51 – بَابُ بَيَانِ أَنَّ بَقَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَانٌ لِأَصْحَابِهِ، وَبَقَاءَ أَصْحَابِهِ أَمَانٌ لِلْأُمَّةِ
207 – (2531) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبَانَ، كُلُّهُمْ عَنْ حُسَيْنٍ، قَالَ: أَبُو بَكْرٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ، عَنْ مُجَمَّعِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: صَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ جَلَسْنَا حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَهُ الْعِشَاءَ قَالَ فَجَلَسْنَا، فَخَرَجَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: «مَا زِلْتُمْ هَاهُنَا؟» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ صَلَّيْنَا مَعَكَ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ قُلْنَا: نَجْلِسُ حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَكَ الْعِشَاءَ، قَالَ «أَحْسَنْتُمْ أَوْ أَصَبْتُمْ» قَالَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَكَانَ كَثِيرًا مِمَّا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: «النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ»
الفوائد
==========
ما يوافق هذه الأحاديث:
ترجم البخاري رحمه الله في كتاب الفتن من صحيحه،
بَابٌ: لاَ يَاتِي زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ
وأورد تحته حديثين:
# عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الحَجَّاجِ، فَقَالَ: اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لاَ يَاتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
# أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فَزِعًا، يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الخَزَائِنِ، وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الفِتَنِ، مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ – يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ لِكَيْ يُصَلِّينَ – رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح (باختصار):
قال ابن بطال هذا الخبر من أعلام النبوة لإخباره صلى الله عليه وسلم بفساد الأحوال وذلك من الغيب الذي لا يعلم بالرأي وإنما يعلم بالوحي انتهى
أما حديث الباب فسنتكلم عليه في النقاط التالية:
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
مقدمة: يقول الله تعالى: {وعلامات وبالنجم هم يهتدون} [النحل: 16] سبحانه هيأ الأسباب للمسببات، وجعل للنتائج مقدمات وجعل للساعة أشراطا وعلامات، فانتثار الكواكب، وتكوير الشمس، وانكدار النجوم، كل ذلك من علامات الساعة، وهناك علامات لا نراها، ربطها الإسلام بما نراه، فإذا رأينا النجوم قد ذهبت من السماء في الليلة المظلمة الخالية من السحاب علمنا أن السماء انفطرت وانشقت، وطالما كانت النجوم موجودة ظاهرة لنا آمنا أن السماء موجودة كذلك، وحصل لنا اطمئنان على الحياة الدنيا.
والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا في أمن وأمان من وقوع عذاب جماعي بهم، ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم، مصداقا لقوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال: 33].
وعَلِم حذيفة وعمر وبعض الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن وجود أبي بكر وعمر في حياتهم باب حائل بينهم وبين الفتن التي تموج موج البحر، وقد حصل كل ذلك، وسبحان علام الغيوب.
بيان الحديث:
قوله (فرفع رأسه إلى السماء) لأنه سيتكلم عنها.
(وكان كثيرا مما يرفع رأسه إلى السماء) في أصول مسند أحمد وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء بدون من وهي أظهر، فإن ما مصدرية، والمصدر اسم كان، والتقدير: وكان رفعه رأسه إلى السماء كثيرا.
قلت سيف بن دورة: وقع في البزار (ما) وكذلك في السنة للخلال و المنتخب من مسند عبد بن حميد وكذلك في نسخة لمسند أحمد (نسخة م).
وكذلك في جامع المسانيد وعزاه لمسلم وكذلك في جامع الأصول لابن الأثير وكذلك شرح البغوي، والاماني المطلقة لابن حجر وبحر الفوائد للكلاباذي
بينما عند أبي يعلى (مما) والجمع بين الصحيحين الحميدي وكذلك في مسند أحمد المطبوع طبعة الرسالة وأظنه في أكثر أصولهم لأن محققي المسند قالوا في م (ما)
وكشف المشكل لابن الجوزي فيه (مما)
تنبيه: النهي الوارد عن رفع البصر إلى السماء خاص بالصلاة لثبوت الرفع في هذا الحديث وحديث عبدالله بن سلام أنه صلى الله عليه وسلم إذا جلس يتحدث يكثر أن يرفع بصره إلى السماء. أخرجه أبوداود فحاصل طريق الجمع أن النهي خاص بحالة الصلاة. الضعيفة 1768
فقال: (النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد) بفتح الهمزة والميم والنون.
قال العلماء: الأمنة والأمن والأمان، بمعنى يقال: أمِن بكسر الميم، يأمَن بفتحها، أمَنا وأمَانا وأمَانة، وأمَنا بفتح الميم، وإِمْنا بكسر الهمزة وسكون الميم، وأمنة.
اطمأن ولم يخف، والمعنى وجود النجوم في السماء علامة من علامات بقائها، فما دامت النجوم باقية فالسماء باقية، فإذا النجوم انكدرت وتناثرت كشطت السماء وانشقت وانفطرت وذهبت.
(وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون) من الفتن والحروب، وارتداد من ارتد من الأعراب، واختلاف القلوب، ونحو ذلك مما أنذر به صريحا، وقد وقع كل ذلك.
مشكل الحديث: وقوله صلى الله عليه وسلم
(وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) مشكل مع ما حصل من الفتن زمن الصحابة.
قال النووي: أي من ظهور البدع في الدين والفتن فيه، وطلوع قرن الشيطان، وظهور الروم وغيرهم عليهم، وانتهاك المدينة ومكة، وهذه كلها من معجزاته صلى الله عليه وسلم، كذا قال النووي.
وفيه نظر، لأن كل ما ذكره حصل والصحابة أحياء، لم يذهبوا، ولم يكن وجود الصحابة مانعا من الردة، ولا من قتل عثمان رضي الله عنه، ولا من قتل عشرة آلاف من كبارهم في معركة الجمل وحدها، ولا من انتهاك مكة والمدينة على يد الحجاج، ولا من ظهور الخوارج.
ولعل المراد من أصحابه أصحاب معينون – أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، كحديث حذيفة عن الفتنة وأن عمر كان الباب الذي يغلقها، وأن هذا الباب ينكسر بموته رضي الله عنه.
[انظر: فتح المنعم. بتصرف]
قال أبو حاتم محمد بن حبان البستي مبيناً معنى هذا الحديث: “ويشبه أن يكون معنى هذا الخبر أن الله ـ جل وعلا ـ جعل النجوم علامة لبقاء السماء وأمنة لها عن الفناء فإذا غارت واضمحلت أتى السماء الفناء الذي كتب عليها وجعل الله ـ جل وعلا ـ المصطفى أمنة أصحابه من وقوع الفتن فلما قبضه الله ـ جل وعلا ـ إلى جنته أتى أصحابه الفتن التي أوعدوا وجعل الله أصحابه أمنة أمته من ظهور الجور فيها، فإذا مضى أصحابه أتاهم ما يوعدون من ظهور غير الحق من الجور والأباطيل” أ. هـ1. [الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان للأمير علاء الدين أبي الحسن علي بن بلبان بن عبد الله الفارسي 9/ 186]
قال ابن حجر في شرح حديث:
(فَإِنَّهُ لاَ يَاتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ) من صحيح البخاري:
وقد استشكل هذا الإطلاق مع أن بعض الأزمنة تكون في الشر دون التي قبلها ولو لم يكن في ذلك إلا زمن عمر بن عبد العزيز وهو بعد زمن الحجاج بيسير وقد اشتهر الخبر الذي كان في زمن عمر بن عبد العزيز بل لو قيل إن الشر اضمحل في زمانه لما كان بعيدا فضلا عن أن يكون شرا من الزمن الذي قبله
وقد حمله الحسن البصري على الأكثر الأغلب فسئل عن وجود عمر بن عبد العزيز بعد الحجاج فقال لا بد للناس من تنفيس وأجاب بعضهم أن المراد بالتفضيل تفضيل مجموع العصر على مجموع العصر فإن عصر الحجاج كان فيه كثير من الصحابة في الأحياء وفي عصر عمر بن عبد العزيز انقرضوا والزمان الذي فيه الصحابة خير من الزمان الذي بعده لقوله صلى الله عليه وسلم خير القرون قرني وهو في الصحيحين وقوله أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون أخرجه مسلم ثم وجدت عن عبد الله بن مسعود التصريح بالمراد وهو أولى بالاتباع فأخرج يعقوب بن شيبة من طريق الحارث بن حصيرة عن زيد بن وهب قال سمعت عبد الله بن مسعود يقول لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شر من اليوم الذي كان قبله حتى تقوم الساعة لست أعني رخاء من العيش يصيبه ولا مالا يفيده ولكن لا يأتي عليكم يوم الا وهو أقل علما من اليوم الذي مضى قبله فإذا ذهب العلماء استوى الناس فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر فعند ذلك يهلكون ومن طريق أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن بن مسعود إلى قوله شر منه قال فأصابتنا سنة خصب فقال ليس ذلك أعني إنما أعني ذهاب العلماء ومن طريق الشعبي عن مسروق عنه قال لا يأتي عليكم زمان إلا وهو أشر مما كان قبله أما إني لا أعني أميرا خيرا من أمير ولا عاما خيرا من عام ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفا ويجيء قوم يفتون برأيهم وفي لفظ عنه من هذا الوجه وما ذاك بكثرة الأمطار وقلتها ولكن بذهاب العلماء ثم يحدث قوم يفتون في الأمور برأيهم فيثلمون الإسلام ويهدمونه وأخرج الدارمي الأول من طريق الشعبي بلفظ لست أعني عاما أخصب من عام والباقي مثله وزاد وخياركم قبل قوله وفقهاؤكم واستشكلوا أيضا زمان عيسى بن مريم بعد زمان الدجال
وأجاب الكرماني بأن المراد الزمان الذي يكون بعد عيسى أو المراد جنس الزمان الذي فيه الأمراء وإلا فمعلوم من الدين بالضرورة أن زمان النبي المعصوم لا شر فيه.
قلت ويحتمل أن يكون المراد بالأزمنة ما قبل وجود العلامات العظام كالدجال وما بعده ويكون المراد بالأزمنة المتفاضلة في الشر من زمن الحجاج فما بعده إلى زمن الدجال.
وأما زمن عيسى عليه السلام فله حكم مستأنف والله أعلم ويحتمل أن يكون المراد بالأزمنة المذكورة أزمنة الصحابة بناء على أنهم هم المخاطبون بذلك فيختص بهم فأما من بعدهم فلم يقصد في الخبر المذكور لكن الصحابي فهم التعميم فلذلك أجاب من شكا إليه الحجاج بذلك وأمرهم بالصبر وهم أو جلهم من التابعين واستدل بن حبان في صحيحه بأن حديث أنس ليس على عمومه بالأحاديث الواردة في المهدي وأنه يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا
ثانياً: يؤخذ من الحديث: –
في الحديث معجزة ظاهرة من معجزاته صلى الله عليه وسلم.
– وفيه فضيلة لصحابته رضي الله عنهم.
– وأن ذهاب النجوم، وانتثار الكواكب، مرتبط بانفطار السماء، وقيام الساعة.
– وما كان عليه الصحابة من انتظار الصلاة بعد الصلاة.
– واستحباب ذلك، من إقراره صلى الله عليه وسلم لهم، وتحسينه فعلهم.
– وأن وجود النبي صلى الله عليه وسلم وحياته أمان لأمته، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال: 33]. [فتح المنعم].
– وبقاءَ أصحابِه أمانٌ لِلأمَّةِ.
ثانيًا: مما جاء في بيان فضل الصحابة، وينتظم الكلام في ذلك في مطالبين:
وقبل ذلك سبق معنا بيان تفاوت الصحابة في الفضل والمنزلة، وفضائل الخلفاء الأربعة.
المطلب الأول: الأدلة في فضل الصحابة، ويقع ذلك في فرعين: الفرع الأول: الأدلة على فضل الصحابة من القرآن قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله في شرحه لمنظومة سلم الوصول:
فكلهم في محكم القرآن
أثنى عليهم خالق الأكوان
في مواضع من كتابه (كالفتح) أي سورة (الفتح) من أولها إلى آخرها (و) سورة (الحديد) كقوله تعالى فيها: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ – إلى قوله – وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] الآيات. (و) سورة (القتال) كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:3] الآيات. (و) سورة (الحشر) إلى آخرها، وقد رتب تعالى فيها الصحابة على منازلهم وتفاضلهم ثم أَرْدَفهم بذكر التابعين فقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:8 – 10] أخرج الله بهذه الآية وغيرها شاتم الصحابة من جميع الفرق؛ الذين في قلوبهم غل لهم إلى يوم القيامة، ولهذا منعهم كثير من الأئمة الفيء وحرموه عليهم. (و) في سورة (التوبة) وسورة (الأنفال) بكمالها.
تارة في الثناء عليهم، وتارة في تحذيرهم من عدوهم ووصف المشركين والمنافقين بأنواعهم وسماهم ليحذروهم، وتارة في حثهم على الطاعة والجماعة والجهاد في سبيل الله والإثخان في الكفار والثبات لهم عند لقائهم إياهم وعدم فرارهم منهم، ووعْدِه تعالى إياهم بالنَّصر على عدوِّهم، وتارة بتذكيرهم بنعم الله عليهم وامتنانه عليهم أَنْ هداهم للإسلام وجنَّبهم السُّبُل المضلة. وأَلَّف بين قلوبهم وآواهم وأيدهم بنصره بعد إذ كانوا مستضعفين أذلة. وتارة يخبرهم ويهيجهم ويشوقهم بما أعد لهم في الدار الآخرة على قيامهم بطاعته تعالى وطاعة رسوله، وجهادهم بأموالهم في سبيله وله الحمد والمنة، وغير ذلك من سور القرآن وآياته (كذلك في التوراة) الكتاب المنزل على موسى عليه السلام (و) في (الإنجيل) الكتاب المنزل على عيسى عليه السلام (صفاتهم) التي جعلهم الله عليها (معلومة التفصيل) كما أخبر الله تعالى بقوله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ [الفتح:29] هنا تم الكلام ثم قال تعالى: وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح:29]. [معارج القبول بشرح سلم الوصول لحافظ الحكمي – 3/ 1394].
والفرع الثاني: الأدلة على فضل الصحابة من السنة.
لقد ورد الثناء في السنة النبوية على الصحابة رضي الله عنهم على وجه عام في أحاديث كثيرة مستفيضة ومتواترة منها الصحيح ومنها الحسن ومن ذلك ما يلي:- حديث الباب.
– وفي الباب أيضا عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال ((يأتي على الناس زمانٌ يغزو فئام من الناس فيقال لهم: فيكم مَنْ رأى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئامٌ مِنَ الناس فيقال لهم: فيكم مَنْ رأى مَنْ صحِب رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم: هل فيكم مَنْ رأى مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون نعم فيفتح لهم)). رواه مسلم (2532).فلله ما أعظم هذا التكريم الذي حظي به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ما كان ولم يكن لأحد سواهم بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فالحديث تضمن فضيلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم. قال الإمام النووي: “وفي هذا الحديث معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفضل الصحابة والتابعين وتابعيهم” أ. هـ[شرح النووي على صحيح مسلم 16/ 83، وانظر: عمدة القارئ للعيني 14/ 180.]
– وفيه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سُئِلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أي النَّاسِ خير؟ قال ((أقراني ثم الذين يلونَهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيءُ قومٌ تبدر شهادةَ أحدهم يمينه وتبدر يمينه شهادته)). رواه مسلم (2533) (211).
– وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ((خَيْر أُمَّتي القرن الذي بُعثتُ فيه، ثم الذين يلونهم))، والله أعلم أذكر الثالث أم لا؟ ((ثم يخلُفُ قومٌ يحبُّون السمانة، يشهدون قبل أَنْ يُستشهدوا)). رواه مسلم (2534).
– وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما، أَنَّ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال ((إِنَّ خيركم قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) قال عمران فلا أدري أَقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعد قرنه مرَّتين أو ثلاثاً ((ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يُستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون ويَنذرون ولا يُوفون ويظهر فيهم السِّمن)) رواه مسلم (2534). زاد في رواية ((ويحلفون ولا يُستحلفون)) (6). رواه مسلم (2535).
– وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: سأَل رجلٌ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أي الناس خيرٌ؟ قال ((القرنُ الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث)). رواه مسلم (2536).
فهذه الأحاديث فيها دلالة واضحة وقاطعة على أن الصحابة رضي الله عنهم هم خير القرون المفضلة وأكرمها على الله ـ تعالى ـ.
قال الإمام النووي: “اتفق العلماء على أن خير القرون قرنه صلى الله عليه وسلم والمراد أصحابه” [شرح النووي 16/ 84].
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: “قوله: “خير أمتي قرني” أي: أهل قرني والقرن أهل زمان واحد متقارب اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة ويقال: إن ذلك مخصوص بما إذا اجتمعوا في زمن نبي أو رئيس يجمعهم على ملة أو مذهب أو عمل ويطلق القرن على مدة من الزمان واختلفوا في تحديدها من عشرة أعوام إلى مائة وعشرين لكن لم أر من صرح بالسبعين ولا بمائة وعشرة وما عدا ذلك فقد قال به قائل وذكر الجوهري بين الثلاثين والثمانين وقد وقع في حديث عبد الله بن بسر عند مسلم ما يدل على أن القرن مائة وهو المشهور … والمراد بقرن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحابة وقد سبق في صفة النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “وبعثت من خير قرون بني آدم” [صحيح البخاري 2/ 272 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]، وفي رواية بريدة عند أحمد “خير هذه الأمة القرن الذي بعثت فيهم”. [مسند أحمد 5/ 357]
وقد ظهر أن الذي بين البعثة وآخر من مات من الصحابة مائة سنة وعشرون سنة أو دونها أو فوقها بقليل على الاختلاف في وفاة أبي الطفيل. وإن اعتبر ذلك من بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فيكون مائة سنة أو تسعين أو سبعاً وتسعين. وأما قرن التابعين فإن اعتبر من سنة مائة كان نحو سبعين أو ثمانين. وأما الذين بعدهم فإن اعتبر منها كان نحواً من خمسين فظهر بذلك أن مدة القرن تختلف باختلاف أعمال أهل كل زمان والله أعلم واتفقوا أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومائتين، وفي هذا الوقت ظهر البدع ظهوراً فاشياً، وأطلقت المعتزلة ألسنتها ورفعت الفلاسفة رؤوسها وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن وتغيرت الأحوال تغيراً شديداً ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن وظهر قوله صلى الله عليه وسلم: “ثم يفشوا الكذب” ظهوراً بيناً حتى يشمل الأقوال والأفعال والمعتقدات والله المستعان
قوله: “ثم الذين يلونهم” أي القرن الذي بعدهم وهم التابعون “ثم الذين يلونهم” وهم أتباع التابعين، واقتضى أن تكون الصحابة أفضل من التابعين والتابعون أفضل من أتباع التابعين لكن هذه الأفضلية بالنسبة إلى المجموع أو الأفراد؟ محل بحث وإلى الثاني نحا الجمهور والأول قول ابن عبد البر [وقول ابن عبد البر ليس على إطلاقه في حق جميع الصحابة فإنه استثنى أهل بدر والحديبية انظر: فتح الباري 7/ 7] والذي يظهر أن من قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم أو في زمانه بأمره أو أنفق من ماله بسببه لا يعدله في الفضل أحد بعده كائناً من كان وأما من لم يقع له ذلك فهو محل البحث والأصل في ذلك قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} الآية.
ثم استرسل الحافظ في ذكر أدلة ابن عبد البر على أن الأفضلية بالنسبة إلى المجموع لا إلى الأفراد مع ذكر ما يرد عليها من الاعتراضات ومن الأدلة التي ذكرها ما يلي:
1) قوله صلى الله عليه وسلم: “مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره” وهو حديث حسن له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة [سنن الترمذي 4/ 229، المسند 3/ 143] … وأجاب عنه النووي بما حاصله: أن المراد من يشتبه عليه الحال في ذلك من أهل الزمان الذين يدركون عيسى بن مريم عليه السلام ويرون في زمانه من الخير والبركة وانتظام كلمة الإسلام ودحض كلمة الكفر فيشتبه الحال على من شاهد ذلك أي الزمانين خير وهذا الاشتباه مندفع بصريح قوله صلى الله عليه وسلم: “خير القرون قرني” والله أعلم. 2) ما رواه ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير أحد التابعين بإسناد حسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليدركن المسيح أقواماً إنهم لمثلكم أو خير ـ ثلاثاً ـ ولن يخزي الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها”. 3) روى أبو داود والترمذي من حديث أبي ثعلبة رفعة: “تأتي أيام للعامل فيهن أجر خمسين قيل: منهم أو منا يا رسول الله؟ قال بل منكم” [سنن أبي داود 2/ 437، سنن الترمذي 4/ 323] وهو شاهد لحديث “مثل أمتي مثل المطر”.
4) واحتج بحديث عمر رفعه: “أفضل الخلق إيماناً قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني” الحديث أخرجه الطيالسي وغيره لكن إسناده ضعيف فلا حجة فيه.
5) روى أحمد والدارمي والطبراني من حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة يا رسول الله أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك قال: “قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني” وإسناده حسن وقد صححه الحاكم. [المسند 4/ 106، سنن الدارمي 2/ 308]
وهو في الصحيح المسند 1215
6) احتج بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار حينئذ وصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم قال فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن كانوا أيضاً عند ذلك غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمان كما زكت أعمال أولئك ويشهد له ما رواه مسلم عن أبي هريرة رفعه: “بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء”. [صحيح مسلم 1/ 130].
وقد تعقب كلام ابن عبد البر بأن مقتضى كلامه أن يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من يكون أفضل من بعض الصحابة وبذلك صرح القرطبي لكن كلام ابن عبد البر ليس على الإطلاق في حق جميع الصحابة، فإنه صرح في كلامه باستثناء أهل بدر والحديبية. نعم والذي ذهب إليه الجمهور أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل لمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما من اتفق له الذب عنه والسبق إليه بالهجرة أو النصرة وضبط الشرع المتلقى عنه وتبليغه لمن بعده فإنه لا يعدله أحد ممن يأتي بعده لأنه ما من خصلة من الخصال المذكورة إلا وللذي سبق بها مثل أجر من عمل بها من بعده فظهر فضلهم، ومحصل النزاع يتمحض فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة، فإن جمع بين مختلف الأحاديث المذكورة كان متجهاً على أن حديث: “للعامل منهم أجر خمسين منكم” لا يدل على أفضلية غير الصحابة على الصحابة لأن مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة، وأيضاً: فالأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في ذلك العمل فأما ما فاز به من شاهد النبي صلى الله عليه وسلم من زيادة فضيلة المشاهدة فلا يعدله فيها أحد فبهذه الطريق يمكن تأويل الأحاديث، وأما حديث أبي جمعة فلم تتفق الرواة على لفظه، فقد رواه بعضهم بلفظ الخيرية كما تقدم ورواه بعضهم بلفظ قلنا يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجراً؟ الحديث أخرجه الطبراني وإسناد هذه الرواية أقوى من إسناد الرواية المتقدمة وهي توافق حديث أبي ثعلبة وقد تقدم الجواب عنه والله أعلم”. [فتح الباري 7/ 6 – 7]
– وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ((لا تَسُبُّوا أَصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أَنَّ أَحدكم أَنفق مثل أُحُدٍ ذهباً ما أدرك مدَّ أحدهم ولا نصيفه)). رواه مسلم (2540).
– وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيءٌ فسبَّه خالدٌ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ((لا تسُبُّوا أَحداً من أصحابي، فإنَّ أحدكم لو أَنفق مثل أُحُدٍ ذهباً ما أدرك مدَّ أحدهم ولا نصيفه)). رواه مسلم (2541). ” فإذا كان سيف الله خالد بن الوليد وغيره ممن أسلم بعد الحديبية لا يساوي العمل الكثير منهم القليل من عبد الرحمن بن عوف وغيره ممن تقدم إسلامه مع أن الكل تشرف بصحبته صلى الله عليه وسلم فكيف بمن لم يحصل له شرف الصحبة بالنسبة إلى أولئك الأخيار، إن البون لشاسع ” [قبس من هدي الإسلام للشيخ: عبد المحسن العباد ص/ 92]
قال أبو محمد بن حزم في شرحه لهذا الحديث: “فكان نصف مد شعير أو تمر في ذلك الوقت أفضل من جبل أحد ذهباً ننفقه نحن في سبيل الله تعالى بعد ذلك قال الله ـ تعالى ـ: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}، وهذا في الصحابة فيما بينهم فكيف بمن بعدهم معهم رضي الله عنهم أجمعين” [ابن حزم الأندلسي ورسالته في المفاضلة بين الصحابة ص/177 لسعيد الأفغاني].
وقال حمد بن محمد أبو سليمان الخطابي رحمه الله تعالى: “والمعنى أن جهد المقل منهم واليسير من النفقة الذي أنفقوه في سبيل الله مع شدة العيش والضيق الذي كانوا فيه أوفى عند الله وأزكى من الكثير الذي ينفقه من بعدهم” .أ. هـ[معالم السنن 4/ 308]
وقال القاضي عياض: ” … وسبب تفضيل نفقتهم أنها كانت في وقت الضرورة وضيق الحال بخلاف غيرهم ولأن إنفاقهم كان في نصرته صلى الله عليه وسلم وحمايته وذلك معدوم بعده وكذا جهادهم وسائر طاعتهم وقد قال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} هذا كله مع ما كان في أنفسهم من الشفقة والتودد والخشوع والتواضع والإيثار والجهاد في الله حق جهاده وفضيلة الصحبة ولو لحظة لا يوازيها عمل ولا تنال درجتها بشيء، والفضائل لا تؤخذ بقياس، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء” أ. هـ[شرح النووي على صحيح مسلم 16/ 93]
وقد نقل الحافظ ابن حجر عن البيضاوي في شرح الحديث المتقدم أنه قال: “معنى الحديث لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أحد ذهباً من الفضل والأجر ما ينال أحدهم بإنفاق مد طعام أو نصيفه وسبب التفاوت ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص وصدق النية”
قال الحافظ: “وأعظم من ذلك في سبب الأفضلية عظم موقع ذلك لشدة الاحتياج إليه، وأشار بالأفضلية بسبب الإنفاق إلى الأفضلية بسبب القتال كما وقع في الآية: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} فإن فيها إشارة إلى موقع السبب الذي ذكرته وذلك أن الإنفاق والقتال كان قبل فتح مكة عظيماً لشدة الحاجة إليه وقلة المعتنى به بخلاف ما وقع بعد ذلك لأن المسلمين كثروا بعد الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجاً فإنه لا يقع ذلك الموقع المتقدم” أ. هـ[فتح الباري 7/ 34، وانظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود 12/ 413].
فالذي يستفاد من كلام هؤلاء الأئمة الذين قدمنا نقولهم أن الصحابة لا يدركهم أحد في فضلهم وعملهم ورضي الله عنهم أجمعين بل إن القليل من عملهم لا يوازيه عمل غيرهم مهما بلغ من الكثرة ومهما صاحبه من إخلاص وصدق ويقين وإيمان وذلك فضله تعالى يؤتيه من يشاء. روى ابن بطة بالإسناد الصحيح كما في منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لا تسبوا أصحاب محمد فلمقام أحدهم ساعة مع النبي صلى الله عليه وسلم خير من عمل أحدكم أربعين سنة ” وفي رواية وكيع خير من عبادة أحدكم عمره”. [منهاج السنة 1/ 154] وروى أبو داود بإسناده إلى سعيد بن زيد رضي الله عنه أنه قال بعد أن ذكر العشرة المبشرين بالجنة “لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر فيه وجهه خير من عمل أحدكم عمره ولو عمر عمر نوح” [سنن أبي داود 2/ 516] فسعيد بن زيد رضي الله عنه يريد بهذا عموم الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
قلت سيف بن دورة: في حديث أبي ثعلبة الذي أخرجه ابو داود للعامل أجر خمسين منكم قلنا:
قال الترمذي: حسن غريب.
قال بعض أهل العلم: عمرو بن جارية وأبو أمية الشعباني لم يوثقهما أحد من المتقدمين، غير ابن حبان، وكذلك عتبة بن أبي حكيم فيه خلاف، قال ابن حجر: صدوق يخطئ كثيرا. وراجع الضعيفة 1564.
وله شاهد من حديث أنس وفيه محمد بن العباس بن أيوب كان قد اختلط قبل موته بسنين، وراجع الضعيفة 3959. وفيه كذلك الأسود بن ثعلبه مجهول.
وتفضيل غير الصحابة قال بعض الباحثين: لم يأت من طريق صحيح، أحسنها حديث أبي ثعلبة وقد علمت ما فيه، وحديث أبي هريرة لكنه من رواية الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير وفيها كلام كما شرح علل الترمذي، وروايته عنه في الصحيحين لكن لعل الشيخين انتقيا له، أما هذا الحديث ففيه تفضيل غير الصحابة على الصحابة وتوجد نصوص تخالفه.
ثم روايته ليس فيها إلا قوله (أجر خمسين)
قلت: ورد من طرق أخرى عن أنس، وعن أبي أمامه وعن معاذ وابن عمر، لا تخلو من ضعف، ولا يتكمل رواتها التفرد.
ولتفسير الآية راجع تفسير الشوكاني.
وورد حديث في الصحيح المسند 1236
أرأيت من رآك فآمن بك وصدقك واتبعك، ماذا له؟ قال: ” طوبى له ” قال: فمسح على يده فانصرف، ثم أقبل الآخر حتى أخذ بيده ليبايعه، قال: يا رسول الله، أرأيت من آمن بك وصدقك واتبعك ولم يرك؟ قال: ” طوبى له، ثم طوبى له، ثم طوبى له ” قال: فمسح على يده، فانصرف.
قلت وكذلك ورد في الصحيح المسند 1215 من مسند أبي جمعه؛ وأن أبا عبيدة بن الجراح قال: يا رسول الله، أحد خير منا، أسلمنا معك، وجاهدنا معك، قال: نعم، قوم يكونون من بعدكم، يؤمنون بي ولم يروني.
ورجح ابن حجر رواية من رواه (أحد أعظم أجرا)، وهي الموافقة لحديث أبي ثعلبه، وكون مضاعفة الأجر لا تستلزم الأفضلية المطلقة، خاصة أن الصحابة نالوا حسنة مشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أعظم حسنة. (انتهى بمعناه من الفتح)
وذهب الطحاوي إلى أن المقصود أناس منعهم مانع من الهجرة ثم هاجروا وأبلوا بلاء أعظم ممن سبقهم.
لكن يشكل على ترجيح الطحاوي أن السائل هو أبوعبيدة أمين هذه الأمة.
المهم حديث (للعامل أجر خمسين منكم) توسعت في تخريجه في تحقيق كشف الأستار 3370 وله طرق كلها ضعيفة، بقي الأحاديث السابقة التي ذكرناها وتشهد لأصل معناه، وقد سبق توجيهها.
ومن الأحاديث أيضا في فضل الصحابة:
– وفي (الصحيحين) من حديث علي رضي الله عنه في قصة كتاب حاطب مع الظعينة – وفيه – فقال عمر: إِنَّه قد خانَ اللهَ ورسوله فدعني فلأَضْرِبْ عنقه، فقال ((أَلَيْس مِنْ أهل بدر)) فقال صلى الله عليه وسلم ((لعلَّ الله اطَّلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة)) أو ((فقد غفرت لكم)) فدمعتْ عينا عمر رضي الله عنه وقال: الله ورسولُهُ أعلم. رواه البخاري (3983).
– وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: حدَّثني أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ممَّن شهد بدراً أَنَّهم كانوا عدَّة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر: بضعة عشر وثلاثمائة، قال البراء: لا والله ما جاوز معه النهر إلاّ مؤمن. رواه البخاري (3957).
– وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1] قال الحديبية، قال أصحابه هنيئاً مريئاً فما لنا. فأنزل الله تعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الفتح:5] (655) وكل هذا في (الصحيح). رواه البخاري (4172).
وروى الترمذي عن جابر رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يدخل النار أحدٌ ممن بايع تحت الشجرة)). وقال الترمذي حسن صحيح. [رواه أبو داود (4653) , والترمذي (3860) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 464) , وابن حبان (11/ 127) , وأحمد (3/ 350) (14820) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي حسن صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي))].
وقد وردت أحاديث في فضائل الصحابة والتابعين رضي الله عنهم منها عام ومنها خاص بالمهاجرين ومنها خاص بالأنصار ومنها خاص بالآحاد فرداً فرداً، ومنها القطع لأحدهم بالجنَّة مطلقاً، ومنها القطعُ لبعضهم بمجاورة رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الجنة ليس هذا موضع بسطها. [معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي- 3/ 1396].
والحاصل أن الأحاديث الواردة في فضلهم كثيرة وشهيرة بل متواترة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ذكر بعض الأحاديث المتقدم ذكرها: “وهذه الأحاديث مستفيضة بل متواترة في فضائل الصحابة والثناء عليهم وتفضيل قرنهم على من بعدهم من القرون والقدح فيهم قدح في القرآن والسنة” أ. هـ[مجموع الفتاوى 4/ 430]
وهو كما قال رحمه الله تعالى بل إن القادح في الكتاب والسنة لا حظ له في الإسلام وهذا حال الرافضة فإنهم طعنوا في الكتاب والسنة عن طريق القدح في الصحابة رضي الله عنهم إذ هم نقلة هذا الدين إلى من بعدهم، والطعن في الصحابة أيضاً: طعن في الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال الإمام مالك وغيره من أئمة العلم: هؤلاء طعنوا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما طعنوا في أصحابه ليقول القائل: رجل سوء كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين [مجموع الفتاوى 4/ 429]
والذي يعتقد هذا هو من أبخس الناس حظاً في الدنيا والآخرة، وقد تبنى هذا المعتقد الفاسد الشيعة والخوارج، “فإن الشيعة يفضلون أنفسهم وهم شر خلق الله تعالى على أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعائشة وجميع الصحابة رضي الله عنهم حاشا علياً والحسن والحسين وعمار بن ياسر، والخوارج يفضلون أنفسهم ـ وهم شر خلق الله وكلاب النار ـ على عثمان ـ وعلي وطلحة والزبير ـ ولقد خاب من خالف كلام الله تعالى وقضاء رسوله” عليه الصلاة والسلام في أن الصحابة رضي الله عنهم هم صفوة الأمة المحمدية وسادتها على الإطلاق، ولنأت الآن ما جاء من ذكر بعض الثناء عليهم رضي الله عنهم في كلام السلف. [انظر: “ابن حزم الأندلسي ورسالته في المفاضلة بين الصحابة” ص/178]
المطلب الثاني: أقوال العلماء في فضل الصحابة
أولاً: ما ورد من أقوال الصحابة بعضهم في بعض:
فمن ذلك:
1 – قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ). [رواه أحمد (1/ 379) (3600)، والبزار في ((البحر الزخار)) (5/ 212)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 375). قال ابن القيم في ((الفروسية)) (299): ثابت عن ابن مسعود، وحسنه ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (65)، ومحمد الغزي في ((إتقان ما يحسن)) (2/ 500)، والعجلوني في ((كشف الخفاء)) (2/ 245).] وهو في الصحيح المسند 842
2 – وقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم، والله رب الكعبة) [رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 305 – 306)].
3 – وما رواه البخاري عن المسور بن مخرمة قال: ((لما طعن عمر جعل يألم فقال ابن عباس – وكأنه يجزعه -: يا أمير المؤمنين ولئن كان ذاك، لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت صحابته فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون، قال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه فإنما ذاك منّ من الله تعالى منّ به علي، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك منّ من الله جل ذكره منّ به علي، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه)) [رواه البخاري (3692)].
4 – وما رواه البخاري عن مروان بن الحكم قال: ((أصاب عثمان بن عفان رضي الله عنه رعاف شديد سنة الرعاف حتى حبسه عن الحج وأوصى، فدخل عليه رجل من قريش قال: استخلف، قال: وقالوه؟ قال: نعم، قال: ومن؟ فسكت، فدخل عليه رجل آخر –أحسبه الحارث- فقال: استخلف، فقال عثمان: وقالوا؟ قال: نعم، قال: ومن هو؟ فسكت، قال: فلعلهم قالوا: إنه الزبير، قال: نعم. قال: أما والذي نفسي بيده إنه لخيرهم ما علمت، وإن كان لأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)) [رواه البخاري (3717)].
5 – وما رواه الحاكم عن أبي البختري عن سيدنا علي رضي الله عنه قال: ((قيل: أخبرنا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عن أيهم؟ قال: أخبرنا عن عبد الله بن مسعود قال: علم الكتاب والسنة ثم انتهى وكفى به)) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. [رواه الحاكم (3/ 360). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.]
6 – وما رواه الحاكم عن شقيق قال: سمعت حذيفة رضي الله عنه يقول: ((إن أشبه الناس هدياً وسمتاً ودلاً بمحمد صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود من حين يخرج إلى حين يرجع فما أدري ما في بيته، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد من أقربهم وسيلة عند الله يوم القيامة)). وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. [رواه الحاكم (3/ 356). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي].
7 – وما رواه الطبراني عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (ثلاثة من قريش أصبح قريش وجوهاً، وأحسنها أخلاقاً، وأثبتها جناناً، إن حدثوك لم يكذبوك، وإن حدثتهم لم يكذبوك، أبو بكر الصديق، وأبو عبيدة بن الجراح، وعثمان بن عفان) [رواه الطبراني (1/ 56) (16). وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 160): رواه الطبراني وإسناده حسن].
8 – وما رواه الطبراني عن ربعي بن خراش قال: (استأذن عبد الله بن عباس على معاوية وقد علقت عنده بطون قريش وسعيد بن العاص جالس عن يمينه، فلما رآه معاوية مقبلاً قال: يا سعيد والله لألقين على ابن عباس مسائل يعيا بجوابها، فقال له سعيد: ليس مثل ابن عباس يعيا بمسائلك، فلما جلس قال له معاوية: ما تقول في أبي بكر؟ قال: رحم الله أبا بكر كان والله للقرآن تالياً، وعن الميل نائياً، وعن الفحشاء ساهياً، وعن المنكر ناهياً، وبدينه عارفاً ومن الله خائفاً، وبالليل قائماً، وبالنهار صائماً، ومن دنياه سالماً، وعلى عدل البرية عازماً، وبالمعروف آمراً، وإليه صائراً، وفي الأحوال شاكراً، ولله في الغدو والرواح ذاكراً، ولنفسه بالمصالح قاهراً، فاق أصحابه ورعاً وكفافاً، وزهداً وعفافاً، وبراً وحياطة، وزهادة وكفاءة، فأعقب الله من ثلبه اللعائن إلى يوم القيامة.
قال معاوية: فما تقول في عمر بن الخطاب؟ قال: رحم الله أبا حفص، كان والله حليف الإسلام، ومأوى الأيتام، ومحل الإيمان، وملاذ الضعفاء، ومعقل الحنفاء، للخلق حصناً، وللبأس عوناً، قام بحق الله صابراً محتسباً، حتى أظهر الله الدين، وفتح الديار، وذكر الله في الأقطار والمناهل، وعلى التلال وفي الضواحي والبقاع، وعند الخنا وقوراً، وفي الشدة والرضاء شكوراً، ولله في كل وقت وأوان ذكوراً، فأعقب الله من يبغضه اللعنة إلى يوم الحسرة.
قال معاوية: فما تقول في عثمان بن عفان؟ قال: رحم الله أبا عمرو، كان والله أكرم الحفدة، وأوصل البررة، وأصبر الغزاة، هجاداً بالأسحار، كثير الدموع عند ذكر الله، دائم الفكر فيما يعنيه الليل والنهار، ناهضاً إلى كل مكرمة، يسعى إلى كل منجية فراراً من كل موبقة، وصاحب الجيش والبئر، وختن المصطفى على ابنتيه، فأعقب الله من سبه الندامة إلى يوم القيامة.
قال معاوية: فما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: رحم الله أبا الحسن، كان والله علم الهدى، وكهف التقى، ومحل الحجا، وطود البها، ونور السرى في ظلم الدجى، داعياً إلى المحجة العظمى، عالماً بما في الصحف الأولى، وقائماً بالتأويل والذكرى، متعلقاً بأسباب الهدى، وتاركاً للفجور والأذى، وحائداً عن طرقات الردى، وخير من آمن واتقى، وسيد من تقمص وارتدى، وأفضل من حج وسعى، وأسمح من عدل وسوى، وأخطب أهل الدنيا إلا الأنبياء والنبي المصطفى، وصاحب القبلتين، فهل يوازيه موحد؟ وزوج خير النساء، وأبو السبطين، لم تر عيني مثله، ولا ترى إلى يوم القيامة واللقاء، من لعنه فعليه لعنة الله والعباد إلى يوم القيامة.
قال: فما تقول في طلحة والزبير؟ قال: رحمة الله عليهما، كانا والله عفيفين، برين، مسلمين، طاهرين، متطهرين، شهيدين، عالمين، زلا زلة والله غافر لهما – إن شاء الله – بالنصرة القديمة، والصحبة القديمة، والأفعال الجميلة.
قال معاوية: فما تقول في العباس؟ قال: رحم الله أبا الفضل، كان والله صنو أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرة عين صفي الله، كهف الأقوام، وسيد الأعمام، قد علا بصراً بالأمور، ونظراً بالعواقب، قد زانه علم، قد تلاشت الأحساب عند ذكر فضيلته، وتباعدت الأنساب عند فخر عشيرته، ولم لا يكون كذلك؟ وقد ساسه أكرم من دب وهب عبد المطلب. أفخر من مشى من قريش وركب … الحديث.
وقال معاوية في آخره: صدقت يا ابن عباس، أشهد أنك لسان أهل بيتك، فلما خرج ابن عباس من عنده قال: ما كلمته إلا وجدته مستعداً). [رواه الطبراني كما ذكر الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 161) وقال: فيه من لا أعرفهم]
9 – وما رواه الحاكم عن أبي سعيد المقبري قال: (لما طعن أبو عبيدة رضي الله عنه قال: يا معاذ صل بالناس، فصلى معاذ بالناس، ثم مات أبو عبيدة بن الجراح، قام معاذ في الناس فقال: يا أيها الناس توبوا إلى الله توبة نصوحاً، فإن عبد الله لا يلقى الله تائباً من ذنبه إلا كان حقاً على الله أن يغفر له، ثم قال: إنكم أيها الناس قد فجعتم برجل والله ما أزعم أني رأيت من عباد الله عبداً قط أقل عمراً، ولا أبر صدراً، ولا أبعد غائلة، ولا أشد حباً للعاقبة، ولا أنصح للعامة منه، فرتحموا عليه وأصحروا للصلاة عليه. فوالله لا يلي عليكم مثله أبداً.
فاجتمع الناس، وأخرج أبو عبيدة رضي الله عنه فتقدم معاذ رضي الله عنه فصلى عليه، حتى إذا أتى به قبره، دخل قبره معاذ بن جبل وعمرو بن العاص والضحاك بن قيس، فلما وضعوه في لحده وخرجوا، فشنوا عليه التراب فقال معاذ بن جبل: يا أبا عبيدة لأثنين عليك ولا أقول باطلاً أخاف أن يلحقني بها من الله مقت: كنت والله ما علمت من الذاكرين الله كثيراً، ومن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، ومن الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوماً، وكنت والله من المخبتين المتواضعين الذين يرحمون اليتيم والمسكين ويبغضون الخائنين المتكبرين) [رواه الحاكم (3/ 295)].
ثانياً: ما ورد من أقوال التابعين في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فمن ذلك:
1 – ما أخرجه أبو نعيم في (الحلية) عن الحسن البصري رحمه الله (أن بعض القوم قال له: أخبرنا صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فبكى وقال: ظهرت منهم علامات الخير في السيما والسمت والهدى والصدق، وخشونة ملابسهم بالاقتصاد، وممشاهم بالتواضع، ومنطقهم بالعمل، ومطعمهم ومشربهم بالطيب من الرزق، وخضوعهم بالطاعة لربهم تعالى، واستقادتهم للحق فيما أحبوا وكرهوا، وإعطاؤهم الحق من أنفسهم، ظمئت هواجرهم، ونحلت أجسامهم، واستخفوا بسخط المخلوقين رضى الخالق، لم يفرطوا في غضب، ولم يحيفوا في جور، ولم يجاوزوا حكم الله تعالى في القرآن، شغلوا الألسن بالذكر، بذلوا دمائهم حين استنصرهم، وبذلوا أموالهم حين استقرضهم، ولم يمنعهم خوفهم من المخلوقين، حسنت أخلاقهم، وهانت مؤنتهم، وكفاهم اليسير من دنياهم إلى آخرتهم) [رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (2/ 150)].
2 – وما رواه الإمام أحمد عن قتادة بن دعامة رحمه الله أنه قال:
(أحق من صدقتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه) [رواه أحمد (3/ 134) (12398). قال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده صحيح على شرط الشيخين].
3 – وما رواه ابن سعد في (الطبقات) عن مسروق قال:
(لقد جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالإخاذ.
فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، فوجدت عبد الله بن مسعود من ذلك الإخاذ) [رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (2/ 342 – 343)، وأبي خيثمة في ((العلم)) (59) وقال الألباني: إسناده صحيح].
5 – وما رواه الطبراني عن مسروق قال: (شاممت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا الدرداء وزيد بن ثابت، ثم شاممت الستة فوجدت علمهم انتهى إلى علي وعبد الله بن مسعود) [رواه الطبراني (7/ 490) (8434). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 163): رجاله رجال الصحيح غير القاسم بن معين وهو ثقة].
5 – وما رواه ابن سعد عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: (كان ابن عباس قد فات الناس بخصال: بعلم ما سبقه، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه، وحلم، وسيب ونائل، وما رأيت أحداً كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، ولا أعلم بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه، ولا أفقه في رأي منه، ولا أعلم بشعر ولا عربية ولا بتفسير القرآن ولا بحساب ولا بفريضة منه، ولا أعلم بما مضى ولا أثقف رأياً فيما احتيج إليه منه.
ولقد كان يجلس يوماً ما يذكر فيه إلا الفقه، ويوماً التأويل، ويوماً المغازي، ويوماً الشعر، ويوماً أيام العرب، وما رأيت عالماً قط جلس إليه إلا خضع له، وما رأيت سائلاً قط سأله إلا وجد عنده علماً). [رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (2/ 368)].
6 – وما رواه ابن عبد البر في (الاستيعاب) قال: (وسئل الحسن بن أبي الحسن البصري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: كان علي والله سهماً صائباً من مرامي الله على عدوه، ورباني هذه الأمة، وذا فضلها، وذا سابقتها، وذا قرابتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن بالنومة عن أمر الله ولا باللومة في دين الله ولا بالسروقة لمال الله، أعطى القرآن عزائمه، ففاز منه برياض مونقة، ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه يا لكع) [رواه ابن عبد البر في ((الاستيعاب)) (3/ 1110)].
7 – وما رواه أبو نعيم في (الحلية) عن أبي صالح قال: (دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية فقال له: صف لي علياً فقال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أعفيك، قال: أما إذا لابد فإنه كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما جشب. كان والله كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا لا نكلمه هيبة له، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أخرى الليل سدوله، وغارت نجومه، يميل في محرابه قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا يا ربنا – يتضرع إليه، ثم يقول للدنيا: إلي تغرتت؟ إلي تشوفت؟ هيهات هيهات، غري غيري، قد بتتك ثلاثاً، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك كبير، آه آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق.
فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها، وجعل ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء فقال:
كذا كان أبو الحسن رحمه الله، كيف وجدك عليه يا ضرار؟ قال: وجد من ذبح واحدها في حجرها، لا ترقأ دمعتها، ولا يسكن حزنها، ثم قام فخرج) [رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 84 – 85)].
8 – وروي عن حميد بن زياد أنه قال: (قلت يوماً لمحمد بن كعب القرظي: ألا تخبرني عن أصحاب الرسول عليه السلام فيما كان بينهم؟ وأردت الفتن. فقال لي: إن الله تعالى قد غفر لجميعهم، وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم، قلت له: وفي أي موضع أوجب لهم الجنة؟ قال: سبحان الله! ألا تقرأ قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ [التوبة: 100] إلى آخر الآية! فأوجب أن لجميع أصحاب النبي عليه السلام الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطاً شرطه عليهم، قلت: وما ذاك الشرط؟ قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان في العمل وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدوا بهم في غير ذلك، أو يقال: المراد أن يتبعوهم بإحسان في القول، وهو أن لا يقولوا فيهم سوءاً، وأن لا يوجهوا الطعن فيما أقدموا عليه، قال حميد بن زياد: فكأني ما قرأت هذه الآية قط) [انظر: ((مفاتيح الغيب)) (16/ 136)].
ثالثاً: ما ورد من أقوال أتباع التابعين فمن بعدهم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فمن ذلك:
1 – ما رواه البيهقي عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: (وقد أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم الله وهناهم بما آتاهم من ذلك، ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين، هم أدوا إلينا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاهدوه والوحي ينزل عليه، فعلموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاماً وخاصاً وعزماً وإرشاداً، وعرفوا من سننه ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد، وورع وعقل استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا لأنفسنا –والله أعلم) [((مناقب الشافعي)) (1/ 442)].
2 – وما قاله الإمام الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في مقدمة كتابه (الجرح والتعديل): (فأما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل، وعرفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصرته، وإقامة دينه، وإظهار حقه، فرضيهم له صحابة، وجعلهم لنا أعلاماً وقدوة، فحفظوا عنه صلى الله عليه وسلم ما بلغهم عن الله عز وجل وما سن وشرع، وحكم وقضى، وندب وأمر، ونهى وحظر وأدب، ووعوه فأتقنوه، ففقهوا في الدين، وعلموا أمر الله ونهيه ومراده، بمعاينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله، وتلقفهم منه، واستنباطهم عنه، فشرفهم الله عز وجل بما منّ عليهم وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة، فنفى عنهم الشك والكذب والغلط والريبة والغمز، وسماهم عدول الأمة، فقال عز ذكره في محكم كتابه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143]، ففسر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز ذكره قوله: وسطاً، قال: عدلاً، فكانوا عدول الأمة، وأئمة الهدى، ونقلة الكتاب والسنة.
وندب الله عز وجل إلى التمسك بهديهم، والجري على مناهجهم، والسلوك لسبيلهم، والاقتداء بهم، فقال: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى [النساء: 115].
ووجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد حض على التبليغ عنه في أخبار كثيرة، ووجدناه يخاطب أصحابه فيها، منها أن دعا لهم فقال:
((نضر الله إمرءاً سمع مقالتي فحفظها ووعاها حتى يبلغها غيره)).
وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته: ((فليبلغ الشاهد منكم الغائب)) [رواه البخاري (105). من حديث أبي بكرة رضي الله عنه]، وقال: ((بلغوا عني ولو آية وحدثوا عني ولا حرج)) [رواه البخاري (3461). بلفظ: ((وحدثوا عن بني إسرائيل)) بدلاً من ((وحدثوا عني)). من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما].
ثم تفرقت الصحابة رضي الله عنهم في النواحي والأمصار والثغور، وفي فتوح البلدان والمغازي والإمارة والقضاء والأحكام، فبث كل واحد منهم في ناحيته وبالبلد الذي هو به ما وعاه وحفظه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكموا بحكم الله عز وجل، وأمضوا الأمور على ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظائرها من المسائل، وجردوا أنفسهم مع تقدمة حسن النية والقربة إلى الله تقدس اسمه، لتعليم الناس الفرائض والأحكام، والسنن والحلال والحرام، حتى قبضهم الله عز وجل – رضوان الله ومغفرته ورحمته عليهم أجمعين -) [((مقدمة الجرح والتعديل)) (1/ 7 – 8)].
ثالثًا: شُبهة قصر مَعنى الصُّحبة على من أسلَم قبلَ الفتح:
زعم بعضُه المعاصرين بأنَّ بعض الأحاديث فيها إخراجٌ واضحٌ من حدِّ الصّحبةِ للطُّلَقاء الذين دخَلوا في الإسلام بعد الفتح.
والجواب عن هذه الشبهةِ من وجوه:
الوجه الأول: أنَّ الصحبةَ ثابتةٌ لكلِّ من اجتمعَ بالنبي صلى الله عليه وسلم ولو مرةً واحدةً ومات على الإسلام. هذا هو المقرَّر عند جماهير أهل العلم، وقد دلَّت عليه ظواهر النصوص والآثار، وقد استفاض العلماء في بيان فضل الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-، وأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عملٌ مهما بلغ صاحبُه فيه من الاجتهاد.
يقول القاضي عياض: “أجر الصحابةِ مضاعَفٌ؛ لمكانهم من الصحبة، حتى لا يوازي إنفاق مثلِ أحد ذهبًا صدقة أحدهم بنصف مدّ، وما بين هذا التقدير لا يحصى.
وقد ذهب بعض أصحاب الحديث والنظَر إلى هذا كلِّه في خاصَّة أصحابه، وجوَّز هذه الفضيلة لمن أنفق معه وقاتل وهاجر ونصر، لا لمن زاره مرة ولقيه مرةً من القبائل، أو صحبه آخِر مرةٍ وبعد فتح مكة واستقرار الإسلام ممن لم [يفز] بهجرة، ولا [خصَّ] بنصرة، ولا اشتهر بمقامٍ محمود في الدين، ولا عُرف باستقلال بأمر من أمور الشريعة ومنفعة المسلمين، والقول الأول -لظاهر الآثار- أظهر، وعليه الأكثر“. انتهى.
الوجه الثاني: الاعتمادُ في هذا الفَهم على قوله صلى الله عليه وسلم: «النّاسُ حيِّزٌ، وأنا وأَصحابِي حَيِّز»، وأنه دالٌّ على (الصحبة الشرعية) التي تستحقُّ الثناءَ، وتتنزَّل فيها كلُّ الثناءات على الصحابة.
أولا: هذا الحديث أخرجه ابن أبي شيبة، وأحمد، والطبراني، وغيرهم من طريق أبي البختري الطائيِّ عن أبي سعيد الخدري. وصحَّحه الحاكم، وقال الهيثمي: “رواه أحمد والطبراني باختصار كثير، ورجال أحمد رجال الصحيح”، وقال الشيخ الألباني: “إسناده صحيح على شرط الشيخين”. لكن له علَّة أبان عنها الشيخ مقبل الوادعي فقال: “هذا الحديث إذا نظرتَ في سنده وجدتهم رجالَ الصحيح، ولكن أبا البختري -وهو سعيد بن فيروز- لم يسمع من أبي سعيد، حكاه في جامع التحصيل عن أبي حاتم”. فالحديث ضعيف لانقطاعه، وضعَّفه الشيخ عبد المحسن البدر.
وثانيا: وهذا الاعتماد باطل لا مستندَ له، وبيان ذلك فيما يلي:
فقد تكرَّر لفظ “أصحابي” في الأحاديث النبويَّة، وكانت له اعتباراتٌ مختلفة بحسب السياق، فتارة يكون للعموم، وتارة يكون للخصوص، ومن الأمثلة على ذلك:
1 – عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم سَهِر، فلما قدِم المدينةَ قال: «ليتَ رجلًا من أصحابي صالحًا يحرسني الليلة»، إذ سمعنا صوت سلاح، فقال: «من هذا؟»، فقال: أنا سعدُ بن أبي وقاص جئتُ لأحرسَك، ونام النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري (2885)، ومسلم (2410).
فقوله صلى الله عليه وسلم: «من أصحابي» لفظٌ عامّ يتناول جميعَ مَن صحِب النبيَّ صلى الله عليه وسلم، كما تقدَّم عن جماهير العلماء.
2 – عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّكم محشورون حفاةً عراة غرلًا، -ثم قرأ:- {كَمَا بَدَانَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]، وأولُ مَن يُكسى يومَ القيامة إبراهيم، وإن أناسًا من أصحابي يؤخَذ بهم ذاتَ الشمال، فأقول: أصحابي أصحابي! فيقول: إنهم لم يزالوا مرتدِّين على أعقابهم منذ فارقتَهم، فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} [المائدة: 117]-إلى قوله:- {العَزِيزُ الحَكِيمُ} [المائدة: 118]» أخرجه البخاري (3349) ..
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «أصحابي أصحابي» في هذا الحديث كما قال قبيصة: “هم المرتدّون الذين ارتدّوا على عهد أبي بكر، فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه” ينظر: صحيح البخاري (4/ 168).
وليس المراد قطعًا بقوله: «أصحابي أصحابي» الصحابةَ الكرام -رضي الله عنهم أجمعين- كما صرح به غير واحد من أهل العلم، يقول الخطابي رحمه الله: “ولم يُرِد به خواصَّ أصحابه الذين لزموه وعرفوا بصحبته؛ فقد صانهم الله وعصمهم من التغيير والتبديل، وليس معنى الارتداد على الأعقاب الرجوعَ عن الدين والخروج عن الملة، إنما هو التأخّر عن بعض الحقوق والتقصير فيها، ولم يرتدَّ أحد من الصحابة بعدَه والحمد لله، وإنما ارتدَّ قوم من جفاةِ الأعراب مثل عُيينة بن حصن؛ جيء به أسيرًا إلى أبي بكر، فجعل وِلدان المدينة يطعنون في كشحِه، ويقولون له: ارتددتَ؟! فكان يقول: ما ارتددتُ ولم أكن أسلَمت، وجيء بالأشعث بن قيس، فأطلقهما ولم يسترقَّهم، وإنما كان هؤلاء من المؤلَّفة قلوبهم، ممن لا بصيرةَ لهم بالدين، ولا معرفة لهم بأحكامه، وذلك لا يوجِب قدحًا في الصحابة المشهورين، رضوان الله عليهم أجمعين” أعلام الحديث (3/ 1843).
3 – عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبُّوا أصحابي؛ فلو أنَّ أحدكم أنفقَ مثلَ أحدٍ ذهبًا ما بلغَ مدَّ أحدهم ولا نَصيفه» أخرجه البخاري (3673)، ومسلم (2541).
وهذا الحديث وإن كان لورودِه سبب -وهو ما رواه أبو سعيد الخدري قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء، فسبَّه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبّوا أحدًا من أصحابي … » الحديث ([أخرجه مسلم (2541).]) -، فإنَّه لا يُقتصر به على سببه؛ إذ من المقرَّر عند علماء الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوصِ السبب.
لذلك حمله العلماء على عموم من صحب النبي صلى الله عليه وسلم من غير استثناء؛ يقول النووي رحمه الله: “واعلم أن سبَّ الصحابة -رضي الله عنهم- حرامٌ من فواحش المحرمات، سواء من لابس الفتنَ منهم وغيره؛ لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأوِّلون” ([شرح النووي على صحيح مسلم (16/ 93)]).
الوجه الثالث: يُردُّ على عوار هذا الفهم بمثله؛ إذ الدعوى مقابلة بمثلها، وهو أنه قد ثبت في حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بيان فضل أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-: «فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟!» مرتين، فما أوذي بعدها ([أخرجه البخاري (3661)]).
والسؤال -بناءً على فهمهم-: هل يصحّ أن يَدَّعي أحدٌ أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- هو الصحابي الوحيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ استدلالًا بهذا الحديث؟!
والجواب بالقطع: لا يصحُّ هذا الادِّعاء، وهو مردود على صاحبه.
فإذا كان ذلك كذلك؛ فإنه يقال لهؤلاء الملبِّسين: ادِّعاؤكم بأن لفظَ “أصحابي” في حديث أبي سعيد الخدري يدلُّ على قصر الصحبة على من أسلَم قبل الفتح، وإخراج الطلقاء وغيرهم من الصحبة الشرعية باطلٌ نقلًا وعقلًا.
وكما لا يصحُّ أن يكونَ لفظ “صاحبي” في الحديث الذي معنا دليلًا على أن الصديق أبا بكر هو الصاحب الوحيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكذلك لا يصحُّ أن يكونَ المراد بلفظ أصحابي في حديث أبي سعيد الخدري حصرَ الصحبةِ الشرعية فيمن أسلم قبل الفتح.
فاللهم طهِّر قلوبنا واملأها بحبِّك، وحبِّ نبيِّك صلى الله عليه وسلم، وحبِّ آل بيته الأطهار، وصحابته الأخيار، والتابعين لهم بإحسان، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا. [حديث: «النّاسُ حيِّزٌ، وأنا وأَصحابِي حَيِّز» .. تحرير ودفع شبهة].