1207 فتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير ومحمد البلوشي وكديم وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الشيخ مقبل الوادعي في الصحيح المسند (ج2/ رقم 1207):
مسند أبي أُسَيْد رضي الله عنه
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج ٣ ص ٤٩٧): حدثنا أبو عامر قال حدثنا سليمان بن بلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الملك بن سعيد بن سويد عن أبي حميد وعن أبي أسيد: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال «إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه».
هذا حديث حسنٌ.
وقد ذكره ابن الجوزي في «الموضوعات»، ومال إليه الشوكاني في «الفوائد المجموعة»، ورد عليهما العلامة عبد الرحمن المعلمي بما يشفي ويكفي، وسيأتي الحديث في مسند أبي حُمَيْدٍ، وعليه تعليق هنالك.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
تخريج:
قال ابن رجب :
وخرّج الإمام أحمد من حديث ربيعة، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد، عن أبي حميد، وأبي أسيد بأن رسول الله ﷺ قال: «إذا سمعتم الحديث عني، تعرفه قلوبكم…. وإسناده قد قيل: على شرط مسلم؛ لأنه خرّج بهذا الإسناد بعينه حديثًا، لكن هذا الحديث معلول، فإنه رواه بكرٍ بن الأشجّ عن عبد الملك بن سعيد، عن عباس بن سهل، عن أُبَيّ بن كعب من قوله، قال البخاريّ: هو أصح
وروى يحيى بن آدم، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة، عن النبيّ ﷺ قال: «إذا حُدّثتم عني حديثأ تعرفونه، ولا تنكرونه، فصدقوه، فإني أقول ما يُعْرَف، ولا يُنكَر، وإذا حُدّثتم عني بحديث تنكرونه، ولا تعرفونه، فلا تصدّقوا
به، فإني لا أقول ما يُنْكَر، ولا يُعرَف»، وهذا الحديث معلول أيضًا، وقد اختلفوا في إسناده على ابن أبي ذئب، ورواه الحفاظ عنه، عن سعيد مرسلًا، والمرسل أصحّ عند الأئمة الحفاظ، منهم: ابن معين، والبخاريّ، وأبو حاتم الرازيّ، وابن خزيمة، وقال: ما رأيت أحدًا من علماء الحديث يُثْبت وصْله.
وإنما تُحمل مثل هذه الأحاديث على تقدير صحتها على معرفة أئمة أهل
الحديث الجهابذة النقاد الذين كثرت دراستهم لكلام النبيّ – ﷺ -، ولكلام غيره؛
لحال رواة الأحاديث، ونقلة الأخبار، ومعرفتهم بصدقهم، وكذبهم، وضبطهم،
وحفظهم، فإن هؤلاء لهم نقد خاصّ في الحديث، مختصون بمعرفته انتهى من جامع العلوم والحكم ونقله الاتيوبي في البحر المحيط
قال ابوحاتم كما علل ابن أبي حاتم ٢٤٤٥ عن حديث أبي هريرة:
قالَ أبِي: هَذا حديثٌ مُنكَرٌ؛ الثقاتُ لا يَرْفَعُونَهُ انتهى
وفي حاشية الجريسي على علل ابن أبي حاتم:
الظاهر أنه يعني: أن الثقات يرسلونه، لا يذكرون فيه أبا هريرة؛ قال البخاري في «التاريخ الكبير» (٣/٤٧٤): «وقال ابن طهمان: عَنِ ابْنِ أبِي ذِئْبٍ، عَنْ سعيد المقبري، عن النبيِّ (ص): «ما سمعتم عني من حديث تعرفونه فصدِّقوه»، وقال يحيى: عن أبي هريرة، وهو وهَمٌ؛ ليس فيه أبو هريرة، هو سعيد بن كيسان».
قال المعلمي: «وقوله: «لا يرفعونه» أراد بها -والله أعلم- لا يرفعون في إسناده فوق المقبري؛ ليوافق قول البخاري. والله أعلم». وقال الألباني: «يعني: لا يجاوزون به المقبري، ولا يذكرون في إسناده أبا هريرة». اهـ.
وقال ابن خزيمة – كما في«السير» (٩/٢٥٤) -: «في صحة هذا الحديث مقال، لم نَرَ في شرق الأرض ولا غربها أحدًا يعرف هذا من غير رواية يحيى، ولا رأيت محدثًا يُثبت هذا عن أبي هريرة».
وقال الذهبي في«السير» (٩/٢٥٤): «حديث منكر».
قال العقيلي :١٤ – أشْعَثُ بْنُ بَرازٍ الهُجَيْمِيُّ بَصْرِيٌّ حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسى قالَ: حَدَّثَنا عَبّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ قالَ: سَمِعْتُ يَحْيى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: أشْعَثُ بْنُ بَرازٍ الهُجَيْمِيُّ لَيْسَ بِشَيْءٍ
ومِن حَدِيثِهِ ما حَدَّثَناهُ مُحَمَّدُ بْنُ أيُّوبَ قالَ: حَدَّثَنا أبُو عَوْنٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَوْنٍ الزِّيادِيُّ قالَ: أخْبَرَنا أشْعَثُ بْنُ بَرازٍ عَنْ قَتادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إذا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا يُوافِقُ الحَقَّ فَخُذُوا بِهِ، حَدَّثْتُ بِهِ أوْ لَمْ أُحَدِّثْ بِهِ» ولَيْسَ لِهَذا اللَّفْظِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ إسْنادٌ يَصِحُّ، ولِلْأشْعَثَ هَذا غَيْرُ حَدِيثٍ مُنْكَرٍ
ونقل ابن الجوزي عن ابن معين أنه قال : أن هذا الحديث وضعته الزنادقة. وقال الخطابي :باطل لا أصل له .
والحديث في (الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد)، القسم الأول من الكتاب: قسم التوحيد وأصول الدين كتاب التوحيد، (٩) باب في معرفة أهل الحديث بصحيحه وضعيفة وحمل ما ثبت منه على أكمل وجوهه، (٥٣).
والوادعي رحمه الله جعله في الجامع:
وفي ١ – كتاب العلم، جعله في بابين: ١١٨ – تأويل الحديث الذي ظاهره الشناعة أو رده، (١٧٠، ١٧١). و١٤٥ – العلماء الراسخون في علم السنة يعلمون أن الحديث المكذوب ليس من حديث رسول الله ﷺ.
و١٤ – كتاب الشمائل المحمدية، ٩ – حسن أخلاقه ﷺ، (٢١٤٠، ٢١٤١).
وقال الوادعي رحمه الله معلقا: “وشك فيهما عبيد بن أبي قرة، فقال: عن أبي حميد أو أبي أسيد، وقال: «ترون أنكم منه قريب».
وشك أبو سعيد في أحدهما في: «إذا سمعتم الحديث عني».
هذا حديث حسنٌ. وهو لا ينفي النظر في رجال السند، وسلامة المتن من العلة والشذوذ للأدلة الأخرى، وليس للصوفية فيه حجة أنهم يصححون ما شاؤوا، بل لا بد من الرجوع إلى قواعد المصطلح، والله أعلم.
الحديث أخرجه البزار كما في «كشف الأستار» (ج ١ ص ١٠٥) فقال رحمه الله:
حدثنا محمد بن المثنى، ثنا أبو عامر، حدثنا سليمان بن بلال، عن ربيعة بن عبد الرحمن، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد، قال: سمعت أبا حميد وأبا أسيد يقولان … وذكر الحديث. وقال بعده: لا نعلمه يروى من وجه أحسن من هذا”. انتهى.
والحديث سيأتي بإذن الله تعالى أيضًا في (مسند أبي حُمَيْدٍ رضي الله عنه)، برقم (١٢١٩).
وفي (إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة): 3- كتاب العلم، ، ١٤٥ – العلماء الراسخون في علم السنة يعلمون أن الحديث المكذوب ليس من حديث رسول الله ﷺ، (٣٣٥).
وفي (صحيح موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان)، كتاب العلم [١]،١١ – باب معرفة أهل الحديث بصحته وضعفه، (٧٩ – ٩٢). قال الألباني رحمه الله: حسن – «الصحيحة» (٧٣٢).
إسناده صحيح على شرط مسلم. أبو خيثمة: زهير بن حرب بن شداد، وأبو عامر العقدي: هو عبد الملك بن عمرو القيسي”. انتهى.
وفي [غاية المقصد فى زوائد المسند (1/103)]، كتاب العلم، بوب عليه: معرفة أهل الحديث صحيحه وضعيفه، (٢٢١).
قال الحافظ السيوطي رحمه الله في [جامع الأحاديث (3/251)]، بعد أن أورد الحديث:
“أخرجه أحمد (٣/٤٩٧، رقم ١٦١٠٢)، وابن سعد (١/٣٨٧)، والبزار (٩/١٦٨، رقم ٣٧١٨)،
قال الهيثمى (١/١٥٠): رواه أحمد والبزار، ورجاله رجال الصحيح. وأبو يعلى كما فى إتحاف الخيرة المهرة (١/٢٩١، رقم ٥٠٧). وأخرجه أيضًا: ابن حبان (١/٢٦٤، رقم ٦٣).
وللحديث أطراف أخرى منها: «إذا حدثتم عنى بحديث تعرفونه ولا تنكرونه»”. انتهى.
وفي [سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم (732)]: “رواه ابن سعد (١ / ٣٨٧ – ٣٨٨): أخبرنا عبد الملك بن مسلمة ابن قعنب قال:
أخبرنا سليمان بن بلال عن ربيعة عن عبد الملك بن سعيد عن أبي حميد أو أبي
أسيد مرفوعا.
قلت: وهذا سند حسن، وهو على شرط مسلم، ورواه عبد الغنى المقدسي في «
العلم» (٢ / ٤٣ / ٢) من طريق أخرى عن سليمان بن بلال به.
ورواه ابن وهب في «المسند» (٨ / ١٦٤ / ٢) أخبرني القاسم بن عبد الله عن
ربيعة بن أبي عبد الرحمن به. وابن حبان (٩٢) والبزار كما في «الأحكام
الكبرى» رقم (١٠١)، وبينت في تعليقى عليه وجه كونه حسنا ومن صححه، وأن
الحديث خاص بطبقة معينة من أهل العلم.
وأخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (٢ / ١ / ٤٣٤) من طريق ابن أبي ذئب عن
سعيد المقبري عن النبي ﷺ نحوه، وقال يحيى عن أبي هريرة وهو
وهم ليس فيه أبو هريرة، إنما هو سعيد بن كيسان. قلت: فهو شاهد مرسل قوي” انتهى.
قال محققو المسند: “إسناده صحيح على شرط مسلم كسابقه.
وأخرجه البزار (١٨٧) (زوائد)، وابن حبان (٦٣) من طريق أبي عامر العقدي، بهذا الإسناد. وقال البزار: لا نعلمه يروى من وجه أحسن من هذا.
وأخرجه ابن سعد ١/٣٨٧ عن عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن سليمان بن بلال، به. إلا أن في المطبوع منه: عن أبي حُميد أو أبي أُسيد على الشك.
وأورده الهيثمي في «مجمع الزوائد» ١/١٤٩- ١٥٠، وقال: رواه أحمد والبزار، ورجاله رجال الصحيح.
وقد سلف نحوه من حديث أبي هريرة (٨٨٠١)، وسيكرر ٥/٤٢٥ سندًا ومتنًا.
قال السندي: قوله: «إذا سمعتم الحديث عني»، أي: مرويًا عني، وهذا إنما يكون إذا سمع من غيره لا منه ﷺ، ولذلك عُدِّي بعن لا بمن، إذِ السماع منه لا يتصور فيه ذلك.
قوله: «تعرفه قلوبكم»، أي: يقبله القلب، ولا يلحق به الوحشة للنفس، وهذا إما بالعرض على أصول الدين المعلومة، فإذا لم يكن مخالفًا يقبله القلب، أو بمعرفة رجال الإسناد، فإنهم إذا كانوا ثقاتٍ أثباتًا يتسارع القلب إلى القبول، ويحتمل أن يكون هذا الحديث من قبيل “استفتِ قلبك، البِرُّ ما اطمأنت إليه النفس، وأطمأنّ إليه القلبُ، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك«حديث حسن، رواه أحمد [٤/٢٢٨] والدارمي [٢/٢٤٦] وغيرهما كما في الأربعين للنووي، رحمه الله تعالى. وهذا محمول على الأمر المشتبه، وإلا فما ثبت الأمرُ به في الشرع بلا معارض فهو برّ، وما ثبت النهي عنه كذلك فهو إثم، والمراد أن قلب المؤمن ينظر بنور الله إذا كان قوي الإيمان … وهذا يقتضي أنه ينبغي الرجوعُ إلى الأصول المعلومة الثابتة من الدين فيما اشتبه من الحديث، والله تعالى أعلم”. انتهى.
الأول: شرح الحديث:
“لعله: (وتُرون) يعني: تظنون، أما (تَرون) بالفتح تعلمون.
قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم، وأخرجه أحمد والبزار، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح.
هذا الحديث يحتاج إلى تأمل في صحة هذا المعنى؛ لأن فيه فتح باب أن الإنسان يقول: هذا الحديث مناسب، لكن لو صح فهو محمول على أهل العلم والفقه”.
قال الراجحي في [شرح صحيح ابن حبان، كتاب العلم [١]، ذكر الإخبار عما يستحب للمرء كثرة سماع العلم ثم الاقتفاء والتسليم].
وفي حاشية (صحيح موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان): “هذا الخطاب النبوي الكريم خاص بالمقربين منه ﷺ من أصحابه، والملازمين له في كل أحواله، العارفين بسنته وهديه، ثم الذين ساروا على منهجهم وهديهم من أهل العلم بالكتاب والسنة الصحيحة أمثال الإمام أحمد وابن معين وابن المديني والبخاري ومسلم، وابن أبي حاتم، وابن حبان، ونحوهم من الأئمة النقاد؛ كالذهبي والعسقلاني، وما أقلهم في كل زمان، وبخاصة في زماننا هذا.
وهو أصل لما يعرف عند المحدثين بنقد المتن، ومنه الحديث المنكر والشاذ، وما أحسن ما قاله ابن القيم – رحمه الله – في رسالته «المنار المنيف» (ص ٤٣): «وسئلت: هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط؛ من غير أن ينظر في سنده؟
فهذا سؤال عظيم القدر، وإنما يعلم ذلك من تضلع في معرفة السنن الصحيحة واختلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها مَلَكَةٌ، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله ﷺ وهديه؛ فيما يأمر به، وينهى عنه، ويخبر عنه، ويدعو إليه، ويحبه، ويكرهه، ويشرعه لأمته، بحيث كأنه مخالط للرسول ﷺ كواحد من أصحابه.
فمثل هذا؛ يعرف – من أحوال الرسول وهديه وكلامه، وما يجوز أن يخبر به، وما لا يجوز – ما لا يعرفه غيره، وهذا شأن كل متبع مع متبوعه؛ فإن للأخص به، الحريص على تتبع أقواله وأفعاله – من العلم بها، والتمييز بين ما يصح أن ينسب إليه وما لا يصح – ما ليس لمن لا يكون كذلك، وهذا شأن المقلدين مع أئمتهم، يعرفون أقوالهم ونصوصهم، والله أعلم».
وما أحسن ما قاله بعضهم:
أهل الحديث همو أهل النبي وإن … لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا”. انتهى من الحاشية.
وسيأتي كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله في محله إن شاء الله تعالى فيما يتعلق بذلك.
الثاني: مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
قد مر ما يتعلق بالباب في صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، بَابُ: تَفْسِيرِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ.
(المسألة الأولى):
ذكر الحافظ ابن رجب – رحمه الله – بحثًا نفيسًا يتعلّق بهذه الأحاديث، فقال بعد أن أوردها: وهذه الأحاديث مشتملة على تفسير البرّ والإثم، وبعضها في تفسير الحلال، والحرام، فحديث النّوّاس بن سِمعان فسّر به النبيّ ﷺ البرّ بحُسن الخُلُق، وفسّره في حديث وابصة [يقصد رحمه الله: حديث وابصة – رضي الله عنه -: هو ما أخرجه أحمد في «مسنده» (٤/ ٢٢٨) عن وابصة بن معبد – رضي الله عنه -، قال: أتيت رسول الله ﷺ، وأنا أريد أن لا أدع شيئًا من البرّ والإثم إلّا سألته عنه، وحوله عصابة من المسلمين، يستفتونه، فجعلت أتخطاهم، فقالوا:
«إليك يا وابصة عن رسول الله ﷺ»، فقلت: دعوني، فأدنوَ منه، فإنه أحب الناس إليّ أن أدنو منه، قال: «دعوا وابصة، ادْنُ يا وابصة» مرتين، أو ثلاثًا، قال: فدنوت منه، حتى قعدت بين يديه، فقال: «يا وابصة أخبرك، أو تسألني؟» قلت: لا، بل أخبرني، فقال: «جئت تسألني عن البرّ والإثم»، فقال: نعم، فجَمَع أنامله، فجعل ينكت بهنّ في صدري، ويقول: “يا وابصة استفت قلبك، واستفت نفسك – ثلاث مرات – البرّ ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس، وتردّد في الصدر، وإن أفتاك الناس، وأفتوك». انتهى.
قال النوويّ – رحمه الله – في «الأربعين»: حديث حسن، وكذا حسّنه الألبانيّ – رحمه الله – لغيره، وضعّفه ابن رجب، لضعف بعض رجاله، ولانقطاعه، راجع: «جامع العلوم والحكم» ٢/ ٩٣ – ٩٤.
قال الجامع -أي: الأثيوبي- عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن تحسينه لشواهده هو الحقّ، فإن أحاديث الباب التي أوردناها في الشرح تشهد له، فتأملها بالإمعان، وبالله تعالى التوفيق(حاشية البحر الثجاج)] وغيره بما اطمأنت إليه النفس والقلب، كما فسَّر الحلال والحرام بذلك في حديث أبي ثعلبة، وإنما اختُلِف في تفسير البرّ؛ لأنّ البرّ يُطلق باعتبارين معيَّنين:
أحدهما: باعتبار معاملة الخَلْق بالإحسان إليهم، وربما خُصّ بالإحسان إلى الوالدين، فيقال: برّ الوالدين، ويُطلق كثيرًا على الإحسان إلى الخَلْق عمومًا، وقد صنّف ابن المبارك كتابًا سمّاه»كتاب البرّ والصلة«، وكذلك في »صحيح البخاريّ«، و»جامع الترمذيّ«، و»كتاب البرّ والصلة«، ويتضمن هذا الكتاب الإحسان إلى الخَلْق عمومًا، ويقدَّم فيه برّ الوالدين على غيرهما.
وفي حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه، أنه قال: يا رسول الله من أبَرّ؟ قال:»أمك«، قال: ثم من؟ قال:»أباك«، قال: ثم من؟ قال:»ثم الأقرب، فالأقرب«( حديث صحيح، رواه أحمد، والبخاريّ في «الأدب المفرد»، وأبو داود، والترمذيّ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبيّ)، ومن هذا المعنى قول النبيّ ﷺ:»الحج المبرور ليس له جزاء إلّا الجَنَّة«.
وفي»المسند«أنه ﷺ سئل عن بِرّ الحج، فقال:»إطعام الطعام، وإفشاء السلام«، وفي رواية أخرى:»قال: وطِيب الكلام«، وكان ابن عمر – رضي الله عنهما – يقول: البرّ شيء هَيِّن: وجهٌ طَلْقٌ، وكلامٌ ليّن.
وإذا قُرن البرّ بالتقوي، كما في قوله تعالى: ﴿وتَعاوَنُوا عَلى البِرِّ والتَّقْوى﴾ [المائدة ٢]
فقد يكون المراد بالبرّ: معاملة الخلق بالإحسان، وبالتقوى: معاملة الحقّ بفعل طاعته، واجتناب محرماته، وقد يكون أريدَ بالبرّ فِعْل الواجبات، وبالتقوى اجتناب المحرمات، وقوله تعالى: ﴿ولا تَعاوَنُوا عَلى الإثْمِ والعُدْوانِ﴾ [المائدة ٢] قد يراد بالإثم: المعاصي، وبالعدوان: ظُلْم الخَلْق، وقد يراد بالإثم: ما هو محرّم في نفسه، كالزنا، والسرقة، وشُرْب الخمر، وبالعدوان: تجاوُز ما أُذن فيه إلى ما نُهي عنه مما جنسه مأذون فيه، كقَتْل ما أبيح قَتْله بقصاص، ومن لا يباح فيه، وأخْذ زيادة على الواجب من الناس في الزكاة، ونحوها، ومجاوزة الجَلْد الذي أُمر به في الحدود ونحو ذلك.
والمعنى الثاني من معنى البرّ: أن يراد به فِعْل جميع الطاعات الظاهرة والباطنة؛ كقوله تعالى: ﴿لَيْسَ البِرَّ أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ ولَكِنَّ البِرَّ مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ والمَلائِكَةِ والكِتابِ والنَّبِيِّينَ وآتى المالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ والسّائِلِينَ وفِي الرِّقابِ وأقامَ الصَّلاةَ وآتى الزَّكاةَ والمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذا عاهَدُوا والصّابِرِينَ فِي البَأْساءِ والضَّرّاءِ وحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ (١٧٧)﴾ [البقرة ١٧٧]، وقد رُوي عن النبيّ ﷺ أنه سئل عن الإيمان، فتلا هذه الآية، فالبرّ بهذا المعنى يدخل فيه جميع الطاعات الباطنة، والظاهرة
وقد يكون جواب النبيّ ﷺ في حديث النّوّاس شاملًا لهذه الخصال كلِّها؛ لأنّ حُسْن الخُلُق قد يراد به التخلق بأخلاق الشريعة، والتأدب بآداب الله تعالى التي أدّب بها عباده في كتابه، كما قال لرسوله ﷺ: ﴿وإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)﴾ [القلم ٤]، وقالت عائشة – رضي الله عنها -: كان خُلُقه ﷺ القرآن، تعني: أنه يتأدّب بآدابه، فيفعل أوامره، ويتجنب نواهيه، فصار العمل بالقرآن له خُلُقًا، كالجبلَّة، والطبيعة، لا يفارقه، وهذا من أحسن الأخلاق، وأشرفها، وأجملها، وقد قيل: إن الدين كلّه خُلُقٌ.
وأما في حديث وابصة، فقال: «البر ما اطمأنّ إليه القلب، واطمأنت إليه النفس»، وفي رواية: «ما انشرح إليه الصدر»، وفسّر الحلال بنحو ذلك، كما في حديث أبي ثعلبة وغيره،
وهذا يدلّ على أنّ الله فَطَر عباده على معرفة الحقّ، والسكون إليه، وقَبوله، ورَكز في الطباع محبة ذلك، والنفور عن ضدّه، وقد يدخل هذا في قوله في حديث عياض بن حِمار: “إني خَلَقت عبادي حنفاء، مسلمين، فأتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، فحرَّمَتْ عليهم ما
أحللتُ لهم، وأمَرَتْهم أن يُشركوا بي ما لَمْ أُنَزِّل به سلطانًا«، وقولِهِ:»كلّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه، أو ينصرانه، أو يمجّسانه، كما تُنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسُّون فيها من جدعاء؟ «، قال أبو صريرة – رضي الله عنه -:»اقرأوا إن شئتم: ﴿فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ الآية [الروم ٣٠]، ولهذا سَمّى الله تعالى ما أمره به معروفًا، وما نهى عنه منكرًا، فقال تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ وإيتاءِ ذِي القُرْبى ويَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ والبَغْيِ﴾ الآية [النحل ٩٠]، وقال تعالى في صفة الرسول ﷺ: ﴿ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ﴾ الآية [الأعراف ١٥٧]، وأخبر أن قلوب المؤمنين تطمئنّ بذكره، فالقلب الذي دخله نور الإيمان، وانشرح به، وانفسح سكن للحقّ، واطمأنّ به، ويقبله، وينْفُر عن الباطل، ويكرهه، ولا يقبله.
وقال معاذ بن جبل – رضي الله عنه -: احَذِّركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلال على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحقّ، فقيل لمعاذ: ما يدريني أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحقّ؟ قال: اجتَنِب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال: ما هذه؟ ولا يَثنِينّك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع، وتلقّ الحقَّ إن سمعته، فإن على الحقّ نورًا. خرّجه أبو داود، وفي رواية له: قال: بل ما تشابه عليك من قول الحكيم حتى تقول: ما أراد بهذه الكلمة؟
فهذا يدلّ على أنّ الحقّ والباطل لا يلتبس أمرهما على المؤمن البصير، بل يَعْرِف الحقّ بالنور عليه، فيقبله قلبه، وينفر عن الباطل، فينكره، ولا يعرفه.
ومن هذا المعنى قول النبيّ ﷺ: «سيكون في آخر الزمان قوم يُحدّثونكم بما لا تسمعون أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم»؛ يعني: أنهم يأتون بما تستنكره قلوب المؤمنين، ولا تعرفه، وفي قوله: «أنتم ولا آباؤكم» إشارة إلى أن ما استقرّت معرفته عند المؤمنين، مع تقادم العهد، وتطاول الزمان، فهو الحقّ، وأن ما أُحدث بعد ذلك، فما يُستنكَر فلا خير فيه.
فدلّ حديث وابصة – رضي الله عنه -، وما في معناه على الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه، فما سكن إليه القلب، وانشرح إليه الصدر، فهو البرّ، والحلال، وما كان خلاف ذلك، فهو الإثم، والحرام.
وقوله في حديث النوّاس بن سِمعان – رضي الله عنه -: «الإثم ما حاك في الصدر، وكَرِهت أن يطّلع عليه الناس» إشارة إلى أن الإثم ما أثّر في الصدر حرجًا، وضِيقًا، وقَلَقًا، واضطرابًا، فلم ينشرح له الصدر، ومع هذا فهو عند الناس مستنكر، بحيث ينكرونه عند اطّلاعهم عليه، وهذا أعلى مراتب معرفة الإثم عند الاشتباه، وهو ما استنكر الناس فاعله، وغير فاعله.
ومن هذا المعنى قول ابن مسعود – رضي الله عنه -: ما رآه المؤمنون حسنًا، فهو عند الله حسنٌ، وما رآه المؤمنون قبيحًا فهو عند الله قبيح.
وقوله في حديث وابصة، وأبي ثعلبة: «وإن أفتاك المفتون»؛ يعني: أن ما حاك في حدر الإنسان، فهو إثم، وإن أفتاه غيره بأنه ليس بإثم، فهذه مرتبة ثانية، وهو أن يكون الشيء مستنكَرًا عند فاعله، دون غيره، وقد جعله أيضًا إثْمًا،
وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شُرِح صدره للإيمان، وكان المفتي يفتي له بمجرد ظنّ، أو ميل إلى هوي، من غير دليل شرعيّ، فأما ما كان مع المفتي به دليل شرعيّ، فالواجب على المستفتي الرجوع إليه، وإن لَمْ ينشرح له صدره، وهذا كالرخصة الشرعية، مثل الفِطْر في السفر، والمرض، وقَصْر الصلاة في السفر، ونحو ذلك، مما لا ينشرح به صدور كثير من الجهال، فهذا لا عبرة به،
وقد كان النبيّ ﷺ أحيانًا يأمر أصحابه بما لا تنشرح به صدور بعضهم، فيمتنعون من قوله، فيغضب من ذلك، كما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة، فكرهه من كرهه منهم، وكما أمرهم بنحر هَدْيهم، والتحلل من عمرة
الحديبية، فكرهوه، وكرهوا مفاوضته لقريش على أنّ يرجع من عامه، وعلى أنّ من أتاه منهم يردّه إليهم.
وفي الجملة، فما ورد النصّ به، فليس للمؤمن إلّا طاعة الله تعالى ورسوله ﷺ، كما قال تعالى: ﴿وما كانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضى اللَّهُ ورَسُولُهُ أمْرًا أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أمْرِهِمْ﴾ الآية [الأحزاب ٣٦]، وينبغي أن يُتَلَقّى ذلك بانشراح الصدر والرضا، فإن ما شرعه الله تعالى ورسوله ﷺ يجب الإيمان، والرضا به، والتسليم له، كما قال تعالى: ﴿فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)﴾ [النساء ٦٥].
وأما ما ليس فيه نصّ من الله، ولا رسوله ﷺ، ولا عمن يُقتدى بقوله من الصحابة، وسلف الأمة، فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئنّ قلبه بالإيمان، المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين، منه شيءٌ، وحَكّ في صدره بشبهة موجودة، ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إلّا من يُخْبر عن رأيه، وهو ممن لا يوثَق بعلمه، وبدينه، بل هو معروف باتباع الهوي، فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره، وإن أفتاه هؤلاء المفتون.
وقد نَصّ الإمام أحمد على مثل هذا أيضًا، قال المروزيّ في «كتاب الورع»: قلت لأبي عبد الله: إن القُطَيعة أرفق بي من سائر الأسواق، وقد وقع في قلبي من أمرها شيء، فقال: أمْرها أمر قذر، متلوث، قلت: فتكره العمل فيها؛ قال: دع عنك هذا، إن كان لا يقع في قلبك شيء، قلت: قد وقع في قلبي منها، فقال: قال ابن مسعود: الإثم حَوّاز القلب، قلت: إنما هذا على المشاورة، قال: أي شيء يقع في قلبك؛ قلت: قد اضطرب على قلبي، قال:
الإثم هو حوّاز القلوب.
قال ابن رجب – رحمه الله -: وقد سبق في شرح حديث النعمان بن بشير – رضي الله عنهما -: «الحلال بَيّن، والحرام بين» (تقدّم في»البحر المحيط” برقم [٤١/ ٤٠٨٧] (١٥٩٩))، وفي شرح حديث الحسين بن عليّ – رضي الله عنهما -: «دع ما يريبك …»، وشرح حديث: «إذا لَمْ تستح فاصنع ما شئت»، شيء يتعلق بتفسير هذه الأحاديث المذكورة ههنا.
وقد ذكر طوائف من الفقهاء من الشافعية، والحنفية، المتكلمين في أصول الفقه مسألة الإلهام هل هو حجّة أم لا؟ وذكروا فيه اختلافًا بينهم، وذكر طائفة من أصحابنا – يعني: الحنبليّة – أن الكشف ليس بطريق إلى الإحكام، وأخذه القاضي أبو يعلى من كلام أحمد في ذمّ المتكلمين في الوساوس، والخطرات، وخالفهم طائفة من أصحابنا في ذلك، وقد ذكرنا نصًّا عن أحمد ههنا بالرجوع إلى حَوّاز القلوب، وإنما ذَمّ أحمد وغيره المتكلمين على
الوساوس، والخطرات من الصوفية، حيث كان كلامهم في ذلك لا يستند إلى دليل شرعيّ، بل إلى مجرد رأي، وذوق، كما كان يُنكر الكلام في مسائل الحلال والحرام بمجرد الرأي، من غير دليل شرعيّ، فأما الرجوع إلى الأمور المشتبهة إلى حَوّاز القلوب، فقد دلت عليه النصوص النبوية، وفتاوي الصحابة، فكيف ينكره الإمام أحمد بعد ذلك؛ لا سيما، وقد نَصّ على الرجوع إليه موافقة لهم، وقد سبق الحديث: «إن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة» (حديث صحيح)،
فالصدق يتميز من الكذب بسكون القلب إليه، ومعرفته، وبنفوره عن الكذب، وإنكاره، كما قال الربيع بن خُثيم: إن للحديث نورًا كنور النهار، تعرفه، وظلمةَ كظلمة الليل، تُنْكره.
وخرّج الإمام أحمد من حديث ربيعة، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد، عن أبي حميد، وأبي أسيد بأن رسول الله ﷺ قال: «إذا سمعتم الحديث عني، تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم، وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فانا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني، تُنْكره قلوبكم، وتنفر عنه أشعاركم، وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد، فانا أبعدكم منه»، وإسناده قد قيل: على شرط مسلم؛ لأنه خرّج بهذا الإسناد بعينه حديثًا، لكن هذا الحديث معلول، فإنه رواه بكرٍ بن الأشجّ عن عبد الملك بن سعيد، عن عباس بن سهل، عن أُبَيّ بن كعب من قوله، قال البخاريّ: هو أصح من يحيى بن آدم، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة، عن النبيّ ﷺ قال: «إذا حُدّثتم عني حديثأ تعرفونه، ولا تنكرونه، فصدقوه، فإني أقول ما يُعْرَف، ولا يُنكَر، وإذا حُدّثتم عني بحديث تنكرونه، ولا تعرفونه، فلا تصدّقوا
به، فإني لا أقول ما يُنْكَر، ولا يُعرَف»، وهذا الحديث معلول أيضًا، وقد اختلفوا في إسناده على ابن أبي ذئب، ورواه الحفاظ عنه، عن سعيد مرسلًا، والمرسل أصحّ عند الأئمة الحفاظ، منهم: ابن معين، والبخاريّ، وأبو حاتم الرازيّ، وابن خزيمة، وقال: ما رأيت أحدًا من علماء الحديث يُثْبت وصْله.
وإنما تُحمل مثل هذه الأحاديث على تقدير صحتها على معرفة أئمة أهل الحديث الجهابذة النقاد الذين كثرت دراستهم لكلام النبيّ ﷺ، ولكلام غيره؛ لحال رواة الأحاديث، ونقلة الأخبار، ومعرفتهم بصدقهم، وكذبهم، وضبطهم، وحفظهم، فإن هؤلاء لهم نقد خاصّ في الحديث، مختصون بمعرفته، كما يختص الصيرفيّ الحاذق بمعرفة النقود، جيِّدها، ورديئها، وخالصها، ومَشُوبها، والجوهريّ الحاذق في معرفة الجوهر بانتقاد الجواهر، وكل من هؤلاء لا يمكن أن يعبر عن سبب معرفته، ولا يقيم عليه دليلًا لغيره، وآية ذلك أنه يُعْرَض الحديث الواحد على جماعة، ممن يعلم هذا العلم، فيتفقون على الجواب فيه، من غير مواطأة، وقد امتُحِن هذا منهم غير مرّة، في زمن أبي زرعة، وأبي حاتم، فوُجِد الأمر على ذلك، فقال السائل: أشهد أن هذا العلم إلهام.
قال الأعمش: كان إبراهيم النخعيّ صيرفيًّا في الحديث، كنت أسمع من الرجال، فأعْرِض عليه ما سمعته.
وقال عمرو بن قيس: ينبغي لصاحب الحديث أن يكون مثل الصيرفيّ الذي ينقُد الدرهم الزائف، والبهرج، وكذا الحديث.
وقال الأوزاعيّ: كنا نسمع الحديث، فنَعْرِضه على أصحابنا، كما نَعرِض الدرهم الزائف على الصيارفة، فما عرفوا أخذنا، وما أنكروا تركنا. وقيل لعبد الرَّحمن بن مهديّ: إنك تقول للشيء: هذا يصحّ، وهذا لَمْ يثبت، فعمن تقول ذلك؟ فقال: أرأيت لو أتيت الناقد، فأريته دراهمك، فقال: هذا جيّد، وهذا بَهْرَج، أكنت تسأله عن ذلك، أو تُسَلّم الأمر إليه؟ قال: لا، بل كنت أسلم الأمر إليه، فقال: فهذا كذلك؛ لطول المجالسة، والمناظرة، والخبرة.
وقد رُوي نحو هذا المعنى عن الإمام أحمد أيضًا، وأنه قيل له: يا أبا عبد الله تقول: هذا الحديث منكَر، فكيف علمت، ولم تكتب الحديث كله؟،
قال: مَثَلُنا كمَثَل ناقد العين، لَمْ تقع بيده العين كلّها، فإذا وقع بيده الدينار
يعلم بأنه جيد، أو أنه رديء.
وقال ابن مهديّ: معرفة الحديث إلهام، وقال: إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة.
وقال أبو حاتم الرازيّ: مَثَل معرفة الحديث، كمَثَل فَصّ ثمنه مائة دينار، وآخر مِثْله على لونه، ثمنه عشرة دراهم، قال: وكما لا يتهيأ للناقد أن يُخبِر بسبب نقده، فكذلك نحن رُزقنا علمًا، لا يتهيأ لنا أن نُخبِر كيف عَلِمنا بأن هذا حديث كذب، وأن هذا حديث منكر، إلّا بما نعرفه، قال: وُيعْرَف جودة الدينار بالقياس إلى غيره، فإن تخلّف عنه في الحمرة والصفاء عُلم أنه مغشوش، ويُعلم جنس الجوهر بالقياس إلى غيره، فإن خالفه في المائية، والصلابة، عُلم أنه زُجاج، ويُعْلَم صحة الحديث بعدالة ناقليه، وأن يكون كلامًا يصلح مثلُهُ أن يكون كلام النبوة، وُيعرف سَقَمه وإنكاره بتفرد من لَمْ تصحّ عدالته بروايته، والله أعلم.
وبكل حال فالجهابذة النفاد العارفون بعلل الحديث أفراد قليل من أهل الحديث جدًّا، وأول من اشتَهَر بالكلام في نقد الحديث ابن سيرين، ثم خلفه أيوب السختيانيّ، وأخذ ذلك عنه شعبة، وأخذ عن شعبة يحيى القطان، وابن مهديّ، وأخذ عنهما أحمد، وعليّ ابن المدينيّ، وابن معين، وأخذ عنهم مثل البخاريّ، وأبي داود، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وكان أبو زرعة في زمانه يقول: قَلّ من يفهم هذا، وما أعزّه، إذا دفعت هذا عن واحد واثنين، فما أقلّ من تجد من يُحْسن هذا، ولما مات أبو زرعة قال أبو حاتم: ذهب الذي كان يُحسن هذا – يعني: أبا زرعة – ما بقي بمصر، ولا بالعراق واحد يُحْسِن هذا، وقيل له بعد موت أبي زرعة: تعرف اليوم أحدًا يعرف هذا؛ قال: لا.
وجاء بعد هؤلاء جماعة، منهم: النسائيّ، والعُقيليّ، وابن عديّ، والدارقطنيّ، وقلَّ من جاء بعدهم من هو بارع في معرفة ذلك، حتى قال أبو الفرج ابن الجوزيّ في أول كتابه«الموضوعات»: قَلّ من يفهم هذا، بل عُدم، والله أعلم. انتهى ما كتبه الحافظ ابن رجب – رحمه الله – بطوله [«جامع العلوم والحكم» للحافظ ابن رجب – رحمه الله – ٢/ ٩٥ – ١٠٨]، وهو بحث نفيسٌ، وتحقيق أنيس، والله تعالى أعلم.[نقله الأثيوبي في البحر الثجاج]
(المسألة الثانية): فيما يتعلق بالمفتي والمستفتي
أولاً: أن يكون عند المستفتِي من الورع عند الوقوع في الشبهات والحرام.
قال المناوي رحمه الله في فيض القدير: “(استفت نفسك) المطمئنة الموهوبة نورا يفرق بين الحق والباطل، والصدق والكذب”.
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى: “لكنَّ هذا إنَّما يصحُّ ممَّن نوَّر الله قلبه بالعلم، وزيَّن جوارحه بالورع، بحيث يجد للشبهة أثراً في قلبه. كما يحكى عن كثير من سلف هذه الأمَّة، كما نقل عنهم في “الحلية” و”صفة الصَّفوة”، وغيرهما من كتب ذلك الشَّأن”.[ المفهم (4/492)].
قال محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله تعالى في شرح الأربعين: ” ( الإثم ما حاك في نفسك) أي: تردد وصرت منه في قلق ( ( وكرهت أن يطلع عليه الناس) ) لأنه محل ذم وعيب، فتجدك مترددا فيه وتكره أن يطلع الناس عليك.
وهذه الجملة إنما هي لمن كان قلبه صافيا سليما، فهذا هو الذي يحوك في نفسه ما كان إثما ويكره أن يطلع عليه الناس.
أما المتمردون الخارجون عن طاعة الله الذين قست قلوبهم فهؤلاء لا يبالون، بل ربما يتبجحون بفعل المنكر والإثم، فالكلام هنا ليس عاما لكل أحد بل هو خاص لمن كان قلبه سليما طاهرا نقيا؛ فإنه إذا هم بإثم وإن لم يعلم أنه إثم من قبل الشرع تجده مترددا يكره أن يطلع الناس عليه، وهذا ضابط وليس بقاعدة، أي علامة على الإثم في قلب المؤمن”.
قال الشيخ عبدالمحسن العباد حفظه الله تعالى: ” الذي اختلف فيه الإنسان يرجع إلى أهل العلم ممن يثق بعلمه ودينه في أمر يعمل به، فإذا أرشده من يثق بعلمه ودينه أخذ به، وأما استفتاء القلب فالمقصود بذلك: أن الإنسان إذا كان سأل عن شيء وأُخبر بأنه حلال، وكان في نفسه شيء منه أو غير مطمئن إليه أو أنه يعلم في هذا الأمر الخاص به ما يجعله غير مطمئن، فإن السلامة في ذلك أن يترك هذا الشيء الذي هو غير مطمئن إليه”[ شرح الأربعين النووية العباد].
ثانيًا:
قال ابن القيم رحمه الله :
“لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبوله، وتردد فيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك) .
فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولا، ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه ، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من نار) .
والمفتي والقاضي في هذا سواء ، ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن ، سواء تردد أو حاك في صدره ، لعلمه بالحال في الباطن ، أو لشكه فيه ، أو لجهله به ، أو لعلمه جهل المفتي ، أو محاباته في فتواه ، أو عدم تقيده بالكتاب والسنة ، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة ، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه ، وسكون النفس إليها” انتهى.[“إعلام الموقعين” (4/254)].
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
“أي : حتى وإن أفتاك مفتٍ بأن هذا جائز ، ولكن نفسك لم تطمئن ولم تنشرح إليه فدعه ، فإن هذا من الخير والبر ، إلا إذا علمت في نفسك مرضا من الوسواس والشك والتردد فلا تلتفت لهذا ، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يخاطب الناس أو يتكلم على الوجه الذي ليس في قلب صاحبه مرض” انتهى. [“شرح رياض الصالحين” (2/284)].
فالذي يستفتي قلبه ويعمل بما أفتاه به هو صاحب القلب السليم، لا القلب المريض، فإن صاحب القلب المريض لو استفتى قلبه عن الموبقات والكبائر لأفتاه أنها حلال لا شبهة فيها
وفي هذا قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله :
“(الإثم ما حاك في نفسك) أي : تردد وصرت منه في قلق (وكرهت أن يطلع عليه الناس) لأنه محل ذم وعيب ، فتجدك متردداً فيه وتكره أن يطلع عليك الناس.
وهذه الجملة إنما هي لمن كان قلبه صافياً سليماً ، فهذا هو الذي يحوك في نفسه ما كان إثماً ، ويكره أن يطلع عليه الناس .
أما المُتَمَرِّدون الخارجون عن طاعة الله الذين قست قلوبهم فهؤلاء لا يبالون ، بل ربما يتبجحون بفعل المنكر والإثم ، فالكلام هنا ليس عاماً لكل أحد ، بل هو خاص لمن كان قلبه سليماً طاهراً نقياً ، فإنه إذا هَمَّ بإثم وإن لم يعلم أنه إثم من قبل الشرع تجده متردداً يكره أن يطلع الناس عليه ، فهذا علامة على الإثم في قلب المؤمن” انتهى . [“شرح الأربعين النووية” (صـ 294 ، 295)].
(المسألة الثالثة): جاء في الآداب الشرعية لابن مفلح رحمه الله:
“[فَصْلٌ فِي العَمَلِ بِالحَدِيثِ الضَّعِيفِ ورِوايَتِهِ والتَّساهُلِ فِي أحادِيثِ الفَضائِلِ] دُونَ ما تَثْبُتُ بِهِ الأحْكامُ والحَلالِ والحَرامِ والحاجَةِ إلى السُّنَّةِ وكَوْنِها)
ولِأجْلِ الآثارِ المَذْكُورَةِ فِي الفَصْلِ قَبْلَ هَذا يَنْبَغِي الإشارَةُ إلى ذِكْرِ العَمَلِ بِالحَدِيثِ الضَّعِيفِ، واَلَّذِي قَطَعَ بِهِ غَيْرُ واحِدٍ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي عُلُومِ الحَدِيثِ حِكايَةً عَنْ العُلَماءِ أنَّهُ يُعْمَلُ بِالحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِيما لَيْسَ فِيهِ تَحْلِيلٌ ولا تَحْرِيمٌ كالفَضائِلِ، وعَنْ الإمامِ أحْمَدَ ما يُوافِقُ هَذا.
قالَ ابْنُ عَبّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ: سَمِعْت أحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وهُوَ شابٌّ عَلى بابِ أبِي النَّضْرِ، فَقِيلَ لَهُ: يا أبا عَبْدِ اللَّهِ، ما تَقُولُ فِي مُوسى بْنِ عُبَيْدَةَ ومُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ؟ قالَ: أمّا مُحَمَّدٌ فَهُوَ رَجُلٌ نَسْمَعُ مِنهُ ونَكْتُبُ عَنْهُ هَذِهِ الأحادِيثَ يَعْنِي المَغازِيَ ونَحْوَها، وأمّا مُوسى بْنُ عُبَيْدَةَ فَلَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ ولَكِنَّهُ رَوى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أحادِيثَ مَناكِيرَ، فَأمّا إذا جاءَ الحَلالُ والحَرامُ أرَدْنا أقْوامًا، هَكَذا قالَ العَبّاسُ، وأرانا بِيَدِهِ.
قالَ الخَلّالُ: وأرانا العَبّاسُ فِعْلَ أبِي عَبْدِ اللَّهِ قَبَضَ كَفَّيْهِ جَمِيعًا وأقامَ إبْهامَيْهِ.
ورَوى أبُو بَكْرٍ الخَطِيبُ ثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ القَطّانُ النَّيْسابُورِيُّ ثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الحافِظُ سَمِعْت أبا زَكَرِيّا العَنْبَرِيَّ سَمِعْت أبا العَبّاسِ أحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدٍ السِّجْزِيَّ يَقُولُ: سَمِعْت النَّوْفَلِيَّ يَعْنِي أبا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْت أبا عَبْدِ اللَّهِ أحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: “إذا رَوَيْنا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي الحَلالُ والحَرامِ شَدَّدْنا فِي الأسانِيدِ، وإذا رَوَيْنا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي فَضائِلِ الأعْمالِ وما لا يَضَعُ حُكْمًا ولا يَرْفَعُهُ تَساهَلْنا فِي الأسانِيدِ”.
وذَكَرَ هَذا النَّصَّ القاضِي أبُو الحُسَيْنِ فِي طَبَقاتِ أصْحابِنا فِي تَرْجَمَةِ النَّوْفَلِيِّ.
وذَكَرَ القاضِي فِي الجامِعِ الكَبِيرِ أنَّ الإمامَ أحْمَدَ ضَعَّفَ الأحادِيثَ الَّتِي فِيها: «أوَّلُ الوَقْتِ رِضْوانُ اللَّهِ، وآخِرُ الوَقْتِ عَفْوُ اللَّهِ». قالَ: وإذا ثَبَتَ أنَّ الحَدِيثَ ضَعِيفٌ لَمْ يُحْتَجَّ بِهِ عَلى الماءِ، ثُمَّ قالَهُ القاضِي مُجِيبًا لِمَن قالَ: إنّ العَفْوَ يَكُونُ مَعَ الإساءَةِ؛ فَيَقْتَضِي أنْ يَكُونَ مُسِيئًا بِتَأْخِيرِها ويَشْهَدُ لِهَذا أحادِيثُ.
قالَ الإمامُ أحْمَدُ فِي المُسْنَدِ: ثنا شُرَيْحٌ ثنا أبُو مَعْشَرٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ما جاءَكُمْ عَنِّي مِن خَيْرٍ قُلْته أوْ لَمْ أقُلْهُ فَأنا أقُولُهُ، وما أتاكُمْ مِن شَرٍّ فَإنِّي لا أقُولُ الشَّرَّ». أبُو مَعْشَرٍ اسْمُهُ نَجِيحٌ لَيِّنٌ مَعَ أنَّهُ صَدُوقٌ حافِظٌ ورَواهُ أبُو بَكْرٍ البَزّارُ مِن حَدِيثِهِ.
ورَوى الإمامُ أحْمَدُ أيْضًا عَنْ يَحْيى بْنِ آدَمَ ثنا ابْنُ أبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إذا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا تُنْكِرُونَهُ ولا تَعْرِفُونَهُ فَلا تُصَدِّقُوا؛ فَإنِّي لا أقُولُ ما يُنْكَرُ ولا يُعْرَفُ».
رَواهُ الدّارَقُطْنِيُّ وغَيْرُهُ مِن حَدِيثِ يَحْيى بْنِ آدَمَ فَقالَ عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عَنْ أبِيهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ولَعَلَّ أحْمَدَ رَواهُ هَكَذا وسَقَطَ مِن النُّسْخَةِ، وهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدُ الإسْنادِ.
وسَيَأْتِي فِي كَلامِ البَيْهَقِيّ فِي آخِرِ الفَصْلِ، وقالَ أحْمَدُ أيْضًا: ثنا أبُو عامِرٍ ثنا سُلَيْمانُ يَعْنِي ابْنَ بِلالٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أبِي حُمَيْدٍ وأبِي أسِيدٍ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إذا سَمِعْتُمْ الحَدِيثَ عَنِّي تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ، وتَلِينُ لَهُ أشْعارُكُمْ وأبْشارُكُمْ، وتَرَوْنَ أنَّهُ مِنكُمْ قَرِيبٌ فَأنا أوْلاكُمْ بِهِ. وإذا سَمِعْتُمْ الحَدِيثَ عَنِّي تُنْكِرُهُ قُلُوبُكُمْ، وتَنْفِرُ مِنهُ أشْعارُكُمْ وأبْشارُكُمْ، وتَرَوْنَ أنَّهُ مِنكُمْ بَعِيدٌ فَأنا أبْعَدُكُمْ مِنهُ». إسْنادٌ جَيِّدٌ ورَواهُ أبُو بَكْرٍ الخَلّالُ واَلَّذِي قَبْلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الإمامِ أحْمَدَ عَنْ أبِيهِ.
ورَوى البَيْهَقِيُّ الثّانِيَ مِن حَدِيثِ قُتَيْبَةَ عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ بِلالٍ ومِن حَدِيثِ الدَّراوَرْدِيِّ كِلاهُما عَنْ رَبِيعَةَ بِهِ قالَ، وتابَعَهُ عُمارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ، ووَقَعَ فِي رِوايَةِ البَيْهَقِيّ عَنْ أبِي حُمَيْدٍ أوْ أبِي أسِيدٍ بِالشَّكِّ قالَ: وهَذا أمْثَلُ إسْنادٍ رُوِيَ فِي هَذا البابِ.
وقالَ البُخارِيُّ فِي تارِيخِهِ: قالَ لَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صالِحٍ ثنا بَكْرٌ هُوَ ابْنُ مُضَرَ عَنْ عَمْرٍو هُوَ ابْنُ الحارِثِ عَنْ بُكَيْرٍ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأشَجِّ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ سَعِيدٍ حَدِيثُهُ عَنْ عَبّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أُبَيٍّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إذا بَلَغَكُمْ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ ما يُعْرَفُ ويُلِينُ الجِلْدَ، فَقَدْ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: الخَيْرَ، ولا يَقُولُ إلّا الخَيْرَ.» قالَ البُخارِيُّ وهَذا أصَحُّ مِن رِوايَةٍ عَنْهُ عَنْ أبِي حُمَيْدٍ أوْ أبِي أسِيدٍ قالَ البَيْهَقِيُّ: فَصارَ الحَدِيثُ المُسْنَدُ مَعْلُولًا.
وقالَ الحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ فِي جُزْئِهِ ثنا أبُو يَزِيدَ خالِدُ بْنُ حِبّانَ الرَّقِّيُّ عَنْ فُراتِ بْنِ سُلَيْمانَ وعِيسى بْنِ كَثِيرٍ كِلاهُما عَنْ أبِي رَجاءٍ عَنْ يَحْيى بْنِ أبِي كَثِيرٍ عَنْ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما – قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن بَلَغَهُ عَنْ اللَّهِ شَيْءٌ لَهُ فِيهِ فَضِيلَةٌ فَأخَذَ بِهِ إيمانًا ورَجاءَ ثَوابِهِ أعْطاهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ ذَلِكَ، وإنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ». خالِدٌ قَوّاهُ الإمامُ أحْمَدُ وجَماعَةٌ وضَعَّفَهُ الفَلّاسُ. وأمّا أبُو رَجاءٍ فَهُوَ مُحْرِزُ الجَزَرِيُّ فِيما أظُنُّ. قالَ ابْنُ حِبّانَ: لا يَجُوزُ الِاحْتِجاجُ بِخَبَرِهِ إذا انْفَرَدَ وذَكَرَهُ أيْضًا فِي الثِّقاتِ.
وقالَ: يُدَلِّسُ.
وقالَ: أبُو حاتِمٍ الرّازِيّ شَيْخٌ ثِقَةٌ.
وقالَ أبُو داوُد: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ ولَعَلَّ هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ، ويُحْتَمَلُ أنَّ أبا رَجاءٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَرَّرٍ بِراءَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ وهُوَ مَتْرُوكٌ بِالِاتِّفاقِ، لَكِنْ لَمْ أجِدْ أحَدًا ذَكَرَ لَهُ كُنْيَةً، ويُحْتَمَلُ أنَّهُ مَجْهُولٌ والأوَّلُ أشْبَهُ. وذَكَرَ ابْنُ الجَوْزِيِّ – رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى – فِي المَوْضُوعاتِ هَذا الحَدِيثَ مِن طَرِيقٍ ولَمْ يَذْكُرْهُ مِن هَذِهِ الطَّرِيقَةِ.
* وعَنْ الإمامِ أحْمَدَ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يُعْمَلُ بِالحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي الفَضائِلِ والمُسْتَحَبّات؛ ولِهَذا لَمْ يَسْتَحِبَّ صَلاةَ التَّسْبِيحِ لِضَعْفِ خَبَرِها عِنْدَهُ مَعَ أنَّهُ خَبَرٌ مَشْهُورٌ عَمِلَ بِهِ وصَحَّحَهُ غَيْرُ واحِدٍ مِن الأئِمَّةِ ولَمْ يَسْتَحِبَّ أيْضًا التَّيَمُّمَ بِضَرْبَتَيْنِ عَلى الصَّحِيحِ عَنْهُ مَعَ أنَّ فِيهِ أخْبارًا وآثارًا، وغَيْرَ ذَلِكَ مِن مَسائِلِ الفُرُوعِ، فَصارَتْ المَسْألَةُ عَلى رِوايَتَيْنِ عَنْهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَتَعَيَّنَ الثّانِي؛ لِأنَّهُ إذا لَمْ يُشَدِّدْ فِي الرِّوايَةِ فِي الفَضائِلِ لا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ ضَعِيفًا واهِيًا، ولا أنْ يُعْمَلَ بِهِ بِانْفِرادِهِ، بَلْ يَرْوِيهِ لِيَعْرِفَ ويُبَيِّنَ أمْرَهُ لِلنّاسِ أوْ يُعْتَبَرَ بِهِ ويُعْتَضَدَ بِهِ مَعَ غَيْرِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ يُحْمَلُ الأوَّلُ عَلى عَدَمِ الشِّعارِ وإنَّما تَرْكُ العَمَلِ بِالثّانِي لِما فِيهِ مِن الشِّعارِ، هُوَ مَعْنًى مُناسِبٌ واَللَّهُ أعْلَمُ.
وقالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَنْ قَوْلِ أحْمَدَ وعَنْ قَوْلِ العُلَماءِ فِي العَمَلِ بِالحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي فَضائِلِ الأعْمالِ قالَ: العَمَلُ بِهِ بِمَعْنى أنَّ النَّفْسَ تَرْجُو ذَلِكَ الثَّوابَ أوْ تَخافُ ذَلِكَ العِقابَ، ومِثالُ ذَلِكَ التَّرْغِيبُ والتَّرْهِيبُ بِالإسْرائِيلِيّاتِ والمَناماتِ وكَلِماتِ السَّلَفِ والعُلَماءِ ووَقائِعِ العالِمِ ونَحْوِ ذَلِكَ مِمّا لا يَجُوزُ إثْباتُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِهِ لا اسْتِحْبابٌ ولا غَيْرُهُ، لَكِنْ يَجُوزُ أنْ يُذْكَرَ فِي التَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ فِيما عُلِمَ حُسْنُهُ أوْ قُبْحُهُ بِأدِلَّةِ الشَّرْعِ فَإنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُ ولا يَضُرُّ، وسَواءٌ كانَ فِي نَفْسِ الأمْرِ حَقًّا أوْ باطِلًا إلى أنْ قالَ: فالحاصِلُ أنَّ هَذا البابَ يُرْوى ويُعْمَلُ بِهِ فِي التَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ لا فِي الِاسْتِحْبابِ، ثُمَّ اعْتِقادُ مُوجِبِهِ وهُوَ مَقادِيرُ الثَّوابِ والعِقابِ يَتَوَقَّفُ عَلى الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ.
وقالَ أيْضًا فِي شَرْحِ العُمْدَةِ فِي التَّيَمُّمِ بِضَرْبَتَيْنِ: والعَمَلُ بِالضِّعافِ إنّما يُشْرَعُ فِي عَمَلٍ قَدْ عُلِمَ أنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي الجُمْلَةِ، فَإذا رَغِبَ فِي بَعْضِ أنْواعِهِ بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ عُمِلَ بِهِ، أمّا إثْباتُ سُنَّةٍ فَلا، انْتَهى كَلامُهُ.
وأمّا العَمَلُ بِالضَّعِيفِ فِي الحَلالِ والحَرامِ قَدْ كانَ حَسَنًا فَإنَّهُ يُحْتَجُّ بِهِ، وقَدْ يُطْلِقُ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ أنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ ولَمْ يَكُنْ حَسَنًا لَمْ يُحْتَجَّ بِهِ كَما تَقَدَّمَ.
وقَدْ قالَ الإمامُ أحْمَدُ فِي رِوايَةِ مُهَنّا: «النّاسُ أكْفاءٌ إلّا حائِكٌ أوْ حَجّامٌ أوْ كَسّاحٌ» هُوَ ضَعِيفٌ والعَمَلُ عَلَيْهِ.
وقالَ القاضِي أبُو الخَطّابِ: مَعْنى قَوْلِهِ: ضَعِيفٌ عَلى طَرِيقَةِ أصْحابِ الحَدِيثِ؛ لِأنَّهُمْ يُضَعِّفُونَ بِالإرْسالِ والتَّدْلِيسِ والعَنْعَنَةِ، وقَوْلُهُ: والعَمَلُ عَلَيْهِ عَلى طَرِيقَةِ الفُقَهاءِ؛ لِأنَّهُمْ لا يُضَعِّفُونَ بِذَلِكَ.
وذَكَرَ أبُو بَكْرٍ الخَلّالُ فِي التَّيَمُّمِ مِن جامِعِهِ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ بُجْدانَ عَنْ أبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وضُوءُ المُسْلِمِ» إنّ أحْمَدَ لَمْ يَمِلْ إلَيْهِ قالَ: لِأنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ عَمْرَو بْنَ بُجْدانَ، وحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ بُجْدانَ هُوَ حَدِيثٌ تَفَرَّدَ بِهِ أهْلُ البَصْرَةِ ولَوْ كانَ عِنْدَ أبِي عَبْدِ اللَّهِ صَحِيحًا لَقالَ بِهِ، ولَكِنَّهُ كانَ مَذْهَبُهُ إذا ضَعُفَ إسْنادُ الحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مالَ إلى قَوْلِ أصْحابِهِ، وإذا ضَعُفَ إسْنادُ الحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ولَمْ يَكُنْ لَهُ مُعارِضٌ قالَ بِهِ فَهَذا كانَ مَذْهَبُهُ.
وقالَ الخَلّالُ أيْضًا فِي الجامِعِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ فِي كَفّارَةِ وطْءِ الحائِضِ قالَ كَأنَّهُ يَعْنِي الإمامَ أحْمَدَ: أحَبَّ أنْ لا يَتْرُكَ الحَدِيثَ وإنْ كانَ مُضْطَرِبًا؛ لِأنَّ مَذْهَبَهُ فِي الأحادِيثِ إذا كانَتْ مُضْطَرِبَةً، ولَمْ يَكُنْ لَها مُخالِفٌ قالَ بِها.
وقالَ القاضِي أبُو يَعْلى فِي التَّعْلِيقِ فِي حَدِيثِ مُظاهِرِ بْنِ أسْلَمَ: فِي أنَّ عِدَّةَ الأمَةِ قُرْءانِ، مُجَرَّدُ طَعْنِ أصْحابِ الحَدِيثِ لا يُقْبَلُ حَتّى يُبَيِّنُوا جِهَتَهُ مَعَ أنَّ أحْمَدَ يَقْبَلُ الحَدِيثَ الضَّعِيفَ انْتَهى كَلامُهُ.
والمَشْهُورُ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ أنَّ الحَدِيثَ الضَّعِيفَ لا يُحْتَجُّ بِهِ فِي الواجِباتِ والمُحَرَّماتِ بِتَجَرُّدِهِ، وهَذا مَعْرُوفٌ فِي كَلامِ أصْحابِنا، وأمّا إذا كانَ حَسَنًا فَإنَّهُ يُحْتَجُّ بِهِ كَما سَبَقَ قالَ تَعالى ﴿وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا﴾ [الحشر ٧].
قالَ المُفَسِّرُونَ: وهَذا وإنْ كانَ نازِلًا فِي أمْوالِ الفَيْءِ فَهُوَ عامٌّ فِي كُلِّ ما أمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ ونَهى عَنْهُ، والأخْبارُ فِي هَذا المَعْنى مَشْهُورَةٌ صَحِيحَةٌ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ كَخَبَرِ المِقْدادِ بْنِ مَعْدِي كَرِبٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «ألا إنِّي أُوتِيت الكِتابَ ومِثْلَهُ مَعَهُ، ألا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعانُ عَلى أرِيكَتِهِ فَيَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذا القُرْآنِ. فَما وجَدْتُمْ فِيهِ مِن حَلالٍ فَأحِلُّوهُ وما وجَدْتُمْ فِيهِ مِن حَرامٍ فَحَرِّمُوهُ». وذَكَرَ الحَدِيثَ رَواهُ أبُو داوُد بِإسْنادِهِ.
ورَواهُ الإمامُ أحْمَدُ ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ ثنا مُعاوِيَةُ بْنُ صالِحٍ ثنا الحَسَنُ بْنُ جابِرٍ أنَّهُ سَمِعَ المِقْدامَ فَذَكَرَهُ مَرْفُوعًا، ولَفْظُهُ: «يُوشِكُ أنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ مِنكُمْ عَلى أرِيكَتِهِ يُحَدِّثُ بِحَدِيثِي فَيَقُولُ: بَيْنِي وبَيْنَكُمْ كِتابُ اللَّهِ فَما وجَدْنا فِيهِ حَلالًا اسْتَحْلَلْناهُ، وما وجَدْنا فِيهِ حَرامًا حَرَّمْناهُ. إنّ ما حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَما حَرَّمَ اللَّهُ.» ورَواهُ ابْنُ ماجَهْ والتِّرْمِذِيُّ وقالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، والبَيْهَقِيُّ وقالَ: إسْنادُهُ صَحِيحٌ.
ورَوى أبُو داوُد عَنْ أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، والنُّفَيْلِيِّ عَنْ سُفْيانَ عَنْ أبِي النَّضْرِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي رافِعٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «لا أُلْفِيَنَّ أحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلى أرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأمْرُ مِن أمْرِي مِمّا أمَرْتُ بِهِ أوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لا نَدْرِي، ما وجَدْناهُ فِي كِتابِ اللَّهِ اتَّبَعْناهُ». حَدِيثٌ صَحِيحٌ. ورَواهُ ابْنُ ماجَهْ والتِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ.
ورَوى الخَطِيبُ فِي كِفايَةِ الكِفايَةِ عَنْ الأوْزاعِيِّ عَنْ مَكْحُولِ أنَّهُ قالَ: القُرْآنُ أحْوَجُ إلى السُّنَّةِ مِن السُّنَّةِ إلى القُرْآنِ.
وقالَ يَحْيى بْن أبِي كَثِيرِ: السُّنَّةُ قاضِيَةٌ عَلى الكِتابِ ولَيْسَ الكِتابُ قاضِيًا عَلى السُّنَّةِ.
وقالَ الأوْزاعِيُّ عَنْ حَسّانِ بْنِ عَطِيَّةَ كانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ والسُّنَّةُ تُفَسِّرُ القُرْآنَ.
وقالَ أيُّوبُ السِّخْتِيانِيُّ إذا حُدِّثَ الرَّجُلُ بِالسُّنَّةِ فَقالَ: دَعْنا مِن هَذا حَدِّثْنا مِن القُرْآنِ فاعْلَمْ أنَّهُ ضالٌّ مُضِلٌّ. وقالَ الأوْزاعِيُّ قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطاعَ اللَّهَ﴾ [النساء ٨٠]. وقالَ ﴿وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الحشر ٧].
وقالَ مالِكُ: ما مِن أحَدٍ إلّا يُؤْخَذُ مِن قَوْلِهِ ويُتْرَكُ إلّا قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. وقالَهُ قَبْلَهُ مُجاهِدٌ والشَّعْبِيُّ وقالَ الشّافِعِيُّ: إذا صَحَّ الحَدِيثُ فاضْرِبُوا بِقَوْلِي هَذا الحائِطَ.
وقالَ الأوْزاعِيُّ: قالَ القاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ: ما تُوُفِّيَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وهُوَ حَرامٌ فَهُوَ حَرامٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وما تُوُفِّيَ عَنْهُ وهُوَ حَلالٌ فَهُوَ حَلالٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. وخَطَبَ بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ.
وقَدْ رَوى أبُو داوُد: «أنَّ عُمَرَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – سُئِلَ عَنْ المَرْأةِ تَحِيضُ بَعْدَ ما طافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ فَأفْتى بِأنَّها لا تَرْحَلُ حَتّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِها بِالبَيْتِ، فَقالَ لَهُ السّائِلُ: إنِّي سَألْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأذِنَ لَها، فَجَعَلَ عُمَرُ يَضْرِبُهُ بِالدُّرَّةِ. ويَقُولُ لَهُ: ويْلُكَ تَسْألُنِي عَنْ شَيْءٍ سَألْتَ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ».
وقَدْ قالَ البَيْهَقِيُّ فِي كِتابِ المَدْخَلِ: قالَ الشّافِعِيُّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قالَ بَعْضُ مَن رَدَّ الأخْبارَ: فَهَلْ تَجِدُ حَدِيثًا فِيهِ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ما جاءَكُمْ عَنِّي فاعْرِضُوهُ عَلى كِتابِ اللَّهِ، فَما وافَقَهُ فَأنا قُلْتُهُ، وما خالَفَهُ فَلَمْ أقُلْهُ» فَقُلْتُ لَهُ: ما رَوى هَذا أحَدٌ يَثْبُتُ حَدِيثُهُ فِي صَغِيرٍ ولا كَبِيرٍ، وقَدْ رُوِيَ مِن طَرِيقٍ مُنْقَطِعَةٍ عَنْ رَجُلٍ مَجْهُولٍ، ونَحْنُ لا نَقْبَلُ مِثْلَ هَذِهِ الرِّوايَةِ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ قالَ الشّافِعِيُّ: قالَ أبُو يُوسُفَ: حَدَّثَنا خالِدُ بْنُ أبِي كَرِيمَةَ عَنْ أبِي جَعْفَرٍ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أنَّهُ دَعا اليَهُودَ فَسَألَهُمْ فَحَدَّثُوهُ حَتّى كَذَبُوا عَلى عِيسى فَصَعِدَ النَّبِيُّ ﷺ المِنبَرَ فَخَطَبَ النّاسَ فَقالَ: إنّ الحَدِيثَ سَيَفْشُو عَنِّي، فَما أتاكُمْ عَنِّي فَوافَقَ القُرْآنَ فَهُوَ عَنِّي، وما أتاكُمْ عَنِّي فَخالَفَ القُرْآنَ فَلَيْسَ عَنِّي». قالَ الشّافِعِيُّ: ولَيْسَ يُخالِفُ الحَدِيثُ القُرْآنَ ولَكِنَّهُ يُبَيِّنُ مَعْنى ما أرادَ: خاصًّا وعامًّا، وناسِخًا ومَنسُوخًا، ثُمَّ يُلْزِمُ النّاسَ ما سُنَّ بِفَرْضِ اللَّهِ، فَمَن قَبِلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَعَنْ اللَّهِ قَبِلَ، واحْتَجَّ بِالآياتِ الوارِداتِ فِي ذَلِكَ.
قالَ البَيْهَقِيُّ: وكَأنَّ الشّافِعِيَّ أرادَ بِالمَجْهُولِ خالِدَ بْنَ أبِي كَرِيمَةَ فَلَمْ يُعْرَفْ مِن حالِهِ ما يَثْبُتُ بِهِ خَبَرُهُ، وقَدْ رُوِيَ مِن أوْجُهٍ أُخَرَ كُلُّها ضَعِيفَةٌ، ثُمَّ ساقَهُ مِن طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ كُلُّها ضَعِيفَةٌ كَما قالَ، فَمِنها ما رَواهُ مِن طَرِيقِ حَنْبَلِ بْن إسْحاقَ ثنا جُبارَةُ بْنُ المُفْلِسِ ثنا أبُو بَكْرِ بْنُ عَيّاشٍ عَنْ عاصِمِ بْن أبِي النَّجُودِ عَنْ زَرٍّ عَنْ عَلِيٍّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قالَ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنّها تَكُونُ بَعْدِي رُواةٌ يَرْوُونَ عَنِّي الحَدِيثَ فاعْرِضُوا حَدِيثَهُمْ عَلى القُرْآنِ، فَما وافَقَ القُرْآنَ فَحَدِّثُوا بِهِ، وما لَمْ يُوافِقْ القُرْآنَ فَلا تَأْخُذُوا».
قالَ الدّارَقُطْنِيُّ: والصَّوابُ عَنْ عاصِمٍ عَنْ زَيْدِ بْن عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.
قالَ البَيْهَقِيُّ: أنْبَأنا أبُو عَبْدِ اللَّهِ الحافِظُ أنْبَأنا الحَسَنُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ العَدْلُ حَدَّثَنا الحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيادَةَ ثنا إسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ أنْبَأنا يَحْيى بْنُ آدَمَ ثنا ابْنُ أبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قالَ: إذا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا تَعْرِفُونَهُ ولا تُنْكِرُوا، قُلْتُهُ أوْ لَمْ أقُلْهُ فَصَدِّقُوا بِهِ، فَإنِّي أقُولُ ما يُعْرَفُ ولا يُنْكَرُ، وإذا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا تُنْكِرُونَهُ ولا تَعْرِفُونَهُ فَلا تُصَدِّقُوا بِهِ فَإنِّي لا أقُولُ ما يُنْكَرُ ولا يُعْرَفُ. ثُمَّ رُوِيَ عَنْ الإمامِ أبِي بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ أنَّهُ قالَ فِي صِحَّةِ هَذا الخَبَرِ مَقالٌ لَمْ نَرَ فِي شَرْقِ الأرْضِ ولا غَرْبِها أحَدًا يَعْرِفُ خَبَرَ ابْنِ أبِي ذِئْبٍ مِن غَيْرِ رِوايَةِ يَحْيى بْنِ آدَمَ ولا رَأيْتَ أحَدًا مِن عُلَماءِ الحَدِيثِ يُثْبِتُ هَذا عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ.
وقالَ عَبّاسُ الدُّورِيُّ عَنْ يَحْيى بْنِ مَعِينٍ كانَ يَحْيى بْنُ آدَمَ يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ أبِي ذِئْبٍ بِهَذا الحَدِيثِ وغَيْرِهِ يَرْوِيهِ عَنْ ابْنِ أبِي ذِئْبٍ مُرْسَلًا.
وقالَ البُخارِيُّ: قالَ إبْراهِيمُ بْنُ طَهْمانَ عَنْ ابْنِ أبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ فَذَكَرَ هَذا الحَدِيثَ مُرْسَلًا قالَ البُخارِيُّ: وهُوَ وهْمٌ لَيْسَ فِيهِ أبُو هُرَيْرَةَ وسَبَقَ بِنَحْوِ ثَلاثَةِ كَرارِيسَ فِي مَعْرِفَةِ عِلَلِ الحَدِيثِ.
ورَواهُ البَيْهَقِيُّ عَنْ الحاكِمِ عَنْ الأصَمِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الحَكَمِ عَنْ ابْنِ وهْبٍ عَنْ الحارِثِ بْنِ نَبْهانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ما بَلَغَكُمْ عَنِّي مِن حَدِيثٍ حَسَنٍ لَمْ أقُلْهُ فَأنا قُلْتُهُ». قالَ الحاكِمُ: هَذا باطِلٌ والحارِثُ بْنُ نَبْهانَ ومُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ العَرْزَمِيُّ مَتْرُوكانِ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ مُرْسَلٌ فاحِشٌ، ثُمَّ ذَكَرَ البَيْهَقِيُّ حَدِيثَ أبِي حُمَيْدٍ وأبِي أسِيدٍ السّابِقَ.
ويَجِبُ أنْ يُحْمَلَ ما صَحَّ مِن الأخْبارِ عَلى أحْسَنِ الوُجُوهِ وأوْلاهُما وقَدْ ذَكَرْتُ فِي مَكان آخَرَ قَوْلَ عُمَرَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا تَظُنَّ كَلِمَةً خَرَجَتْ مِن أخِيكَ شَرًّا وأنْتَ تَجِدَ لَها فِي الخَيْرِ مَحْمَلًا.
وقالَ عَلِيٌّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – إذا حَدَّثْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ شَيْئًا فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي هُوَ عَدْلٌ واَلَّذِي هُوَ أهْنَأُ واَلَّذِي هُوَ أنْقى، وسَبَقَ ما يَتَعَلَّقُ بِعِلَلِ الحَدِيثِ بِنَحْوِ كُرّاسَيْنِ أوْ ثَلاثَةٍ. انتهى [الآداب الشرعية والمنح المرعية لابن مفلح رحمه الله].
علق على ذلك الشيخ شعيب الأرنؤوط رحمه الله في [الآداب الشرعية (2/423-424)]، الحاشية بقوله: “نقل الحافظ السخاوي في خاتمة القول البديع عن الإمام النووي قول المحدثين والفقهاء باستحباب العمل في الفضائل والترغيب والترهيب بالحديث الضعيف لا الموضوع، ونقل عن القاضي ابن العربي المالكي: عدم جواز العمل مطلقا، ثم ذكر أن أستاذه الحافظ ابن حجر قال – وكتب له بخط يده -، أن شرائط العمل بالضعيف ثلاثة:
الأول: -متفق عليه-: أن يكون الضعف غير شديد فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب ومن فحش غلطه.
والثاني: أن يكون مندرجا تحت أصل عام، فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصلا.
والثالث: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته؛ لئلا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله.
والأخيران عن عبد السلام وعن صاحبه ابن دقيق العيد والأول نقل العلائي الاتفاق عليه”. انتهى. ثم نقل السخاوي أنه روي عن الإمام أحمد أنه يعمل بالضعيف إذا لم يوجد غيره، ولم يكن ثم ما يعارضه.
وهذا شرط آخر لم ينتبه له الحافظ ابن حجر إلى شرطيته.
والعمدة في مذهب أحمد ما نقله المصنف هنا، فإنه أعلم بمذهبه، كما شهد له ابن القيم وكفى بشهادته”. انتهى.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله بعد أن أورد الحديث: “هَذا [حَدِيثٌ] جَيِّدُ الإسْنادِ، لَمْ يُخْرِجْهُ أحَدٌ مِن أصْحابِ الكُتُبِ [السِّتَّةِ].
وقالَ الإمامُ أحْمَدُ: حَدَّثَنا أبُو مُعاوِيَةَ، حَدَّثَنا الأعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أبِي البَخْتَرِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قالَ: إذا حُدِّثْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَدِيثًا، فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي هُوَ أهْدى، والَّذِي هُوَ أهْنا، [والَّذِي هُوَ أنْجى] والَّذِي هو أتقى.
ثم رواه عن يحيى عن بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أبِي البَخْتَرِيِّ، عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قالَ: إذا حُدِّثْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَدِيثًا، فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي هُوَ أهْداهُ وأهْناهُ وأتْقاهُ”. انتهى المراد. [تفسير سورة الأعراف (١٥٧)، القرآن العظيم، ت سلامة].
(المسألة الرابعة):
قال الشاطبي رحمه الله في (الموافقات):
قَدْ خَرَّجَ فِي مَعْنى هَذا الحَدِيثِ الطَّحاوِيُّ فِي كِتابِهِ فِي بَيانِ «مُشْكِلِ الحَدِيثِ» عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سُوِيدٍ الأنْصارِيِّ عَنْ أبِي حُمَيْدٍ وأبِي أُسَيْدٍ؛ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: «إذا سَمِعْتُمُ الحَدِيثَ عَنِّي تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ، وتَلِينُ لَهُ أشْعارُكُمْ وأبْشارُكُمْ، وتَرَوْنَ أنَّهُ مِنكُمْ قَرِيبٌ؛ فَأنا أوْلاكُمْ بِهِ، وإذا سَمِعْتُمْ بِحَدِيثٍ عَنِّي تُنْكِرُهُ قُلُوبُكُمْ، وتَنِدُّ مِنهُ أشْعارُكُمْ وأبْشارُكُمْ، وتَرَوْنَ أنه منكر؛ فأنا أبعدكم منه».
ورُوِيَ أيْضًا عَنْ عَبْدِ المَلِكِ المَذْكُورِ عَنْ عَبّاسِ بْنِ سَهْلٍ؛ أنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ كانَ فِي مَجْلِسٍ، فَجَعَلُوا يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالمُرَخَّصِ والمُشَدَّدِ وأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ساكِتٌ، فَلَمّا فَرَغُوا؛ قالَ: «أيْ هَؤُلاءِ! ما حَدِيثٌ بَلَغَكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَعْرِفُهُ القَلْبُ، ويَلِينُ لَهُ الجِلْدُ، وتَرْجُونَ عِنْدَهُ؛ فَصَدِّقُوا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَإنَّ رَسُولَ اللَّهِ لا يَقُولُ إلّا الخَيْرَ».
وبَيَّنَ وجْهَ ذَلِكَ الطَّحاوِيُّ أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ فِي كِتابِهِ: ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ الآيَةَ [الأنْفالِ: ٢]. وقالَ: ﴿مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ الآيَةَ [الزمر ٢٣]. وقالَ: ﴿وإذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾ الآيَةَ [المائِدَةِ: ٨٣].
فَأخْبَرَ عَنْ أهْلِ الإيمانِ بِما هُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ سَماعِ كَلامِهِ، وكانَ ما يُحَدِّثُونَ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِن جِنْسِ ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ كُلَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ؛ فَفِي كَوْنِهِمْ عِنْدَ الحَدِيثِ عَلى ما يَكُونُونَ عَلَيْهِ عِنْدَ سَماعِ القُرْآنِ دَلِيلٌ عَلى صِدْقِ ذَلِكَ الحَدِيثِ، وإنْ كانُوا بِخِلافِ ذَلِكَ؛ وجَبَ التَّوَقُّفُ لِمُخالَفَتِهِ ما سِواهُ.
وما قالَهُ يَلْزَمُ مِنهُ أنْ يَكُونَ الحَدِيثُ مُوافِقًا لا مُخالِفًا فِي المَعْنى؛ إذْ لَوْ خالَفَ لَما اقْشَعَرَّتِ الجُلُودُ، ولا لانَتِ القُلُوبُ؛ لِأنَّ الضِّدَّ لا يُلائِمُ الضِّدَّ ولا يُوافِقُهُ.
وخَرَّجَ الطَّحاوِيُّ أيْضًا عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ، عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «إذا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا تَعْرِفُونَهُ ولا تُنْكِرُونَهُ فَصَدِّقُوا بِهِ قُلْتُهُ أوْ لَمْ أقُلْهُ؛ فَإنِّي أقول ما يُعْرَفُ ولا يُنْكَرُ، وإذا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا تُنْكِرُونَهُ ولا تَعْرِفُونَهُ فَكَذِّبُوا بِهِ؛ فَإنِّي لا أقُولُ ما يُنْكَرُ ولا يُعْرَفُ».
ووَجْهُ ذَلِكَ: أنَّ المَرْوِيَّ إذا وافَقَ كِتابَ اللَّهِ وسنة نبيه لوجود معناه في ذَلِكَ؛ وجَبَ قَبُولُهُ لِأنَّهُ إنْ لَمْ يَثْبُتْ أنَّهُ قالَهُ بِذَلِكَ اللَّفْظِ؛ فَقَدْ قالَ مَعْناهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الألْفاظِ، إذْ يَصِحُّ تَفْسِيرُ كَلامِهِ -عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- لِلْأعْجَمِيِّ بِكَلامِهِ، وإذا كانَ الحَدِيثُ مُخالِفًا يُكَذِّبُهُ القُرْآنُ والسُّنَّةُ؛ وجَبَ أنْ يُدْفَعَ، ويُعْلَمَ أنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ، وهَذا مِثْلُ ما تَقَدَّمَ أيْضًا.
والحاصِلُ مِنَ الجَمِيعِ: صِحَّةُ اعْتِبارِ الحَدِيثِ بِمُوافَقَةِ القُرْآنِ وعَدَمِ مُخالَفَتِهِ، وهُوَ المَطْلُوبُ عَلى فَرْضِ صِحَّةِ هَذِهِ المَنقُولاتِ، وأمّا إنْ لَمْ تَصِحَّ؛ فَلا عَلَيْنا إذِ المَعْنى المَقْصُودُ صَحِيحٌ، ويُحَقِّقُ ذَلِكَ ما تَقَدَّمَ فِي المَسْألَةِ الثّانِيَةِ مِنَ الطَّرَفِ الأوَّلِ مِن كِتابِ الأدِلَّةِ؛ فَفِي ذَلِكَ المَوْضِعِ مِن أمْثِلَةِ هَذا الأصْلِ فِي المُوافَقَةِ والمُخالَفَةِ جُمْلَةٌ كافِيَةٌ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وإذا ثَبَتَ هَذا؛ بَقِيَ النَّظَرُ فِي الوَجْهِ الَّذِي دَلَّ الكِتابُ بِهِ عَلى السُّنَّةِ؛ حَتّى صارَ مُتَضَمِّنًا لِكُلِّيَّتِها فِي الجُمْلَةِ، وإنْ كانَتْ بَيانًا لَهُ فِي التَّفْصِيلِ”. انتهى. انظر: شرح مشكل الآثار، (15/344 وما بعدها).