2691 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي ، وطارق أبو تيسير وعبدالملك وعبدالله المشجري وأحمد بن علي وعبدالحميد البلوشي وعبدالله الديني
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
١٠ – بابُ فَضْلِ التَّهْلِيلِ والتَّسْبِيحِ والدُّعاءِ
٢٨ – (٢٦٩١) حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ يَحْيى، قالَ: قَرَأْتُ عَلى مالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أبِي صالِحٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، قالَ: «مَن قالَ: لا إلَهَ إلّا اللهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ وهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقابٍ، وكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ ومُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وكانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطانِ، يَوْمَهُ ذَلِكَ، حَتّى يُمْسِيَ ولَمْ يَأْتِ أحَدٌ أفْضَلَ مِمّا جاءَ بِهِ إلّا أحَدٌ عَمِلَ أكْثَرَ مِن ذَلِكَ، ومَن قالَ: سُبْحانَ اللهِ وبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطاياهُ ولَوْ كانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ»
٢٩ – (٢٦٩٢) حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ الأُمَوِيُّ، حَدَّثَنا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ المُخْتارِ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أبِي صالِحٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَن قالَ: حِينَ يُصْبِحُ وحِينَ يُمْسِي: سُبْحانَ اللهِ وبِحَمْدِهِ، مِائَةَ مَرَّةٍ، لَمْ يَأْتِ أحَدٌ يَوْمَ القِيامَةِ، بِأفْضَلَ مِمّا جاءَ بِهِ، إلّا أحَدٌ قالَ مِثْلَ ما قالَ أوْ زادَ عَلَيْهِ».
٣٠ – (٢٦٩٣) حَدَّثَنا سُلَيْمانُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ أبُو أيُّوبَ الغَيْلانِيُّ، حَدَّثَنا أبُو عامِرٍ يَعْنِي العَقَدِيَّ، حَدَّثَنا عُمَرُ وهُوَ ابْنُ أبِي زائِدَةَ، عَنْ أبِي إسْحاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، قالَ: «مَن قالَ: لا إلَهَ إلّا اللهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ وهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عَشْرَ مِرارٍ كانَ كَمَن أعْتَقَ أرْبَعَةَ أنْفُسٍ مِن ولَدِ إسْماعِيلَ» وقالَ سُلَيْمانُ: حَدَّثَنا أبُو عامِرٍ، حَدَّثَنا عُمَرُ، حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ أبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ رَبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ، بِمِثْلِ ذَلِكَ، قالَ: فَقُلْتُ لِلرَّبِيعِ: مِمَّنْ سَمِعْتَهُ؟ قالَ: مِن عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، قالَ فَأتَيْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ فَقُلْتُ: مِمَّنْ سَمِعْتُهُ؟ قالَ مِنِ ابْنِ أبِي لَيْلى، قالَ فَأتَيْتُ ابْنَ أبِي لَيْلى فَقُلْتُ: مِمَّنْ سَمِعْتُهُ؟ قالَ: مِن أبِي أيُّوبَ الأنْصارِيِّ يُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ
٣١ – (٢٦٩٤) حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وأبُو كُرَيْبٍ ومُحَمَّدُ بْنُ طَرِيفٍ البَجَلِيُّ، قالُوا: حَدَّثَنا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمارَةَ بْنِ القَعْقاعِ، عَنْ أبِي زُرْعَةَ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «كَلِمَتانِ خَفِيفَتانِ عَلى اللِّسانِ، ثَقِيلَتانِ فِي المِيزانِ، حَبِيبَتانِ إلى الرَّحْمَنِ: سُبْحانَ اللهِ وبِحَمْدِهِ، سُبْحانَ اللهِ العَظِيمِ»
٣٢ – (٢٦٩٥) حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، وأبُو كُرَيْبٍ، قالا: حَدَّثَنا أبُو مُعاوِيَةَ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أبِي صالِحٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَأنْ أقُولَ سُبْحانَ اللهِ، والحَمْدُ لِلَّهِ، ولا إلَهَ إلّا اللهُ، واللهُ أكْبَرُ، أحَبُّ إلَيَّ مِمّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ».
٣٣ – (٢٦٩٦) حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، وابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ مُوسى الجُهَنِيِّ، ح وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ – واللَّفْظُ لَهُ – حَدَّثَنا أبِي، حَدَّثَنا مُوسى الجُهَنِيُّ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أبِيهِ، قالَ: جاءَ أعْرابِيٌّ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقالَ: عَلِّمْنِي كَلامًا أقُولُهُ، قالَ: «قُلْ: لا إلَهَ إلّا اللهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، اللهُ أكْبَرُ كَبِيرًا، والحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، سُبْحانَ اللهِ رَبِّ العالَمِينَ، لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ» قالَ: فَهَؤُلاءِ لِرَبِّي، فَما لِي؟ قالَ: «قُلْ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي وارْحَمْنِي واهْدِنِي وارْزُقْنِي»، قالَ مُوسى: أمّا عافِنِي، فَأنا أتَوَهَّمُ وما أدْرِي، ولَمْ يَذْكُرِ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ فِي حَدِيثِهِ قَوْلَ مُوسى
٣٤ – (٢٦٩٧) حَدَّثَنا أبُو كامِلٍ الجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنا عَبْدُ الواحِدِ يَعْنِي ابْنَ زِيادٍ، حَدَّثَنا أبُو مالِكٍ الأشْجَعِيُّ، عَنْ أبِيهِ، قالَ: كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، يُعَلِّمُ مَن أسْلَمَ يَقُولُ: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي، وارْحَمْنِي، واهْدِنِي، وارْزُقْنِي»
٣٥ – (٢٦٩٧) حَدَّثَنا سَعِيدُ بْنُ أزْهَرَ الواسِطِيُّ، حَدَّثَنا أبُو مُعاوِيَةَ، حَدَّثَنا أبُو مالِكٍ الأشْجَعِيُّ، عَنْ أبِيهِ، قالَ: كانَ الرَّجُلُ إذا أسْلَمَ، عَلَّمَهُ النَّبِيُّ ﷺ الصَّلاةَ، ثُمَّ أمَرَهُ أنْ يَدْعُوَ بِهَؤُلاءِ الكَلِماتِ: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي، وارْحَمْنِي، واهْدِنِي، وعافِنِي وارْزُقْنِي»
٣٦ – (٢٦٩٧) حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ هارُونَ، أخْبَرَنا أبُو مالِكٍ، عَنْ أبِيهِ، أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ وأتاهُ رَجُلٌ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ أقُولُ حِينَ أسْألُ رَبِّي؟ قالَ: «قُلْ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي، وارْحَمْنِي، وعافِنِي، وارْزُقْنِي»، ويَجْمَعُ أصابِعَهُ إلّا الإبْهامَ» فَإنَّ هَؤُلاءِ تَجْمَعُ لَكَ دُنْياكَ وآخِرَتَكَ»
٣٧ – (٢٦٩٨) حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا مَرْوانُ، وعَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ مُوسى الجُهَنِيِّ، ح وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ – واللَّفْظُ لَهُ – حَدَّثَنا أبِي، حَدَّثَنا مُوسى الجُهَنِيُّ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي أبِي قالَ: كُنّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقالَ: «أيَعْجِزُ أحَدُكُمْ أنْ يَكْسِبَ، كُلَّ يَوْمٍ ألْفَ حَسَنَةٍ؟» فَسَألَهُ سائِلٌ مِن جُلَسائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ أحَدُنا ألْفَ حَسَنَةٍ؟ قالَ: «يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ ألْفُ حَسَنَةٍ، أوْ يُحَطُّ عَنْهُ ألْفُ خَطِيئَةٍ».
==========
التمهيد:
“لا شك أن ذكر الله بأي لفظ من الألفاظ وبأية صيغة من الصيغ لها أجرها وثوابها، لكن ذكره تعالى بالأذكار الواردة خير منه بالأذكار المؤلفة في الأوراد المشهورة المعروفة للطرق الصوفية، ومن المعلوم أن الأذكار الواردة يفضل بعضها بعضا للمعاني التي تتضمنها، ويكاد يكون التهليل خيرها وأفضلها فقد وعد عليه من الأجر أكثر مما وعد على غيره ثم هو يشمل معنى التسبيح الذي وعد به الخير الكثير،
ولا شك أن الاستغفار من خير الذكر وكذا الدعاء وله مناسبات وألفاظ واردة يستجاب لها ولها أجر كبير، ولا ننسى فضل الباقيات الصالحات نختم بها فنقول «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» «ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»”.
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
وقال في «الفتح»: هكذا في أكثر الروايات، وورد في بعضها زيادة: «يُحيي ويميت»، وفي أخرى زيادة: «بيده الخير»، وسيأتي بيان من زاد ذلك.
(فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ) وفي رواية عبد الله بن سعيد: «إذا أصبح»، ومثله في حديث أبي أمامة عند جعفر الفريابيّ في «الذكر»، ووقع في حديث أبي ذرّ تقييده بأن ذلك في دُبُر صلاة الفجر قبل أن يتكلم، لكن قال: «عشر مرات»، وفي سندهما شهر بن حوشب، وقد اختُلف عليه، وفيه مقال، قاله في «الفتح» [«الفتح» ١٤/ ٤٤٦].
(كانَتْ)؛ أي: هذه الكلمات، وللبخاريّ: «كان» بالتذكير؛ أي: هذا الذكر، (لَهُ عَدْلَ) بفتح العين؛ أي: مثل ثواب إعتاق (عَشْرِ) بسكون الشين،
(رِقابِ) قال الفرّاء: العدل بالفتح: ما عَدَل الشيءَ من غير جنسه، وبالكسر:
المِثلَ، ذكره في «الفتح».
وقال الفيّوميّ -رَحِمَهُ اللهُ-: عِدْلُ الشيءِ بالكسر: مِثله من جنسه، أو مقداره،
قال ابن فارس: والعِدْلُ: الذي يعادل في الوزن والقدر، وعَدْلُهُ بالفتح: ما يقوم مقامه من غير جنسه، ومنه قوله تعالى: ﴿أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيامًا﴾ [المائدة ٩٥] انتهى [«المصباح المنير» ٢/ ٣٩٦].
وقوله: (رِقابٍ) أي: يضاعَف ثوابها حتى يصير مثل أصل ثواب العتق المذكور [»مرقاة المفاتيح«٥/ ٢١٤].
وفي رواية عبد الله بن سعيد: «عدل رقبة»، ويوافقه رواية مالك حديث
البراء بلفظ: «من قال: لا إله إلا الله»، وفي آخره: «عشر مرات، كنّ له عدل
رقبة»، أخرجه النسائيّ، وصححه ابن حبان، والحاكم، ونظيره في حديث أبي
أيوب عند البخاريّ.
وأخرج جعفر الفِرْيابيّ في «الذكر» من طريق الزهريّ: أخبرني عكرمة بن محمد الدؤليّ؛ أن أبا هريرة قال: «من قالها فله عدل رقبة، ولا تعجزوا أن تستكثروا من الرقاب»، ومثله رواية سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، لكنه خالف في صحابيه، فقال: عن أبي عياش الزُّرَقيّ، أخرجه النسائيّ.
(وكتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، ومُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ)
قال الطيبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: جَعَل في هذا الحديث التهليل ماحيًا من السيئات مقدرًا معلومًا، وفي حديث التسبيح جعل التسبيح ماحيًا لها مقدار زبد البحر، فيلزم أن يكون التسبيح أفضل، وقد قال في حديث التهليل: «ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به».
أجاب القاضي عياض بأن التهليل المذكور في هذا الحديث أفضل، لأن جزاءه مشتمل على محو السيئات، وعلى عتق عشر رقاب، وعلى إثبات مائة حسنة، والحرز من الشيطان [»مرقاة المفاتيح” ٥/ ٢١٤].
وسيأتي ذكر مسألة التسبيح والتهليل وأيهما أفضل إن شاء الله تعالى.
(وكانَتْ لَهُ حِرْزًا) بكسر الحاء المهملة، وسكون الراء، وبالزاي؛ قال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: يعني: أن الله تعالى يحفظه من الشيطان في ذلك اليوم، فلا يقدر أن يَحمله على زلّة، أو وسوسة ببركة تلك الكلمات. انتهى.
وفي رواية عبد الله بن سعيد: «وحُفظ يومه حتى يمسي»، وزاد: «ومن قال مثل ذلك حين يمسى كان له مثل ذلك»، ومثل ذلك في طرق أخرى يأتي التنبيه عليها بعدُ.
(ولَمْ يَأْتِ أحَدٌ أفْضَلَ مِمّا جاءَ بِهِ) وللبخاريّ: «ولم يأت أحد بأفضل مما جاء»، (إلّا أحَدٌ عَمِلَ أكْثَرَ مِن ذَلِكَ) قال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: معنى «عَمِل»: قال، فسمّى القول عملًا، كما قد صرح به في الرواية الأخرى، والذِّكر من الأعمال التي لا تنفع إلا بالنيّة، والإخلاص. انتهى [«المفهم» ٧/ ٢١].
وفي رواية البخاريّ: «إلا رجل عَمِل أكثر منه»، وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه: «لم يجئ أحد بأفضل من عمله، إلا من قال أفضل من ذلك»، أخرجه النسائيّ بسند صحيح إلى عمرو، قال في «الفتح»: والاستثناء في قوله: «إلا رجل» منقطع، والتقدير: لكن رجل قال أكثر مما قاله، فانه يزيد عليه، ويجوز أن يكون الاستئناء متصلًا. انتهى [«الفتح» ١٤/ ٤٤٧، «كتاب الدعوات» رقم (٦٤٠٣)].
قال ابن عبد البرّ: فيه تنبيه على أن المائة كافية في الذكر، وأنه قلّ من يزيد عليه، وقال: إلا أحد؛ لئلا يُظَنّ أن الزيادة على ذلك ممنوعة، كتكرار العمل في الوضوء.
ويَحْتَمِل أن يريد: لا يأتي أحد من سائر أبواب البرّ بأفضل مما جاء به، إلا أحد عَمِل من هذا الباب أكثر من عمله، ونحوه قول القاضي عياض….
وظاهر إطلاق الحديث يقتضي أن الأجر يحصل لمن قال هذا التهليل في اليوم متواليًا، أو مفرَّقًا في مجلس، أو مجالس، في أول النهار، أو في آخره، لكن الأفضل أن يأتي به متواليًا في أول النهار؛ ليكون له حِرزًا في جميع نهاره، وكذا في أول الليل؛ ليكون له حرزًا في جميع ليله. انتهى [«شرح الزرقانيّ» ٢/ ٣٦].
(ومَن) شرطيّة جوابها قوله: «حُطّت خطاياه»،
(قالَ: سُبْحانَ اللهِ) معناه: تنزيهَ الله عما لا يليق به، من كل نقص، فيلزم نفي الشريك، والصاحبة، والولد، وجميع الرذائل، ويُطلق التسبيح، ويراد به جميع ألفاظ الذكر، ويُطلق، ويراد به صلاة النافلة،
و«سبحان» اسم منصوب على أنه واقع موقع المصدر لفعل محذوف، تقديره:
سَبحتُ الله سُبحانًا، كسبحت الله تسبيحًا، ولا يُستعمل غالبًا إلا مضافًا، وهو مضاف إلى المفعول؛ أي: سبحت اللهَ، ويجوز أن يكون مضافًا إلى الفاعل؛ أي: نَزَّه اللهُ نفسه، والمشهور الأول، وقد جاء غير مضاف في الشعر، كقوله: سُبْحانَهُ ثُمَّ سُبْحانًا أُنَزِّهُهُ [«الفتح» ١٤/ ٤٥٤، «كتاب الدعوات» رقم (٦٤٠٣)].
(وبِحَمْدِهِ) قيل: الواو للحال، والتقدير: أسبّح الله متلبسًا بحمدي له، من أجل توفيقه، وقيل: عاطفة، والتقدير: أسبّح الله، وأتلبّس بحمده، ويَحْتَمِل أن يكون الحمد مضافًا للفاعل، والمراد من الحمد: لازِمه، أو ما يوجب الحمد من التوفيق، ونحوه، ويَحْتَمِل أن تكون الباء متعلقة بمحذوف متقدم، والتقدير:
وأثني عليه بحمده، فيكون «سبحان الله» جملة مستقلّة، «وبحمده» جملة أخرى.
وقال الخطابيّ في حديث «سبحانك اللَّهُمَّ ربنا وبحمدك»: أي: بقوّتك التي هي نعمة توجب عليّ حمدك سبّحتك، لا بحولي، وبقوتي، كأنه يريد: أن ذلك مما أقيم فيه السبب مقام المسبَّب، قاله في «الفتح» [«الفتح» ١٣/ ٥٤١].
(فِي يَوْمٍ) متعلّق بـ «قال»، (مِائَةَ مَرَّةٍ) صفة لمصدر مقدّر؛ أي: قولًا مائة مرّة، (حُطَتْ) بالبناء للمفعول؛ أي: أزيلت، ومُحيت (خَطاياهُ) وفي نسخة: »حُطّت عنه خطاياه«، (ولَوْ كانَتْ) تلك الخطايا في الكثرة (مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ»)
«الزبد» بفتحتين: هو ما يعلو على وجه البحر عند هيجانه، واختصاص هذه الألفاظ بالذكر، واعتبار الأعداد المعيَّنة بحكمة تخصّها، لا يَطّلع عليها إلا من أمدّه الله تعالى بنور الوحي.
وقال في «الفتح»: زاد في رواية: «من قال حين يمسي، وحين يصبح»،
ويأتي في ذلك ما ذكره النوويّ من أن الأفضل أن يقول ذلك متواليًا في أول
النهار، وفي أول الليل والله تعالى أعلم.
وحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – هذا متّفقٌ عليه.
فوائد الحديث:
١ – (منها): بيان فضل الذكر بما جاء في هذا الحديث.
٢ – (ومنها): بيان أن الذكر فضله عظيم، وإن كان من الأفعال التي لا مشقّة فيها، بل هي متيسّرة على الجميع، حيث إنها تُفعل قيامًا، وقعودًا، وعلى الجُنوب، وماشيًا، ومشتغلًا بأشغال أخرى، ومع هذا كلّه يحصل بها من الأجر ما لا يحصل بالأعمال الشاقّة، بل هي أفضل من الجهاد، والإنفاق في سبيل الله، وغير ذلك من الأعمال، فقد أخرج الترمذيّ من حديث أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال: قال النبيّ ﷺ: “ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورِق، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟»، قالوا: بلى، قال: «ذِكر الله تعالى» [«جامع الترمذيّ» ٥/ ٤٥٩]، وهو حديث صحيح.
٣ – (ومنها): بيان سعة فضل الله -سُبْحانَهُ وتَعالى- على عباده حيث شرع لهم الذى هو ميسور لكلّ أحد، ورتّب عليه الثواب الجزيل، فيُدرك العبد في أيام معدودة من الأجر والثواب ما يُدركه في سنين مديدة بغيره من الأعمال، ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ [الحديد ٢١].
٤ – (ومنها): ما قاله النوويّ -رَحِمَهُ اللهُ-: هذا الحديث فيه دليل على أنه لو قال هذا التهليل أكثر من مائة مرة في اليوم، كان له هذا الأجر المذكور في الحديث على المائة، ويكون له ثواب آخر على الزيادة، وليس هذا من الحدود التي نُهي عن اعتدائها، ومجاوزة أعدادها، وأن زيادتها لا فضل فيها، أو تبطلها، كالزيادة في عدد الطهارة، وعدد ركعات الصلاة.
ويَحْتَمِل أن يكون المراد: الزيادة من أعمال الخير، لا من نفس التهليل.
ويَحْتَمِل أن يكون المراد: مطلق الزيادة، سواء كانت من التهليل، أو من غيره، أو منه ومن غيره، وهذا الاحتمال أظهر، والله أعلم [«شرح النوويّ» ١٧/ ١٧].
٥ – (ومنها): ما قاله القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: وهذه الأجور العظيمة، والعوائد الجمة، إنما تحصل كاملة لمن قام بحق هذه الكلمات، فأحضر معانيها بقلبه، وتأمّلها بفهمه، واتضحت له معانيها، وخاض في بحار معرفتها، ورتع في رياض زهرتها، ووصل فيها إلى عين اليقين، فإنْ لم يكن، فإلى علم اليقين، وهذا هو الإحسان في الذكر، فإنّه من أعظم العبادات، وقد قال ﷺ فيما قدَّمناه في الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإنْ لم تكن تراه فإنّه يراك»، متَّفقٌ عليه.
ثم لمّا كان الذاكرون في إدراكاتهم، وفهومهم مختلفين، كانت أجورهم على ذلك، بحَسَب ما أدركوا، وعلى هذا يُنَزّل اختلاف مقادير الأجور، والثواب المذكور في أحاديث الأذكار، فإنك تجد في بعضها ثوابًا عظيمًا مضاعَفًا، وتجد تلك الأذكار بأعيانها في رواية أخرى أكثر، أو أقل، كما اتَّفَق هنا في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- المتقدّم، فإنّ فيه ما ذكرناه من الثواب، وتجد تلك الأذكار بأعيانها، وقد علّق عليها من ثواب عِتْق الرقاب أكثر مما علقه على حديث أبي هريرة، وذلك أنه قال في حديث أبي هريرة: «من قال ذلك في يوم مئة مرة كانت له عدل عشر رقاب»، وفي حديث أبي أيوب: «من قالها عشر مرات كانت له عدل أربع رقاب»، وعلى هذا فمن قال ذلك مائة مرة كانت له عدل أربعين رقبة، وكذلك تجده في غير هذه الأذكار، فيرجع الاختلاف الذي في الأجور لاختلاف أحوال الذاكرين، وبهذا يرتفع الاضطراب بين أحاديث هذا الباب [«المفهم» ٧/ ٢٠ – ٢١]، والله تعالى أعلم.
فصل:
قال القاضي عياض رَحِمَهُ اللهُ [«إكمال المعلم» ٨/ ١٩٢]: قوله: «حُطّت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر»، مع قوله في التهليل: «مُحيت عنه مائة سيئة» قد يُشعر بأفضلية التسبيح على التهليل؛ يعني: لأن عدد زبد البحر أضعاف أضعاف المائة، لكن تقدّم في التهليل: «ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به»، فيَحْتَمِل أن يُجمع بينهما بأن يكون التهليل أفضل، وأنه بما زِيد من رَفْع الدرجات، وكَتْب
الحسنات، ثم ما جُعل مع ذلك من فضل عتق الرقاب، قد يزيد على فضل التسبيح، وتكفيره جميع الخطايا؛ لأنه قد جاء: من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو مثها عضوًا منه من النار، فحصل بهذا العتق تكفير جميع الخطايا عمومًا بعد حصر ما عدّد منها خصوصًا، مع زيادة مائة درجة، وما زاده عتق الرقاب الزيادة على الواحدة، ويؤيده الحديث الآخر: «أفضل الذكر التهليل»، وأنه أفضل ما قاله، والنبيّون من قبله، وهو كلمة التوحيد، والإخلاص، وقيل: إنه اسم الله الأعظم، وقد مَضى شرح التسبيح، وأنه التنزيه عما لا يليق بالله تعالى، وجميع ذلك داخل في ضمن: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير». انتهى ملخصًا.
قال الحافظ: وحديث: «أفضل الذكر لا إله إلا الله» أخرجه الترمذيّ،
والنسائيّ، وصححه ابن حبان، والحاكم، من حديث جابر -رضي الله عنه-، ويعارضه في الظاهر حديث أبي ذرّ: «قلت: يا رسول الله، أخبرني بأحبّ الكلام إلى الله،
قال: إن أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده»، أخرجه مسلم، وفي
رواية: «سئل: أيّ الكلام أفضل؛ قال: ما اصطفاه الله لملائكته: سبحان الله
وبحمده».
وقال الطيبيّ رَحِمَهُ اللهُ: في الكلام على حديث أبي ذر -رضي الله عنه- فيه تلميح بقوله
تعالى حكاية عن الملائكة: ﴿ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة ٣٠]
ويمكن أن يكون قوله: «سبحان الله وبحمده» مختصرًا من الكلمات الأربع،
وهي: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»؛ لأن «سبحان الله»
تنزيهٌ له عما لا يليق بجلاله، وتقديس لصفاته من النقائص، فيندرج فيه معنى
«لا إله إلا الله»، وقوله: «وبحمده» صريح في معنى «والحمد لله»؛ لان الإضافة
فيه بمعنى اللام في الحمد، ويستلزم ذلك معنى «الله أكبر»؛ لأنه إذا كان كل
الفضل والإفضال لله، ومن الله، وليس من غيره شيء من ذلك، فلا يكون أحد
أكبر منه، ومع ذلك كله فلا يلزم أن يكون التسبيح أفضل من التهليل؛ لأن
التهليل صريح في التوحيد، والتسبيح متضمن له، ولأن نفي الآلهة في قول:
«لا إله» نفي لمضمونها، مِن فِعل الخلق، والرزق، والإثابة، والعقوبة، وقول:
«إلا الله» إثبات لذلك، ويلزم منه نفي ما يضادّه، ويخالفه، من النقائص،
فمنطوق «سبحان الله» تنزيه، ومفهومه توحيد، ومنطوق «لا إله إلا الله» توحيد،
ومفهومه تنزيه؛ يعني: فيكون «لا إله إلا الله» أفضل؛ لأن التوحيد أصل،
والتنزيه ينشأ عنه، والله أعلم.
وقد جمع القرطبيّ رَحِمَهُ اللهُ [«المفهم» ٧/ ١٩] بما حاصله: أن هذه الأذكار إذا أُطلق على بعضها أنه أفضل الكلام، أو أحبه إلى الله، فالمراد: إذا انضمت إلى أخواتها، بدليل حديث سمرة -رضي الله عنه- عند مسلم: «أحب الكلام إلى الله أربع، لا يضرك بأيهنّ بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»، ويَحْتَمِل
أن يُكتَفى في ذلك بالمعنى، فيكون من اقتصر على بعضها كفى؛ لأن حاصلها
التعظيم، والتنزيه، ومن نزَّهه فقد عظَّمه، ومن عظمه فقد نزهه. انتهى.
وقال النوويّ رَحِمَهُ اللهُ [«شرح النوويّ» ١٧/ ١٤]: هذا الإطلاق في الأفضلية محمول على كلام الآدميّ، وإلا فالقرآن أفضل الذكر.
وقال البيضاويّ: الظاهر أن المراد من الكلام: كلام البشر، فإن الثلاث الأُوَل، وإن وُجدت في القرآن، لكن الرابعة لم توجد فيه، ولا يفضل ما ليس فيه على ما هو فيه.
قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يُجمع بأن تكون «من» مضمرة في قوله: «أفضل
الذكر لا إله إلا الله»، وفي قوله: «أحب الكلام» بناءً على أن لفظ أفضل
وأحب متساويان في المعنى، لكن يظهر مع ذلك تفضيل «لا إله إلا الله»؛ لأنها
ذُكرت بالتنصيص عليها بالأفضلية الصريحة، وذُكرت مع أخواتها بالأحبية،
فحصل لها التفضيل تنصيصًا وانضمامًا، والله أعلم.
وأخرج الطبريّ من رواية سعيد بن أبي عروبة عن عبد الله بن باباه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «إن الرجل إذا قال: لا إله إلا الله، فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله عملًا حتى يقولها، وإذا قال: الحمد لله، فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبدٌ حتى يقولها».رواه الطبراني في»الدعاء«(١٦٠٢) مختصرًا، ورواه عبد الرزاق في»مصنفه«١١/ ٢٩٥ (٢٠٥٧٩) من طريق معمر، عن قتادة، عن عبد الله بن عمرو.
ومن طريق الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: «من قال: لا إله إلا الله، فليقل على إثرها: الحمد لله رب العالمين».
[تكميل]: أخرج النسائيّ بسند صحيح، عن أبي سعيد، عن النبيّ ﷺ:
«قال موسى: يا رب علِّمني شيئًا أذكرك به، قال: قل: لا إله إلا الله …»
الحديث، وفيه: «لو أن السماوات السبع، وعامرهنّ والأرضين السبع، جُعلن
في كِفّة، ولا إله إلا الله في كِفّة، لمالت بهنّ لا إله إلا الله»، فيؤخذ منه أن
الذكر بلا إله إلا الله أرجح من الذكر بالحمد لله.
ولا يعارضه حديث أبي مالك الأشعريّ -رضي الله عنه-، رفعه: «والحمد لله تملأ الميزان»، فإن الملء يدلّ على المساواة، والرجحانُ صريح في الزيادة، فيكون أولى، ومعنى «ملء الميزان»: أن ذاكرها يمتلئ ميزانه ثوابًا.
وقال ابن بطال رَحِمَهُ اللهُ: هذه الفضائل الواردة في فضل الذكر إنما هي لأهل الشرف في الدين، والكمال؛ كالطهارة من الحرام، والمعاصي العظام، فلا
تظنّ أن من أدمن الذكر، وأصرّ على ما شاءه من شهواته، وانتهك دين الله
وحرماته، أنه يلتحق بالمطهرين المقدسين، ويبلغ منازلهم بكلام أجراه على
لسانه، ليس معه تقوى، ولا عمل صالح، ويشهد له قوله تعالى: ﴿أمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أنْ نَجْعَلَهُمْ كالَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ ومَماتُهُمْ
ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١)﴾ [الجاثية ٢١]. انتهى [«شرح صحيح البخاريّ» لابن بطّال ١٠/ ١٣٤، و«الفتح» ١٧/ ٦٣٣]، والله تعالى أعلم.
(قالَ) عمرو بن ميمون راويًا عن ابن أبي ليلى، عن أبي أيوب -رضي الله عنه-، عن
النبيّ ﷺ: («مَن قالَ: لا إلَهَ إلّا اللهُ، وحْدَهُ، لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، ولَهُ
الحَمْدُ، وهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عَشْرَ مِرارٍ، كانَ كَمَن أعْتَقَ أرْبَعَةَ أنْفُسٍ مِن
ولَدِ إسْماعِيلَ») عليه السلام، إنما خصّ بالذكر ولد إسماعيل عليه السلام؛ لأن عِتق من كان من ولده له فضل على عتق غيره، وذلك لأن محمدًا، وإسماعيل، وإبراهيم -صلوات الله عليهم وسلامه- بعضهم من بعض، فمن كان من أولادهم فله شرف عظيم، ففي عِقته فضل جسيم [راجع: «عمدة القاري» ٢٣/ ٢٣]، والله تعالى أعلم.
وهذا الحديث متّفقٌ عليه.
حديث كلمتان خفيفتان على اللسان:
قال الترمذيّ: حسن، صحيح، غريب، قال الحافظ: وجه الغرابة فيه: ما ذكرته من تفرّد محمد بن فضيل، وشيخه، وشيخ شيخه، وصحابيه. انتهى [»الفتح«١٧/ ٦٣١،»كتاب التوحيد” رقم (٧٥٦٣)].
شرح الحديث:
و»سبحان الله … إلخ، «مبتدأ مؤخّر، والنكتة في تقديم الخبر: تشويق السامع
إلى المبتدأ، وكلما طال الكلام في وصْف الخبر حَسُن تقديمه؛ لأن كثرة الأوصاف الجميلة، تزيد السامع شوقًا. (خَفِيفَتانِ عَلى اللِّسانِ، ثَقِيلَتانِ فِي
المِيزانِ) وصَفهما بالخفة والثقل؛ لبيان قلة العمل، وكثرة الثواب
والميزان:
هو الذي يوزن به في القيامة أعمال العباد، وفي كيفيته أقوال، والأصح أنه
جسم محسوس، ذو لسان، وكِفّتين، والله تعالى يجعل الأعمال كالأعيان
موزونة، أو يوزن صحف الأعمال، أو العباد أنفسهم، أو ثواب أعمالهم،
والحقّ أن الكلّ يوزن؛ لأن النصوص وردت بكلّ ذلك، ذكره في «العمدة» [«عمدة القاري» ٢٣/ ٢٦].
وقال في «الفتح»: قوله: «خفيفتان» فيه إشارة إلى قلة كلامهما، وأحرفهما، ورشاقتهما، قال الطيبيّ: الخفة مستعارة للسهولة، وشبّه سهولة جريانها على اللسان بما خف على الحامل من بعض الأمتعة، فلا تتعبه، كالشيء الثقيل، وفيه إشارة إلى أن سائر التكاليف صعبة شاقّة على النفس ثقيلة، وهذه سهلة عليها، مع أنها تُثَقّل الميزان، كثقل الشاقّ من التكاليف.
وقد سئل بعض السلف عن سبب ثقل الحسنة، وخفة السيئة، فقال: لأن
الحسنة حضرت مرارتها، وغابت حلاوتها، فثقلت، فلا يحملنّك ثقلها على
تَرْكها، والسيئة حضرت حلاوتها، وغابت مرارتها، فلذلك خَفّت، فلا يحملنّك
خفتها على ارتكابها. انتهى [«الفتح» ١٧/ ٦٣٢].
(حَبِيبَتانِ)؛ أي: محبوبتان؛ والمعنى: محبوبٌ قائلهما، ومحبة الله للعبد تقدّم أنه حقيقة على ما يليق بجلاله.
(إلى الرَّحْمَنِ) إنما خصّ لفظ «الرحمن» من بين سائر الأسماء الحسنى؛
لأن المقصود من الحديث بيان سعة رحمة الله تعالى على عباده، حيث يجازي
على العمل القليل بالثواب الجزيل. انتهى [«عمدة القاري» ٢٣/ ٢٦].
وقال في «الفتح»: وفي هذه الألفاظ الثلاثة سجع مستعذب، وقد ورد
النهي عنه، وهو محمول على ما كان متكلَّفًا، أو متضمِّنًا لباطل، لا ما جاء
عَفْوًا، عن غير قصد إليه. انتهى [«الفتح» ١٧/ ٦٣١ – ٦٣٢].
[تنبيه]:
قال الكرمانيّ رَحِمَهُ اللهُ: صفات الله وجودية؛ كالعلم، والقدرة، وهي صفات الإكرام، وعدمية، كلا شريك له، ولا مثل له، وهي صفات الجلال، فالتسبيح إشارة إلى صفات الجلال، والتحميد إشارة إلى صفات الإكرام، وتَرْك التقييد مشعر بالتعميم؛ والمعنى: أنزهه عن جميع النقائص وأحمده بجميع الكمالات، قال: والنظم الطبيعيّ يقتضي تقديم التخلية على التحلية، فقدَّم التسبيح الدالّ على التخلي على التحميد الدالّ على التحلي، وقدّم لفظ «الله»؛ لأنه اسم الذات المقدسة الجامع لجميع الصفات، والأسماء الحسنى، ووَصَفه بالعظيم؛ لأنه الشامل لِسَلْب ما لا يليق به، وإثبات ما يليق به؛ إذ العظمة الكاملة مستلزمة لعدم النظير والمثيل، ونحو ذلك، وكذا العلم بجميع المعلومات، والقدرة على جميع المقدورات، ونحو ذلك، وذَكَر التسبيح متلبسًا بالحمد؛ ليعلم ثبوت الكمال له نفيًا وإثباتًا، وكَرّره تأكيدًا، ولأن الاعتناء بشأن التنزيه أكثر من جهة كثرة المخالفين، ولهذا جاء في القرآن بعبارات مختلفة، نحو سبحان، وسَبِّحْ بلفظ الأمر، وسَبَّحَ بلفظ الماضي، ويسبح بلفظ المضارع، ولأن التنزيهات تُدرَك بالعقل، بخلاف الكمالات، فإنها تقصر عن إدراك حقائقها، كما قال بعض المحققين: الحقائق الإلهية لا تُعرف إلا بطريق السلب، كما في العلم [هكذا نسخة »الفتح«، ولعله: كما في العالم، والله تعالى أعلم]، لا يدرك منه إلا أنه ليس بجاهل، وأما معرفة حقيقة علمه فلا سبيل إليه. انتهى [»الفتح” ١٧/ ٦٣٣ – ٦٣٤]، والله تعالى أعلم.
وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه.
فوائد الحديث:
١ – (منها): بيان الترغيب، والتخفيف، والحثّ على الذِّكر المذكور؛ لمحبة الرحمن له، والخفة بالنسبة لِما يتعلق بالعمل، والثِّقَل بالنسبة لإظهار الثواب.
٢ – (ومنها): أنه جاء ترتيب هذا الحديث على أسلوب عظيم، وهو أن حُبّ الرب سبحانه وتعالى سابق، وذِكر العبد، وخفة الذكر على لسانه تالٍ، ثم بَيّن ما
فيهما من الثواب العظيم النافع يوم القيامة.
٣ – (ومنها): الحثّ على إدامة هذا الذكر، ففضل التسبيح: «من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حُطّت خطاياه، وإن كانت مثل
زَبَد البحر»، وإذا ثبتٌ هذا في قول: «سبحان الله وبحمده» وحدها، فإذا
انضمت إليها الكلمة الأخرى، فالذي يظهر أنها تفيد تحصيل الثواب الجزيل
المناسب لها، كما أن من قال الكلمة الأولى، وليست له خطايا مثلًا، فإنه
يحصل له من الثواب ما يوازن ذلك.
٤ – (ومنها): أن فيه إيرادَ الحكم المرغّب في فعله بلفظ الخبر؛ لأن المقصود من سياق هذا الحديث الأمر بملازمة الذكر المذكور.
٥ – (ومنها): أن من البديع المقابلةَ، والمناسبةَ، والموازنةَ في السجع؛ لأنه قال: «حبيبتان إلى الرحمن» ولم يقل: للرحمن؛ لموازنة قوله: «على اللسان»، وعَدّى كلًّا من الثلاثة بما يليق به.
٦ – (ومنها): أن فيه إشارةً إلى امتثال قوله تعالى: ﴿وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾
[ق ٣٩]، وقد أخبر الله تعالى عن الملائكة في عِدّة آيات أنهم يسبّحون بحمد
ربهم، وأخرج مسلم عن أبي ذرّ -رضي الله عنه-، قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أيُّ
الكلام أحب إلى الله؟ قال: «ما اصطفى الله لملائكته: سبحان ربي وبحمده،
سبحان ربي وبحمده»، وفي لفظ له: «إن أحب الكلام إلى الله: سبحان الله
وبحمده»، والله تعالى أعلم.
[٦٨٢٣] (٢٦٩٥) شرح الحديث:
(عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-؛ أنه (قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لأنْ أقُولَ: سُبْحانَ اللهِ، والحَمْدُ للهِ، ولا اِلَهَ اِلّا اللهُ، واللَّهُ أكْبَرُ، أحَبُّ إلَيَ مِمّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ
الشَّمْسُ») قال القرطبيّ رَحِمَهُ اللهُ: أي: من أن تكون له الدنيا بكلّيتها، فيَحْتَمِل أن
يكون هذا على جهة الإغياء على طريقة العرب في ذلك.
ويحْتَمِل أن يكون معنى ذلك أن تلك الأذكار أحبّ إليه من أن تكون له
الدنيا، فينفقها في سبيل الله، وفي أوجه البرّ، والخير، وإلا فالدنيا من حيث
هي دنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، وكذلك هي عند أنبيائه، وأهل معرفته،
فكيف تكون أحبّ إليه من ذِكر أسماء الله تعالى وصفاته التي يحصل بها ذلك
الثواب العظيم، والحظ الجزيل؟ انتهى [«المفهم» ٧/ ٢٢ – ٢٣].
وقال المناويّ رَحِمَهُ اللهُ ما حاصله: إنما كانت أحبّ إليه؛ لأنها الباقيات الصالحات، وفيه أن الذكر أفضل من الصدقة، وبه أفتى السيوطيّ، قال: بل وأفضل من جميع العبادات، وتقدَّمه لذلك الغزاليّ، قال: ولذلك لم يرخّص في تَرْكه في حال من الأحوال. انتهى [يعني: الهيتميّ الشافعيّ شارح «المشكاة»].
وأجاب ابن بطال بأن معناه: أنها أحب إليه من كل شيء؛ لأنه لا شيء إلا الدنيا والآخرة، فأخرج الخبر من ذِكر الشيء بذكر الدنيا؛ إذ لا شيء سواها إلا الآخرة.
وأجاب ابن العربيّ بما حاصله: أن «أفعل» قد يراد به أصل الفعل، لا
المفاضلة؛ كقوله تعالى: ﴿خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وأحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان ٢٤]، ولا
مفاضلة بين الجنة والنار، أو الخطاب واقع على ما استقرّ في نفس أكثر
الناس، فإنهم يعتقدون أن الدنيا لا شيء مثلها، وأنها المقصود، فأخبر بأنها
عنده خير مما تظنون أنه لا شيء أفضل منه….. وذكر بقية الاحتمالات
. انتهى [«مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» ٥/ ٢٠٩]، والله تعالى أعلم.
وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا من أفراد المصنّف رَحِمَهُ اللهُ.
قال الإمام مسلم رحمه الله:
[٦٨٢٤] (٢٦٩٦) – (حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا عَلِي بْنُ مُسْهِرٍ،
وابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ مُوسى الجُهَنِيِّ (ح) وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ -واللَّفْظُ
لَهُ- حَدَّثَنا أبِي، حَدَّثَنا مُوسى الجُهَنِيُّ، عَنْ مُصْعَب بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أبِيهِ، قالَ: جاءَ
أعْرابِيٌّ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقالَ: عَلِّمْنِي كَلامًا أقَولُهُ …..
قال القاري رَحِمَهُ اللهُ: وجاء في رواية البزّار بلفظ:»العليّ العظيم«، وهو المشهور على الألسنة، وإن لم يَرِد في الصحيح [»مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح«٥/ ٢٠٩]، وقال الطيبيّ رَحِمَهُ اللهُ: لم يرد في أكثر الروايات إلا عن الإمام أحمد بن حنبل، فإنه أردفها بقوله: «العليّ العظيم». انتهى [»الكاشف عن حقائق السنن«٦/ ١٨٣٣].
قال الأتيوبي عفا الله عنه: قد صحّ الختم بـ «العَزِيزِ الحَكِيمِ»، كما هو عند مسلم هنا، وصحّ الختم أيضًا بـ «العليّ العظيم»، فقد أخرج ابن ماجه في «سننه» بسند صحيح عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله ﷺ:
«من تعارّ من الليل، فقال حين يستيقظ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له
الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله
إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم، ثم دعا: رب
اغفر لي، غفر له …» الحديث.
وقد جمع بينهما ابن حبّان في «صحيحه» في حديث الباب، ولفظه: «قل:
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله
رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم العزيز الحكيم» [»صحيح ابن حبان«٣/ ٢٢٦].
والحاصل: أن الختم قد صحّ بهما، والله تعالى أعلم.
(قالَ (الأعرابيّ: (فَهَؤُلاءِ) الجُمَل المذكورة (لِرَبِّي)؛ أي: ثناء، وحمد،
وتمجيد لربيّ سبحانه وتعالى، (فَما لِي)؛ أي: فأيّ شيء من الدعاء لنفسي؟ (قالَ) ﷺ:
(«قُلِ: اللَهُمَّ اغْفِرْ لِي)؛ أي: استر سيّئاتي، وامح خطيئاتي، (وارْحَمْنِي)
بالتوفيق للطاعة في حركاتي، وسكناتي، (واهْدِنِي) لأحسن الأحوال،
والأخلاق، قال ابن حبّان رَحِمَهُ اللهُ: كلّ ما في هذه الأخبار:»اللَّهُمَّ اهدني«،
»اللَّهُمَّ إني أسألك الهدى«، وما يُشبهها من الألفاظ، إنما أريد بها: الثبات على
الهدى، والزيادة فيه؛ إذ محال أن يدعو المؤمن بسؤال الهداية، وقد هداه الله [وقع في النسخة:»أن يؤمن المؤمن بسؤال الزيادة«، والظاهر أنه تصحيف] قبل ذلك. انتهى [»صحيح ابن حبان” ٣/ ٢٢٦].
(وارْزُقْني«) رزقًا حلالًا طيّبًا مباركًا.
(قالَ مُوسى) الجهنيّ: (أمّا»عافِني«)؛ أي: لفظ»عافني«، ومعناه: عافني
من الابتلاء بما يضرّ في المآل، (فَأنا أذوَهَّمُ)؛ أي: أتردّد، وأشكّ هل قاله
مصعب بن سعد في الحديث، أم لا؟،
وحديث سعد بن أبي وقّاص -رضي الله عنه- هذا من أفراد المصنّف رَحِمَهُ اللهُ.
وقوله: (ويَجْمَعُ أصابِعَهُ إلا الابْهامَ)؛ أي: إشارة إلى أن الكلمات أربع.
وقوله: (فَإنَّ هَؤُلاءِ تَجْمَعُ لَكَ دُنْياكَ، وآخِرَتَكَ)؛ أي: أمور دنياك، وأمور
آخرتك، قال بعضهم: حضور الذاكر عند نُطقه بشيء من الأسماء الإلهية لا بد
منه، حتى يعرف من يُذكر؟، وكيف يَذكر؟ ومن يَذكر؟ والله خير الذاكرين،
وقال بعضهم: يُشترط حضور القلب، وفراغه من الشواغل الدنيوية، والكدورات الجسمانية، وإلا فلا يلومنّ إلا نفسه. انتهى.
قال الأتيوبي عفا الله عنه: هذا هو الأكمل، والأنجح في المقاصد، وإلا فذكر الله تعالى مطلوب في كلّ حال، ولو لم يُحضر الذاكر قلبه، إلا أنه ينبغي إحضاره، والمجاهدة في ذلك، قال الله تعالى: ﴿والَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ (٦٩)﴾ [العنكبوت ٦٩].
والحديث من أفراد المصنّف، وقد سبق البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
قال الإمام مسلم رحمه الله:
[٨٦٢٨] (٢٦٩٨) – (حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا مَرْوانُ، وعَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ مُوسى الجُهَنِيِّ (ح) وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ -واللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنا أبِي، حَدَّثَنا مُوسى الجُهَنِيُّ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي أبِي، قالَ: كُنّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقالَ: «أيَعْجِزُ أحَدُكُمْ أنْ يَكْسِبَ كُلَّ يَوْمٍ ألْفَ حَسَنَةٍ؟»، فَسَألَهُ سائِلٌ مِن جُلَسائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ أحَدُنا ألْفَ حَسَنَةٍ؟ قالَ:
«يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ ألْفُ حَسَنَةٍ، أوْ يُحَطُّ عَنْهُ ألْفُ خَطِيئَةٍ»).
شرح الحديث:
(عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ) أنه قال: (حَدَّثَنِي أبِي) سعد بن أبي وقّاص -رضي الله عنه-،
(قالَ: كُنّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقالَ) ﷺ: («أيَعْجِزُ) بكسر الجيم على اللغة
الفصحى، وتُفتح على قلّة. انتهى [ «المصباح المنير» ٢/ ٣٩٣].
قال النوويّ رَحِمَهُ اللهُ: هكذا هو في
عامة نُسخ «صحيح مسلم»: «أو يحط» بـ «أو»، وفي بعضها: «ويحط» بالواو،
وقال الحميديّ في «الجمع بين الصحيحين»: كذا هو في كتاب مسلم: «أو يحط»
بـ «أو»، وقال البَرْقانيّ: ورواه شعبة، وأبو عوانة، ويحيى القطان، عن يحيى
الذي رواه مسلم من جهته، فقالوا: «ويحط» بالواو، والله أعلم. انتهى [«شرح النوويّ» ١٧/ ٢٠].
وقال القرطبيّ رَحِمَهُ اللهُ: قوله: «أو يُحَطّ» كذا وقع هذا اللفظ في بعض
النسخ بالِف قبل الواو، وفي بعضها بإسقاط الألِف، وهو صحيح روايةً ومعنًى؛
لأن الله قد جمع ذلك كلّه لقائل تلك الكلمات كما تقدم، ولو صحّت رواية
الألِف لَحُملت على المذهب الكوفيّ في أن «أو» تكون بمعنى الواو. انتهى [«المفهم» ٧/ ٢٤].
قال الأتيوبي عفا الله عنه:
ثم المراد بالخطايا: هي الصغائر؛ لأن الكبائر لا تُحطّ إلا بالتوبة، أو عفو الله الكريم، ولكن لا يُستبعد أن يعفو الله عنها بسبب هذا الذكر، ﴿واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ [آل عمران ٧٤].
وحديث سعد بن أبي وقّاص -رضي الله عنه- هذا من أفراد المصنّف رَحِمَهُ اللهُ. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير].
ثانيًا: ملحقات:
(المسألة الأولى): أفضل الذكر
* اتفق أهل العلم على أن أفضل الذكر هو القرآن الكريم .
قال سفيان الثّوري رحمه الله : ” سمعنا أنّ قراءة القرآن أفضلُ الذِّكر إذا عمل به” [فقه الأدعية والأذكار (1/50)].
قال الإمام النووي : ” اعلم أن تلاوة القرآن هي أفضل الأذكار والمطلوب القراءة بالتدبر ” [الأذكار، (101)].
* ولكن الجمع بين فضائل الأعمال من قراءة القرآن والأذكار أفضل عند التمكن منه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
” الشَّيْءَ إذَا كَانَ أَفْضَلَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ فِي كُلِّ حَالٍ ، وَلَا لِكُلِّ أَحَدٍ ، بَلْ الْمَفْضُولُ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ الْفَاضِلِ الْمُطْلَقِ ، كَمَا أَنَّ التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَمِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ ، وَالتَّشَهُّدِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءُ بَعْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ” انتهى من “مجموع الفتاوى” (24 / 236-237) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
” قد يعرض للمفضول ما يجعله أفضل من الفاضل ، مثاله : قراءة القرآن من أفضل الذكر ، والقرآن أفضل الذكر ، فلو كان رجل يقرأ وسمع المؤذن يؤذن ، فهل الأفضل أن يستمر في قراءته أو أن يجيب المؤذن ؟ هنا نقول : إن الأفضل أن يجيب المؤذن ، وإن كان القرآن أفضل من الذكر ، لكن الذكر في مكانه أفضل من قراءة القرآن ؛ لأن قراءة القرآن غير مقيدة بوقت متى شئت فاقرأ ، لكن إجابة المؤذن مربوطة بسماع المؤذن ” انتهى من “لقاءات الباب المفتوح”.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
” الأوراد الشرعية من الأذكار والدعوات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم : فالأفضل أن يؤتى بها في طرفي النهار بعد صلاة الفجر وصلاة العصر ، وذلك أفضل من قراءة القرآن ؛ لأنها عبادة مؤقتة تفوت بفوات وقتها ، أما قراءة القرآن فوقتها واسع ” .
انتهى من “مجموع فتاوى ابن باز” (8 / 312) ، وينظر أيضا : (26 / 72) .
وقال الشيخ ابن باز أيضًا:
“أفضل أنواع الذكر قراءة القرآن، هو أفضل الذكر، فينبغي لكل مؤمن ومؤمنة الإكثار من قراءة القرآن مع التدبر والتعقل، ولو كان لا يحفظه كثيراً، يقرأ ما تيسر منه، أو من المصحف إذا كان يقرأ من المصحف، يكثر من ذلك، وإذا كان لا يقرأ من المصحف يقرأ ما حفظ، الذي يحفظ الفاتحة ويكررها كثيراً في أوقات كثيرة؛ لأنها أعظم سورة، وأفضل سورة في القرآن العظيم، كل حرف بحسنة والحسنة بعشر أمثالها، وإذا كان يحفظ معها بعض السور القصيرة كررها وأكثر منها في الليل والنهار، يرجوا ثواب الله عزوجل، وإذا كان يقرأ من المصحف قرأ من المصحف، من أوله إلى أخره كلما كمله عاد وقرأ من أوله من الفاتحة، ثم أفضل الذكر بعد ذلك: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير” هذا أفضل الذكر بعد القرآن “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير”، “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير”، “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير”، “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حيٌ لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير”، كل هذه أنواع من الذكر جاءت عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، يقول عليه الصلاة والسلام: الإيمان بضع وستون شعبة – أو قال: بضع وسبعون شعبة- فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وروي عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وقال -عليه الصلاة والسلام-: من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل، متفق على صحته، وقال أيضاً: من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة في يومٍ كانت له عدل عشر رقاب، وكتب الله له مائة حسنة، ومحا عنه مائة سيئة، وكان في حرزٍ من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا من عمل أكثر من عمله، هذا حديث عظيم رواه البخاري ومسلم في الصحيحين، فينبغي لكل مؤمن ولكل مؤمنة الإكثار من هذا الذكر، وأن يقول ذلك مائة مرة كل يوم، كل صباح يوم، أو في أثناء اليوم، أو في آخر اليوم، لكن إذا كان في الصباح يكون أفضل، حتى يعم اليوم كله …… ثم ذكر ما سبق أن ذكرناه من الأذكار وحث عليها وحث كذلك على اذكار بعد الصلوات
ثم قال : لكن أهل العلم بينوا أن هذه المغفرة مقيدة باجتناب الكبائر، للنصوص الأخرى، يعني باجتناب كبائر الذنوب مثل: الزنا، والسرقة، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، ونحو ذلك؛ لأن الله يقول -سبحانه-: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ[النساء: 31]، ويقول النبي ﷺ: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كفارات لما بينهن ما لم تغش الكبائر، وفي اللفظ الآخر: إذا اجتنب الكبائر ….
أحاديث ذكرها ابن الملقن ونذكر معها أحكام الألباني:
قال ابن الملقن:
فصل:
روى جابر بن عبد الله – رضي الله عنه -، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “أفضل الذكر التهليل: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله” .[ صححه الألباني في “صحيح سنن الترمذي” (2694)]
وقال – عليه السلام -: “أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله” . [صححه الألباني في “صحيح سنن الترمذي” (2837)]
كذا أورده ابن بطال ، وقد قيل: إنه اسم الله الأعظم.
وذكر الطبري من حديث سعيد بن أبي عروبة، عن عبد الله بن بابا المكي، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال: إن الرجل إذا قال: لا إله إلا الله، فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله عملا حتى يقولها؛ فإذا قال: الحمد لله، فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله أحد حتى يقولها .[ ورواه عبد الرزاق في “مصنفه” 11/ 295 (20579) من طريق معمر، عن قتادة، عن عبد الله بن عمرو]
وروى الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: “من قال: لا إله إلا الله فليقل على إثرها: الحمد لله رب العالمين” [رواه الحاكم في “مستدركه” 2/ 438]
وقد روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعا: “أول من يدخل الجنة الحمادون؛ الذين يحمدون الله في السراء والضراء” [وضعفه الألباني في “الضعيفة” (632)]
وقال – عليه السلام -: “من قال: أشهدك أن ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك، لك الحمد، ولك الشكر، فقد أدى شكر ذلك اليوم” . [ضعفه الألباني في سنن أبي داود 5073]
وكان – عليه السلام – إذا أتاه أمر يكرهه قال: “الحمد لله على كل حال” وإذا رأى أمرا يسره قال: “الحمد لله، الذي بنعمته تتم الصالحات” [حسنه الألباني في سنن ابن ماجه 3803]
وقوله: (“من قال عشرا كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل”) قيل: يحتمل أن يكون مفسرا للآخر، وتكون العشرة المتقدم ذكرها من ولد إسماعيل أيضا، ووجه كونها منهم أن عتق من كان من (ولده له) (3) فضل على عتق غيره، وذلك أن محمدا وإسماعيل وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم بعضهم من بعض
التوضيح لشرح الجامع الصحيح (29/ 361)
نيل الأجر العظيم من هذا الذكر لابد أن يصطصحبه إيمان واحتساب :
قال القرطبي :
(قوله: وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي) يعني: أن الله تعالى يحفظه من الشيطان في ذلك اليوم فلا يقدر منه على زلة ولا وسوسة ببركة تلك الكلمات.
قلت: وهذه الأجور العظيمة، والعوائد الجمة إنما تحصل كاملة لمن قام بحق هذه الكلمات، فأحضر معانيها بقلبه، وتأملها بفهمه، واتضحت له معانيها، وخاض في بحار معرفتها، ورتع في رياض زهرتها، ووصل فيها إلى عين اليقين؛ فإن لم يكن، فإلى علم اليقين، وهذا هو الإحسان في الذكر؛ فإنه من أعظم العبادات. وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما قدمناه في الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك (3).
ثم لما كان الذاكرون في إدراكاتهم وفهومهم مختلفين، كانت أجورهم على ذلك بحسب ما أدركوا، وعلى هذا ينزل اختلاف مقادير الأجور، والثواب المذكور في أحاديث الأذكار، فإنك تجد في بعضها ثوابا عظيما مضاعفا، وتجد تلك الأذكار بأعيانها في رواية أخرى أكثر أو أقل، كما اتفق هنا في حديث أبي هريرة المتقدم، فإن فيه: ما ذكرناه من الثواب، وتجد تلك الأذكار بأعيانها وقد علق عليها من ثواب عتق الرقاب أكثر مما علقه على حديث أبي هريرة، وذلك أنه قال في حديث أبي هريرة: من قال ذلك في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وفي حديث أبي أيوب: من قالها عشر مرات كانت له عدل أربع رقاب. وعلى هذا فمن قال ذلك مائة مرة كانت له عدل أربعين رقبة، وكذلك تجده في غير هذه الأذكار، فيرجع الاختلاف الذي في الأجور لاختلاف أحوال الذاكرين، وبهذا يرتفع الاضطراب بين أحاديث هذا الباب، والله الموفق للصواب
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (7/ 19)
قال ابن حجر:
… واختلاف هذه الروايات في عدد الرقاب مع اتحاد المخرج يقتضي الترجيح بينها فالأكثر على ذكر أربعة ويجمع بينه وبين حديث أبي هريرة بذكر عشرة لقولها مائة فيكون مقابل كل عشر مرات رقبة من قبل المضاعفة فيكون لكل مرة بالمضاعفة رقبة وهي مع ذلك لمطلق الرقاب ومع وصف كون الرقبة من بني إسماعيل يكون مقابل العشرة من غيرهم أربعة منهم لأنهم أشرف من غيرهم من العرب فضلا عن العجم وأما ذكر رقبة بالإفراد في حديث أبي أيوب فشاذ والمحفوظ أربعة كما بينته وجمع القرطبي في المفهم بين الاختلاف على اختلاف أحوال الذاكرين …. قلت إذا تعددت مخارج الحديث فلا بأس بهذا الجمع وإذا اتحدث فلا وقد يتعين الجمع الذي قدمته ويحتمل فيما إذا تعددت أيضا أن يختلف المقدار بالزمان كالتقييد بما بعد صلاة الصبح مثلا وعدم التقييد إن لم يحمل المطلق في ذلك على المقيد
فتح الباري لابن حجر (11/ 205)
سؤال وجه لابن باز :
السؤال:
توجد بعض الأذكار في بعض الأحاديث النبوية الشريفة من يقولها بعددٍ معينٍ من المرات كانت له عتق عددٍ من الرقاب، كما جاء في الحديث النبوي: من يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد هو على كل شيء قدير من يقول ذلك مائة مرة في اليوم كانت كعتق عشر رقاب، فهل يمكن لمسلم أن يكفر عما يرتكبه من أخطاء عن طريق قول هذه الأحاديث الشريفة، إذا كان إثمه يكفر بعتق عدد من الرقاب قد يكون أقل من عشر رقاب، وهل يقصد في قوله في الحديث: مائة مرة في اليوم، أيقولها في يوم واحد فقط؟ أم ينبغي أن يردد هذا الحديث طوال حياته في كل يوم مائة مرة؟ أفيدونا أفادكم الله.
الجواب:
هذا الحديث من جملة الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ﷺ، فقد رواه الشيخان البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: من قال في يوم لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة، ومحا عنه مائة سيئة، وكان في حرز من الشيطان في يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من عمله.
وهذا فضل عظيم وخير كثير من الله ، وإذا كان هذا الذكر عن إيمانٍ وصدقٍ وإخلاص حصل له هذا الخير العظيم، والرسول ﷺ بيَّن عن الله أنه يمحو به مائة سيئة ويكتب به مائة حسنة ويكون عدل عشر رقاب، يعني: يعتقها، لكن ذكر جمع من أهل العلم أن هذا في غير الكبائر من الذنوب؛ لقوله تعالى: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31]، فالعبد إذا اجتنب الكبائر؛ كانت صلاته وطهوره ودعواته وأذكاره كفارةً لسيئاته الصغائر، وقد يمنُّ الله جل وعلا على العبد بالإكثار من الذكر فيمحو الله به عنه حتى الكبائر، ولاسيما إذا اقترنت بذلك التوبة النصوح.
فينبغي للمؤمن أن تكون له نية صالحة وقصد صالح بهذه الأذكار وإخلاص لله وصدق في قولها، مع التوبة إلى الله سبحانه، مع الصدق في توحيد الله والإخلاص له، وعبادته وحده دون كل ما سواه، ثم يحمله هذا الإيمان وهذا الإخلاص على أداء الفرائض، وترك المحارم، والوقوف عند حدود الله، حتى تكفر خطاياه كلها متى قال ذلك عن صدقٍ وإخلاص، وإيمانٍ صادق، وتوبةٍ نصوح.
وبكل حال هذه بشرى من الله وخير عظيم للمؤمنين والمؤمنات.
والمقصود من الحديث: أن هذا الثواب يحصل للمؤمن بهذا الذكر كل يوم إذا قال ذلك صادقًا مخلصًا، ولا يجوز له أن يقيم على المعاصي، ويتعلق بهذا الحديث وأمثاله؛ لأن ذلك من أسباب حرمانه من هذا الثواب؛ للآية السابقة، وقول النبي ﷺ: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما لم تغش الكبائر[أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة برقم 233]، وفي لفظ: إذا اجتنبت الكبائر خرجه الإمام مسلم في صحيحه، والله ولي التوفيق[مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز (26/ 54)].
حول مسألة تفضيل الذكر على الجهاد:
قال القرطبي:
يعني: أن ثواب هذه الكلمات بمنزلة ثواب من أعتق عشر رقاب، وقد تقدم في العتق: أن من أعتق رقبة واحدة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار، ثم يزاد مع ذلك كتب مائة حسنة، ومحو مائة سيئة، يجمع ذلك كله له، وكل واحد من هذه الحسنات مضاعفة بعشر، كما قال تعالى {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} وكما في حديث سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – المذكور بعد هذا، وهذا الحديث وجميع ما في الباب من الأحاديث يدل على: أن ذكر الله تعالى أفضل الأعمال كلها، وقد صرح بهذا المعنى في آخر هذا الحديث حين قال: ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا أحد عمل أكثر من ذلك. وأنص ما في هذا الباب ما خرجه مالك عن أبي الدرداء قال: ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى. قال: ذكر الله . وهذا لا يقوله أبو الدرداء من رأيه، ولا بنظره؛ فإنه لا يتوصل إليه برأيه، فلا يقوله إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، غير أنه سكت عن رفعه للعلم بذلك عند من حدثه بذلك. وقد رواه الترمذي مرفوعا ، والله تعالى أعلم.
قال باحث في التوفيق بين الأحاديث التي فيها أن أفضل الأعمال ذكر الله . والأحاديث التي تذكر الجهاد ، فاختلفت أجوبة العلماء عن ذلك:
1- فقيل: يحتمل أن يكون عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم في أَفضل الأعمال: (( جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ )) خُصّ بهذا الحديث، وهذا الجواب ذكره الحافظ رحمه الله.
2- وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: الجهاد أفضل الأعمال الّتي هي وسائل، لأنّ الجهاد وسيلة إلى إعلان الدّين ونشره وإخماد الكفر ودحضه، والذّكر أفضل الأعمال الّتي هي غاية، والله أعلم.
3- ومنهم من قال: يفضّل الذّكر على الجهاد المندوب لا فرض العين.
4- ومنهم من جعل الأصل هو تفضيل الذّكر، ولكن عند قيام أمر الجهاد فإنّه لا يعدله شيء، قال ابن تيمية رحمه الله:
” أمّا ما سألت عنه من أفضل الأعمال بعد الفرائض فإنّه يختلف باختلاف النّاس فيما يقدرون عليه، وما يناسب أوقاتهم، فلا يمكن فيه جواب جامع مفصّل لكلّ أحد، لكن ممّا هو كالإجماع بين العلماء بالله وأمره أنّ ملازمة ذكر الله دائما هو أفضل ما شغل العبدُ بهِ نفسه في الجملة، وعلى ذلك دلّ حديث أبى هريرة الّذي رواه مسلم: (( سَبَقَ المُفَرِّدُونَ )) قالوا: يا رسول الله، ومن المفرّدون ؟ قال: ((الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ))، وفيما رواه أبو داود عن أبى الدّرداء رضي الله عنه …” ثمّ ذكر الحديث [“المجموع” (10/660)].
5- ومنهم من فصّل، قال ابن القيم رحمه الله في “تهذيب السّنن” (7/126):
” والتّحقيق في ذلك أنّ المراتب ثلاثة:
المرتبة الأولى: ذكر وجهاد، وهي أعلى المراتب، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45].
المرتبة الثّانية: ذكر بلا جهاد، فهذه دون الأولى.
المرتبة الثّالثة: جهاد بلا ذكر، فهي دونهما، والذّاكر أفضل من هذا، وإنّما وُضِع الجهاد لأجل ذكر الله، فالمقصود من الجهاد أن يُذكر الله ويعبدَ وحده، فتوحيده وذكره وعبادته هو غاية الخلق التي خلقوا لها، والله أعلم “اهـ.
وكلام الحافظ ابن حجر رحمه الله في ” فتح الباري ” قريب من هذا، إذ قال:
” طريق الجمع -والله أعلم- أنّ المراد بذكر الله في حديث أبي الدّرداء رضي الله عنه الذّكر الكامل، وهو ما يجتمع فيه ذكر اللّسان والقلب بالتفكّر في المعنى واستحضار عظمة الله تعالى، وأنّ الّذي يحصل له ذلك يكون أفضل ممّن يقاتل الكفّار مثلا من غير استحضار لذلك، وأنّ أفضلية الجهاد إنّما هي بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرّد، فمن اتّفق له أنّه جمع ذلك، كمن يذكر الله بلسانه وقلبه واستحضاره وكل ذلك حال صلاته أو في صيامه أو تصدقه أو قتاله الكفار مثلا فهو الذي بلغ الغاية القصوى، والعلم عند الله تعالى “.
وأجاب القاضي أبو بكر بن العربيّ رحمه الله: بأنّه ما من عمل صالح إلاّ والذّكر مشترط في تصحيحه، فمن لم يذكر الله بقلبه عند صدقته أو صيامه مثلا فليس عمله كاملا، فصار الذّكر أفضل الأعمال من هذه الحيثية ” اهـ.
وراجع شرحنا لحديث في الصحيح المسند
١٠٣٨ – قال الإمام الترمذي رحمه الله: حدثنا الحسين بن حريث حدثنا الفضل بن موسى عن عبد الله بن سعيد هو ابن أبي هند عن زياد مولى ابن عياش عن أبي بحرية عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال
قال النبي ﷺ: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟» قالوا: بلى. قال: «ذكر الله تعالى».
حيث نقلنا كلام ابن حجر ملخصا .