44 – بَابُ مِنْ فَضَائِلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
168 – (2378) حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: «أَتْقَاهُمْ» قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: «فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللهِ ابْنُ نَبِيِّ اللهِ ابْنِ نَبِيِّ اللهِ ابْنِ خَلِيلِ اللهِ» قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ «فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، إِذَا فَقُهُوا»
الفوائد
—————————————-
ذكر الدارقطني في العلل1456 – الخلاف في أسانيد الحديث ورجح هذا الإسناد
قال السيوطي رحمه الله تعالى
قال العلماء لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم أخبر بأكمل الكرم وأعمه فقال أتقاهم وأصل الكرم كثرة الخير ومن كان متقيا كان كثير الخير وكثير الفائدة في الدنيا وصاحب الدرجات العلى في الآخرة فلما قالوا ليس عن هذا نسألك أخبرهم بيوسف لأنه قد جمع مكارم الأخلاق مع شرف النبوة مع شرف النسب وكونه نبيا بن ثلاثة أنبياء متناسقين أحدهم خليل الله وانضم إليه شرف علم الرؤيا وتمكنه فيه ورئاسته الدنيا وملكها بالسيرة الجميلة وحياطته للرعية وعموم نفعه إياهم وشفقته عليهم وإنقاذه إياهم من تلك السنين فلما قالوا له ليس عن هذا نسألك فهم منهم أن السؤال عن قبائل العرب فقال خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا معناه أن أصحاب المروءات ومكارم الأخلاق في الجاهلية إذا أسلموا وفقهوا فهم خيار الناس قال القاضي وقد تضمن الحديث في الأجوبة الثلاثة الكرم كله عمومه وخصوصه ومجمله ومعينه إنما هو بالدين من التقوى والنبوة والإغراق فيها والإسلام مع الفقه ومعنى معادن العرب أصولها وفقهوا بضم القاف وحكي كسرها أي صاروا فقهاء عاملين بالأحكام الشرعية.
شرح السيوطي على مسلم
وهو كلام النووي ايضا
خصائص آل بيت أبي الأنبياء
قال ابن القيم رحمه الله تعالى
ولما كان هذا البيت المبارك المطهر أشرف بيوت العالم على الإطلاق خصهم الله سبحانه وتعالى منه بخصائص
منها أنه جعل فيه النبوة والكتاب فلم يأت بعد إبراهيم عليه السلام نبي إلا من أهل بيته
ومنها أنه سبحانه جعلهم أئمة يهدون بأمره إلى يوم القيامة فكل من دخل الجنة من أولياء الله بعدهم فإنما دخل من طريقهم وبدعوتهم
ومنها أنه سبحانه اتخذ منهم الخليلين إبراهيم ومحمدا صلى الله عليه وسلم عليهما
وقال تعالى {واتخذ الله إبراهيم خليلا}
النساء 125
وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا وهذا من خواص البيت ومنها أنه سبحانه جعل صاحب هذا البيت إماما للعالمين كما قال تعالى {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما}
البقرة 124
ومنها أنه أجرى على يديه بناء بيته الذي جعله قياما للناس وقبلة لهم وحجا فكان ظهور هذا البيت من أهل هذا البيت الأكرمين
ومنها أنه أمر عباده بأن يصلوا على أهل هذا البيت كما صلى على أهل بيتهم وسلفهم وهم إبراهيم وآله وهذه خاصة لهم
ومنها أنه أخرج منهم الأمتين المعظمتين اللتين لم تخرجا من أهل بيت غيرهم وهم أمة موسى وأمة محمد صلى الله عليه وسلم عليهما وأمة محمد صلى الله عليه وسلم تمام سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله
ومنها أن الله سبحانه أبقى عليهم لسان صدق وثناء حسنا في العالم فلا يذكرون إلا بالثناء عليهم والصلاة والسلام عليهم قال تعالى {وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين}
الصافات 108 و 110
ومنها جعل أهل هذا البيت فرقانا بين الناس فالسعداء ابتاعهم ومحبوهم ومن تولاهم والأشقياء من أبغضهم وأعرض عنهم وعاداهم فالجنة لهم ولأتباعهم والنار لأعدائهم ومخالفيهم
ومنها أنه سبحانه جعل ذكرهم مقرونا بذكره فيقال إبراهيم خليل الله ورسوله ونبيه ومحمد رسول الله وخليله ونبيه وموسى كليم الله ورسوله قال تعالى لنبيه يذكره بنعمته عليه {ورفعنا لك ذكرك}
الانشراح 4
قال ابن عباس رضي الله عنهما إذا ذكرت ذكرت معي فيقال لا إله إلا الله محمد رسول الله في كلمة الإسلام وفي الأذان وفي الخطب وفي التشهدات وغير ذلك
ومنها أنه سبحانه جعل خلاص خلقة من شقاء الدنيا والآخرة على أيدي أهل هذا البيت فلهم على الناس من النعم ما لا يمكن إحصاؤها ولا جزاؤها ولهم المنن الجسام في رقاب الأولين والآخرين من أهل السعادة والأيادي العظام عندهم التي يجازيهم عليها الله عز وجل
ومنها أن كل ضر ونفع وعمل صالح وطاعة لله تعالى حصلت في العالم فلهم من الأجر مثل أجور عامليها فسبحان من يختص بفضله من يشاء من عباده
ومنها أن الله سبحانه وتعالى سد جميع الطرق بينه وبين العالمين وأغلق دونهم الأبواب فلم يفتح أحد قط من طريقهم وبابهم
ومنها أنه سبحانه خصهم من العلم بما لم يخص به أهل بيت سواهم من العالمين فلم يطرق العالم أهل بيت أعلم بالله وأسمائه وصفاته وأحكامه وأفعاله وثوابه وعقابه وشرعه ومواقع رضاه وغضبه وملائكته ومخلوقاته منهم فسبحان من جمع لهم علم الأولين والآخرين
ومنها أنه سبحانه خصهم من توحيده ومحبته وقربه والاختصاص به بما لم يختص به أهل بيت سواهم
ومنها أنه سبحانه مكن لهم في الأرض واستخلفهم فيها واطاع أهل الأرض لهم ما لم يحصل لغيرهم
ومنها أنه سبحانه أيدهم ونصرهم وأظفرهم بأعدائه وأعدائهم بما لم يؤيد غيرهم
ومنها أنه سبحانه محا بهم من آثار أهل الضلال والشرك ومن الآثار التي يبغضها ويمقتها ما لم يمحه بسواهم
ومنها أنه سبحانه غرس لهم من المحبة والإجلال والتعظيم في قلوب العالمين ما لم يغرسه لغيرهم
ومنها أنه سبحانه جعل آثارهم في الأرض سببا لبقاء العالم وحفظه فلا يزال العالم باقيا ما بقيت آثارهم فإذا ذهب آثارهم من الأرض فذاك أوان خراب العالم
قال الله تعالى {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد}
المائدة 97
قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها لو ترك الناس كلهم الحج لوقعت السماء على الأرض
وقال لو ترك الناس كلهم الحج لما نظروا وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن في آخر الزمان يرفع الله بيته من الأرض وكلامه من المصاحف وصدور الرجال فلا يبقى له في الأرض بيت يحج ولا كلام يتلى فحينئذ يقرب خراب العالم وهكذا الناس اليوم إنما قيامهم بقيام آثار نبيهم وشرائعه بينهم وقيام امورهم حصول مصالحهم واندفاع أنواع البلاء والشر عنهم بحسب ظهورها بينهم وقيامها وهلاكهم وعنتهم وحلول البلاء والشر بهم عند تعطلها والإعراض عنها والتحاكم إلى غيرها واتخاذ سواها
ومن تأمل تسليط الله سبحانه على من سلطه على البلاد والعباد من الأعداء علم أن ذلك بسبب تعطيلهم لدين نبيهم وسننه وشرائعه فسلط الله عليهم من أهلكهم وانتقم منهم حتى إن البلاد التي لآثار الرسول صلى الله عليه وسلم وسننه وشرائعه فيها ظهور دفع عنها بحسب ظهور ذلك بينهم
وهذه الخصائص وأضعاف أضعافها من آثار رحمة الله وبركاته على أهل هذا البيت فلهذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نطلب له من الله تعالى أن بارك عليه وعلى آله كما بارك على هذا البيت المعظم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
ومن بركات أهل هذا البيت أنه سبحانه أظهر على أيديهم من بركات الدنيا والآخرة ما لم يظهره على يدي أهل بيت غيرهم
ومن بركاتهم وخصائصهم أن الله سبحانه أعطاهم من خصائصهم ما لم يعط غيرهم فمنهم من اتخذه خليلا ومنهم الذبيح ومنهم من كلمه تكليما وقربه نجيا ومنهم من آتاه شطر الحسن وجعله من أكرم الناس عليه ومنهم من أتاه ملكا لم يؤته أحدا غيره ومنهم من رفعه مكانا عليا
ولما ذكر سبحانه وتعالى هذا البيت وذريته أخبر أن كلهم فضله على العالمين
ومن خصائصهم وبركاتهم على أهل الأرض أن الله سبحانه رفع العذاب العام عن أهل الأرض بهم وببعثتهم وكانت عادته سبحانه في أمم الأنبياء قبلهم أنهم إذا كذبوا أنبياءهم ورسلهم أهلكهم بعذاب يعمهم كما فعل بقوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط فلما أنزل الله سبحانه وتعالى التوراة والإنجيل والقرآن رفع بها العذاب العام عن أهل الأرض وأمر بجهاد من كذبهم وخالفهم فكان ذلك نصرة لهم بأيديهم وشفاء لصدورهم واتخاذ الشهداء منهم وإهلاك عدوهم بأيديهم لتحصيل محابه سبحانه على ايديهم وحق بأهل بيت هذا بعض فضائلهم أن لا تزال الألسن رطبة بالصلاة عليهم والسلام والثناء والتعظيم والقلوب ممتلئة من تعظيمهم ومحبتهم وإجلالهم وأن يعرف المصلي عليهم أنه لو أنفق أنفاسه كلها في الصلاة عليهم ما وفى القليل من حقهم فجزاهم الله عن بريته أفضل الجزاء وزادهم في الملأ الأعلى تعظيما وتشريفا وتكريما وصلى عليهم صلاة دائمة لا انقطاع لها وسلم تسليما.
جلاء الأفهام في فضل الصلاة على محمد خير الأنام لابن القيم
و قال ابن كثير عند قوله تعالى
فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا (49) ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا (50)
يقول تعالى: فلما اعتزل الخليل أباه وقومه في الله، أبدله الله من هو خير منهم، ووهب له إسحاق ويعقوب يعني ابنه وابن إسحاق، كما قال في الآية الأخرى: ويعقوب نافلة [الأنبياء: 72]
وقال ومن وراء إسحاق يعقوب
[هود: 71]
ولا خلاف أن إسحاق والد يعقوب، وهو نص القرآن في سورة البقرة: أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق
[البقرة:133]
ولهذا إنما ذكر هاهنا إسحاق ويعقوب، أي جعلنا له نسلا وعقبا أنبياء أقر الله بهم عينه في حياته، ولهذا قال: وكلا جعلنا نبيا فلو لم يكن يعقوب عليه السلام قد نباء في حياة إبراهيم لما اقتصر عليه ولذكر ولده يوسف، فإنه نبي أيضا.
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته حين سئل عن خير الناس، فقال:
«يوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن إسحاق نبي الله ابن إبراهيم خليل الله»، وفي اللفظ الآخر «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم».
وقوله ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني الثناء الحسن، وكذا قال السدي ومالك بن أنس، وقال ابن جرير: إنما قال عليا لأن جميع الملل والأديان يثنون عليهم ويمدحونهم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
تفسير ابن كثير
و هنا يسعنا ذكر فوائد قصة الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم عليهم الصلاة و السلام التي لخصها لها الشيخ السعدي رحمه الله تعالى
حيث قال:
فلنذكر ما يستنبط من هذه القصة العظيمة من الفوائد، فنقول مستعينين بالله:
ذكر ما فيها من الفوائد:
منها: أن هذه القصة من أحسن القصص وأوضحها؛ لما فيها من أنواع
التنقلات من حال إلى حال، ومن محنة إلى محنة، ومن محنة إلى منحة ومنة، ومن ذل إلى عز، ومن أمن إلى خوف وبالعكس، ومن ملك إلى رق وبالعكس، ومن فرقة وشتات إلى انضمام وائتلاف وبالعكس، ومن سرور إلى حزن وبالعكس، ومن رخاء إلى جدب وبالعكس، ومن ضيق إلى سعة وبالعكس، ومن وصول إلى عواقب حميدة، فتبارك من قصها وجعلها عبرة لأولي الألباب.
ومنها: ما فيها من أصول تعبير الرؤيا المناسبة، وأن علم التعبير علم مهم يعطيه الله من يشاء من عباده، وأن أغلب ما تبنى عليه المناسبات وضرب الأمثال والمشابهة في الصفات.
فوجه مناسبة رؤيا يوسف: أنه رأى الشمس والقمر والكواكب الأحد عشر ساجدين له، أن هذه زينة للسماء، وفيها منافعها، فكذلك الأنبياء والعلماء والأصفياء زينة الأرض، وبهم يهتدى في الظلمات كما يهتدى بالأنوار السماوية، ولأن أباه وأمه أصل، وإخوته فرع عنهما، فمن المناسب أن يكون الأصل أعظم نورا وجرما من الفرع، فلذلك كانت الشمس أمه أو أبوه، والقمر الآخر منهما، والكواكب إخوته، ومن المناسب أن الساجد محترم لمن سجد له، والمسجود له معظم محترم، فدل ذلك على أن يوسف يصير معظما محترما لأبويه وإخوته، ولا يتم هذا إلا بمقدمات تقتضي الوصول إلى هذا: من علوم وأعمال واجتباء من الله، فلهذا قال:
{وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك} [يوسف: 6]
ومنها: المناسبة في رؤيا الفتيين، حيث عبر رؤيا من رأى أنه يعصر
خمرا أن الذي يعمل هذا العمل يكون في العادة خادما لغيره، وأيضا العصر مقصود لغيره، والخادم تابع لغيره، ويؤول أيضا إلى السقي الذي هو خدمته، فلذلك أوله بما يؤول إليه، وأما تعبيره لرؤيا من رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه، بأنه يقتل ويصلب مدة حتى تأكل الطير من مخ رأسه الذي هو يحمل.
وعبر رؤيا الملك بالبقرات والسنبلات: بأنها السنين المخصبة والمجدبة، ووجه المناسبة أن الملك به ترتبط أمور الرعية ومصالحها، وبصلاحه تصلح، وبفساده تفسد، فهذه نسبته إذ رأى هو الرؤيا، وكذلك السنون بخصبها وجدبها تنتظم أمور المعاش أو تختل، والبقر هي آلة حرث الأرض واستخراج مغلها، والمغل هو الزرع، فرأى السبب والمسبب، فرؤيته السبع السمان من البقر ثم السبع العجاف، والسبع السنبلات الخضر، ثم السبع اليابسات، أي: لا بد أن تتقدم السبع السنين المخصبات، ثم تتلوها المجدبات، وتأكل ما حصل فيها من غلال، ولا تبقي إلا شيئا يحصنونه عنها، وإلا فهي بصدد أكلها كلها.
فإن قيل: من أين أخذ قوله:
{ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون} [يوسف: 49]
فإن بعض المفسرين قال: هذه زيادة من يوسف في التعبير بوحي أوحي إليه.
فالجواب ليس الأمر كذلك، وإنما أخذها من رؤيا الملك، فإن السنين المجدبة سبع فقط، فدل على أنه سيأتي بعدها عام الخصب، كثير البركات، يزيل الجدب العظيم الحاصل من السنين المجدبة التي لا يزيلها عام خصب
عادي، بل لا بد فيه من خصب خلاف العادة، وهذا واضح وهو من مفهوم العدد.
ومنها: ما فيها من الأدلة والبراهين على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قص عليه هذه القصة المفصلة المبسوطة الموافقة للواقع التي أتت بالمقصود كله، وهو لم يقرأ كتب الأولين، ولا دارس أحدا كما هو معلوم لقومه، وهو بنفسه أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولهذا قال:
{ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون} [يوسف: 102]
ومنها: أنه ينبغي للعبد البعد عن أسباب الشر، وكتمان ما تخشى مضرته، لقول يعقوب ليوسف:
{لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا} [يوسف: 5]
ومنها: ذكر الإنسان بما يكره على وجه الصدق والنصيحة له أو لغيره لقوله: {فيكيدوا لك كيدا} [يوسف: 5]
ومنها: أن نعمة الله على العبد نعمة على من يتعلق به، ويتصل من أهل بيته وأقاربه وأصحابه، فإنه لا بد أن يصلهم ويشملهم منها جانب لقوله:
{ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب} [يوسف: 6] أي: بما يحصل لك؛ ولهذا لما تمت النعمة على يوسف حصل لآل يعقوب من العز والتمكن والسرور، وزوال المكروه، وحصول المحبوب ما ذكر الله في آخر القصة.
ومنها: أن النعم الكبيرة الدينية والدنيوية لا بد أن يتقدمها أسباب ووسائل إليها؛ لأن الله حكيم، وله سنن لا تتغير، قضى بأن المطالب العالية لا تنال إلا بالأسباب النافعة، خصوصا العلوم النافعة، وما يتفرع عنها من الأخلاق والأعمال؛ فلهذا عرف يعقوب أن وصول يوسف إلى تلك الحالة التي يخضع له فيها أبوه وأمه وإخوته مقام عظيم، ومرتبة عالية، وأنه لا بد أن ييسر الله ليوسف من الوسائل ما يوصله إليها، ولهذا قال: {وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك} [يوسف: 6]
ومنها: أن العدل مطلوب في جميع الأمور الصغار والكبار في معاملة السلطان لرعيته، ومعاملة الوالدين للأولاد، والقيام بحقوق الزوجات، وغير ذلك في المحبة والإيثار ونحوها، وأن القيام بالعدل في ذلك تستقيم الأمور صغارها وكبارها به، ويحصل للعبد ما أحب، وفي الإخلال بذلك تفسد الأحوال، ويحصل للعبد المكروه من حيث لا يشعر؛ لهذا لما قدم يعقوب يوسف في المحبة، وجعل وجهه له جرى منهم على أبيهم وأخيهم من المكروه ما جرى.
ومنها: الحذر من شؤم الذنوب، فكم من ذنب واحد استتبع ذنوبا كثيرة، وتسلسل الشر المؤسس على الذنب الأول، وانظر إلى جرم إخوة يوسف، فإنهم أرادوا التفريق بينه وبين أبيه الذي هو من أعظم الجرائم، احتالوا على ذلك بعدة حيل، وكذبوا عدة مرات، وزوروا على أبيهم في القميص والدم الذي فيه، وفي صفة حالهم حين أتوا عشاء يبكون، ولا بد أن الكلام في هذه القضية تسلسل وتشعب، بل ربما أنه اتصل إلى الاجتماع بيوسف، وكلما بحث في هذا الموضوع فهو بحث كذب وزور مع استمرار أثر المصيبة على يعقوب، بل وعلى يوسف، فليحذر العبد من الذنوب، خصوصا الذنوب المتسلسلة، وضد ذلك بعض الطاعات تكون طاعة واحدة، ولكن يتسلسل نفعها وبركتها حتى تستتبع طاعات من الفاعل
وغيره، وهذا من أعظم آثار بركة الله للعبد في علمه وعمله.
ومنها: أن العبرة للعبد في حال كمال النهاية، لا بنقص البداية، فإن أولاد يعقوب عليهم السلام جرى منهم ما جرى في أول الأمر من الجرائم المتنوعة، ثم انتهى أمرهم إلى التوبة النصوح، والاعتراف التام، والعفو التام عنهم من يوسف ومن أبيهم، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة، وإذا سمح العبد بحق فالله أولى بذلك وهو خير الراحمين الغافرين، ولهذا في أصح الأقوال إن الله جعلهم أنبياء لمحو ما سبق منهم، وكأنه ما كان، ولقوله:
{وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط} [البقرة: 136] وهم أولاد يعقوب الاثنا عشر وذريتهم، ومما يؤيد هذا أن في رؤيا يوسف أنهم هم الكواكب التي فيها النور والهداية، وهي من صفات الأنبياء، فإن لم يكونوا أنبياء فإنهم علماء عباد.
ومنها: ما من الله به على يوسف من العلم والحلم، والأخلاق الكاملة، والدعوة إلى الله وإلى دينه، وعفوه عن إخوته الخاطئين عفوا بادرهم به، وتمم ذلك بأن أخبرهم أنه لا يثرب عليهم بعد هذا العفو، ثم بره العظيم بأبيه وأمه وإحسانه على إخوته، وإحسانه على عموم الخلق، كما هو بين في سيرته وقصته.
ومنها: أن بعض الشر أهون من بعض، وارتكاب أخف الضررين أولى من ارتكاب أعظمهما؛ فإن إخوة يوسف لما قالوا:
{اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا} [يوسف: 9]
وقال قائل منهم:
{لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين}
[يوسف: 10] كان قوله أحسن منهم وأخف، وبسببه خف عن إخوته الإثم الأكبر، وهو من جملة الأسباب التي قدر الله ليوسف في وصوله إلى الغاية التي يريد.
ومنها: أن الشيء إذا تداولته الأيدي، وصار من جملة الأموال، ولم يعلم المعاملون أنه على غير وجه الشرع، فلا إثم على من باشره ببيع أو شراء أو خدمة أو انتفاع أو استعمال، فإن يوسف باعه إخوته بيعا محرما عليهم، واشترته السيارة بناء على أنه عبد لإخوة يوسف البائعين، ثم ذهبوا به إلى مصر فباعوه بها، وبقي عند سيده غلاما رقيقا، وسماه الله سيدا، وكان عندهم بمنزلة الرقيق المكرم، وسمى الله شراء السيارة وشراءه في مصر معاملة لما ذكرنا.
ومنها: الحذر من الخلوة بالنساء الأجنبيات، وخصوصا اللاتي يخشى منهن الفتنة، والحذر أيضا من المحبة التي يخشى ضررها؛ فإن امرأة العزيز جرى منها ما جرى بسبب توحدها بيوسف، وحبها الشديد له الذي ما تركها حتى راودته تلك المراودة، ثم كذبت عليه فسجن ذلك السجن الطويل.
ومنها: أن الهم الذي هم به يوسف ثم تركه لله ولبرهان الإيمان الذي وضعه الله في قلبه مما يرقيه إلى الله زلفى؛ لأن الهم داع من دواعي النفس الأمارة بالسوء، وهو طبيعة طبع عليها الآدمي، فإذا حصل الهم بالمعصية ولم يكن عند العبد ما يقاوم ذلك من الإيمان والخوف من الله وقع الذنب، وإن كان العبد مؤمنا كامل الإيمان فإن الهم الطبيعي إذا قابله ذلك الإيمان الصحيح القوي منعه من ترتب أثره، ولو كان الداعي قويا، ولهذا كان يوسف من أعلى هذا النوع، قال تعالى: {لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين}
[يوسف: 24] لاستخلاص الله إياه، وقوة إيمانه وإخلاصه، خلصه الله من الوقوع في الذنب، فكان ممن خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى، ومن أعلى السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فذكر صلى الله عليه وسلم منهم رجلا دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، فهمها لما كان لا معارض له استمرت في مراودته، وهمه عارض عرض، ثم زال في الحال ببرهان ربه.
ومنها: أن من دخل الإيمان قلبه استنار بمعرفة ربه ونور الإيمان به، وكان مخلصا لله في كل أحواله، فإن الله يدفع عنه ببرهان إيمانه وإخلاصه من أنواع السوء والفحشاء وأسباب المعاصي ما هو جزاء لإيمانه وإخلاصه؛ لأن الله علل صرف هذه الأمور عن يوسف بقوله: {إنه من عبادنا المخلصين} [يوسف: 24]
على قراءة من قرأها بكسر اللام، ومن قرأها بالفتح فإن من أخلصه الله واجتباه فلا بد أن يكون مخلصا، فالمعنيان متلازمان.
ومنها: أنه ينبغي للعبد إذا ابتلي بالوقوع في محل فيه فتنة وأسباب معصية أن يفر ويهرب غاية ما يمكنه؛ ليتمكن من التخلص من ذلك الشر، كما فر يوسف هاربا للباب، وهي تمسك بثوبه وهو مدبر عنها.
ومنها: أن القرائن يعمل بها عند الاشتباه في الدعاوى، وذلك أن الشاهد الذي شهد أي: حكم على يوسف وعلى المرأة اعتبر القرينة فقال:
{إن كان قميصه قد من قبل} [يوسف: 26]
إلى آخر القضية، وصار حكمه هذا موافقا للصواب، ومن القرائن
وجود الصواع في رحل الأخ، وقد اعتبر هذا وهذا.
ومنها: ما عليه يوسف من الجمال الباهر ظاهرا وباطنا، فإن جماله الظاهر أوجب لامرأة العزيز ما أوجب من الحب المفرط والمراودة المستمرة، ولما لامها النساء دعتهن:
{وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم} [يوسف: 31]
وأما جماله الباطن فهو العفة العظيمة منه مع وجود الدواعي الكثيرة لوقوع السوء منه، ولكن الإيمان ونوره، والإخلاص وقوته لا يشذ عنهما فضيلة، ولا تجامعهما رذيلة، وقد بينت امرأة العزيز للنساء من يوسف الأمرين، فإنها لما أرتهن جماله الظاهر الذي اعترفن أن هذا الجمال لا يوجد في الآدميين قالت:
{ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} [يوسف: 32] وقالت بعد ذلك: {الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين}
[يوسف: 51]
ومنها: أن يوسف صلى الله عليه وسلم اختار السجن على المعصية، فهكذا إذا ابتلي العبد بأحد أمرين، إما أن يلجأ إلى فعل المعصية، وإما أن يعاقب عقوبة دنيوية، فعليه أن يختار العقوبة الدنيوية التي فيها الثواب من هذا الوجه بعدة أمور: ثواب من جهة اختياره الإيمان على السلامة من العقوبة الدنيوية، وثواب من جهة أن هذا من باب التخليص للمؤمن والتصفية، وهو يدخل في الجهاد في سبيل الله، وثواب من جهة المصيبة التي نالته والألم الذي أصابه، فسبحان من ينعم ببلائه، ويلطف بأصفيائه، وهذا أيضا عنوان الإيمان، وعلامة السعادة.
ومنها: أنه ينبغي للعبد أن يلتجئ إلى ربه، ويحتمي بحماه عند وجود أسباب المعصية، ويتبرأ من حوله وقوته لقول يوسف:
{وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين} [يوسف: 33]
فالعبد الموفق يستعين ربه على دفع المعاصي وأسبابها، كما يستعين به عند فعل الطاعات والخيرات، والله كافي المتوكلين.
ومنها: أن العلم والعقل الصحيح يدعوان صاحبهما إلى الخير، وينهيانه عن الشر، وأن الجهل يدعو صاحبه إلى ضد ذلك لقوله: {أصب إليهن وأكن من الجاهلين} [يوسف: 33]
أي: الجاهلين بالأمور الدينية، والجاهلين بالحقائق النافعة والحقائق الضارة.
ومنها: أنه كما على العبد عبودية لربه في حال رخائه، فعليه عبودية في حال الشدة، فيوسف صلى الله عليه وسلم لم يزل يدعو إلى الله، فلما دخل السجن استمر على ذلك، ودعا من يتصل به من أهل السجن، ودعا الفتيين إلى التوحيد، ونهاهما عن الشرك، ومن كمال رأيه وحكمته أنه لما رأى فيهما قابلية لدعوته حين احتاجا إليه في تعبير رؤياهما وقالا له:
{إنا نراك من المحسنين} [يوسف: 36]
رأى ذلك فرصة، فدعاهما إلى الله قبل أن يعبر رؤياهما؛ ليكون أقرب إلى حصول المطلوب، وبين لهما أن الذي أوصله إلى هذه الحال التي رأياه فيها من الكمال والعلم إيمانه وتوحيده وتركه لملة المشركين، وهذا دعاء لهما بالحال، ثم دعاهما بالمقال، وبرهن لهما على حسن التوحيد ووجوبه، وعلى قبح الشرك وتحريمه.
ومنها: أنه يبدأ بالأهم فالأهم، وأنه إذا سئل المفتي وكان السائل حاجته في غير سؤاله أشد أنه ينبغي له أن يعلمه ما يحتاج إليه قبل أن يجيب سؤاله، فإن هذا علامة على نصح المعلم وفطنته وحسن إرشاده وتعليمه؛ فإن يوسف لما سأله الفتيان عن رؤياهما، وكانت حاجتهما إلى التوحيد والإيمان أعظم من كل شيء، قدمها.
ومنها: أن من وقع في مكروه وشدة لا بأس أن يستعين بمن له قدرة على تخليصه بفعله، أو الإخبار بحاله، وأن هذا لا يكون نقصا ولا شكوى إلى المخلوق ممنوعة، فإن هذا من الأمور العادية التي جرى العرف باستعانة الناس بعضهم ببعض فيها، ولهذا قال يوسف للذي ظن أنه ناج منهما:
{اذكرني عند ربك} [يوسف: 42]
ومنها: أنه يتعين على المعلم والداعي إلى الله استعمال الإخلاص التام في تعليمه ودعوته، وأن لا يجعل ذلك وسيلة إلى معاوضة في مال أو جاه أو نفع، وأن لا يمتنع من التعليم إذا لم يفعل السائل ما كلفه به المعلم، فإن يوسف قد وصى أحد الفتيين أن يذكره عند ربه فلم يذكره ونسي، فلما بدت حاجتهم إلى سؤال يوسف أرسلوا ذلك الفتى، وجاءه سائلا مستفتيا عن تلك الرؤيا، فلم يعنفه يوسف ولا وبخه، بل ولا قال له: لم لم تذكرني عند ربك؟ وأجابه جوابا تاما من جميع الوجوه.
ومنها: أنه ينبغي للمسؤول إذا أجاب السؤال أن يدل السائل على الأمر الذي ينفعه مما يتعلق بسؤاله، ويرشده إلى الطريق التي ينتفع بها في دينه ودنياه، فإن هذا من كمال نصحه، وجزالة رأيه، وحسن إرشاده؛ فإن
يوسف لم يقتصر على تعبير رؤيا الملك، بل دلهم مع ذلك، وأشار عليهم بما يصنعونه في تلك السنين المخصبات من الإكثار من الزراعة، وحسن الحفظ والجباية.
ومنها: أنه لا يلام العبد على دفع التهمة عن نفسه، بل ذلك مطلوب كما امتنع يوسف من الخروج من السجن حتى تتبين لهم براءته مع النسوة اللاتي قطعن أيديهن.
ومنها: فضيلة العلم، علم الشرع والأحكام، وعلم تعبير الرؤيا، وعلم التدبير والتربية، وعلم السياسة، فإن يوسف صلى الله عليه وسلم إنما حصلت له الرفعة في الدنيا والآخرة بسبب علمه المتنوع، وفيه أن علم التعبير داخل في الفتوى، فلا يحل لأحد أن يجزم بالتعبير قبل أن يعرف ذلك، كما ليس له أن يفتي في الأحكام بغير علم؛ لأن الله سماها فتوى في هذه السورة.
ومنها: أنه لا بأس أن يخبر الإنسان عما في نفسه من الصفات الكاملة، من العلم وغيره، إذا كان في ذلك مصلحة وسلم من الكذب، ولم يقصد به الرياء، لقول يوسف:
{قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} [يوسف: 55] وكذلك لا تذم الولاية إذا كان المتولي لها يقوم بما يقدر عليه من إقامة الشرع، وإيصال الحقوق إلى أهلها، وأنه لا بأس بطلبها إذا كان أهلا، وأعظم كفاءة من غيره، وإنما المذموم إذا لم يكن فيه كفاءة، أو كان موجودا من هو أمثل منه أو مثله، أو لم يرد بها إقامة أمر الله بل أراد الترؤس والمأكلة المالية.
ومنها: أن الله واسع الجود والكرم، يجود على عبده بخير الدنيا
والآخرة، وأن خير الآخرة له سببان لا ثالث لهما: الإيمان بكل ما أوجب الله الإيمان به، والتقوى التي هي امتثال الأوامر الشرعية واجتناب النواهي، وأن خير الآخرة خير من ثواب الدنيا وملكها، وأنه ينبغي للعبد أن يدعو نفسه ويشوقها لثواب الله، ولا يدعها تحزن إذا رأت لذات الدنيا ورياساتها وهي عاجزة عنها، بل يسليها بالثواب الأخروي ليخف عليها عدم حصول الدنيا، لقول يوسف:
{ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون}
[يوسف: 57]
ومنها: أن جباية الأرزاق إذا أريد بها التوسعة على الناس من غير ضرر يلحقهم لا بأس به، بل ذلك مطلوب؛ لأن يوسف أمرهم بجباية الأرزاق والأطعمة في السنين المخصبات للاستعداد به للسنين المجدبات، وقد حصل به الخير الكثير.
ومنها: حسن تدبير يوسف لما تولى خزائن الديار المصرية من أقصاها إلى أقصاها، فنهض بالزراعة حتى كثرت الغلال جدا، فصار أهل الأقطار يقصدون مصر لطلب الميرة منها عندما فقدوا ما عندهم؛ لعلمهم بوفورها في مصر، ومن عدله وتدبيره وخوفه أن يتلاعب بها التجار أنه لا يكيل لأحد إلا مقدار الحاجة الخاصة أو أقل، لا يزيد كل قادم على كيل بعير وحمله، وظاهر حاله هذا أنه لا يعطي أهل البلد إلا أقل من ذلك بكثير لحضورهم عنده.
ومنها: مشروعية الضيافة، وأنها من سنن المرسلين، وإكرام الضيف، لقول يوسف:
{ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين}
[يوسف: 59]
ومنها: أن سوء الظن مع وجود القرائن الدالة عليه غير ممنوع ولا محرم؛ فإن يعقوب قال لأولاده:
{هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل}
[يوسف: 64] وقال: {بل سولت لكم أنفسكم أمرا} [يوسف: 83] فهم في الأخيرة، وإن لم يكونوا مفرطين، فقد جرى منهم ما أوجب لأبيهم أن يقول ما قال من غير لوم عليه.
ومنها: أن استعمال الأسباب الدافعة للعين وغيرها من المكاره، أو الرافعة لها بعد نزولها غير ممنوع، وإن كان لا يقع شيء إلا بقضاء الله وقدره، فإن الأسباب أيضا من القضاء والقدر؛ لقول يعقوب:
{يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة} [يوسف: 67]
ومنها: جواز استعمال الحيل والمكايد التي يتوصل بها إلى الحقوق، وأن العلم بالطرق الخفية الموصلة إلى مقاصدها مما يحمد عليه العبد، وأما الحيل التي يراد بها إسقاط واجب أو فعل محرم فإنها محرمة غير نافذة.
ومنها: أنه ينبغي لمن أراد أن يوهم غيره بأمر لا يحب بيانه له أن يستعمل المعاريض القولية والفعلية المانعة له من الكذب، كما فعل يوسف حين ألقى الصواع في رحل أخيه، ثم استخرجها معه موهما أنه سارق، وليس في ذلك تصريح بسرقته، وإنما استعمل المعاريض، ومثل هذا قوله:
{معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده}
[يوسف: 79] ولم يقل: من سرق متاعنا.
ومنها: أنه لا يجوز أن يشهد إلا بما علمه، وتحققه برؤية أو سماع لقولهم: {وما شهدنا إلا بما علمنا} [يوسف: 81]
وقوله: {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون}
[الزخرف: 86]
ومنها: هذه المحنة العظيمة التي امتحن الله بها نبيه وصفيه يعقوب عليه السلام، إذ قضى بالتفريق بينه وبين ابنه يوسف الذي لا يقدر على فراقه ساعة واحدة، ويحزنه أشد الحزن، فتم لهذه الفرقة مدة طويلة ويعقوب لم يفارق الحزن قلبه، وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، ثم ازداد به الأمر حين اتصل فراق الابن الثاني بالأول، وهو في ذلك صابر لأمر الله، محتسب الأجر من الله، وقد وعد من نفسه الصبر الجميل، ولا ريب أنه وفى بما وعد به، ولا ينافي ذلك قوله:
{إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} [يوسف: 86] فإن الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر، وإنما الذي ينافيه الشكوى إلى المخلوقين، ولا ريب أن الله رفعه بهذه المحنة درجات عالية ومقامات سامية، لا تنال إلا بمثل هذه الأمور.
ومنها: أن الفرج مع اشتداد الكرب، فإنه لما تراكمت الشدائد المتنوعة، وضاق العبد ذرعا بحملها، فرجها فارج الهم، كاشف الغم، مجيب دعوة المضطرين، وهذه عوائده الجميلة، خصوصا لأوليائه وأصفيائه، ليكون لذلك الوقع الأكبر، والمحل الأعظم، وليجعل من المعرفة بالله والمحبة له ما يوازن ويرجح بما جرى على العبد بلا نسبة.
ومنها: جواز إخبار العبد بما يجد، وما هو فيه من مرض أو فقر غيرهما على غير وجه التسخط، لقول يعقوب:
{يا أسفى على يوسف} [يوسف: 84]
وقول إخوة يوسف: {مسنا وأهلنا الضر}
[يوسف: 88] وأقرهم يوسف.
ومنها: فضيلة التقوى والصبر، وأن كل خير في الدنيا والآخرة فمن آثار التقوى والصبر، وأن عاقبة أهلهما أحسن العواقب لقوله:
{قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} [يوسف: 90]
ومنها: أنه ينبغي للعبد إذا أنعم عليه بنعمة بعد ضدها أن يتذكر الحالة السابقة؛ ليعظم وقع هذه النعمة الحاضرة، ويكثر شكره لله تعالى، ولهذا قال يوسف:
{وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي} [يوسف: 100]
ومنها: ما في هذه القصة من الألطاف المتنوعة المسهلة للبلاء: منها رؤيا يوسف السابقة؛ فإن فيها روحا ولطفا بيوسف وبيعقوب، وبشارة بالوصول إلى تأويلها، ولطف الله بيوسف إذ أوحى إليه وهو في الجب لتنبئنهم بأمرهم هذا، وهم لا يشعرون، وتنقلاته من حال إلى حال، فإن فيها ألطافا ظاهرة وخفية؛ ولهذا قال في آخر الأمر:
{إن ربي لطيف لما يشاء} [يوسف: 100]
يلطف به في أحواله الداخلية، ويلطف له في الأمور الخارجية، ويوصله إلى أعلى المطالب من حيث لا يشعر.
ومنها: أنه ينبغي للعبد أن يلح دائما على ربه في تثبيت إيمانه، وأن يحسن له الخاتمة، وأن يجعل خير أيامه آخرها، وخير أعماله خواتمها، فإن الله كريم جواد رحيم.