على أنّ من نذر معصية حَرُم عليه الوفاء بها، وأنّه لا يلزمه على ذلك حكم بكفارة يمين، ولا غيره؛ إذ لو كان هنالك حكم لبيَّنه للمرأة؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وعليه جمهور العلماء، وذهب الكوفيون: إلى أنه يحرم عليه الوفاء بالمعصية، لكن تلزمه كفارة يمين؛ متمسكين في ذلك بحديث مُعْتَلٍّ عند أهل الحديث، وهو ما يروى من حديث عائشة -رضي الله عنها-، عن النبيّ ﷺ أنه قال: «لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين»، ذكره أبو داود، والطحاوي، والصحيح من حديث عائشة -رضي الله عنها- ما خرَّجه البخاريّ، عن النبيّ ﷺ: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه»، وليس فيه شيء من ذلك، والله أعلم”. انتهى. الكفّارة في نذر المعصية فيه خلاف.
الثاني: تتمات:
(المسألة الأولى): الأحاديث
وقد أورد الوادعي رحمه الله في جامعه حديث الباب، وحديث:
” ٣٦٤٦ – قال الإمام النسائي رحمه الله (ج ٤ ص ٢٢٥): أخبرنا عمرو بن علي قال حدثني سيف بن عبيد الله -من خيار الخلق- قال حدثنا الأسود بن شيبان عن أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الصوم فقال «صم يومًا من الشهر» قلت يا رسول الله زدني زدني قال «تقول يا رسول الله زدني زدني يومين من كل شهر» قلت يا رسول الله زدني زدني إني أجدني قويًّا فقال «زدني زدني أجدني قويًّا» فسكت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى ظننت أنه ليردني قال «صم ثلاثة أيام من كل شهر».
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن سلام قال حدثنا يزيد بن هارون قال أنبأنا الأسود بن شيبان عن أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه: أنه سأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الصوم فقال «صم يومًا من كل شهر» واستزاده قال بأبي أنت وأمي أجدني قويًّا فزاده قال «صم يومين من كل شهر» فقال بأبي أنت وأمي يا رسول الله إني أجدني قويًّا فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «إني أجدني قويًّا إني أجدني قويًّا» فما كاد أن يزيده فلما ألح عليه قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «صم ثلاثة أيام من كل شهر». هذا حديث صحيحٌ على شرط مسلم.
٣٦٤٧ – قال الإمام أحمد رحمه الله (ج ٥ ص ٤٣٤): حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من الأنصار أن الأنصاري أخبر عطاء: أنه قبل امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو صائم فأمر امرأته فسألت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ذلك فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم «إن رسول الله يفعل ذلك» فأخبرته امرأته فقال إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يرخص له في أشياء فارجعي إليه فقولي له فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالت قال إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يرخص له في أشياء فقال «أنا أتقاكم لله وأعلمكم بحدود الله». هذا حديث صحيحٌ.
٣٦٤٨ – قال الإمام أحمد رحمه الله (ج ٥ ص ٤٠٩): حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد قال دخلت أنا ويحيى بن جعدة على رجل من الأنصار من أصحاب الرسول قال: ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مولاة لبني عبد المطلب فقال (١) إنها تقوم الليل وتصوم النهار قال فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «لكني أنا أنام وأصلي وأصوم وأفطر فمن اقتدى بي فهو مني ومن رغب عن سنتي فليس مني إن لكل عمل شرة ثم فترة فمن كانت فترته إلى بدعة فقد ضل ومن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى». هذا حديث صحيحٌ.
٣٦٤٩ – قال الإمام أحمد رحمه الله (٢١٣٤): حدثنا بهز أخبرنا همام حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس: أن عقبة بن عامر سأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال إن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت وشكا إليه ضعفها فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم «إن الله غني عن نذر أختك فلتركب ولتهد بدنة». هذا حديث صحيحٌ على شرط البخاري.
* وقال الإمام أحمد رحمه الله (٢١٣٩): حدثنا يزيد أخبرنا همام عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس: أن عقبة بن عامر أتى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فذكر أن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت قال «مر أختك أن تركب ولتهد بدنة». يزيد هو ابن هارون.
٣٦٥٠ – قال الإمام أحمد رحمه الله (٧٠٣٨): حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن مقسم أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: خرجت أنا وتليد بن كلاب الليثي حتى أتينا عبد الله بن عمرو بن العاص وهو يطوف بالبيت معلقًا نعليه بيده فقلنا له هل حضرت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين يكلمه التميمي يوم حنين قال: نعم أقبل رجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة فوقف على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يعطي الناس قال يا محمد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «أجل فكيف رأيت؟» قال لم أرك عدلت قال فغضب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم قال «ويحك إن لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟ !» فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله ألا نقتله قال «لا دعوه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية ينظر في النصل فلا يوجد شيء ثم في القدح فلا يوجد شيء ثم في الفوق فلا يوجد شيء سبق الفرث والدم».
قال أبو عبد الرحمن (هو عبد الله بن أحمد): أبو عبيدة هذا اسمه محمد ثقة وأخوه سلمة بن محمد بن عمار لم يرو عنه إلا علي بن زيد ولا نعلم خبره ومقسم ليس به بأس. هذا حديث حسنٌ.
٣٦٥١ – قال الإمام النسائي رحمه الله (ج ٤ ص ٢٠٦): أخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ هِشامٍ، قالَ: حَدَّثَنا مَخْلَدٌ، عَنْ الأوْزاعِيِّ، عَنْ قَتادَةَ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، أخْبَرَنِي أبِي: أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ وذُكِرَ عِنْدَهُ رَجُلٌ يَصُومُ الدَّهْرَ، قالَ: «لا صامَ ولا أفْطَرَ».
أخْبَرَنا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنّى، قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ، قالَ: حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ قَتادَةَ، قالَ: سَمِعْتُ مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، يُحَدِّثُ عَنْ أبِيهِ: أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ قالَ فِي صَوْمِ الدَّهْرِ: «لا صامَ ولا أفْطَرَ». هذا حديث صحيحٌ بالسند الثاني على شرط مسلم.
الحديث أخرجه ابن ماجه (ج ١ ص ٥٤٤)، وهو بسند ابن ماجه على شرط الشيخين. وأخرجه ابن أبي شيبة (ج ٣ ص ٧٨).
وأخرجه الحاكم (ج ١ ص ٤٣٥) وقال: صحيحٌ على شرط الشَّيخين. وهو كما قال.
٣٦٥٢ – قال الإمام عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي رحمه الله (ج ١ ص ٤٥٢): أخبرنا مروان عن عبد الله بن وهب عن معاوية بن صالح عن شريح بن عبيد عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن ثوبان: عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن هذا السهر جهد وثقل فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين فإن قام من الليل وإلا كانتا له». ويقال «هذا السفر» وأنا أقول «السهر». هذا حديث حسنٌ. الحديث أخرجه الدارقطني (ج ٢ ص ٣٦) وفيه: «إنَّ السَّفَرَ جُهْدٌ».
٣٦٥٣ – قال الإمام الترمذي رحمه الله (ج ١٠ ص ٣٩٧): حَدَّثَنا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلانَ، أخبرَنا أبُو داوُدَ، أخْبَرَنا شُعْبَةُ، عَنْ عاصِمٍ، قال: سَمِعْتُ زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ قالَ لَهُ: «إنَّ اللهَ أمَرَنِي أنْ أقْرَأ عَلَيْكَ القرآن» فَقَرَأ عَلَيْهِ: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ (١) وقَرَأ فِيها: «إنَّ الدِّينِ عِنْدَ اللهِ الحَنِيفِيَّةُ المُسْلِمَةُ، لا اليَهُودِيَّةُ ولا النَّصْرانِيَّةُ ولا المَجُوسِيَّةُ، مَن يَعْمَلْ خَيْرًا فَلَنْ يُكْفَرَهُ»، وقَرَأ عَلَيْهِ: «لَوْ أنَّ لِابْنِ آدَمَ وادِيًا مِن مالٍ لابْتَغى إلَيْهِ ثانِيًا، ولَوْ كانَ لَهُ ثانِيًا لابْتَغى إلَيْهِ ثالِثًا، ولا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلّا التُّرابُ، ويَتُوبُ اللهُ عَلى مَن تابَ». قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
قال أبو عبد الرحمن: هو حديث حسنٌ.
٣٦٥٤ – قال الإمام أحمد رحمه الله (ج ٥ ص ٣٥٠): حدثنا إسماعيل حدثنا عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه عن بريدة الأسلمي قال: خرجت ذات يوم لحاجة فإذا أنا بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يمشى بين يدي فأخذ بيدي فانطلقنا نمشي جميعًا فإذا نحن بين أيدينا برجل يصلي يكثر الركوع والسجود فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم «أتراه يرائي؟» فقلت الله ورسوله أعلم فترك يدي من يده ثم جمع بين يديه فجعل يصوبهما ويرفعهما ويقول «عليكم هديًا قاصدًا عليكم هديًا قاصدًا عليكم هديًا قاصدًا فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه».
* وقال الإمام أحمد رحمه الله (ج ٥ ص ٣٦١): حدثنا وكيع حدثنا عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه عن بريدة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «عليكم هديًا قاصدًا فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه». هذا حديث صحيحٌ.
الحديث أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (ج ١ ص ٤٦) فقال رحمه الله: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا يزيد بن هارون وأبو داود، عن عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن به. ثم قال: ثنا أبو موسىى، ثنا ابن أبي عدي، عن عيينة به. وأبو موسى هو محمد بن المثنى.
٣٦٥٥ – قال الإمام أحمد رحمه الله (ج ٤ ص ١٦٨): حدثنا عبد الرزاق حدثنا ابن جريج ومحمد بن بكر قال أخبرني ابن جريج قال أخبرني ابن طاوس عن أبيه عن أبي إسرائيل قال: دخل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المسجد وأبو إسرائيل يصلي فقيل للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو ذا يا رسول الله لا يقعد ولا يكلم الناس ولا يستظل وهو يريد الصيام فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم «ليقعد وليكلم الناس وليستظل وليصم».
هذا حديث صحيحٌ، وأصله في «الصحيحين» من حديث ابن عباس كما في «الإصابة».
٣٦٥٦ – قال الإمام أحمد رحمه الله (ج ٤ ص ٢١٢): حدثنا الحكم بن موسى -قال عبد الله: وسمعته من الحكم- حدثنا شهاب بن خراش حدثني شعيب بن رزيق الطائفي قال كنت جالسًا عند رجل يقال له الحكم بن حزن الكلفي وله صحبة من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال فأنشأ يحدثنا قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سابع سبعة أو تاسع تسعة قال فأذن لنا فدخلنا فقلنا يا رسول الله أتيناك لتدعو لنا بخير قال فدعا لنا بخير وأمر بنا فأنزلنا وأمر لنا بشيء من تمر والشأن إذ ذاك دون قال فلبثنا عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أيامًا شهدنا فيها الجمعة فقام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم متوكئًا على قوس -أو قال: على عصا- فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات ثم قال «يا أيها الناس إنكم لن تفعلوا ولن تطيقوا كل ما أمرتم به ولكن سددوا وأبشروا».
حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا شهاب بن خراش بن حوشب، حدثنا شعيب بن رزيق الطائفي، قال: جلست إلى رجل له صحبة من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقال له الحكم بن حزن الكلفي، فأنشأ يحدث … فذكر معناه. هذا حديث حسنٌ.
وقد أخرجه أبو يعلى (ج ١٢ ص ٢٠٤) فقال رحمه الله: حدثنا الحكم بن موسى، حدثنا شهاب بن خراش به”. انتهى من الجامع.
(المسألة الثانية): حقيقة الزهد في الدنيا:
قال ابن تيمية رحمه الله في المجموع [ج (١٤) / (٤٥٨)]: والمقصود بالزهد ترك ما يضر العبد في الآخرة وبالعبادة فعل ما ينفع في الآخرة فإذا ترك الإنسان ما ينفعه في دينه وينفعه في آخرته وفعل من العبادة ما يضر فقد اعتدى وأسرف وإن ظن ذلك زهدا نافعا وعبادة نافعة.
(المسألة الثانية):
قال ابن بطال: فلا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شاء مما أحله الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح إذا خاف على نفسه بإحلال ذلك له بعض العنت والمشقة أو أمنه، وذلك لرد النبي ﷺ التبتل على عثمان بن مظعون، فثبت أنه لا فضل في ترك شاء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه، وعمل به رسوله وسنه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون، إذ كان خير الهدى هدى نبينا محمد. فإذا كان كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لبس ذلك من حله، وآثر أكل الفول والعدس على أكل خبز البر والشعير، وترك أكل اللحم والودك حذرا من عارض الحاجة إلى النساء، فإن ظن ظان أن الفضل فى غير الذى قلنا لما فى لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس، وصرف فضل ما بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة، فقد ظن خطأ. وذلك أن أولى للإنسان بالنفس إصلاحها وعونها له على طاعة ربها ولا شاء أضر للجسم من المطاعم الردية؛ لأنها مفسدة لعقله، ومضعفة لأدواته التى جعلها الله سببا إلى طاعاته. «شرح صحيح البخاري» (ج (٧) / (١٦٩)).
(المسألة الرابعة): هدي نبينا والأنبياء عليهم الصلاة والسلام في العبادة
قال ابن عثيمين: فالاقتصاد في العبادة من سنن النبي ﷺ، فلا ينبغي لك أيها العبد أن تشق على نفسك، وأمش رويدا رويدا، كما سبق الحديث أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، فعليك بالراحة، ولا تقتصر ولا تزد، فإن خير الهدي هدي النبي ﷺ. أسأل الله أن يجعلني وإياكم من متبعي هديه الذين يمشون على طريقته وسنته. [شرح رياض الصالحين، (٢/ ٢١٨)].
وجاء في الدرر البهية الروضة الندية (ج (٢) / (١٢٦)):
وكانت المانوية والمترهبة من النصارى يتقربون إلى الله بترك النكاح، وهذا باطل؛ لأن طريقة الأنبياء – عليهم السلام – التي ارتضاها الله تعالى للناس: هي إصلاح الطبيعة، ودفع اعوجاجها، لا سلخها عن مقتضياتها.
[انظر: عون الصمد شرح الذيل والمتمم له على الصحيح المسند (١٨٦)].
(المسألة الخامسة): قاعدة: «أن الأجر على قدر المشقة» ليس مطردة في كل شيء
«قَوْله ﷺ: (عَلى قَدْر نَصَبك أوْ قالَ: نَفَقَتك) هَذا ظاهِر فِي أنَّ الثَّواب والفَضْل فِي العِبادَة يَكْثُر بِكَثْرَةِ النَّصَب والنَّفَقَة، والمُراد النَّصَب الَّذِي لا يَذُمّهُ الشَّرْع، وكَذا النَّفَقَة» انتهى.
وهذه القاعدة: «أن الأجر على قدر المشقة» ليس مطردة في كل شيء، بل هناك من الأعمال ما هو أخف وأعظم أجرًا.
قال الزركشي في «المنثور في القواعد» (٢/ ٤١٥ – ٤١٩):
«العمل كلما كثر وشق كان أفضل مما ليس كذلك، وفي حديث عائشة رضي الله عنه: (أجرك على قدر نصبك). وقد يفضل العملُ القليلُ على الكثير في صور:
منها: قصر الصلاة أفضل من الإتمام للمسافر.
ومنها: الصلاة مرة في الجماعة أفضل من فعلها وحده خمسا وعشرين مرة.
ومنها: تخفيف ركعتي الفجر أفضل من تطويلهما.
ومنها: التصدق بالأضحية بعد أكل لقم منها أفضل من التصدق بجميعها.
ومنها: قراءة سورة قصيرة في الصلاة أفضل من قراءة بعض سورة، وإن طالت، لأنه المعهود من فعله ﷺ غالبًا».
قال الشاطبي: «ليس للمكلف أن يقصد المشقة في التكليف نظرًا إلى عظم أجرها فإن المقاصد معتبرة في التصرفات فلا يصلح منها إلا ما وافق الشارع. فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل، فالقصد إلى المشقة باطل، فهو إذن من قبيل ما ينهى عنه، وما ينهى عنه لا ثواب فيه بل فيه الإثم إن ارتفع النهي عنه إلى درجة التحريم، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة: قصد مناقض».
وقال ابن حجر معقبًا على النووي في قوله: (ظاهر الحديث «أجرك على قدر نصبك» أن الثواب والفضل في العبادة يكثر بكثرة النصب والنفقة): «وهو كما قال، لكن ليس ذلك بمطرد، فقد يكون بعض العبادة أخف من بعض وهو أكثر فضلًا وثوابًا بالنسبة إلى الزمان كقيام ليلة القدر بالنسبة لقيام ليالٍ، من رمضان غيرها، وبالنسبة للمكان كصلاة ركعتين في المسجد الحرام بالنسبة لصلاة ركعتين في غيره، وبالنسبة إلى شرف العبادة المالية والبدنية كصلاة الفريضة إلى أكثر من عدد ركعاتها أو أطول من قراءتها ونحو ذلك من صلاة النافلة، وكدرهم من الزكاة بالنسبة إلى أكثر من التطوع».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فصل:
قول بعض الناس: الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الإطلاق كما قد يستدل به طوائف على أنواع من «الرهـبانيات والعبادات المبتدعة» التي لم يشرعها الله ورسوله من جنس تحريمات المشركين وغيرهـم ما أحل الله من الطيبات ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي ﷺ حيث قال: ﴿هـلك المتنطعون﴾
وقال: ﴿لو مد لي الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم﴾
– مثل الجوع أو العطش المفرط الذي يضر العقل والجسم ويمنع أداء واجبات أو مستحبات أنفع منه وكذلك ا؟حتفاء والتعري والمشي الذي يضر ا؟نسان ب؟ فائدة: مثل ﴿حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم وأن يقوم قائما و؟ يجلس و؟ يستظل و؟ يتكلم فقال النبي ﷺ مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه﴾
رواه البخاري. وهـذا باب واسع. وأما الأجر على قدر الطاعة فقد تكون الطاعة لله ورسوله في عمل ميسر كما يسر الله على أهـل الإسلام «الكلمتين» وهـما أفضل الأعمال؛ ولذلك قال النبي ﷺ ﴿كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم﴾
أخرجاه في الصحيحين. ولو قيل: الأجر على قدر منفعة العمل وفائدته لكان صحيحا اتصاف «الأول» باعتبار تعلقه بالأمر. و«الثاني» باعتبار صفته في نفسه. والعمل تكون منفعته وفائدته تارة من جهة الأمر فقط وتارة من جهة صفته في نفسه وتارة من كلا الأمرين. فبالاعتبار الأول ينقسم إلى طاعة ومعصية وبالثاني ينقسم إلى حسنة وسيئة، والطاعة والمعصية اسم له من جهة الأمر والحسنة والسيئة اسم له من جهة نفسه… وإن كان كثير من الناس لا يثبت «الأول» كما تقوله الأشعرية وطائفة من الفقهاء من أصحابنا وغيرهـم. ومن الناس من لا يثبت «الثاني» كما تقوله المعتزلة وطائفة من الفقهاء من أصحابنا وغيرهـم والصواب إثبات الاعتبارين كما تدل عليه نصوص الأئمة وكلام السلف وجمهور العلماء من أصحابنا وغيرهـم. فأما كونه مشقا فليس هـو سببا لفضل العمل ورجحانه ولكن قد يكون العمل الفاضل مشقا ففضله لمعنى غير مشقته والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره فيزداد الثواب بالمشقة كما أن من كان بعده عن البيت في الحج والعمرة أكثر: يكون أجره أعظم من القريب كما ﴿قال النبي ﷺ لعائشة في العمرة: أجرك على قدر نصبك﴾
لأن الأجر على قدر العمل في بعد المسافة وبالبعد يكثر النصب فيكثر الأجر وكذلك الجهاد وقوله ﷺ. ﴿الماهـر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرؤه ويتتعتع فيه وهـو عليه شاق له أجران﴾، فكثيرا ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل؛ ولكن لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب هـذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال ولم يجعل علينا فيه حرج ولا أريد بنا فيه العسر؛ وأما في شرع من قبلنا فقد تكون المشقة مطلوبة منهم. وكثير من العباد يرى جنس المشقة والألم والتعب مطلوبا مقربا إلى الله؛ لما فيه من نفرة النفس عن اللذات والركون إلى الدنيا وانقطاع القلب عن علاقة الجسد وهـذا من جنس زهـد الصابئة والهند وغيرهـم. ولهذا تجد هـؤلاء مع من شابههم من الرهـبان يعالجون الأعمال الشاقة الشديدة المتعبة من أنواع العبادات والزهـادات مع أنه لا فائدة فيها ولا ثمرة لها ولت منفعة إلا أن يكون شيئا يسيرا لا يقاوم العذاب الأليم الذي يجدونه. ونظير هـذا الأصل الفاسد مدح بعض الجهال بأن يقول: فلان ما نكح ولا ذبح. وهـذا مدح الرهـبان الذين ؟ ينكحون ولا يذبحون وأما الحنفاء فقد قال النبي ﷺ ﴿لكني أصوم وأفطر وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني﴾
وهـذه الأشياء هـي من الدين الفاسد وهـو مذموم كما أن الطمأنينة إلى الحياة الدنيا مذموم. والناس أقسام. أصحاب «دنيا محضة» وهـم المعرضون عن ا؟خرة. وأصحاب «دين فاسد» وهـم الكفار والمبتدعة الذين يتدينون بما لم يشرعه الله من أنواع العبادات والزهـادات. اهـ مجموع الفتاوى ١٠/ ٦٢٤.
[للاستزادة انظر المسألة في : التعليق على الصحيح المسند (١٠٣٨)].
(المسألة السادسة): المراد بالتنطع
وللعلماء في تفسير «التنطع» و«المتنطعين» عبارات كثيرة، تتوافق ولا تتعارض، وكلها تجتمع في معنى واحد، يرجع إلى التكلف والتشدد فيما لا ينبغي وفي غير موضعه الصحيح، ومن هذه المعاني:
١ – الغلو في العبادة والمعاملة، بحيث يؤدي إلى المشقة الزائدة، والشريعة لم تأمر إلا بما فيه يسر وسماحة، ونهت عن التشدد في الدين، وصور الغلو التي أحدثها الناس في الدين وعدها العلماء من التنطع لا تكاد تحصى بعدد.
يقول النووي في «شرح مسلم» (١٦/ ٢٢٠):
«أي: المتعمقون، الغالون، المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم» انتهى.
٢ – الابتداع في الدين، بتحريم ما لم يحرمه الله ورسوله، واستحداث صور من العبادات والإلزامات لم تكن على عهد النبي ﷺ.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – كما في «مجموع الفتاوى» (١٠/ ٦٢٠) -: «الرهبانيات والعبادات المبتدعة التي لم يشرعها الله ورسوله من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الله من الطيبات، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي ﷺ حيث قال: (هلك المتنطعون)، وقال: (لو مد لي الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم) مثل الجوع أو العطش المفرط الذي يضر العقل والجسم، ويمنع أداء واجبات أو مستحبات أنفع منه، وكذلك الاحتفاء والعري والمشي الذي يضر الإنسان بلا فائدة، مثل حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم، وأن يقوم قائما ولا يجلس، ولا يستظل، ولا يتكلم، فقال النبي ﷺ: (مروه فليجلس، وليستظل، وليتكلم، وليتم صومه) رواه البخاري. وهذا باب واسع» انتهى.
٣ – التقعر في الكلام، والتشدق باللسان، بتكلف الكلمات التي تميل قلوب الناس إليه، حيث لا معنى ولا مضمون، ولا فائدة ترجى من تشدقه وتقعره.
فقد أورد ابن أبي الدنيا هذا الحديث في رسالة «الغيبة والنميمة» في باب «ما جاء في ذم التقعر في الكلام» (ص/١٥) وروى فيه عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: (إنَّ أخْوَفَ ما أخافُ عَلى أُمَّتِي كُلُّ مُنافِقٍ عَلِيمِ اللِّسانِ)، رواه أيضا أحمد في «المسند» (١/ ٢٢) وحسنه محققو المسند.
وروى فيه أيضا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن شقاشق الكلام من شقاشق الشيطان)
قال ابن الأثير في «النهاية» (٥/ ١٦٤):
«المُتَنَطِّعون: هم المُتعَمِّقون المُغالون في الكلام، المتكلِّمون بأقْصى حُلوقهم. مأخوذ من النِّطَع، وهو الغارُ الأعْلى من الفَم، ثم استُعْمِل في كل تَعَمُّق قولًا وفعلا» انتهى.
٤ – الخوض فيما لا يعني، والسؤال عما لا ينبغي، وتكلف البحث فيما لا يغني.
قال الخطابي: «المتنطع: المتعمق في الشيء، المتكلف للبحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم» انتهى. نقلا عن «عون المعبود» (١٢/ ٢٣٥)
ويقول ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» (ص/٢٨٥): «المتنطع: هو المتعمق، البحاث عما لا يعنيه؛ فإن كثرة البحث والسؤال عن حكم ما لم يذكر في الواجبات ولا في المحرمات، قد يوجب اعتقاد تحريمه، أو إيجابه لمشابهته لبعض الواجبات أو المحرمات، فقبول العافية فيه، وترك البحث عنه والسؤال خير» انتهى بتصرف.
جثم ذكر ابن رجب رحمه الله أمثلة لما ينبغي تجنب البحث فيه من تفاصيل أمور الغيب المجهولة والفروق الفقهية المتكلفة، والتفريع على المسائل التي يندر وقوعها، ونحوها.
قال الشيخ ابن عثيمين في «شرح رياض الصالحين» (١/ ٤١٦ – ٤١٨):
” كذلك أيضًا من التشديد في العبادة، أن يشدد الإنسان على نفسه في الصلاة أو في الصوم أو في غير ذلك مما يسره الله عليه، فإنه إذا شدد على نفسه فيما يسره الله فهو هالك.
ومن ذلك ما يفعله بعض المرضى – ولا سيما في رمضان – حين يكون الله قد أباح له الفطر وهو مريض، ويحتاج إلي الأكل والشرب، ولكنه يشدد على نفسه فيبقى صائمًا، فهذا أيضًا نقول إنه ينطبق عليه الحديث: هلك المتنطعون.
أما ما لم تأت به النصوص، وكان من أحد الأوجه الأربعة السابقة في تفسير التنطع، فهذا هو ما ينبغي ذمه واجتنابه، ولا يخلط بينه وبين أحكام الشريعة الظاهرة الثابتة. [الفوائد المنتقاه من شرح مختصر صحيح مسلم، (١١١) ٤٣٥٦ – ٤٣٤٥].
(المسألة السابعة): تنبيه
أما حديث عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالَتْ: (ما خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ أمْرَيْنِ أحَدُهُما أيْسَرُ مِن الآخَرِ إلّا اخْتارَ أيْسَرَهُما ما لَمْ يَكُنْ إثْمًا، فَإنْ كانَ إثْمًا كانَ أبْعَدَ النّاسِ مِنهُ) رواه البخاري (٣٣٦٧) ومسلم (٢٣٢٧)
فلا يعني بوجه من الوجوه التخلي عن الشريعة، والتقصير في الواجبات، بل كان النبي ﷺ أحرص الناس على تحقيق العبودية لله بجميع لوازمها، ولكن المراد بقوله (بين أمرين) أي من أمور الدنيا التي ليس للشرع فيها أمر أو نهي، أو من الأمور التي يسع فيها الاختيار من السنن والمستحبات، أما إذا جاء التكليف بالوجوب أو التحريم فيجب الوقوف عنده من غير تعد ولا تقصير.
يقول الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (٦/ ٥٧٥):
«قوله: (بين أمرين) أي: من أمور الدنيا، يدل عليه قوله: (ما لم يكن إثما)؛ لأن أمور الدين لا إثم فيها، وقوله: (ما لم يكن إثما) أي: ما لم يكن الأسهل مقتضيا للإثم، فإنه حينئذ يختار الأشد. وفي حديث أنس عند الطبراني في الأوسط: (إلا اختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط)» انتهى مختصرا. [الفوائد المنتقاه من شرح مختصر صحيح مسلم، (١١١) ٤٣٥٦ – ٤٣٤٥]
(المسألة الثامنة): قال ابن رجب:
فكونه أتقاهم لله يتضمن شدة اجتهاده في خصال التقوى وهو العمل، وكونه أعلمهم به يتضمن أن علمه بالله أفضل من علمهم بالله وإنما زاد علمه بالله لمعنيين:
أحدهما: زيادة معرفته بتفاصيل: أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وعظمته وكبريائه وما يستحقه من الجلال والإكرام والإعظام.
والثاني: أن علمه بالله مستند إلى عين اليقين، فإنه رآه إما بعين بصره أو بعين بصيرته، كما قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما: رآه بفؤاده مرتين، وعلمهم به مستند إلى علم يقين، وبين المرتين [تباين] (٢٢٩)، ولهذا سأل إبراهيم عليه السلام ربه أن يرقيه من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة عين اليقين بالنسبة إلى رؤية إحياء الموتى – وقد سبق التنبيه على ذلك والكلام في تفاصيل المعرفة التامة بالقلب (٢٣٠) – فلما زادت معرفة الرسول (١٩١ – أ / ف) بربه زادت خشيته له وتقواه، فإن العلم التام يستلزم الخشية كما قال تعالى (إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماء )[فاطر ٢٨] فمن كان بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه أعلم كان له أخشى وأتقى،، إنما تنقص الخشية والتقوى بحسب نقص المعرفة بالله. وقد خرج البخاري في آخر «صحيحه» عن مسروق قال: قالت عائشة: صنع النبي ﷺ شيئا ترخص فيه وتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي ﷺ فحمد الله ثم قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم خشية» (٢٣١).
ثم ذكر أن القول بأن عمله إنما لأجل الاتكال على مغفرة ذنبه فيه التعريض أن هديه ليس خير الهدي وهو القائل (خير الهدى هدى محمد) ….”. [الفوائد المنتقاه من شرح مختصر صحيح مسلم، (١١١) ٤٣٥٦ – ٤٣٤٥]
(المسألة التاسعة):
قال السعدي في بهجة قلوب الأبرار وهو يشرح حديث «إن الدين يسر»: ما أعظم هذا الحديث، وأجمعه للخير والوصايا النافعة، والأصول الجامعة؛ فقد أُسّس ﷺ في أوله هذا الأصل الكبير. فقال: «إن الدين يسر» أي ميسر مسهل في عقائده وأخلاقه وأعماله، وفي أفعاله وتُروكه.
فإن عقائده التي ترجع إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقَدَر خيره وشره: هي العقائد الصحيحة التي تطمئن لها القلوب، وتوصِّل مقتديها إلى أجلِّ غاية وأفضل مطلوب وأخلاقه وأعماله أكمل الأخلاق، وأصلح الأعمال، بها صلاح الدين والدنيا والآخرة.
وبفواتها يفوت الصلاح كله.
وهي كلها ميسرة مسهلة، كل مكلف يرى نفسه قادرًا عليها لا تشق عليه، ولا تكلفه، عقائده صحيحة بسيطة، تقبلها العقول السليمة، والفطر المستقيمة، وفرائضه أسهل شيء.
أما الصلوات الخمس: فإنها تتكرر كل يوم وليلة خمس مرات في أوقات مناسبة لها.
وتمم اللطيف الخبير سهولتها بإيجاب الجماعة والاجتماع لها؛ فإن الاجتماع في العبادات من المنشطات والمسهلات لها ورتب عليها من خير الدين وصلاح الإيمان، وثواب الله العاجل والآجل ما يوجب للمؤمن أن يستحليها، ويحمد الله على فرضه لها على العباد؛ إذ لا غنى لهم عنها.
وأما الزكاة: فإنها لا تجب على فقير ليس عنده نصاب زكوي.
وإنما تجب على الأغنياء تتميمًا لدينهم وإسلامهم، وتنمية لأموالهم، وأخلاقهم، ودفعًا للآفات عنهم وعن أموالهم، وتطهيرًا لهم من السيئات، ومواساة لمحاويجهم، وقيامًا لمصالحهم الكلية. وهي مع ذلك جزءٌ يسير جدًا بالنسبة إلى ما أعطاهم الله من المال والرزق.
وأما الصيام: فإن المفروض شهر واحد من كل عام، يجتمع فيه المسلمون كلهم، فيتركون فيه شهواتهم الأصلية – من طعام وشراب ونكاح – في النهار، ويعوضهم الله على ذلك من فضله وإحسانه تتميم دينهم وإيمانهم، وزيادة كمالهم، وأجره العظيم، وبره العميم، وغير ذلك مما رتبه على الصيام من الخير الكثير، ويكون سببًا لحصول التقوى التي ترجع إلى فعل الخيرات كلها، وترك المنكرات.
وأما الحج: فإن الله لم يفرضه إلا على المستطيع، وفي العمر مرة واحدة. وفيه من المنافع الكثيرة الدينية والدنيوية ما لا يمكن تعداده. وقد فصلنا مصالح الحج ومنافعه في محلّ آخر؛
قال تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ﴾ [الحجّ:٢٨]، أي: دينية ودنيوية.
ثم بعد ذلك بقية شرائع الإسلام التي هي في غاية السهولة الراجعة لأداء حق الله وحق عباده. فهي في نفسها ميسرة. قال تعالى ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة:١٨٥]، ومع ذلك إذا عرض للعبد عارض مرض أو سفر أو غيرهما، رتب على ذلك من التخفيفات، وسقوط بعض الواجبات، أو صفاتها وهيئتها ما هو معروف.
ثم إذا نظر العبد إلى الأعمال الموظفة على العباد في اليوم والليلة المتنوعة من فرض ونفل، وصلاة وصيام وصدقة وغيرها، وأراد أن يقتدي فيها بأكمل الخلق وإمامهم محمد ﷺ رأى ذلك غير شاق عليه، ولا مانع له عن مصالح دنياه، بل يتمكن معه من أداء الحقوق كلها: حقّ الله، وحقّ النفس، وحقّ الأهل والأصحاب، وحقّ كلّ من له حقّ على الإنسان برفق وسهولة، وأما من شدد على نفسه فلم يكتف بما اكتفى به النبي ﷺ، ولا بما علَّمه للأمة وأرشدهم إليه، بل غلا، وأوغل في العبادات: فإن الدين يغلبه، وآخر أمره العجز والانقطاع، ولهذا قال: «ولن يَشادَ الدينَ أحد إلا غلبه» فمن قاوم هذا الدين بشدة وغلو، ولم يقتصد: غلبه الدين، واستحسر ورجع القهقرى. ولهذا أمر ﷺ بالقصد، وحثّ عليه. فقال: «والقصد القصد تبلغوا».
ثم وصى ﷺ بالتسديد والمقاربة، وتقوية النفوس بالبشارة بالخير، وعدم اليأس.
فالتسديد: أن يقول الإنسان القول السديد، ويعمل العمل السديد، ويسلك الطريق الرشيد، وهو الإصابة في أقواله وأفعاله من كل وجه. فإن لم يدرك السداد من كل وجه فليتق الله ما استطاع، وليقارب الغرض. فمن لم يدرك الصواب كله فليكتف بالمقاربة. ومن عجز عن العمل كله فليعمل منه ما يستطيعه …
فعلمت بهذا: أنه يؤخذ من هذا الحديث العظيم عدة قواعد:
القاعدة الأولى: التيسير الشامل للشريعة على وجه العموم.
القاعدة الثانية: المشقة تجلب التيسير وقت حصولها.
القاعدة الثالثة: إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم.
القاعدة الرابعة: تنشيط أهل الأعمال، وتبشيرهم بالخير والثواب المرتب على الأعمال.
القاعدة الخامس: الوصية الجامعة في كيفية السير والسلوك إلى الله، التي تغني عن كل شيء ولا يغني عنها شيء.
فصلوات الله وسلامه على من أوتي جوامع الكلم ونوافعها.
وقد نقلنا في شرحنا لبعض أحاديث الصحيح المسند بعض القواعد في يسر الشريعة وذكرنا أمثلة على ذلك استفدناها من أسماء رسائل جامعية ألفت في ذلك. [الفوائد المنتقاه من شرح مختصر صحيح مسلم، (١١١) ٤٣٥٦ – ٤٣٤٥]