5626 الفوائد المنتقاة على شرح صحيح مسلم
مجموعة: إبراهيم البلوشي وأبي عيسى البلوشي وفيصل الشامسي وفيصل البلوشي وهشام السوري، وعبدالله المشجري، وسامي آل سالمين، وعلي آل رحمه، وكرم.
ومجموعة : طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ونوح وعبدالخالق وموسى الصوماليين، وخميس العميمي.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا )
——-‘——‘——–‘
——-‘——-‘——-‘
——-‘——-‘——-‘
صحيح مسلم، كتاب فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ،
صحيح مسلم
[(676) باب فضل الصحابة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم]
5626 – عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يأتي على الناس زمان. يغزو فئام من الناس. فيقال لهم. فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم: فيفتح لهم. ثم يغزو فئام من الناس. فيقال لهم: فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم: فيفتح لهم. ثم يغزو فئام من الناس. فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم: فيفتح لهم.
5627 – عن جابر رضي الله عنه قال: زعم أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يأتي على الناس زمان. يبعث منهم البعث فيقولون: انظروا هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيوجد الرجل. فيفتح لهم به. ثم يبعث البعث الثاني فيقولون: هل فيهم من رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيفتح لهم به. ثم يبعث البعث الثالث فيقال: انظروا هل ترون فيهم من رأى من رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ ثم يكون البعث الرابع فيقال: انظروا هل ترون فيهم أحدا رأى من رأى أحدا رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيوجد الرجل. فيفتح لهم به”.
5628 – عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خير أمتي القرن الذين يلوني. ثم الذين يلونهم. ثم الذين يلونهم. ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه. ويمينه شهادته” لم يذكر هناد القرن في حديثه. وقال قتيبة: “ثم يجيء أقوام”.
5629 – عن عبد الله رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس خير؟ قال: “قرني. ثم الذين يلونهم. ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تبدر شهادة أحدهم يمينه، وتبدر يمينه شهادته”. قال إبراهيم: كانوا ينهوننا، ونحن غلمان، عن العهد والشهادات.
5630 – عن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “خير الناس قرني. ثم الذين يلونهم. ثم الذين يلونهم”. فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة قال: “ثم يتخلف من بعدهم خلف. تسبق شهادة أحدهم يمينه. ويمينه شهادته”.
5631 – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير أمتي القرن الذين بعثت فيهم. ثم الذين يلونهم” والله أعلم أذكر الثالث أم لا. قال: ثم يخلف قوم يحبون السمانة. يشهدون قبل أن يستشهدوا”.
5632 – وفي رواية في حديث شعبة: قال أبو هريرة: فلا أدري مرتين أو ثلاثة.
5633 – عن عمران بن حصين رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن خيركم قرني. ثم الذين يلونهم. ثم الذين يلونهم. ثم الذين يلونهم” قال عمران: فلا أدري أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد قرنه، مرتين أو ثلاثة: “ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون. ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن”.
5634 – وفي رواية عن شعبة. بهذا الإسناد. وفي حديثهم: قال: لا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة. وفي حديث شبابة قال: سمعت زهدم ابن مضرب، وجاءني في حاجة على فرس، فحدثني، أنه سمع عمران ابن حصين: وفي حديث يحيى وشبابة: “ينذرون ولا يفون”. وفي حديث بهز: “يوفون كما قال ابن جعفر”.
5635 – عن عمران بن حصين رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. بهذا الحديث: “خير هذه الأمة القرن الذين بعثت فيهم. ثم الذين يلونهم” زاد في حديث أبي عوانة قال: والله أعلم.
أذكر الثالث أم لا. بمثل حديث زهدم عن عمران. وزاد في حديث هشام عن قتادة “ويحلفون ولا يستحلفون”.
5636 – عن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير؟ قال: “القرن الذي أنا فيه. ثم الثاني. ثم الثالث”.
==========
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
مقدمة: الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين هم الذين حموا دعوة الإسلام، وحملوها ونشروها، وكان لهم الفضل الأول والأكبر في تحمل أعبائها وأخطار الدفاع عنها ونشرها، باعوا أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله، فيَقْتِلُون ويُقْتَلُون، قاتلوا، وهم قلة، وأنفقوا وبهم خصاصة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “سبق درهم ألف درهم”. والرسول الكريم يقول: “لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه” يعني: ما عادل حفنة من طعام أنفقها أحد الصحابة في صدر الإسلام، بل ما أنفقوا هم قبل فتح مكة وقتالهم قبل فتح مكة أعظم أجرا ودرجة مما أنفقوه بعد الفتح ومما قاتلوه بعد الفتح، مصداقا كما في سورة [النساء: 95] و [الحديد: 10]
{والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم} [الأنفال: 74] {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم} [التوبة: 20، 21]
بهذا فضل الله الصحابة على غيرهم، وجعلهم خير القرون في هذه الأمة، وجعل التابعين يلونهم في الفضل، وتابعي التابعين يلون التابعين، وهكذا تتوالى الأجيال، وبقدر تمسكها بشريعتها، ودفاعها عن دينها يكون فضلها وسبقها، حتى تصل الأجيال في ضعفها الديني إلى أنهم يخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ويعدون ولا يوفون، ويصابون بالنهم والجري وراء الدنيا وشهواتها، حتى يسمنوا ثم لا يشبعون ، ويتسابقون لشهادة الزور والباطل ويحلفون، يأكلون أموالهم بينهم بالباطل ويظلمون، لا يتناهون عن منكر فعلوه، بل يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويصبح المنكر عندهم معروفا، والمعروف منكرا، وأولئك شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة، والعياذ بالله رب العالمين.
رجح ابن حجر مذهب البخاري أن الصحبة تثبت بالرؤية : قال : والذي جزم به البخاري هو قول أحمد والجمهور من المحدثين وقول البخاري ” من المسلمين ” قيد يخرج به من صحبه أو من رآه من ….. إلى آخر كلامه ثم قال :
وقد وجدت ما جزم به البخاري من تعريف الصحابي في كلام شيخه علي بن المديني، فقرأت في ” المستخرج لأبي القاسم بن منده ” بسنده إلى أحمد بن سيار الحافظ المروزي قال: سمعت أحمد بن عتيك يقول قال علي بن المديني: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه ولو ساعة من نهار فهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بسطت هذه المسألة فيما جمعته من علوم الحديث، وهذا القدر في هذا المكان كاف.
تنبيه : نبه ابن حجر على شذوذ لفظة:
ثم يكون البعث الرابع ” وهذه الرواية شاذة، وأكثر الروايات مقتصر على الثلاثة كما سأوضح ذلك في الحديث الذي بعده.
ومثله حديث واثلة رفعه ” لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصاحبني، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني وصاحبني ” الحديث أخرجه ابن أبي شيبة وإسناده حسن. وهو في الصحيح المسند 1196 وهو في الفوائد المعللة لأبي زرعة ولم أعرف منهج المصنف من كتابه والحديث توسعنا في شرحه في الصحيح المسند
بيان الحديث:(يأتي على الناس زمان، يغزو فئام من الناس) بكسر الفاء، ويجوز فتحها، بعدها همزة، ويجوز تسهيلها، والمشهور الأول، أي: جماعة من الناس، والفعل “يغزو” منزل منزلة اللازم، أي: يحصل منهم الغزو. وفي الرواية الثانية “يبعث منهم البعث” أي: الجيش.
(فيقال لهم: فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ) الكلام على الاستفهام بحذف الأداة، وفي الرواية الثانية: “فيقولون: انظروا، هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم”؟
(فيفتح لهم) في الرواية الثانية: “فيفتح لهم به”.
(ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم) وذلك عندما يقل التابعون، أو يندر وجودهم في الجيش، ويكون الجيش من أتباع التابعين، فيفتح لهم لوجود التابعي الموجود في الجيش، وفي الرواية الثانية: “ثم يبعث البعث الثاني، فيقولون: هل فيهم (فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة) من رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟
(ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ، فيقولون: نعم. فيفتح لهم) في الرواية الثانية: “ثم يبعث البعث الثالث، فيقال: انظروا. هل ترون فيهم من رأى من رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ “.
(ثم يكون البعث الرابع، فيقال: انظروا. هل ترون فيهم أحدا رأى من رأى أحدا رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيوجد الرجل، فيفتح لهم به) كذا بالرواية الثانية، مشيرا إلى أتباع أتباع التابعين، وقد اقتصرت الرواية الأولى وروايات البخاري على البعث الثالث، أتباع التابعين.
(خير أمتي القرن الذين يلوني) في رواية “سئل صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير؟ قال: قرني، ثم الذين يلونهم” وفي رواية : “خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم” وفي رواية “خير أمتي القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم” وفي رواية “إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم”
وفي رواية : “خير هذه الأمة القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم” وفي رواية : “أي الناس خير؟ قال: القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني، ثم الثالث”.
(ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) وفي رواية “ثم يجيء أقوام” وفي رواية “ثم يجيء قوم تبدر شهادة أحدهم يمينه، وتبدر يمينه شهادته” و”تبدر” بفتح التاء وسكون الباء وضم الدال، بمعنى تسبق. قال الحافظ ابن حجر: أي في حالين، في حالة يشهد، ثم يحلف على صحة شهادته، ليقويها، فتسبق الشهادة اليمين، وفي حالة يحلف على صدق شهادته قبل أن يشهد، وليس المراد أن ذلك يقع في حالة واحدة، لأنه دور، به تصبح الشهادة سابقة ومسبوقة في وقت واحد، واليمين كذلك. قال: ويحتمل أن يقع ذلك في حال واحدة عند من يجيز الحلف في الشهادة، فيريد أن يشهد ويحلف. اهـ. وفي هذا الاحتمال نظر، لأن غاية ما فيه الجمع بين الحلف والشهادة، لا سبق كل منهما الآخر.
وقال الطحاوي: أي يكثرون الأيمان في كل شيء، حتى تصير عادة لهم، والحرص على ذلك، حتى لا يدرى بأيهما يبدأ، لقلة المبالاة باليمين والشهادة.
وفي رواية “ثم يتخلف من بعدهم خلف، تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته” قال النووي: هكذا هو في معظم النسخ “يتخلف” وفي بعضها “يخلف” بحذف التاء، وكلاهما صحيح، أي يجيء بعدهم خلف – بإسكان اللام، هكذا الرواية، والمراد خلف سوء، قال أهل اللغة: الخلف ما صار عوضا عن غيره، ويستعمل فيمن خلف بخير أو شر، لكن يقال في الخير بفتح اللام وإسكانها، لغتان، الفتح أشهر وأجود، وفي الشر بإسكانها عند الجمهور، وحكي أيضا فتحها. اهـ.
وفي رواية “يشهدون قبل أن يستشهدوا” وفي رواية “يشهدون ولا يستشهدون” قال النووي: هذا الحديث في ظاهره مخالف للحديث الآخر “خير الشهود، الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها”: قال العلماء: الجمع بينهما أن الذم في ذلك لمن بادر بالشهادة في حق الآدمي، هو عالم بها، قبل أن يسألها صاحبها، وأما المدح فهو لمن كانت عنده شهادة لآدمي، ولا يعلم بها صاحبها، فيخبره بها ليستشهد به عند القاضي إن أراد، أو يموت صاحبها العالم بها، ويخلف ورثة، لا يعلمون بها، فيأتي الشاهد إليهم أو إلى من يتحدث عنهم، فيعلمهم بذلك، ويلتحق به من كانت عنده شهادة حسبة، وهي الشهادة بحقوق الله تعالى، أو فيه شائبة من حق الله تعالى كالعتق، والوقف والوصية العامة والعدة والطلاق ونحو ذلك، فيأتي القاضي، فيشهد بها، وهذا ممدوح، إلا إذا كانت الشهادة بحد، ورأى المصلحة في الستر. قال: وهذا الذي ذكرناه من الجمع بين الحديثين هو مذهب أصحابنا ومالك وجماهير العلماء، وهو الصواب، وقيل في الجمع أقوال أخرى ضعيفة ….. اهـ.
ذكر الألباني في الصحيحة 3458 الاقوال وقال : أوجهها عندي: أن الحديث الثاني محمول على شهادة الزور؛ فلا إشكال. والله الموفق .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الجمع بين الحديثين :
” أَجَاب العلماء بِأَجْوِبَةٍ أَحَدُهَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِحَدِيثِ زَيْدٍ مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لِإِنْسَانٍ بِحَقٍّ لَا يَعْلَمُ بِهَا صَاحِبُهَا فَيَأْتِي إِلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ بِهَا ، أَوْ يَمُوتُ صَاحِبُهَا الْعَالِمُ بِهَا وَيَخْلُفُ وَرَثَةً فَيَأْتِي الشَّاهِدُ إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَى مَنْ يَتَحَدَّثُ عَنْهُمْ فَيُعْلِمُهُمْ بِذَلِكَ ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ” انتهى من “فتح الباري ” (5/260) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
” جمع بعض العلماء بينهما بأن المراد بحديث زيد من يشهد بحق لا يعلمه المشهود له ، وجمع بعض العلماء بأن المراد بحديث زيد: من يشهد بشيء من حقوق الله تعالى؛ لأن حقوق الله تعالى ليس لها مطالب ….
وفي فتاوى اللجنة في سؤال عن الجمع بين الحديثين:
ج4: تحمل أحاديث ذم السبق إلى الشهادة والمسارعة إلى أدائها قبل الاستشهاد على المستخفين بأمر الشهادة ، الذين لا يتحرون الصدق فيها، ولا يبالون؛ لضعف دينهم وقلة خوفهم من الله، ويحمل حديث الثناء على من يؤدي الشهادة قبل أن يُسألها على من تعينت عليه الشهادة فأداها قبل أن يُسألها؛ إثباتًا للحق، وخوفًا من ضياعه؛ لعدم من يشهد سواه. وراجع في ذلك: (فتح الباري) و (فتح المجيد) لمزيد الفائدة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
وجنح ابن عبد البر إلى ترجيح حديث المدح “خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها” لكونه من رواية أهل المدينة.
قال ابن تيمية :
والصحيح أن الذم في هذه الأحاديث لمن يشهد بالباطل كما جاء في بعض ألفاظ الحديث ثم يفشو فيهم الكذب حتى يشهد الرجل ولا يستشهد ؛ ولهذا قرن ذلك بالخيانة وبترك الوفاء بالنذر حتى يشهد الرجل بالكذب قبل أن يطلب منه ذلك ؛ فإنه شر ممن لا يكذب حتى يسأل أن يكذب .
مجموع الفتاوى 20/296
(كانوا ينهوننا – ونحن غلمان – عن العهد والشهادات) والقائل هو إبراهيم النخعي، وفي
رواية للبخاري “ونحن صغار” قال ابن عبد البر: معناه عندهم النهي عن مبادرة الرجل بقوله: “أشهد بالله، وعلى عهد الله. لقد كان كذا وكذا ونحو ذلك، وإنما كانوا يضربونهم على ذلك، حتى لا يصير لهم به عادة، فيحلفوا في كل ما يصلح وما لا يصلح.
قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون المراد النهي عن تعاطي الشهادات، والتصدي لها، لما في تحملها من الحرج، ولا سيما عند أدائها، لأن الإنسان معرض للنسيان والسهو، ولا سيما وهم – إذ ذاك – غالبا لا يكتبون.
(ثم يخلف قوم يحبون السمانة) وفي الرواية السابعة “ويظهر فيهم السمن” قال النووي: السمانة بفتح السين هي السمن، بكسر السين وفتح الميم.
قال جمهور العلماء في معنى هذا الحديث: المراد بالسمن هنا كثرة اللحم، ومعناه أنه يكثر فيهم ذلك، وليس معناه، أن يتمحضوا سمانا، قالوا: والمذموم منه من يستكسبه، وأما من هو فيه خلقة فلا يدخل في هذا، والمتكسب له هو المتوسع في المأكول والمشروب، زائدا على المعتاد، وقيل: المراد بالسمن هنا أنهم يتكثرون بما ليس فيهم، ويدعون ما ليس لهم من الشرف، وغيره، وقيل: المراد جمعهم الأموال بحرص وطغيان.
(ويخونون، ولا يؤتمنون) قال النووي: معناه خيانة ظاهرة، بحيث لا يبقى معها ائتمان، بخلاف من خان بحقير مرة واحدة، فإنه يصدق عليه أنه خان، ولا يخرج به عن الأمانة في بعض المواطن. اهـ. فهم لا يثق الناس بهم، ولا يعتقدونهم أمناء.
(وينذرون ولا يوفون) بكسر الذال وضمها لغتان، وفي رواية “ولا يفون” بفتح الياء، وهي صحيحة يقال: وفي، بتخفيف الفاء، وأوفى.[انتظر: وفتح المنعم. بتصرف]
=====
=====
ثانياً: يؤخذ من الحديث:
1 – يؤخذ منه جواز المفاضلة بين الصحابة.
2 – ذم من يشهد ويحلف مع شهادته، واحتج به بعض المالكية في رد شهادة من حلف معها، وجمهور العلماء أنها لا ترد.
3 – استدل به بعضهم على تعديل أهل القرون الثلاثة، وإن تفاوتت منازلهم في الفضل، وهذا محمول على الغالب، والأكثرية، فقد وجد في بعض أفرادها من اتصف بصفات مذمومة، لكن بقلة، بخلاف ما بعد القرون الثلاثة، فالموجود من المذمومين أكثر.
4 – ذم السمن الناتج عن الإكثار من الطعام والشراب.
5 – ذم الخيانة، وعدم الوفاء بالنذر، قال ابن بطال: سوى بين من يخون أمانته، وبين من لا يفي بنذره، والخيانة مذمومة، فيكون ترك الوفاء بالنذر مذموما، وقال الباجي: ساق ما وصفهم به مساق العيب، والجائز لا يعاب، فدل على أن عدم الوفاء بالنذر غير جائز. والله أعلم.
===
===
===
ثانيًا: أفضل القرون وفضل الإنتساب للسلف :
تنبيه راجع للتوسع حديث رقم 1317 من الصحيح المسند أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعا افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة .
المهم ينتظم الكلام في ذلك على النحو التالي:
وقبل ذلك سبق معنا بيان تفاوت الصحابة في الفضل والمنزلة، وفضائل الخلفاء الأربعة، وبيان فضلهم.
المحور الأول: شرف الانتساب إلى مذهب السلف
المراد بالسلفية :
إنَّ السلفيةَ تُطلَقُ ويرادُ بها أحد المعنيين:
الأوَّل: مرحلةٌ تاريخيةٌ معيَّنةٌ تختصُّ بأهل القرون الثلاثة المفضَّلة .
والثاني: الطريقةُ التي كان عليها الصحابةُ والتابعون ومَن تبعهم بإحسانٍ مِن التمسُّك بالكتاب والسُّنَّة وتقديمِهما على ما سواهما، والعملِ بهما على مقتضى فهم السلف الصالح، والمرادُ بهم: الصحابة والتابعون وأتباعهم من أئمَّة الهدى ومصابيحِ الدُّجَى، الذين اتَّفقتِ الأُمَّة على إمامتهم وعدالتهم، وتَلَقَّى المسلمون كلامَهم بالرِّضا والقَبول كالأئمَّة الأربعة، والليثِ ابنِ سَعْدٍ، والسُّفيانَين، وإبراهيمَ النَّخَعِيِّ، والبخاريِّ، ومسلمٍ وغيرِهم، دون أهلِ الأهواء والبدعِ ممَّن رُمي ببدعةٍ أو شُهِرَ بلقبٍ غيرِ مرضيٍّ، مثل: الخوارج والروافض والمعتزلة والجبرية وسائر الفِرَق الضالَّة. وهي بهذا الإطلاق تُعَدُّ منهاجًا باقيًا إلى قيام الساعة، ويصحُّ الانتسابُ إليه إذا ما التُزِمت شروطُهُ وقواعِدُهُ، فالسلفيون هم السائرون على نهجهم المُقْتَفُونَ أثرَهم إلى أن يَرِثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها، سواءٌ كانوا فقهاءَ أو محدِّثين أو مفسِّرين أو غيرَهم، ما دام أنهم قد التزموا بما كان عليه سلفُهم من الاعتقاد الصحيح بالنصِّ من الكتاب والسنَّة وإجماع الأمَّة والتمسُّك بموجبها من الأقوال والأعمال لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ»( [أخرجه مسلم في «الإمارة» (١٩٢٠) من حديث ثوبان رضي الله عنه.])،
ومن هذا يتبيَّن أنَّ السلفيةَ ليست دعوةً طائفيةً أو حزبيةً أو عِرقيةً أو مذهبيةً يُنَزَّل فيها المتبوعُ مَنْزِلةَ المعصوم، ويُتَّخذ سبيلًا لجعلِه دعوةً يُدعى إليها ويُوالى ويعادى عليها، وإنما تدعو السلفيةُ إلى التمسُّك بوصيَّة رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم المتمثِّلة في الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة وما اتَّفقت عليه الأمَّة، فهذه أصولٌ معصومةٌ دون ما سواها.
أمَّا الطرقُ الأخرى المستفتِحة من كلِّ بابٍ فمسدودةٌ، وأبوابها مغلقةٌ إلَّا من طريقٍ واحدٍ، فإنه متَّصلٌ بالله موصلٌ إليه، قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦ﴾[الأنعام: ١٥٣]، وقال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: «خَطَّ لنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم خطًّا ثمَّ قال: «هَذَا سَبِيلُ اللهِ» ثمَّ خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن شماله، ثمَّ قال: «هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦ﴾(٣-[أخرجه الدارمي في «سننه» (٢٠٨)، وابن حبَّان في «صحيحه»(٦)، والحاكم في «المستدرك» (٣٢٤١)، وأحمد (٤١٤٢)، من حديث عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه. وصحَّحه أحمد شاكر في تحقيقه ﻟ «مسند أحمد» (٦/ ٨٩)، وحسَّنه الألباني في «المشكاة» (١٦٦).])
وقد جاء في «تفسير ابنِ كثيرٍ»(٤-[٢/ ١٩١).]): «أنَّ رجلًا قال لابن مسعودٍ رضي الله عنه: ما الصراطُ المستقيم ؟ قال: تركنا محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم في أدناه وطَرَفُه في الجنَّة، وعن يمينه جوادُّ(٥-[الجوادُّ: جمع جادَّةٍ، وهي معظم الطريق، وأصل الكلمة من جدَدَ. [«النهاية» لابن الأثير (١/ ٣١٣)].]) وعن يساره جوادُّ، وثَمَّ رجالٌ يَدْعون من مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجوادِّ انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنَّة، ثمَّ قرأ ابن مسعودٍ الآية». عزاه ابن كثير لابن مردويه مسندا وهو في البدع لابن وضاح وهو من طريق أبان بن عياش متروك .
وعليه يُدرك العاقلُ أنه ليس من الإسلام تكوينُ أحزابٍ متصارعةٍ ومتناحرةٍ ﴿كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ ٥٣﴾[المؤمنون]، فقد ذمَّ الله التحزُّبَ والتفرُّق في آياتٍ ، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى البَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِها لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ»(٦-[أخرجه ابن ماجه في «المقدِّمة» باب اتِّباع سنَّة الخلفاء الراشدين (٤٣) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. وحسَّنه المنذري في «الترغيب والترهيب» (١/ ٤٧)، وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (٩٣٧).])
أولا: نشأة التسمية بالسلفية.
فالمسلمون الأوَّلون كانوا على الإسلام الصحيح قولًا وعملًا وسلوكًا وأخلاقًا لم يَدِبَّ فيهم الخلافُ العقديُّ والطائفيُّ، لذلك سُمُّوا بالمسلمين تمييزًا لهم عن أصحاب الملل الأخرى من اليهود والنصارى والصابئة والمشركين، فكان معنى قوله تعالى: ﴿هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ﴾ [الحج: ٧٨] ينطبق عليهم اسمًا ومسمًّى،
لكن بعد ظهور الاختلافات العقدية والانحرافات السلوكية بين عموم المسلمين تمخَّض عنها وجود فِرَقٍ مختلفةٍ كلٌّ منها تدَّعي الحقَّ قال صلى الله عليه وسلم : «تَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً»، قَالُوا: «وَمَا تِلْكَ الْفِرْقَةُ؟» قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»(١-[أخرجه الطبرانيُّ في «الأوسط» (٥/ ١٣٧) من حديث أنسٍ رضي الله عنه، وصحَّحه الألبـانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (١/ ٤٠٢) رقم: (٢٠٣).])،
فكان جوابه صلَّى الله عليه وسلَّم منصبًّا على تعيين الوصف دون الموصوف،
وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا، ثُمَّ يَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» قِيلَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟» قَالَ: «الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ»(٤-[أخرجه أحمد (١٦٦٩٠) من حديث عبد الرحمن بن سَنَّة رضي الله عنه، وصحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (١٢٧٣).]) .
قلت سيف بن دورة : بين الألباني أن إسناده ضعيف جدا وفيه لفظ لم ترد في غيره من الأحاديث وصحح منه الألفاظ الموافقة لغيره
وكذلك ضعف إسناده محققو المسند لكن قالوا سلف بإسناد جيد عن سعد بن أبي وقاص برقم 1604 ولفظه : إن الإيمان بدأ غريبا وسيعود كما بدأ فطوبى يومئذ للغرباء إذا فسد الناس…..
وفي حديثٍ آخر: «أُنَاسٌ صَالِحُونَ فِي أُنَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ»(٥-[أخرجه أحمد (٦٦٥٠) من حديث عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما،وصحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة»(١٦١٩).])، وإنما يَصْلُحُ لأنه اتَّصف بالوصف المعيِّن للفرقة الناجية في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَا أَنَا عَلَيْهِ اليَوْمَ وَأَصْحَابِي»(٦-[سبق تخريجه،]).
والتسمية بالسلفية لا تضادُّ التسمياتِ الأخرى ولا تخالفها كتسمية «أهل السنَّة والجماعة» و«الفرقة الناجية» و«أنصار السنَّة»، لأنَّ ذلك من باب اختلاف التنوُّع والمسمَّى واحدٌ والمعنى أيضًا، وهو التمسُّك بالكتاب والسنَّة وفق فهم سلف الأمة.
قال الحافظ ابن رجبٍ ـ رحمه الله ـ: «وأمَّا فتنةُ الشبـهاتِ والأهواء المضلَّة فبسببها تفرَّق أهلُ القبلة، وصاروا شِيَعًا وكفَّر بعضهم بعضًا، وصاروا أعداءً وفِرَقًا وأحزابًا بعد أن كانوا إخوانًا، قلوبُهم على قلب رجلٍ واحدٍ، فلم ينجُ من هذه الفِرَق إلَّا الفرقةُ الواحدة الناجية، وهم المذكورون في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ»(٧)، وهُم في آخر الزمان الغرباءُ المذكورون في هذه الأحاديث: «الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ»(٨)، وهم «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنَ السُّنَّةِ»(٩)، وهم «الَّذِينَ يَفِرُّونَ بِدِينِهِمْ مِنَ الفِتَنِ»(١٠)، وهُمُ «النُّزَّاعُ مِنَ القَبَائِلِ»(١١)، لأنهم قلُّوا فلا يوجَدُ في كلِّ قبيلةٍ منهم إلَّا الواحدُ والاثنان، وقد لا يوجَد في بعض القبائل منهم أحدٌ، كما كان الداخلون إلى الإسلام في أوَّل الأمر كذلك، وبهذا فسَّر الأئمَّة هذا الحديث.
قال الأوزاعيُّ في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ»(١٢): «أَمَا إِنَّه ما يذهبُ الإسلامُ ولكِنْ يَذْهَبُ أهلُ السنَّة حتى ما يَبقى في البلد منهم إلَّا رجلٌ واحدٌ».
ولهذا المعنى يوجَد في كلام السلف كثيرًا مدحُ السنَّة ووصفُها بالغربة ووصفُ أهلها بالقلَّة، فكان الحسن البصريُّ ـ رحمه الله ـ يقول لأصحابه: «يا أهل السنَّة! ترفَّقوا ـ رحمكم الله ـ فإنَّكم من أقلِّ الناس»(١٣).
وقال يونسُ بنُ عُبَيْدٍ: «ليس شيءٌ أغربَ من السنَّةِ، وأغربُ منها مَن يَعرفُها»(١٤).
ورُوي عنه أنه قال: «أصبح من إذا عُرِّف السنَّةَ فعرفها غريبًا، وأغربُ منه من يعرِّفها»(١٥).
وعن سفيان الثوريِّ قال: «استوصُوا بأهل السنَّة خيرًا فإنهم غُرَباء»(١٦).
ومرادُ هؤلاء الأئمَّة بالسنَّة: طريقةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم التي كان هو وأصحابُه عليها، السالمةُ من الشبهات والشهوات، ولهذا كان الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ يقول: «أهلُ السنَّة من عَرَفَ ما يدخل بطنَه من حلالٍ»(١٧).
وذلك لأنَّ أكْلَ الحلال من أعظم خِصال السنَّة التي كان عليها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابُه رضي الله عنهم.
ثمَّ صار ـ في عُرف كثيرٍ من العلماء المتأخِّرين من أهل الحديث وغيرهم ـ السنَّةُ عبارةً عمَّا سَلِمَ من الشبهات في الاعتقادات، خاصَّةً في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكُتُبه ورُسُلِه واليوم الآخر، وكذلك مسائل القدر وفضائل الصحابة، وصنَّفوا في هذا العلم تصانيف سمَّوها كُتُبَ السنَّة، وإنما خَصُّوا هذا العلمَ باسم السنَّة لأنَّ خَطَرَه عظيمٌ والمخالفَ فيه على شفا هلكةٍ.
وأمَّا السنَّةُ الكاملةُ فهي الطريقة السالمة من الشبهات والشهوات كما قال الحسنُ ويونسُ بنُ عُبَيْدٍ وسُفيانُ والفُضَيْلُ وغيرُهم، ولهذا وُصِفَ أهلُها بالغربة في آخر الزمان لقلَّتهم وعِزَّتهم فيه»(١٨) اﻫ.
ثانيا: ترادف ألقاب السلفية واتفاق معناها.
سئل الإمام مالكٌ ـ رحمه الله ـ: «مَن أهل السنَّة؟» قال: «أهل السنَّة الذين ليس لهم لقبٌ يُعرَفون به، لا جهميٌّ ولا قدريٌّ ولا رافضيٌّ»(٢٠-[«الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمَّة الفقهاء» لابن عبدالبرِّ (٣٥)، «ترتيب المدارك» للقاضي عياض (١/ ١٧٢).])،
ومراده: أنَّ أهل السنَّة التزموا الأصلَ الذي كان عليه رسـول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه، وبَقُـوا متمسِّكين بوصيَّته صلَّى الله عليه وسلَّم من غير انتسابٍ إلى شخصٍ أو جماعـةٍ، ومن هنا يُدْرَك أنَّ سبب هذه التسمية إنما نشأت بعد الفتنة، عند بداية ظهور الفِرَقِ الدينية، وقد أشار إلى ذلك ابن سيرين ـ رحمه الله ـ بقوله: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلمَّا وقعت الفتنة؛ قالوا: سَمُّوا لنا رجالكم! فيُنظر إلى أهل السنَّة فيُؤخَذ حديثُهم، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يُؤخذ حديثهم»(٢١-[رواه مسلم في «مقدِّمة صحيحه» (١/ ٨).]).
وبهذا يُعْلَم أنَّ السلفية نسبةٌ إلى السلف الصالح . تطلق ـ للدلالة على منهج السلف الصالح في تلقِّي الإسلام وفهمِه والعمل به،
كما تُطْلَق ـ من جهةٍ أخرى ـ للدلالة على مَن حافظ على سلامة العقيدة واتِّباعِ التشريع والعبادة والعمل بها وَفْقَ ما كان عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابُه من التمسُّك بالوحي: الكتـاب والسنَّة وتقديمِهما على ما سواهما، والعملِ على مقتضى فهم الصحابة رضي الله عنهم ومن يوالونهم من القرون المفضَّلة قبل أن يحصل الاختلاف والافتراق من أهل الفِرَق والطوائـف وأصحاب المذاهب والنِّحَل الأخرى التي ظهرت وانتشرت في مختلف البلدان والأقطار من الرقعة الإسلامية الكبرى، ولهذا كان الانتساب إلى مذهب السلف ـ بلا شكٍّ ـ اعتزازًا وشرفًا.
وأكَّد ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ هذا المعنى بقوله: «لا عيبَ على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قَبولُ ذلك منه بالاتِّفاق، فإنَّ مذهب السلف لا يكون إلَّا حقًّا»(٢٢-[«مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٤/ ١٤٩).]).
ثالثا: دوافع العدول عن التسمي بـ «أهل السنة والجماعة» إلى «السلفية».هذا، والمعلوم أنَّ كثيرًا من الفِرَق الضالَّة انتحلت اسمَ أهل السنَّة والجماعة حتى أصبح يُطْلَق على الأشاعرة والماتريدية وغيرِهم، فتوسَّع مصطلح أهل السنَّة إلى أن أصبح فضفاضًا ينتسب إليه من عُرفوا بانحرافٍ في أصول العقيدة والصفات الإلهية ومسائل الإيمان على أنهم أهلُ الحقِّ المبين، ويَرْمُون غيرهم بالضلال المبين، وضمن هذه الحقيقة قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «فكثيرٌ من النـاس يُخْبِر عن هذه الفِرَق بحكم الظنِّ والهوى، فيجعلُ طائفتَه والمنتسبةَ إلى متبوعِه المواليةَ له هُمْ أهلَ السنَّة والجماعة، ويجعلُ من خالفها أهلَ البدع، وهذا ضلالٌ مبينٌ، فإنَّ أهل الحقِّ والسنَّة لا يكون متبوعُهم إلَّا رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم»(٢٣-[المصدر السابق (٣/ ٣٤٦).]).
لأجل ذلك بات ضروريًّا العدولُ عن مصطلح «أهل السنَّة والجماعة» إلى استعمال مصطلح «السلفية» للدلالة على ما تتَّصف به «الفرقة الناجية» أو «المنصورة» أو «الغرباء» لتمييزها عن الطوائفِ المنحرفةِ المنتسبةِ إليهم، فكانت ـ عندئذٍ ـ التسميةُ بمصطلح «السـلفية» حائلةً عن انتساب الطوائف المشهورة بالبدع والأهواء إليها، ومانعةً من اتِّخاذ مذهب السلف شعارًا لهم.
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «فالمقصودُ هنا: أنَّ المشهورين من الطوائف ـ بين أهل السنَّة والجماعة العامَّة ـ بالبدعة ليسوا منتحلين للسلف، بل أشهرُ الطوائف بالبدعة الرافضةُ، حتى إنَّ العامَّة لا تَعرفُ من شعائرِ البِدَع إلَّا الرَّفْضَ، والسنيُّ في اصطلاحهم من لا يكون رافضيًّا، وذلك لأنهم أكثرُ مخالفةً للأحاديث النبوية ولمعاني القرآن، وأكثرُ قدحًا في سلف الأمَّة وأئمَّتها، وطعنًا في جمهور الأمَّة من جميع الطوائف، فلمَّا كانوا أبعدَ عن متابعة السلف كانوا أشهرَ بالبدعة، فعُلم أنَّ شعار أهل البدع: هو تركُ انتحال اتِّباع السلف، ولهذا قال الإمام أحمدُ في رسالة عَبْدُوسِ بنِ مالكٍ: «أصول السنَّةـ عندنا ـ التمسُّكُ بما كان عليه أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم»، وأمَّا متكلِّمة أهل الإثبات من الكُلَّابية والكرَّامية والأشعرية مع الفقهاء والصوفية وأهل الحديث فهؤلاء ـ في الجملة ـ لا يطعنون في السلف، بل قد يوافقونهم في أكثر جُمَل مقالاتهم، لكِنْ كلُّ من كان بالحديث من هؤلاء أعلمَ كان بمذهب السلف أعلمَ وله أتبعَ، وإنما يوجد تعظيـم السلف عند كلِّ طائفةٍ بقدر استنانها وقلَّة ابتداعها، أمَّا أن يكون انتحالُ السلف من شعائر أهل البدع فهذا باطلٌ قطعًا، فإنَّ ذلك غير ممكنٍ إلَّا حيث يكثر الجهلُ ويقِلُّ العلمُ»(٢٤-[«مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٤/ ١٥٥ ـ ١٥٦).]).
هذا، ومن الخطإ البيِّن أن يتصدَّى من ليس له مَسْكَة علمٍ لهذا المذهب .».
قال سبحانه: ﴿فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ﴾ [البقرة: ١٣٧]، وفي قـوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، لِلْمُتَمَسِّكِ فِيهِنَّ يَوْمَئِذٍ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ»(٢٥)، وتوعَّد سبحانه من اتَّبع غيرَ سبيلهم في قوله تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ١١٥﴾ [النساء]، فدلَّ ذلك على أنَّ اتِّباعَ سبيلهم نجاةٌ والحيادَ عن سبيلهم مشاقَّةٌ وابتغاءٌ للاعوجاج عن صراط الله المستقيم.
رابعًا: في ثبوت أصل كلمة «السلف».
ومن جهةٍ أخرى فإنَّ أصل كلمة «السلف» ثابتٌ في السنَّة من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال لابنته فاطمة رضي الله عنها عند دنوِّ أجله: «وَلَا أُرَانِي إِلَّا قَدْ حَضَرَ أَجَلِي، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لُحُوقًا بِي، وَنِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ»(٢٦-[أخرجه البخاري (٦٢٨٥)، ومسلمٌ في «الفضائل» (٢٤٥٠)، من حديث عائشة رضي الله عنها.])،
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم لابنته رضي الله عنها عندما تُوفِّيت: «الْحَقِي بِسَلَفِنَا الخَيْرِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ»(٢٧-[أخرجه أحمد (٢١٢٧) وابن سعدٍ في «الطبقات» (٣/ ٣٩٨)، من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، وفيه: «لَمَّا مَاتَتْ زَيْنَبُ» وفيه: «وَبَكَتِ النِّسَاءُ، فَجَعَلَ عُمَرُ يَضْرِبُهُنَّ بِسَوْطِهِ».
والحديث روي ـ أيضًا ـ في «مسند أحمد» (٣١٠٣) و«طبقات ابن سعد» (٨/ ٣٧) بلفظة:«حَتَّى مَاتَتْ رُقَيَّةُ»، والأصوبأنها زينب وليست رقيَّة، فقد كان صلَّى الله عليه وسلَّم حين تُوفِّيت رقيَّة في بدرٍ، وكان عمر معه. [انظر: «تحقيق مسند أحمد»(٥/ ٢١٧)]. والحديث صحَّحه أحمد شاكر في تحقيق «المسند» (٣١٠٣)، وضعَّفه الألبانيُّ في «السلسلة الضعيفة» (١٧١٥).])،
وهذا المعنى ـ وإن كان يدلُّ على الماضي وما سبق من الحياة الحاضرة من جهة المعنى اللغويِّ ـ إلَّا أنه ورد من أقوال الأئمَّة: التابعين وغيرهم ما يدلُّ على المعنى الاصطلاحيِّ مثل قول عطاءٍ لابن جُرَيْجٍ في مسألة لحمِ الخيل: «لم يَزَلْ سلفُك يأكلونه» قال ابن جريجٍ: قلت له: «أصحابُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟» قـال: «نعم»(٢٨-[نسبه ابن حجرٍ إلى ابن أبي شيبة في «المصنَّف» وصحَّح إسناده. [انظر: «فتح الباري» (٩/ ٦٥٠)].])، وقد أدرك عطاءٌ ـ رحمه الله ـ جمهورَ الصحابة .
وقال الزهريُّ فِي عِظَامِ المَوْتَى نَحْوَ الفِيلِ وَغَيْرِهِ: «أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ سَلَفِ العُلَمَاءِ يَمْتَشِطُونَ بِهَا وَيَدَّهِنُونَ فِيهَا، لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا»(٣٠-[ذكره البخاريُّ معلَّقًا (١/ ٥٦) باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء.])،
وجاء ـ أيضًا ـ من قول الأوزاعيِّ ـ رحمه الله ـ: «اصبِرْ نفسَك على السنَّة، وقِفْ حيث وقف القومُ، وقُل فيما قالوا، وكُفَّ عمَّا كَفُّوا، واسلُكْ سبيـلَ سلفِك الصالح، فإنه يَسَعُك ما يَسَعُهم»(٣١-[أخرجه الآجرِّيُّ في «الشريعة»(٢/ ٦٧٣)، واللالكائيُّ في «شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة» (١/ ١٧٤).])،
وقد وصف الإمام الذهبيُّ ـ رحمه الله ـ الإمامَ الدارقطنيَّ ـ رحمه الله ـ فقال: «لَمْ يَدْخُلِ الرَّجُلُ أَبدًا في علم الكلام ولا الجدال ولا خاض في ذلك، بل كان سلفيًّا»(٣٢-[«سير أعلام النبلاء» للذهبي (١٦/ ٤٥٧).])،
وقد تناقل العلماء هذا المعنى للدلالة على الاستقامة على الشرع والالتزام بمنهج السلف الصالح وعلى طريقتهم التي امتازوا بها عن غيرهم من الفِرَق والطوائف.
====
====
====
المحور الثاني: جوانب التقاطع مع السلفية الجهادية والحزبية
هذا مع كون السلفية في عقيدتها ومنهجها تتميَّز بخصائصَ وسِماتٍ بارزةٍ، إلَّا أنَّ مِن المنتسبين إلى هذا المنهج مَن يصرفون خصائصَها ومصطلحاتِها الجامعة للمعاني المتكاملة من الدين الإسلاميِّ إلى تضييق عموم شمولها وكمالها وتحجير معانيها، فمِن ذلك ما يسمَّى بالسلفية الجهادية والحزبية ـ زعموا ـ التي تفترق عن السلفية الحقَّة في المفهوم والشكل والمضمون.
وتظهر جوانب التقاطع مع السلفية الجهادية والحزبية في الحيثيَّات التالية:
من حيث الطابع الشمولي للمنهج السلفي:
أنَّ السلفية الجهادية مخالِفةٌ للمنهج السلفيِّ الحقِّ ـ من حيث نطاق مفهومها ـ فهي تحجِّر واسعًا فتقيِّد السلفيةَ بجميع أبعادها الواسعة وتحصرها في دائرةٍ تطبيقيةٍ ضيِّقةٍوهي «الجهاد»، وهذا ـ بلا ريبٍ ـ تحوُّلٌ رديءٌ من الأحسن إلى السيِّئ، إذ يتضمَّن الانتقالَ من خاصِّيَّة الشمولية التي يمتـاز بها المنهج السلفيُّ ويجرِّده منها، ويحصرُ شموليَّتَه في فرضٍ تكليفيٍّ ـ وهو الجهاد ـ دون بقيَّة التكاليف الشرعية.
مع مخالفتهم لمنهج السلف في أحكام الجهاد
من حيث نشأة مذهب السلف:
فمذهب السلف أصيلٌ في نشأته، بينما السلفية الجهادية والحزبية ـ انتشر بعد أحداث هدم برجَيِ التجارة الأمريكيَّيْن، واتِّصافُه بالسلفية أورث شُبَهًا ومخادعةً خطَّافةً للقلوب الضعيفة الفاقدة لمعايير التمييز بين الحقِّ والباطل.
من حيث مفهوم الجهاد:
الجهاد ـ بمفهومه الواسع ـ عند أتباع السلف ينضبط بشروطٍ منها:
أن يكون ـ من حيث مبدأُه ـ مشروعًا وموكولًا إلى الإمام واجتهاده، وتَلزم الرعيَّةَ طاعتُه فيما يراه من ذلك(٣٣-[انظر: «المغني» لابن قدامة (٨/ ٣٥٢، ٣٦٤).])،
فضلًا عن إعداد العدَّة المادِّيَّة وشرعية الراية، ونحو ذلك ممَّا ينضبط به الجهادُ في سبيل الله والمسائل الأخرى المتعلِّقة به
ـ وبصرف النظرعن نوعية الجهاد طلبًا كان أو دفعًا ـ فإنَّ الملاحظ أنَّ معظم الرايات الجهادية المرفوعة في عصرنا هذا في عموم الدول العربية آلت ـ بطريقٍ أو بآخر ـ إلى اختيار الاشتراكية كنظام حكمٍ ثمَّ بعده اتِّخاذ الديمقراطية والتعدُّدية الحزبية بالمنظور الغربيِّ دستورًا لنظامها السياسيِّ بعد أن تستوليَ على الحكم، وهذا بمباركة الغرب الحاقد إلَّا ما رحم ربُّك والله المستعان.]).
غير أنَّ المنطلقاتِ الجهاديةَ عند أصحاب السلفية الجهادية المخالِفةِ للمنهج السلفيِّ الحقِّ تكمن في تأسيس حركتهم على مبدإ عدم العذر بالجهل في المسائل العقدية، وفي طليعة ذلك الحكم بغير ما أنزل الله، بعيدًا عن الضوابط والمقاصد المرعيَّة
ومن الضوابط الشرعية في العذر بالجهل: تناسُبُه مع التجاوز عن النقص البشريِّ وانخفاض منزلة الجاهل ونقص إيمانه على قدر جهله، وتناسُبُه مع أحوال الناس وتفاوُتِ مداركهم من حيث القـوَّةُ والضعف، وتناسُبُه ـ أيضًا ـ مع أحوال بيئتهم ـ مكانًا وزمانًا ـ من جهة مظنَّة العلم من عدمه، والنظر إلى نوعية المسائل المجهولة من جهة الوضوح والخفاء، مع مراعاة التفريق في الحكم بين أحكام الدنيا والآخرة، فإذا ما روعيت شروطُ العذر بالجهل وضوابطُه فإنَّ الجاهل لا يستحقُّ العقوبةَ الدنيوية والأخروية حتى تُقام عليه الحجَّة، لأنَّ العقوبة والعذاب متوقِّفان على بلاغ الرسالة بغضِّ النظر عن قبح المعصية وتسمية فاعلها بها. [انظر ضوابط مسألة العذر بالجهل في: «توجيه الاستدلال بالنصوص الشرعية على العذر بالجهل في المسائل العقدية» (٥٦)].
كما يتناسب العذر بالعجز مع أحوال الناس وطاقاتهم وقدراتهم، لذلك كان العجز عن أداء ما شرع الله عزَّ وجلَّ من الموانع التي تمنع التكفير، فهذا النجاشيُّ ملك النصارى في الحبشة لم يهاجر ولم يجاهد، وعذَرَه الله لعجزه وأنزل فيه قرآنًا يُتلى، بل يُعلم قطعًا أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بين قومه بشريعة الإسلام لأنَّ قومه لا يُقِرُّونه على ذلك، وكذلك ما أخبر الله به من حال مؤمن آل فرعون مع قوم فرعون، ومن حال امرأة فرعون، وكما كان يوسف الصدِّيق عليه السلام مع أهل مصر، فإنهم كانوا كفَّارًا ولم يمكنه أن يفعل معهم كلَّ ما يعرفه من دين الإسلام. [انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٩/ ٢١٧ ـ ٢٢١)]
إنَّ المعلوم في القواعد الشرعية العامَّة أنَّ إزالة المفسدة بمثلها أو بما هو أعظم منها لا يجوز شرعًا بالإجماع، فالضرر ـ إذن ـ يُزال بلا ضررٍ، ولهذا قال الشيخ عبد العزيز بن بازٍ ـ رحمه الله ـ في «مجموع فتاويه» (٨/ ٢٠٤) في مَعْرِض بيان إزالة السلطان الكافر: «أمَّا إذا لم تكن عندهم قدرةٌ فلا يخرجون، أو كان الخروج يسبِّب شرًّا أكثر فليس لهم الخروج، رعايةً للمصالح العامَّة، والقاعدة الشرعية المجمع عليها أنه: لا يجوز إزالة الشرِّ بما هو أشرُّ منه، بل يجب درءُ الشرِّ بما يزيله أو يخفِّفه، أمَّا درءُ الشرِّ بشرٍّ أكثرَ فلا يجوز بإجماع المسلمين».])،
فصارت دارُ الإسلام ـ عند الجهاديين ـ دارَ حربٍ وجهادٍ، وبغضِّ النظر عن صحَّة ماهية دار الكفر ودار الإسلام وصِفَتِهما فقد أخذ مفهومُ «الجهاد» عند السلفية الجهادية طابعًا حركيًّا تشكَّل في فِرَقٍ ثوريةٍ قائمةٍ على نزع اليد من طاعة أولي الأمر وكلِّ أعوانهم والخروج عليهم قولًا وعملًا بالثورة عليهم وما يعقبها مِن إحداث الفوضى الاجتماعية والاضطرابات الأمنية لزعزعة كيان الدولة المسلمة.
فظهر جهادُهم الثوريُّ في غير المسلك السلفيِّ الصحيح الذي يريدون الانتماءَ إليه ظلمًا وكذبًا وزورًا بترويع الآمنين والمعاهدين والمستأمنين وسفك دمائهم بالعمليات الانتحارية والتفجيرية والاغتيالات وإتلاف المنشآت وتخريب الممتلكات، وهذا ما تأبـاه السلفية في عدلها واعتدالها بين المناهج الأخرى وتنكر قُبْحَه، وبذلك يتحوَّل المجاهدون إلى ثوَّارٍ في مبارزة الحاكم ومنازعته الحكمَ، متَّخذين اصطلاحَ السلفية دِرْعًا وتُرْسًا للتعمية والمغالطة، وهو الأمر الذي يُسهم ـ بطريقٍ أو بآخر ـ في إضعاف شوكة المسلمين وحلول الشقاق فيما بينهم والتمكينِ لأعداء المسلمين من اليهود والنصارى من التسلُّط على الأمَّة الإسلامية.
من حيث مآل الخروج على الحكام:
لم تتحقَّقْ في خروجهم وثورتهم مقاصدُ التشريع، بل كانت نذيرَ شؤمٍ وفسادٍ في الأرض، والناظرُ في حصيلة نتائج خروجهم الثوريِّ يجدها مريرةً ـ وقد يكون بالاستنجاد بالكفَّار والتعاون معهم، لكن سرعان ما تقيم ـ بعد خلعه ـ نظامًا غير إسلاميٍّ هي بنفسها تكفر به على غرار ما كان عليه الإمام الحاكم المخلوع أو أضرَّ منه وأسوأ.
أمَّا أهل السنَّة السلفيون فلا يداهنون ولاةَ الأمر بباطلٍ، ولا يمدحونهم على معصيةٍ بنفاقٍ، ولا يزيِّنون لهم الباطلَ، ولا يتاجرون بعلمهم، وإنما عُرفوا بالصدق في مناصحة الحكَّام لأنَّ مناصحتهم منافيةٌ للغلِّ والغشِّ، بأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة من غير تعنيفٍ ولا تحريضٍ على الخروج ولا اغتيالٍ ولا تفجيرٍ،
من حيث التعامل مع الحكام:
ومن جوانب المفارقة مع ما يسمَّى بالسلفية الجهادية أو الحزبية أنهم لا يصبرون على جَوْر الأئمَّة وحيف الحكَّام، ولا يَدْعُون لهم بالصلاح والعافية، وإنما يطعنون فيهم بأنواع أساليب الطعن والقدح من السبِّ والشتم واللعن والتكفير والانتقاص والتشهير بعيوبهم والتشنيع عليهم على رؤوس المنابر وفي المحافل، وفي مختلف وسائل الإعلام،
وهو مخالف
لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم:«إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي»(٣٦-[أخرجه البخاري (٧٠٥٧)، ومسلم في «الإمارة» (١٨٤٥)، من حديث أسيد بن حضيرٍ رضي الله عنه.])،
وبقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ»(٣٧-[أخرجه البخاري (٧٠٥٤)، ومسلم في «الإمارة» (١٨٤٩)، من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما.])،
وقول أنس بن مالكٍ رضي الله عنه: «نَهَانَا كُبَرَاؤُنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قَـالَ: «لَا تَسُبُّوا أُمَرَاءَكُمْ وَلَا تَغِشُّوهُمْ وَلَا تَبْغَضُوهُمْ، وَاتَّقُوا اللهَ وَاصْبِرُوا؛ فَإِنَّ الأَمْرَ قَرِيبٌ»»(٣٩-[«السنَّة» لابن أبي عاصم (٤٧٤)، «التمهيد» لابن عبد البرِّ (٢١/ ٢٨٧).])،
وضمن هذا المعنى قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «مذهب أهل الحديث: تَرْكُ الخروج بالقتال على الملوك البغاة والصبرُ على ظلمهم إلى أن يستريح بَرٌّ أو يستراح من فاجرٍ»(٤٠-[«مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٤/ ٤٤٤).])،
ونقل النووي ـ رحمه الله ـ مذهبَ جماهير أهل السنَّة من الفقهاء والمحدِّثين والمتكلِّمين في شأن الإمام الحاكم حيث قال: «لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقـوق، ولا يُخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بـل يجب وعظُه وتخويفه للأحاديث الواردة في ذلك»(٤١)،
بل إنَّ أهل السنَّة السلفيين يستحبُّون الدعاءَ للسلطان بالصلاح والعافية، قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: «لو كان لنا دعوةٌ مستجابةٌ لدَعَوْنا بها للسلطان»(٤٢-[انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٨/ ٣٩١)، «كشَّاف القناع» للبهوتي (٢/ ٣٧). وهو منقولٌ ـ أيضًا ـ عن الفضيل بن عياضٍـ رحمه الله ـ. [انظر: «حلية الأولياء» لأبي نعيم (٨/ ٩١)].])،
قال الآجرِّي ـ رحمه الله ـ: «قد ذكرتُ من التحذير من مذاهب الخوارج ما فيه بلاغٌ لمن عصمه الله تعالى عن مذهب الخوارج ولم يَرَ رأيَهم، وصبر على جَوْر الأئمَّة وحَيْف الأمراء ولم يخرجْ عليهم بسيفه، وسأل اللهَ تعالى كشْفَ الظلم عنه وعن المسلمين، ودعا للوُلاة بالصلاح وحجَّ معهم، وجاهد معهم كلَّ عدُوٍّ للمسلمين، وصلَّى معهم الجُمُعةَ والعيدين، فإنْ أمروه بطاعةٍ فأمكنه أطاعهم، وإن لم يُمكنْه اعتذر إليهم، وإن أمروه بمعصيةٍ لم يُطِعْهم، وإذا دارت الفِتَنُ بينهم لزم بيتَه وكفَّ لسانَه ويدَه، ولم يَهْوَ ما هم فيه، ولم يُعِنْ على فتنةٍ، فمَنْ كان هذا وصْفَه كان على الصراط المستقيم إن شاء الله»(٤٣-[«الشريعة» للآجرِّي (١/ ٣٧١).]).
أمَّا موقف أهل السنَّة السلفيِّين من الفتنة فهو وجوب تركِ القتال فيها عملًا بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «سَتَكُونُ فِتَنٌ القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ»(٤٤-[أخرجه البخاري في «الفتن»بابُ: «تَكُونُ فِتْنَةٌ القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ» (٣٦٠١)، ومسلم في «الفتن وأشراط الساعة» (٢٨٨٦)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.])
، ولنهيه صلَّى الله عليه وسلَّم عن القتال في الفتنة بقوله: «كُونُوا أَحْلَاسَ بُيُوتِكُمْ»(٤٥-[أخرجه أحمد (١٩٦٦٢)، وأبو داود في «الفتن ودلائلها»بابٌ في النهي عن السعي في الفتنة(٤٢٦٢)، من حديث أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه. وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (٤/ ٤٩) عند الحديث (١٥٣٥)، والأرناؤوط في تحقيق «جامع الأصول» (١٠/ ٩).])،
ويدلُّ عليه ـ أيضًا ـ حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما حين قـال له صلَّى الله عليه وسلَّم: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»، قُلْتُ: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟» قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ»(٤٦-[أخرجه البخاري في «المناقب»بابُ علامات النبوَّة في الإسلام (٣٦٠٦)، ومسلم في «الإمارة» (١٨٤٧)، من حديث حذيفة رضي الله عنه.]).
قـال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ مبيِّنًا مذهبَ أهل السنَّة في ذلك: «نهى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن القتال في الفتنة وكان ذلك من أصول السنَّة، وهذا مذهب أهل السنَّة والحديث وأئمَّة أهل المدينة من فقهائهم وغيرهم»(٤٧-[«الاستقامة» لابن تيمية (١/ ٣٢).]).
من حيث الدعوة إلى التوحيد والاتباع:
ومن جوانب المفارقة والتقاطع مع ما يُدْعَى بالسلفية الجهادية المبايِنة للمنهج السلفيِّ الحقِّ أنها حركةٌ ثوريةٌ تزهِّد في أسس دعوة الرسل المتجلِّية في التوحيد والاتِّباع والقيام على تجسيدهما في أرض الواقع بما تمليه المرحلة المكِّية النبوية ـ تخليةً وتحليةً، تصفيةً وتربيةً ـ، وذلك بالابتعاد عن العمل الحركيِّ والتعويل على العمل الدعويِّ والتربويِّ القائم على أساس تجريد التوحيد من الشركيات والضلالات، ونبذ جميع السبل إلَّا سبيل محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، ومحاربة البدع والتعصُّب المذهبيِّ والتفرُّق الحزبيِّ، ونحو ذلك ممَّايتمتَّع به المنهج السلفيُّ في خصائصه ومقوِّماته.
من حيث التعامل مع العلماء:
كما أنَّ هذه الفرقةَ المخالِفةَ للمنهج السلفيِّ الحقِّ ـ من جهةٍ أخرى ـ تستصغر شأنَ علماء السنَّة السلفيِّين الناصحين لهم بعدم التحزُّب والخروج وبالبعد عن الفتن،ٍ وتنعتهم تارةً ﺑ «مرجئة الفقهاء»،وتـارةً ﺑ «جَهَلة فقه الواقع»، وتارةً ﺑ «العملاء»، وأخرى ﺑ «علماء السلاطين أو البلاط» أو «أتباع بغلة السلطان»،
قـال الصابونيُّ ـ رحمه الله ـ: «وأصحاب الحديث عِصَامةٌ من هذه المعايب، وليسوا إلَّا أهلَ السيرة المَرْضيَّة، والسبلِ السويَّة، والحججِ البالغة القويَّة، قد وفَّقهم الله جلَّ جلاله لاتِّباع كتابه، ووحيه وخطابه، والاقتداء برسوله صلَّى الله عليه وسلَّم في أخباره التي أمر فيها أمَّتَه بالمعروف من القول والعمل، وزجرهم فيـها عن المنكر منهما، وأعانهم على التمسُّك بسيرته، والاهتداء بملازمة سنَّته»(٤٨-[«عقيدة السلف» للصابوني (١٠٧).]).
من حيث المشاركة السياسية:
ومن الفوارق ـ أيضًا ـ مع المسمَّاة بالسلفية الجهادية والحزبية سعيُها ـ من حيث الغاية والمقصد ـ إلى الخروج على الحاكم ولو برضاه وإقراره عن طريق الدخول في معترك المجالس النيابية أو البرلمانية التي نازعت اللهَ تعالى في ربوبيته وحقِّه الخالص في التشريع والحكم، وجعلت الحاكمَ مشاركًا له في سلطة التشريع، وهذا ـ بلا شك ـ مُنافٍ لوجوب إفراد الله تعالى في الحكم والتشريع، قال تعالى: ﴿وَلَا يُشۡرِكُ فِي حُكۡمِهِۦٓ أَحَدٗا ٢٦﴾ [الكهف]، فالسلفية الحقَّة تؤمن بأنَّ الله هو الحَكَمُ وإليـه الحُكم، وهذا من منطلق النصوص القرآنية الصريحة ـ بقطع النظر عن آراء الرجال ـ فاعرِفِ الحقَّ تعرِفْ رجالَه، بينما السلفية الجهادية والحزبية تحشر نفسها مع المشرِّعين غيرَ ما شرعه الله، وتتَّخذ من الديمقراطية التعدُّدية التي هي حكمُ الشعب وجميعِ أساليبها من المظاهرات والمسيرات والإضرابات والاعتصامات
المحور الثالث: أهمُّ أسباب الانحراف عن المنهج السُّنِّيِّ السلفيِّ:
هذا، وكان لدخولِ كثيرٍ مِنَ الأعاجم مِنْ أهل الدياناتِ الأخرى الإسلامَ، واختلاطِهم بالمسلمين بعد الفتوحات الإسلامية، واتِّساعِ رقعة العالَمِ الإسلاميِّ الأثرُ السلبيُّ البالغُ في ضعفِ اللغة العربية والجهلِ بمُصْطلَحاتها وأسرارِها بسبب العجمة المُهْلِكة(٣)؛ فنَتَجَ عن سوءِ فهمِ اللسان العربيِّ اضطرابٌ في فهمِ معاني نصوص الكتاب والسنَّة والمسائلِ المتعلِّقة بها مِنْ جهةٍ، وسهَّل ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ انتشارَ ما كانوا عليه قبل إسلامهم مِنْ مُعْتَقَداتٍ وتشريعاتٍ ومَذاهِبَ مُخالِفةٍ ـ في مفاهيمها ومَناهِجِها ـ للإسلام ومَقاصِدِه الشرعية، ثمَّ جَدَّ في المجتمع المسلم الفسيحِ فِتَنٌ عظيمةٌ ومِحَنٌ مَقِيتةٌ وأحداثٌ سياسيةٌ كبرى هزَّتْ كيانَه وصدَّعَتْ صفوفَه، وتَبَلْوَرَ فيها الجدلُ العقديُّ والسياسيُّ العقيم، وانقلب ـ فيما بعدُ ـ إلى تفرُّقٍ عَقَديٍّ وصراعٍ دمويٍّ عكَّرَ صفوَ حياةِ المسلمين ولبَّس عليهم أَمْرَ دِينِهم، كان مِنْ ورائِه خُلُوفٌ ظَهَرَتْ فيهم البِدَعُ والضلالات؛ ﻓ ﴿فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗاۖ كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ ٣٢﴾ [الروم]، ويأتي في طليعةِ الضلالات التي ظهَرَتِ:
1) الغُلُوُّ في الدِّين الذي يُمثِّلُه مذهبُ الخوارج والشيعة والمرجئة.
2) تعريبُ كُتُبِ الفلسفة اليونانية والهندية والفارسية مِنْ كُتُبِ العقائد الوثنية وغيرِها؛ فاشتغلَتْ بها طائفةٌ مِنْ عُقَلاءِ المسلمين قراءةً وتحليلًا ومُناقَشةً؛ فانخدعوا بمَناهِجِها ومُقرَّراتِها في البحث، ووَلِعُوا بالعلوم الكلامية والمنطقية اليونانية، وأُشْرِبَتْ قلوبُهم حُبَّها؛ فانعكسَتْ آثارُها السَّلبيةُ في إقحام الفلسفة في الحياة الفكرية للعالَمِ الإسلاميِّ،
.3 ) فأَفْرَطوا في تحكيمِ العقل في قضايَا العقيدة، وبنَوْا إثباتَ المَطالِبِ الإلهية على الأقيسة وإعمالِ البراهين المنطقية، وقدَّموا العقلَ على الشرع، وأوَّلوا النصوصَ الشرعية بأنواع المَجازات،
=====
المحور الرابع: مميزات المنهج السلفي: وامتازَ المذهبُ السلفيُّ ـ في تقرير العقيدة عَرْضًا ورَدًّا على الخصوم ـ بقواعِدَ سليمةٍ وخواصَّ شريفةٍ؛ فمِنْ قواعِدِه الكبرى المُميِّزةِ له:
- أوَّلًا: الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والاسترشادُ بفهم السلف الصالح.
ثانيًا: اتِّخاذُ الكتاب والسنَّةِ ميزانًا للقَبول والردِّ، وأخذُ مَطالِبِ الدِّين مِنْ قِبَلِهما؛ لأنَّ بهما يتجلَّى الهدى مِنَ الضلال، والحقُّ مِنَ الباطل، والصوابُ مِنَ الخطإ، وما سِواهُمَا مِنْ أقوالِ الرجال وأعمالِهِم وآرائهم واجتهاداتهم ومُعْتقَداتهم تُعْرَضُ عليهما؛ فما وافَقَ الكتابَ والسنَّةَ قُبِلَ وعُمِلَ به، وما خالَفَهما رُدَّ على أصحابه مهما كانَتْ منزلتُهم،
قال ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «جِماعُ الفرقانِ بين الحقِّ والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغيِّ، وطريقِ السعادة والنجاة وطريق الشقاوة والهلاك: أَنْ يُجْعَلَ ما بَعَثَ اللهُ به رُسُلَه وأَنْزَلَ به كُتُبَه هو الحقَّ الذي يجب اتِّباعُه، وبه يحصل الفرقانُ والهدى والعلمُ والإيمان؛ فيُصَدَّقُ بأنه حقٌّ وصِدْقٌ، وما سِواهُ مِنْ كلامِ سائرِ الناس يُعْرَضُ عليه؛ فإِنْ وافَقَهُ فهو حقٌّ، وإِنْ خالَفَهُ فهو باطلٌ»(٧-[«مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٣/ ١٣٥).]).
ثالثًا: تقديم الشرع على العقل مع أنَّ العقل الصحيح لا يُنافي النصَّ الصحيح ولا يُعارِضُه، بل هو مُوافِقٌ له، قال الشاطبيُّ ـ رحمه الله ـ: «لا ينبغي للعقل أَنْ يتقدَّمَ بين يدَيِ الشرع؛ فإنه مِنَ التقدُّم بين يدَيِ اللهِ ورسوله، بل يكون مُلبِّيًا مِنْ وراءَ وراءَ، ثمَّ نقول: إنَّ هذا هو المذهبُ للصحابةِ رضي الله عنهم وعليه دَأَبُوا، وإيَّاهُ اتَّخذوا طريقًا إلى الجنَّة فوَصَلوا»(٨-[«الاعتصام» للشاطبي (٢/ ٣٣١).])،
وقال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «قد ثَبَتَ أنَّ الله ـ سبحانه ـ قد أَنْزَلَ الكتابَ والميزان؛ فكلاهما في الإنزال أخَوانِ، وفي معرفة الأحكام شقيقان، وكما لا يَتناقَضُ الكتابُ في نَفْسِه فالميزانُ الصحيحُ لا يَتناقضُ في نَفْسِه، ولا يَتناقضُ الكتابُ والميزانُ؛ فلا تَتناقضُ دلالةُ النصوصِ الصحيحة، ولا دلالةُ الأقيسة الصحيحة، ولا دلالةُ النصِّ الصريحِ والقياسِ الصحيح، بل كُلُّها مُتصادِقةٌ مُتعاضِدةٌ مُتناصِرةٌ يُصدِّقُ بعضُها بعضًا، ويشهد بعضُها لبعضٍ؛ فلا يُناقِضُ القياسُ الصحيحُ النصَّ الصحيحَ أبدًا»(٩-[«إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (١/ ٣٣١).]).
رابعًا: ويدخل في مَعْنَى هذه القاعدةِ والتي قبلها: الاعتمادُ على الكتاب والسنَّة، وعدمُ مُعارَضتِهما بما دونهما مِنْ رأيٍ أو ذَوْقٍ أو عقلٍ أو وَجْدٍ أو قياسٍ، ورَفْضُ الأوهام والخُرافات ونَبْذُ البِدَعِ والشركيات، كما تقتضيه الفِطَرُ القويمةُ والعقول السليمة؛ تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ ١﴾
[الحُجُرات]خامسًا: قَبولُ أخبارِ الآحاد التي رواها عدلٌ ضابطٌ ـ ولم يُعارِضْه نصٌّ مِثلُه، ووجوبُ العمل بها.
سادسًا: رَفْضُ التأويل الكلاميِّ المذموم، وهو تأويلُ المتكلِّمين للنصوص الشرعية بما يقتضي التحريفَ والتغيير، حيث يُؤوِّلُ أهلُ الباطلِ نصوصَ الكتابِ والسنَّةِ على غيرِ تأويلها، ويدَّعُونَ صَرْفَ اللفظِ عن مدلوله إلى غيرِ مدلوله بغيرِ دليلٍ يُوجِبُ ذلك؛ لأنَّ الحقَّ ـ عندهم ـ ما عَرَفوهُ بعقولهم ووصلوا إليه بأقيستهم.
[انظر: شرف الانتساب إلى مذهب السلف وجوانب الافتراق مع ما يُسمَّى بالسلفية الجهادية والحزبية، والسلفية منهجُ الإسلام وليسَتْ دعوةَ تحزُّبٍ وتفرُّقٍ وفساد، والدعوة السلفية السُّنِّيَّة وعَقَباتٌ في طريق النهوض بها- بتصرف يسير]
===
===
المحور الخامس: التغيير والإصلاح عند أهل السنة والجماعةالتغيير سنة كونية: إن التغير سنة الله عز وجل في خلقه،وقد جاء في الحديث عن العرباض بن سارية قال “وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ….” [حديث حسن عن العرباض بن سارية :
ومحل الشاهد قوله صلى الله عليه وسلم : “ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيرا”، وهذا معناه حدوث تغير بعد وفاته صلى الله عليه وسلم .ويدل على صحة ما ذكرته لك ما جاء عن أبي الدرداء أنه يقولُ: وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا” [أخرجه البخـاري في كتاب الأذان، باب فضل صلاة الفجر في جماعة، تحت رقم (650)].
قال الحافظ ابن حجر (ت852هـ) : “قوله : (يصلون جميعا) أي: مجتمعين، وحذف المفعول وتقديره الصلاة أو الصلوات، ومراد أبي الدرداء أن أعمال المذكورين حصل في جميعها النقص والتغيير إلا التجميع في الصلاة، وهو أمر نسبي لأن حال الناس في زمن النبوة كان أتم مما صار إليه بعدها، ثم كان في زمن الشيخين أتم مما صار إليه بعدهما وكأن ذلك صدر من أبي الدرداء في أواخر عمره وكان ذلك في أواخر خلافة عثمان، فيا ليت شعري إذا كان ذلك العصر الفاضل بالصفة المذكورة عند أبي الدرداء فكيف بمن جاء بعدهم من الطبقات إلى هذا الزمان ؟”[ فتح الباري (2/138)، وانظر إغائة اللهفان (1/205-207)]،
فالتغير حاصل في الأمة، ولذلك أخبر صلى الله عليه وسلم فيما جاء الخبر عن تجديد الدين.عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَا أَعْلَمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا”[ أخرجه أبوداود في كتاب الملاحم باب ما جاء في قرن المائة، حديث رقم (4291)]
قلت سيف بن دورة : نقل أبوداود أنه روي معضلا لكن نقل السيوطي الاتفاق على صحته فإن صح الاتفاق فيحمل ما ذكره أبوداود من رواية الاعضال على بيان الاختلاف دون التعليل .
والْمُرَاد مِنْ التَّجْدِيد : إِحْيَاء مَا اِنْدَرَسَ مِنْ الْعَمَل بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّة وَالْأَمْر بِمُقْتَضَاهُمَا وَإِمَاتَة مَا ظَهَرَ مِنْ الْبِدَع وَالْمُحْدَثَات[انظر مرقاة المفاتيح (2/169)، عون المعبود (11/260)]،]،
فالتغير والاختلاف عما كان عليه الأمر الأول حاصل، وعلاجه بالرجوع إلى الدين، وهو الإصلاح.ضوابط الإصلاح عند أهل السنة والجماعة:
منهج الإصلاح عند أتباع السلف الصالح : أهل السنة والجماعة مضبوط بخمسة ضوابط وهي التالية :
الضابط الأول :
أن موضوع الإصلاح الأول والأساس هو عبادة الله وتوحيده، وهذه هي دعوة الأنبياء …
الضابط الثاني :
الإصلاح يبدأ من الفرد، لا من المجتمع، و لا من الحاكم، و لا من غيره، إنما كل إنسان يبدأ بنفسه، فيصلحها وأدناه فأدناه، والله سبحانه يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ[الرعد: من الآية 11]، فالبدء بالنفس، ثم الأقرب فالأقرب، قال تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾[الشعراء:214].
الضابط الثالث :
العلم قبل القول والعمل، وقد بوب البخاري في صحيحه في كتاب العلم: “بَاب الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾[محمد:19]؛ .
الضابط الرابع :
أن يكون علمه على منهج السلف الصالح وأهمه لزوم الجماعة
الضابط الخامس :
أن يتحلى في دعوته بصفات، بينتها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والآثار السلفية، من الرفق والحكمة والصبر
عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : “أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ قَالَ يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا” متفق عليه .
[التغيير والإصلاح عند أهل السنة والجماعة، للشيخ محمد بازمول].