(3017 ) فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
جمع محمد البلوشي وأحمد بن علي وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد وأسامة الحميري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من (٥٦) – (كِتَابُ: التفسير)،
تابع 2 الباب الأول
٣ – (٣٠١٧) حدثني أَبُو خَيْثَمَةَ، زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى (وَاللَّفْظُ لابن المثنى) قالا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ (وَهُوَ ابْنُ مَهْدِيٍّ). حدثنا سفيان عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شهاب؛ أن اليهود قالوا لعمر: إنكم تقرؤن آية. لو أنزلت فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيد. فقال عمر: إني لأعلم حيث أنزلت. وأي يوم أنزلت. وأين رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حَيْثُ أنزلت. أنزلت بعرفة. ورسول الله ﷺ واقف بعرفة.
قال سفيان: أشك كان يوم جمعة أم لا. يعني: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي﴾ [٥ /المائدة /٣].
٤ – (٣٠١٧) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وأبو كريب (واللفظ لأبي بكر) قال: حدثنا عبد الله بن إدريس عن أبيه، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شهاب، قال:
قالت اليهود لعمر: لو علينا، معشر يهود، نزلت هذه الآية: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا﴾، نعلم اليوم الذي أنزلت فيه، لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال فقال عمر: فقد علمت اليوم الذي أنزلت فيه. والساعة، وأين رسول الله ﷺ حين نزلت، نزلت ليلة جمع وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بعرفات.
٥ – (٣٠١٧) وحدثني عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ. أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَيْسٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شهاب. قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر. فقال: يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا نزلت، معشر اليهود، لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال: وأي آية؟ قال: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا﴾. فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بعرفات، في يوم جمعة.
==========
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله: (“[()] – ()”).
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[٧٤٨٦] (٣٠١٧) – الحديث
شرح الحديث:
(عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ) البجليّ الأحمسيّ، رأى النبيّ ﷺ، وأدرك الجاهلية، وغزا في خلافة أبي بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم ثلاثًا وأربعين من بين غزوة وسرية، روى عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة، سكن الكوفة، توفي سنة ثلاث وعشرين ومائة [»عمدة القاري«١/ ٢٦٢].
قوله ( توفي سنة ثلاث وعشرين ومائة) وهم
(أَنَّ الْيَهُودَ) هو عَلَم على قوم موسى عليه السلام [»عمدة القاري«١/ ٢٦٢].
(قَالُوا لِعُمَرَ) وفي الرواية الثالثة؛ «جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ. . .»، قال في «الفتح»: هذا الرجل هو كعب الأحبار، بَيّن ذلك مسدّد في «مسنده»، والطبريّ في «تفسيره»، والطبرانيّ في «الأوسط»، كلهم من طريق رجاء بن أبي سلمة، عن عبادة بن نسَيّ – بضم النون، وفتح المهملة – عن إسحاق بن خَرَشة، عن قَبيصة بن ذُؤيب، عن كعب، وللبخاريّ في «المغازي» من طريق الثوريّ عن قيس بن مسلم: «أن ناسًا من اليهود»، وله في «التفسير» من هذا الوجه بلفظ: «قالت اليهود»، فيُحمل: على أنهم كانوا حين سؤال كعب عن ذلك جماعة، وتكلم كعب على لسانهم. انتهى [«الفتح» ١/ ١٩٣، «كتاب الإيمان» رقم (٤٥)].
(إِنَّكمْ تَقْرَؤُونَ آيَةً لَوْ أُنْزِلَتْ فِينَا لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا)، أي: لعظّمناه، وجعلناه عيدًا لنا في كل سنة…
ومعنى جواب عمر
وقال النوويّ: معناه: أنّا ما تركنا تعظيم ذلك اليوم، والمكان، أما المكان فهو عرفات، وهو معظم الحج الذي هو أحد أركان الإسلام، وأما الزمان فهو يوم الجمعة، ويوم عرفة، وهو يوم اجتمع فيه فضلان، وشرفان، ومعلوم تعظيمنا لكل واحد منهما، فإذا اجتمعا زاد التعظيم، فقد اتخذنا ذلك اليوم عيدًا، وعظّمنا مكانه أيضًا، وهذا كان في حجة الوداع، وعاش النبيّ ﷺ بعدها ثلاثة أشهر، قاله في «العمدة» [«عمدة القاري» ١/ ٢٦٤].
[فإن قيل]: كيف طابق الجواب السؤال؛ لأنه قال: «لاتخذناه عيدًا»، وأجاب عمر رضي الله عنه بمعرفة الوقت، والمكان، ولم يقل: جعلناه عيدًا؟.
[والجواب] عن هذا: أنها نزلت في أخريات نهار عرفة، ويوم العيد، إنما يتحقق بأوله، وقد قال الفقهاء: إن رؤية الهلال بعد الزوال للقابلة.
قال الحافظ رحمه الله: قاله هكذا بعض من تقدم، وعندي أن هذه الرواية اكتُفي فيهابالإشارة، وإلا فرواية إسحاق عن قبيصة قد نصت على المراد، ولفظه: «نزلت يوم جمعة، يوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد»، لفظ الطبريّ، والطبرانيّ: «وهما لنا عيدان»، وكذا عند الترمذيّ من حديث ابن عباس: «أن يهوديًّا سأله عن ذلك، فقال: نزلت في يوم عيدين: يوم جمعة، ويوم عرفة».
فظهر أن الجواب تضمن أنهم اتخذوا ذلك اليوم عيدًا، وهو يوم الجمعة، واتخذوا يوم عرفة عيدًا؛ لأنه ليلة العيد، وهكذا كما جاء في الحديث المتقدّم في «الصيام»: «شهرا عيد لا ينقصان: رمضان، وذو الحجة»، فسمّي رمضان عيدًا؛ لأنه يعقبه العيد. انتهى.
[تنبيه]: في هذا الحديث بيانُ ضَعْف ما أخرجه الطبريّ بسند فيه ابن لهيعة، عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت يوم الإثنين، وضَعْف ما أخرجه من طريق العوفيّ عن ابن عباس: أن اليوم المذكور ليس بمعلوم، وعلى ما أخرجه البيهقيّ بسند منقطع: أنها نزلت يوم التروية، ورسول الله ﷺ بفناء الكعبة، فأمر الناس أن يروحوا إلى منى، وصلى الظهر بها، قال البيهقيّ: حديث عمر أولى، قال الحافظ: وهو كما قال. انتهى [«الفتح» ١٠/ ٨٢].
وقوله: (قَالَ سُفْيَانُ)؛ يعني: الثوريّ، (أَشُكُّ كَانَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، أَمْ لَا، يَعْنِي: ﴿أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾) سيأتي في الرواية التالية عن قيس بن مسلم الجزم بأن ذلك كان يوم الجمعة، فلا يضرّ شكّ سفيان، والله تعالى أعلم.
وحديث عمر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف].
فقه وفوائد الحديث:
1 – (منها): بيان فضل يوم عرفة؛ حيث إنه نزلت فيه هذه الآية الكريمة.
2 – (ومنها): بيان وقت، ومكان نزول هذه الآية.
3 – (ومنها): بيان ما كان عليه عمر رضي الله عنه من العناية بمكان نزول الآية، وزمانها، وهذا يدل أيضًا إلى فضل الصحابة رضي الله عنهم وعنايتهم بالوحي.
4 – (ومنها): أن هذه الآية فيها بيان ما منّ الله تعالى به على هذه الأمة، حيث أكمل دينها، وأتمّ نعمه عليها، بحيث لا تحتاج إلى زيادة في أمر الدين، فكلّ ما حدث بعد أن أكمله الله تعالى، مما لا دليل له منه يُعتبر بدعة ضلالة، كما ثبت ذلك من حديث عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ ﷺ قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردّ»، متّفق عليه، وفي رواية لمسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردّ».
5 – (ومنها): أنه استُدل بهذا الحديث على مزية الوقوف بعرفة يوم الجمعة على غيره من الأيام؛ لأن الله تعالى إنما يختار لرسوله ﷺ الأفضل، وأن الأعمال تَشْرُف بشرف الأزمنة كالأمكنة، ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، وقد ثبت في «صحيح مسلم» عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة. . .» الحديث؛ ولأن في يوم الجمعة الساعة المستجاب فيها الدعاء، ولا سيما على قول من قال: إنها بعد العصر.
قال الحافظ رحمه الله: وأما ما ذكره رزين في «جامعه» مرفوعًا: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم عرفة إذا وافق يوم الجمعة، وهو أفضل من سبعين حجة في غيرها» فهو حديث لا أعرف حاله؛ لأنه لم يذكر صحابيه، ولا من أخرجه، بل أدرجه في حديث «الموطأ» الذي ذكره مرسلًا عن طلحة بن عبيد الله بن كريز، وليست الزيادة المذكورة في شيء من الموطآت، فإن كان له أصل احتَمَل أن يراد بالسبعين التحديد، أو المبالغة، وعلى كل منهما فثبتت المزية بذلك، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى [«الفتح» ١٠/ ٨٤].
يقصد حتى لو لم يثبت حديث المضاعفة فالمزية ثابتة بالأدلة المتقدمة في فضيلة يوم الجمعة .
6 – (ومنها): ما كتبه الحافظ ابن رجب من بحث ممتع، قد أجاد فيه، وأفادا، قال رحمه الله تعالى ما حاصله:
هذا الحديث قد يؤخذ منه أن الأعياد لا تكون بالرأي والاختراع كما يفعله أهل الكتابين من قبلنا؛ إنما تكون بالشرع والاتباع.
فهذه الآية لمّا تضمنت إكمال الدين وإتمام النعمة أنزلها الله في يوم شرعه عيدًا لهذه الأمة من وجهين:
أحدهما: أنه يوم عيد الأسبوع وهو يوم الجمعة.
والثاني: أنه يوم عيد أهل الموسم، وهو يوم مجمعهم الأكبر وموقفهم الأعظم، وقد قيل: إنه يوم الحج الأكبر.
وقد جاء تسميته عيدًا من حديث مرفوع خرّجه أهل السنن من حديث عقبة بن عامر، عن النبيّ ﷺ قال: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب».
وقد أشكل وجهه على كثير من العلماء؛ لأنه يدل على أن يوم عرفة يوم عيد لا يصام، كما روي ذلك عن بعض المتقدمين، وحمله بعضهم على أهل الموقف، وهو الأصح؛ لأنه اليوم الذي فيه أعظم مجامعهم ومواقفهم، بخلاف أهل الأمصار فإن اجتماعهم يوم النحر، وأما أيام التشريق فيشارك أهل الأمصار أهل الموسم فيها؛ لأنها أيام ضحاياهم وأكْلهم من نُسُكهم. هذا قول جمهور العلماء.
وقال عطاء: إنما هي أعياد لأهل الموسم، فلا ينهى أهل الأمصار عن صيامها. وقول الجمهور أصح.
ولكن الأيام التي يحدث فيها حوادث من نِعَم الله على عباده، لو صامها بعض الناس شكرًا من غير اتخاذها عيدًا، كان حسنًا استدلالًا بصيام النبيّ ﷺ عاشوراء لمّا أخبره اليهود بصيام موسى عليه السلام له شكرًا، وبقول النبيّ ﷺ لمّا سئل عن صيام يوم الاثنين، قال: «ذلك يوم وُلدت فيه، وأُنزل علي فيه».
فأما الأعياد التي يجتمع عليه الناس فلا يُتجاوز بها ما شرعه الله لرسوله ﷺ وشرعه الرسول لأمته.
والأعياد: هي مواسم الفرح والسرور؛ وإنما شرع الله لهذه الأمة الفرح والسرور بتمام نعمته وكمال رحمته، كما قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس: ٥٨]،
فشرع لهم عيدين في سنة وعيدًا في كل أسبوع،
فأما عيدا السنة:
فأحدهما: تمام صيامهم الذي افترضه عليهم كل عام، فإذا أتموا صيامهم أعتقهم من النار، فشَرَع لهم عيدًا بعد إكمال صيامهم، وجعله يوم الجوائز يرجعون فيه من خروجهم إلى صلاتهم وصدقتهم بالمغفرة، وتكون صدقة الفطر وصلاة العيد شكرًا لذلك.
والعيد الثاني: أكبر العيدين عند تمام حجهم بإدراك حجهم بالوقوف بعرفة وهو يوم العتق من النار، ولا يحصل العتق من النار والمغفرة للذنوب والأوزار في يوم من أيام السنة أكثر منه، فجعل الله عقب ذلك عيدًا، بل هو العيد الأكبر، فيكمل أهل الموسم فيه مناسكهم ويقضوا فيه تفثهم، ويوفون نذورهم ويطوفون بالبيت العتيق ويشاركهم أهل الأمصار في هذا العيد؛ فإنهم يشاركونهم في يوم عرفة في العتق والمغفرة وإن لم يشاركوهم في الوقوف بعرفة؛ لأن الحج فريضة العمر لا فريضة كل عام، بخلاف الصيام ويكون الشكر عند أهل الأمصار: الصلاة والنحر، والنحر أفضل من الصدقة التي في يوم الفطر؛ ولهذا أمر الله نبيّه ﷺ أن يشكر نعمته عليه بإعطائه الكوثر بالصلاة له والنحر كما شرع ذلك لإبراهيم خليله؛ عند أمْره بذبح ولده وافتدائه بذبح عظيم.
وأما عيد الأسبوع:
فهو يوم الجمعة، وهو متعلق بإكمال فريضة الصلاة؛ فإن الله فرض على عباده المسلمين الصلاة كل يوم وليلة خمس مرات، فإذا كملت أيام الأسبوع التي تدور الدنيا عليها وأكملوا صلاتهم فيها شرع لهم يوم إكمالها – وهو اليوم الذي انتهى فيه الخلق، وفيه خُلق آدم وأدخل الجنة – عيدًا يجتمعون فيه على صلاة الجمعة، وشرع لهم الخطبة تذكيرًا بنِعَم الله عليهم وحثًّا لهم على شكرها، وجعل شهود الجمعة بأدائها كفارة لذنوب الجمعة كلها وزيادة ثلاثة أيام.
وقد روي أن يوم الجمعة أفضل من يوم الفطر ويوم النحر، خرّجه الإمام أحمد في «مسنده»، وقاله مجاهد وغيره.
وروي أنه حج المساكين، وروي عن علي أنه يوم نُسك المسلمين.
وقال ابن المسيب: الجمعة أحب إليّ من حج التطوع. وجعل الله التبكير إلى الجمعة كالهدي؛ فالمبكر في أول ساعة كالمُهدي بدنة، ثم كالمهدي بقرة، ثم كالمهدي كبشًا، ثم كالمهدي دجاجة، ثم كالمهدي بيضة.
ويوم الجمعة يوم المزيد في الجنة الذي يزور أهل الجنة فيه ربهم ويتجلى لهم في قدر صلاة الجمعة.
وكذلك روي في يوم العيدين أن أهل الجنة لا يزورون ربهم فيهما، وأنه يتجلى فيهم لأهل الجنة عمومًا يشارك الرجال فيها النساء. فهذه الأيام أعياد للمؤمنين في الدنيا والآخرة عمومًا.
وأما خواص المؤمنين: فكل يوم لهم عيد كما قال بعض العارفين.
وروي عن بعضهم: كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد. ولهذا روي أن خواص أهل الجنة يزورون ربهم وينظرون إليه كل يوم مرتين بكرة وعشيًّا.
وقد خرّجه الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعًا وموقوفًا.
ولهذا المعنى – والله أعلم – لمّا ذكر النبيّ ﷺ الرؤية في حديث جرير بن عبد الله البجلي أمر عقب ذلك بالمحافظة على الصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها؛ فإن هذين الوقتين وقت رؤية خواص أهل الجنة ربهم، فمن حافظ على هاتين الصلاتين على مواقيتها وأدائهما وخشوعهما وحضور القلب فيهما رجي له أن يكون ممن ينظر إلى الله في الجنة في وقتهما.
فتبيَّن بهذا: أن الأعياد تتعلق بإكمال أركان الإسلام؛ فالأعياد الثلاثة المجتمَع عليها تتعلق بإكمال الصلاة والصيام والحج؛ فأما الزكاة: فليس لها زمان معين تكمل فيه، وأما الشهادتان: فإكمالهما هو الاجتهاد في الصدق فيهما، وتحقيقهما والقيام بحقوقهما.
وخواص المؤمنين يجتهدون على ذلك كل يوم ووقت؛ فلهذا كانت أيامهم كلها أعياد، ولذلك كانت أعيادهم في الجنة مستمرة. انتهى ما كتبه الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى. [«فتح الباري لابن رجب» ١/ ٨٨ – ٨٩]، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالي أعلم. [البحر المحيط الثجاج].
7 – (ومنها): فيه نسبة الإكمال للدين، وأخذ منه [النسائي] رحمه الله تعالى القول بزيادة الإيمان، قَالَ السنديّ: وفيه خفاء.
قَالَ [الإتيوبي] عفا الله تعالى عنه: قد سبقه إلى الاستدلال عَلَى زيادة الإيمان ونقصانه بهذه الآية الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى، فَقَالَ فِي «صحيحه»: «باب زيادة الإيمان ونقصانه»، وَقَالَ الله تعالى: ﴿وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف: ١٣]، ﴿وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا﴾ [المدثّر: ٣١]، وَقَالَ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣]، فإذا ترك شيئا منْ الكمال، فهو ناقص. انتهى.
قَالَ فِي «الفتح»: ووقع الاستدلال فِي هذه الآية بنظير ما أشار إليه البخاريّ لسفيان ابن عيينة، أخرجه أبو نعيم فِي ترجمته، منْ «الحلية»، منْ طريق عمرو بن عثمان الرَّقّيّ، قَالَ: قيل لابن عيينة: إن قوما يقولون: الإيمان كلام، فَقَالَ: كَانَ هَذَا قبل أن تنزل الأحكام، فأُمر النَّاس أن يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا دماءهم، وأموالهم، فلما عَلِم الله صدقهم، أمرهم بالصلاة، ففعلوا، ولو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار، فذكر الأركان إلى أن قَالَ، فلما علم الله ما تتابع عليهم منْ الفرائض، وقبولهم، قَالَ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ الآية [المائدة: ٣]، فمن ترك شيئا منْ ذلك كَسَلا، أو مُجُونا أدّبناه عليه، وكان ناقص الإيمان، ومن تركها جاحدا كَانَ كافرا. انتهى ملخصا.
وتبعه أبو عبيد فِي «كتاب الإيمان له»، فذكر نحوه، وزاد أن بعض المخالفين لما أُلْزِم بذلك، أجاب: بأن الإيمان ليس هو مجموع الدين، إنما الدين ثلاثة أجزاء، الإيمان جزء، والأعمال جزآن، لأنها فرائض، ونوافل. وتعقبه أبو عبيد: بأنه خلاف ظاهر القرآن، وَقَدْ قَالَ الله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: ١٩]، والإسلام حيث أُطلق مفردا دخل فيه الإيمان، كما تقدّم تقريره.
[فإن قيل]: فلم أعاد فِي هَذَا الباب الآيتين المذكورتين فيه وَقَدْ تقدمتا فِي أول «كتاب الإيمان»؟
[فالجواب]: أنه أعادهما ليوطىء بهما معنى الكمال المذكور فِي الآية الثالثة؛ لأن الاستدلال بهما نص فِي الزيادة، وهو يستلزم النقص، وأما الكمال فليس نصا فِي الزيادة، بل هو مستلزم للنقص فقط، واستلزامه للنقص يستدعي قبوله الزيادة، ومن ثم قَالَ المصنّف: فإذا ترك شيئا منْ الكمال فهو ناقص، ولهذه النكتة عدل فِي التعبير للآية الثالثة عن أسلوب الآيتين، حيث قَالَ أولا: وقول الله، وَقَالَ ثانيا: وَقَالَ، وبهذا التقرير يندفع اعتراض منْ اعترض عليه، بأن آية أكملت لكم لا دليل فيها عَلَى مراده؛ لأن الإكمال إن كَانَ بمعنى إظهار الحجة عَلَى المخالفين، أو بمعنى إظهار أهل الدين عَلَى المشركين، فلا حجة للمصنف فيه، وإن كَانَ بمعنى إكمال الفرائض، لزم عليه أنه كَانَ قبل ذلك ناقصا، وأن منْ مات منْ الصحابة قبل نزول الآية، كَانَ إيمانه ناقصا، وليس الأمر كذلك؛ لأن الإيمان لم يزل تاما.
ويوضح دفع هَذَا الاعتراض جواب القاضي أبي بكر بن العربي: بأن النقص أمر نسبي، لكن منه ما يترتب عليه الذم، ومنه ما لا يترتب، فالأول ما نقصه بالاختيار، كمن علم وظائف الدين، ثم تركها عمدا، والثاني ما نقصه بغير اختيار، كمن لم يعلم، أو لم يكلف، فهذا لا يُذَمّ، بل يحمد منْ جهة أنه كَانَ قلبه مطمئنا، بأنه لو زيد لقبل، ولو كلف لعمل، وهذا شأن الصحابة الذين ماتوا قبل نزول الفرائض.
ومحصله: أن النقص بالنسبة إليهم صورى نسبي، ولهم فيه رتبة الكمال، منْ حيث المعنى، وهذا نظير قول منْ يقول: إن شرع محمد ﷺ أكمل منْ شرع موسى وعيسى عليهما السلام؛ لاشتماله منْ الأحكام عَلَى ما لم يقع فِي الكتب التي قبله، ومع هَذَا فشرع موسى فِي زمانه، كَانَ كاملا، وتجدد فِي شرع عيسى بعده ما تجدد، فالأكملية أمر نسبي، كما تقرر. والله تعالى أعلم. انتهى «فتح» ١/ ١٤٣ – ١٤٤. «كتاب الإيمان» وهو بحث نفيس جدًّا.
8 – (ومنها): قوله: «فِي عرفة، فِي يوم جمعة»: أي: فقد جمع الله عزوجل لنا فِي يوم نزولها عيدين؛ منّةً منه تعالى، منْ غير تكلّف منا، فله الحمد عَلَى تمام نعمته.
وَقَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: بعد أن أورد الْحَدِيث: ما نصّه: وَقَدْ خرّجه ابن جرير الطبريّ فِي «تفسيره» منْ وجه آخر عن عمر رحمه الله، وزاد فيه أنه قَالَ: «وكلاهما بحمد الله لنا عيد».
وخرج الترمذيّ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ هذه الآية، وعنده يهوديّ، فَقَالَ: لو أنزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدًا، فَقَالَ ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: فإنها نزلت فِي يوم عيدين: فِي يوم جمعة، ويوم عرفة”. [ذخيرة العقبى في شرح المجتبى، (37/ 314 – 318)].
9 – (ومنها): بيان حجة الإسلام الكبرى، حيث كانت خطبة الوداع تتويجًا للرسالة الخاتمة.
10 – (ومنها): التأكيد على أن العبادات توقيفية، فلا عيد إلا ما شرعه الله ورسوله.
11 – (ومنها): الرد على أهل البدع الذين يزعمون نقص الشريعة أو الحاجة إلى زيادات من خارجها.
12 – (ومنها): ذم التقليد الأعمى لأهل الكتاب في التشريع.
13- (ومنها): فضل الوقوف بعرفة، فهو ركن من أركان الحج، وفيه إعلان إكمال الدين.
ثانيًا: فقه الحديث (الأحكام والمسائل والملحقات):
(المسألة الأولى): قاعدة: الدين قد كَمُلَ بيانه في أصوله وفروعه باطنه وظاهره علمه وعمله، وفيه مطالب:
(المطلب الأول): معنى القاعدة
بيان الشرع وإيضاحه واستبانته في أصوله وفروعه من أعظم وسائل تكميل الدين وحفظه وصيانته، ومن المعلوم أن تمام الدين وكمال بيانه يكون بتبليغ ألفاظ الشرع ومعانيه، إذ تبليغ الألفاظ دون المعاني من العبث الذي يُنَزَّه عنه اللَّه عزوجل ورسوله ﷺ، كما أن تبليغ المعاني بدون الألفاظ مما يتعذر ولا يعقل، إذ الألفاظ قوالب المعاني، والذي يجب الجزم واليقين به أن بيان الدين قد وقع من النَّبِيّ ﷺ على أكمل الوجوه وأتم الصور.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: “فهذا البيان الذي تكفل به سبحانه وأمر به رسوله؛ إما أن يكون المراد به بيان اللفظ وحده، أو المعنى وحده، أو اللفظ والمعنى جميعًا، ولا يجوز أن يكون المراد به بيان اللفظ دون المعنى؛ فإن هذا لا فائدة فيه ولا يحصل به مقصود الرسالة، وبيان المعنى وحده بدون دليله وهو اللفظ الدال عليه ممتنع، فعلم قطعًا أن المراد بيان اللفظ والمعنى، واللّه تعالى أنزل كتابه؛ ألفاظه ومعانيه، وأرسل رسوله ليبين اللفظ والمعنى، فكما أنا نقطع ونتيقن أنه بيَّن اللفظ فكذلك نقطع ونتيقن أنه بيَّن المعنى، بل كانت عنايته ببيان المعنى أشد من عنايته ببيان اللفظ وهذا هو الذي ينبغي،
فإن المعنى هو المقصود وأما اللفظ فوسيلة إليه ودليل عليه، فكيف تكون عنايته بالوسيلة أهم من عنايته بالمقصود وكيف نتيقن بيانه للوسيلة ولا نتيقن بيانه للمقصود وهل هذا إلا من أبين المحال» [الصواعق المرسلة (٢/ ٧٣٧ – ٧٣٨)].
فالقاعدة دلت على كمال بيان اللَّه تعالى لهذا الدين في كتابه، وعلى لسان رسوله محمد ﷺ، بما أوحاه اللَّه إليه من الوحي؛ وهذا البيان شامل لأصول الدين وفروعه وأقواله وأعماله، ويدخل في ذلك جميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة، سواء كانت من الأمور العلمية الخبرية، أم كانت من الأمور العملية، فجميع ذلك قد تم بيانه، واكتمل إيضاحه على غاية الإتقان والبيان [انظر: الجامع لأحكام القرآن (١٠/ ١٠٩)، وتفسير السعدي (ص ٢٣٩)].
ولا شكَّ أن أصول الدين وقواعد الإسلام هي من أكثر أمور الدين بيانًا ووضوحًا؛ وذلك لشدة الحاجة إليها.
يقول الإمام ابن تيمية: “فكل ما يحتاج الناس إلى معرفته، واعتقاده، والتصديق به من هذه المسائل فقد بيَّنه اللَّه ورسوله بيانًا شافيًا قاطعًا للعذر؛ إذ هذا من أعظم ما بلغه الرسول البلاغ المبين وبيَّنه للناس، وهو من أعظم ما أقام اللَّه به الحجة على عباده فيه بالرسل الذين بيَّنوه، وبلغوه، وكتاب اللَّه الذي نقل الصحابة ثم التابعون عن الرسول لفظه ومعانيه، والحكمة التي هي سُنّة رسول الله ﷺ التي نقلوها أيضًا عن الرسول مشتملة من ذلك على غاية المراد، وتمام الواجب والمستحب» [مجموع الفتاوى (٣/ ٢٩٥)].
(المطلب الثاني): أدلة القاعدة:
دلَّ على صحة هذه القاعدة أدلة عديدة في كتاب اللَّه تعالى وفي سُنّة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، وإجماع الأمة، وفيما يأتي أذكر بعض ما ظهر لي منها:
أولًا: عموم النصوص الدالة على إكمال اللَّه تعالى لهذا الدين، وأنه لم ينقص منه شيئًا، كما في قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣] وقال سبحانه: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨]، ولا شكَّ أن كمال الدين يستلزم اكتمال معانيه، وبيانها، وعدم خفائها وغموضها، لا سيما أصول الدين وقواعده العظام.
يقول الإمام ابن تيمية في بيان قول اللَّه تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾: «وهذا نص في أن الدين كامل لا يحتاج معه إلى غيره». [الصفدية (١/ ٢٥٩)].
ويقول الإمام ابن كثير: “هذه أكبر نعم اللَّه تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم -صلوات اللَّه وسلامه عليه -، ولهذا جعله اللَّه تعالى خاتم الأنبياء وبعثه إلى الإنس والجن …». [تفسير ابن كثير (٢/ ١٣)].
ويقول الإمام ابن القيم: «إن اللَّه سبحانه قد تمم الدين بنبيه وأكمله به، ولم يحوجه ولا أمته بعده إلى عقل ولا نقل سواه، ولا رأي ولا منام ولا كشوف، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣] وأنكر على من لم يكتف بالوحي عن غيره، فقال: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١)﴾ [العنكبوت: ٥١]» [الصواعق المرسلة (٣/ ٨٢٦)، وانظر: إعلام الموقعين (١/ ٣٣٢)].
ويبيِّن العلامة ابن سعدي رحمه الله تعالى معنى إكمال الدين بأنه يكون: «بتمام النصر، وتكميل الشرائع الظاهرة والباطنة، الأصول والفروع، ولهذا كان الكتاب والسُّنَّة كافيين كل الكفاية في أحكام الدين». [تفسير السعدي (ص ٢٢٠)].
ثانيًا: الأدلة الدالة على أن الرسول ﷺ قد ألزمه ربه بتبليغ الرسالة، وتبيينها للناس، فهو ﷺ الموكل من قبل ربه بتلك المهمة وهي مهمة بيان هذا الدين، ولا شك أنه ﷺ قد قام بهذه المهمة على أتم وجه وأحسن حال، ومن تلك النصوص ما يلي:
قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤)﴾ [النحل: ٤٤].
تضمنت الآية الكريمة الدلالة على وظيفة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مع القرآن الكريم، ألا وهي إيضاحه وتفصيله وتفسيره وتكميله بكمال بيانه له، وتوضيحه للناس.
وقد قام صلى الله عليه وسلم بهذه المهمة خير قيام، وأداها كما يحب ربه ويرضى؛ إذ هو صلى الله عليه وسلم أفضل من أطاع ربه واتبع أمره.
يقول الإمام ابن تيمية: “يجب أن يُعْلَم أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه معاني القرآن كما بيَّن لهم ألفاظه، فقوله تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ يتناول هذا وهذا”. [مجموع الفتاوى (١٣/ ٣٣١)].
ويقول الشيخ السعدي في بيان هذه الآية: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ﴾؛ أي: القرآن الذي فيه ذكر ما يحتاج إليه العباد من أمور دينهم ودنياهم الظاهرة والباطنة، ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾، وهذا شامل لتبيين ألفاظه وتبيين معانيه» [تفسير السعدي (ص ٤٤١)].
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٥٤)﴾ [النور: ٥٤].
أي: التبليغ البيِّن الواضح الذي لا شكَّ فيه والظاهر الذي لا لبس فيه، والذي يصل إلى القلوب فلا تبقى بعده حجة، ولا يثبت لصاحبه عذر.
يقول الإمام الطبري: «ويعني بقوله: ﴿الْمُبِينُ﴾: الذي يبين عن معناه لمن أبلغه ويفهمه من أرسل إليه». [تفسير الطبري (١٤/ ١٠٣)].
وقال الإمام ابن كثير: «فنحن نشهد أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم ونصحوا الأمم وأفصحوا لهم عن الحق المبين الواضح الجلي الذي لا لبس فيه ولا شكَّ ولا امتراء وإن كذبهم من كذبهم من الجهلة والمعاندين والمارقين والقاسطين فما جاءت به الرسل هو الحق ومن خالفهم فهو على الضلال» [تفسير ابن كثير (٣/ ٤٧٠)].
ويقول الشيخ السعدي: “أي: تبليغكم البين الذي لا يُبْقي لأحد شكًا ولا شبهة، وقد فعل صلى الله عليه وسلم ». [تفسير السعدي (ص ٥٧٣)، وانظر: (ص ٤٤٠)].
فليست وظيفة الأنبياء إلا البلاغ للرسالة، الموضح لطريق الحق، والمظهر لأحكام الوحي [مسائل الجاهلية (ص ٥٨)].
وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: ٦٧].
فهذا أمر من اللَّه تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بتبليغ جميع ما أنزله إليه من الوحي، فلا يترك شيئًا، وإن ترك من الوحي شيئًا فكأنه ما بلغ شيئًا من الرسالة، ولكنه صلى الله عليه وسلم امتثل الأمر وقام به خير قيام، فلم يترك من الدين شيئًا صغيرًا كان أم كبيرًا إلا وبيَّنه وفصله ولم يترك لأحد بعده مقالًا.
فالمقصود أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بتبليغ جميع ما أوحي إليه على الاستيفاء والكمال؛ لأنَّه كان قد بلغ، وإنما أمر هنا ألا يتوقف عن شيء مخافة أحد [انظر: التسهيل لعلوم التنزيل (١/ ١٨٣)].
يقول الشيخ السعدي رحمه الله: «هذا أمر من اللَّه لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأعظم الأوامر وأجلها وهو التبليغ لما أنزل اللَّه إليه، ويدخل في هذا كل أمر تلقته الأمة عنه صلى الله عليه وسلم ؛ من العقائد، والأعمال، والأقوال، والأحكام الشرعية، والمطالب الإلهية، فبلغ صلى الله عليه وسلم أكمل تبليغ، ودعا وأنذر، وبشر ويسر، وعلم الجهال الأميين حتَّى صاروا من العلماء الربانيين، وبلغ بقوله وفعله وكتبه ورسله، فلم يبق خير إلا دلَّ أمته عليه، ولا شرٌّ إلا حذرها عنه، وشهد له بالتبليغ أفاضل الأمة من الصحابة فمن بعدهم من أئمة الدين ورجال المسلمين» [تفسير السعدي (ص ٢٣٩)].
ثالثًا:
النصوص المبينة أن اللَّه تعالى تكفل بحفظ هذا الدين وببيانه كذلك، ولا شكَّ أن الحفظ يقتضي حفظه في ألفاظه ومعانيه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)﴾ [الحجر: ٩] ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (١٩)﴾ [القيامة: ١٦ – ١٩].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (١٩)﴾ [القيامة: ١٩]: (أن نبينه على لسانك) [انظر: صحيح البخاري (٤/ ١٨٧٦)، برقم (٤٦٤٤)، وصحيح مسلم (١/ ٣٣٠)، برقم (٤٤٨)].
ويقول الحافظ ابن كثير في معنى الآيات: «وكان هذا في الابتداء، من شدة حرصه على أخذه من المَلَك ما يوحى إليه عن اللَّه تعالى ليساوقه في التلاوة، فأمره اللَّه تعالى أن ينصت لذلك حتَّى يفرغ من الوحي، وتكفل له أن يجمعه في صدره، وأن ييسر عليه تلاوته، وتبليغه، وأن يبينه له، ويفسره، ويوضحه، ويوقفه على المراد منه». [البداية والنهاية (٣/ ٢٣)].
ويقول تعالى أيضًا: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (١٩)﴾ [القيامة: ١٩]؛ أي: بعد حفظه وتلاوته نبينه لك، ونوضحه، ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا” [تفسير ابن كثير (٤/ ٤٥٠)].
ويقول الشيخ السعدي: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (١٩)﴾؛ أي: بيان معانيه، فوعده بحفظ لفظه وحفظ معانيه». [تفسير السعدي (ص ٨٩٩)].
رابعًا:
ومما يدل على كمال بيان الدين، واستغنائه عن الآراء والعقول المنحرفة ما وصف اللَّه تعالى به آيات كتابه بأنها آيات بينات، أو مبينات، أو بينة، ووصف الوحي بأنه مبين، ووصفه صلى الله عليه وسلم بأنه رسول مبين وغير ذلك:
فمن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤)﴾ [النور: ٣٤]، وقوله سبحانه: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦)﴾ [النور: ٤٦]، وقوله تعالى: ﴿رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [الطلاق: ١١] وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ﴾ [الأنعام: ٥٧] وقال جلَّ وعزَّ: ﴿فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ [الأنعام: ١٥٧]، وقال سبحانه: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤)﴾ [البينة: ٤] وقوله: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (٩٩)﴾ [البقرة: ٩٩]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾ [البقرة: ١٥٩]، وقوله سبحانه: ﴿رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ﴾ [الطلاق: ١١]، وقوله جلَّ وعلا: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ﴾ [الجاثية: ١٧]، وقوله تعالى في وصف رسوله محمد ﷺ: ﴿أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣)﴾ [الدخان: ١٣] [انظر: المفردات في غريب القرآن (ص ٦٨)].
يقول الشيخ السعدي في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ﴾: «أي: لقد رحمنا عبادنا، وأنزلنا إليهم آيات بينات؛ أي: واضحات الدلالة على جميع المقاصد الشرعية، والآداب المحمودة، والمعارف الرشيدة، فاتضحت بذلك السبل، وتبين الرشد من الغي، والهدى من الضلال، فلم يبق أدنى شبهة لمبطل يتعلق بها، ولا أدنى إشكال لمريد الصواب؛ لأنَّها تنزيل مَنْ كَمُلَ علمه، وكَمُلَت رحمته، وَكَمُلَ بيانه، فليس بعد بيانه بيان، ليهلك بعد ذلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة» [تفسير الطبري (ص ٥٧١)].
ويقول رحمه الله أيضًا في نفس الآية: “أي: واضحات الدلالة على كل أمر تحتاجون إليه؛ من الأصول والفروع، بحيث لا يبقى فيها إشكال ولا شبهة» [تفسير السعدي (ص ٥٦٨)، وانظر: تفسير السمعاني (٣/ ٥٢٩)].
ويقول الشيخ الشنقيطي: «فالمعنى آيات مبينات؛ أي: بينات واضحات» [أضواء البيان (٥/ ٥٣٧)].
وما يدل على صحة القاعدة أيضًا:
ما جاء عن أبي ذر رضي الله عنه: قال: (تركنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وما طائر يطير بجناحيه إلا عندنا منه علم). قال أبو حاتم رحمه الله تعالى: «معنى عندنا منه: يعني: بأوامره ونواهيه وأخباره وأفعاله وإباحاته صلى الله عليه وسلم » [رواه ابن حبان في صحيحه (١/ ٢٦٧) برقم (٦٥)، والمعجم الكبير (٢/ ١٥٥)، برقم (١٦٤٧)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (٤/ ٤١٦)، برقم (١٨٠٣)].
والمقصود: أنه استوفى بيان الشريعة، وما يحتاج إليه من الدين، حتَّى لم يبق مشكل، فضرب ذلك مثلًا، وقيل: أراد أنه لم يترك شيئًا إلا بيَّنه حتَّى بيَّن لهم أحكام الطير، وما يحل منه وما يحرم، وكيف يذبح، وما الذي يفدي منه المحرم إذا أصابه، وأشباه ذلك [انظر: النهاية في غريب الحديث (٣/ ١٥٠)، ولسان العرب (٤/ ٥٠٩)].
وجاء عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنه في حجة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وفيه: (… «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب اللَّه وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون»، قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت) [رواه مسلم في صحيحه (٢/ ٨٩٠)، برقم (١٢١٨)].
ولا شكَّ أن تبليغه ﷺ كما سبق تقريره شامل للألفاظ والمعاني.
ما جاء عن عائشة رضي الله عنه أنها قالت لمسروق رحمه الله تعالى: (من حدثك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا مما أنزل عليه فقد كذب، واللّه يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: ٦٧] الآية« [صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ….﴾ (٤/ ١٦٨٦)، برقم (٤٣٣٦)، ومسلم في صحيحه، باب: معنى قول اللَّه تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (١٣)﴾ (١/ ١٥٩)، برقم (١٧٧)].
وقد دل قول عائشة رضي الله عنه على نفي الكتمان عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ومن المعلوم أن عدم بيان معاني ألفاظ الوحي من أعظم الكتمان.
يقول الإمام ابن القيم: “وشهد له أعقل الخلق وأفضلهم وأعلمهم بأنه قد بلغ، فأشهد اللَّه عليهم بذلك في أعظم مجمع وأفضله، فقال في خطبته بعرفات في حجة الوداع: «إنكم مسؤولون عني فماذا أنتم قائلون»، قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت، فرفع إصبعه إلى السماء مستشهدًا بربه الذي فوق سمواته، وقال: »اللَّهُمَّ اشهد«.
فلو لم يكن قد عرف المسلمون وتيقنوا ما أرسل به، وحصل لهم منه العلم واليقين، لم يكن قد حصل منه البلاغ المبين، ولما رفع اللَّه عنه اللوم، ولما شهد له أعقل الأمة بأنه قد بلغ وبيَّن». [الصواعق المرسلة (٢/ ٧٣٣)].
ويقول الإمام ابن تيمية: «والأمة تشهد له بأنه بلغ الرسالة كما أمره اللَّه وبيَّن ما أنزل إليه من ربه، وقد أخبر اللَّه بأنه قد أكمل الدين، وإنما كَمُلَ بما بلغه، إذ الدين لم يعرف إلا بتبليغه، فعلم أنه بلغ جميع الدين الذي شرعه اللَّه لعباده» [مجموع الفتاوى (٥/ ١٥٥ – ١٥٦)].
وقال الإمام ابن كثير: «وقد شهدت له أمته بإبلاع الرسالة وأداء الأمانة، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من أصحابه نحو من أربعين ألفًا» [تفسير القرآن العظيم (٢/ ٧٨)].
—–
(المطلب الثالث): أقوال أهل العلم في تقرير معنى القاعدة:
أشار إلى معنى هذه القاعدة جمع من العلماء، وفيما يلي أذكر بعض أقوالهم الدالة على اعتمادهم للقاعدة، فمما وقفت عليه من ذلك:
قول الإمام الخطابي رحمه الله: “فلم يترك صلى الله عليه وسلم شيئًا من أمور الدين؛ قواعده، وأصوله، وشرائعه، وفصوله، إلا بيَّنه وبلغه على كماله وتمامه، ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه، إذ لا خلاف بين فرق الأمة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال». [ذكره الخطابي في: (الغنية)، ونقله عنه ابن تيمية في درء التعارض (٧/ ٢٩٦)].
وقريبًا منه قول الإمام السمعاني رحمه الله تعالى: «وكان مما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم وأمر بتبليغه: أمر التوحيد وبيانه بطريقته، فلم يترك النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا من أمور الدين، وقواعده، وأصوله، وشرائعه، وفصوله، إلا بيَّنه وبلغه على كماله وتمامه، ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه، إذ لو أخر فيها البيان لكان قد كلفهم ما لا سبيل لهم إليه» [الانتصار لأصحاب الحديث، لابن السمعاني (ص ٧٠)].
ويقول الإمام ابن تيمية: «فصل: في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ جميع الدين؛ أصوله وفروعه، باطنه وظاهره، علمه وعمله، فإن هذا الأصل هو أصل أصول العلم والإيمان، وكل من كان أعظم اعتصامًا بهذا الأصل كان أولى بالحق علمًا وعملًا، ومن كان أبعد عن الحق علمًا وعملًا، [كان بُعده عن هذا الأصل بحسب حاله، فمستقل ومستكثر من الباطل] [ما بين المعقوفتين لعله ساقط من نسخة (مجموع الفتاوى)، وقد نقل العبارة بكاملها العلامة ابن سعدي في كتابه «طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول» (ص ٢٩)] [مجموع الفتاوى (١٩/ ١٥٥ – ١٥٦)، وانظر: طريق الوصول للعلامة السعدي (ص ٢٩)].
وقال رحمه الله: “والرسول -صلوات اللَّه عليه وسلامه- قد أرسل بالبينات والهدى، بَيَّنَ الأحكام الخبرية والطلبية، وأدلتها الدالة عليها، بَيَّنَ المسائل والوسائل، بَيَّنَ الدين ما يقال وما يعمل، وبيَّن أصوله التي يعلم أنه دين حق» [النبوات (١/ ١٦٥)، وانظر: درء التعارض (٧/ ٢٩٦)، بيان تلبيس الجهمية (١/ ٢٥٥)].
ويقول الإمام ابن القيم في وصفه صلى الله عليه وسلم : «ولم يدع بابًا من العلم النافع للعباد، المقرب لهم إلى ربهم إلا فتحه، ولا مشكلًا إلا بيَّنه وشرحه، حتَّى هدى اللَّه به القلوب من ضلالها، وشفاها به من أسقامها، وأغاثها به من جهلها، فأي بشر أحق بأن يحمد منه صلى الله عليه وسلم ، وجزاه عن أمته أفضل الجزاء» [جلاء الأفهام (ص ١٨١)].
ويقول الشيخ السعدي: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩]؛ في أصول الدين وفروعه، وفي أحكام الدارين، وكل ما يحتاج إليه العباد فهو مبين فيه أتم تبيين، بألفاظ واضحة، ومعانٍ جلية، حتَّى إنه تعالى يثني فيه الأمور الكبار التي يحتاج القلب لمرورها عليه كل وقت، وإعادتها في كل ساعة، ويعيدها ويبديها بألفاظ مختلفة، وأدلة متنوعة لتستقر في القلوب، فتثمر من الخير والبر بحسب ثبوتها في القلب، وحتى إنه تعالى يجمع في اللفظ القليل الواضح معاني كثيرة، يكون اللفظ لها كالقاعدة والأساس” [تفسير السعدي (ص ٤٤٧)].
—–
(المطلب الرابع): فوائد القاعدة وتطبيقاتها:
لهذه القاعدة فوائد عظيمة يمكن الاستفادة منها وتطبيقها في مناحٍ شتى، ومن ذلك: –
أولًا: كمال بيان هذا الدين ووضوحه، وأنه صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ البلاغ المبين، وأوضح جميع ما أنزل إليه من ربه، ولم يكتم منه حرفًا واحدًا، وهو دين الإسلام بلغه بلا نقص ولا تقصير، فلم يبق فيه إشكال فيحتاج إلى حلّ ولا إجمال فيفتقر إلى تفصيل؛ قال تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨] [انظر: معارج القبول (٣/ ١١١٠)، بتصرف].
فالأمة ليست في حاجة إلى أحد بعده صلى الله عليه وسلم يأتي ليتصرف في شيء من دينه، بزياده أو نقص، وإنما هي في أمس الحاجة، وألح الضرورة إلى من يعرفها حقيقة دينها الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم [انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (١/ ٣٦٢)].
يقول الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى: «فإن اللَّه تعالى بعث نبينا محمدًا – صلوات اللَّه عليه وسلامه -، فأيده بالآيات الباهرة، والمعجزات القاهرة، حتَّى أوضح الشريعة وبيَّنها، وعلمهم مواقيتها وعينها، فلم يترك لهم أصلًا من الأصول إلا بناه وشيَّده، ولا حكمًا من الأحكام إلا أوضحه ومهَّده» [تبيين كذب المفتري (ص ٣٥٤)].
ويقول الشيخ حافظ الحكمي: “…
وكما وفَّى بتقرير الدين، وتكميله، وشرحه، وتفصيله، كذلك هو واف بالذب عنه، وبرد كل شبهة ترد عليه، وبقمع كل ملحد ومعاند ومشاق ومحاد، وبدمغ كل باطل وإزهاقه، ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (٣٣)﴾ [الفرقان: ٣٣]، ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ [الأنبياء: ١٨]، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)﴾ [الحجر: ٩] ” [معارج القبور (٣/ ١١١٠)].
ثانيًا:
أبطلت القاعدة قول القرامطة الباطنية الذين يزعمون: أن الرسل ما كانوا يعلمون حقائق العلوم الإلهية، ويجعلون خاصة النبوة هي التخييل.
ولا شكَّ أن هذا القول فيه تنقص للرسل عليهم الصلاة والسلام؛ إذ فيه اتهام لهم بالتجهيل وعدم العلم، والأصل الثابت دال على كمال هذا الدين، وأن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قد قام ببيان هذا الدين كاملًا، فكيف يكون قد بلغ الدين وبيَّنه ولم يترك منه شيئًا مع الجهل وعدم العلم بما أوحاه اللَّه إليه، هذا لا يعقل.
يقول الإمام ابن تيمية: «والرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالحق، وأقدر الناس على بيان الحق، وأنصح الخلق للخلق، وهذا يوجب أن يكون بيانه للحق أكمل من بيان كل أحد» [درء التعارض (١/ ٢٣)].
ويقول رحمه الله أيضًا بعد أن ذكر جملة من النصوص الدالة على تبليغه صلى الله عليه وسلم لهذا الدين: «وأمثال هذه النصوص التي تبين أن الرسول هدى الخلق، وبيَّن لهم، وأنه أخرجهم من الظلمات إلى النور، لا أنه لبس عليهم، وخيل، وكتم الحق فلم يبينه، ولم يهد إليه لا للخاصة ولا للعامة؛ فإنَّه من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتكلم مع أحد بما يناقض ما أظهره للناس، ولا كان خواص أصحابه يعتقدون فيه نقيض ما أظهره للناس، بل كل من كان به أخص، وبحاله أعرف كان أعظم موافقة له وتصديقًا له على ما أظهره وبيَّنه، فلو كان الحق في الباطن خلاف ما أظهره للزم إما أن يكون جاهلًا به، أو كاتمًا له عن الخاصة والعامة، ومظهرًا خلافه للخاصة والعامة». [المصدر نفسه (٥/ ٢٥)].
ويقول ابن القيم: «لا ريب عند كل مؤمن باللّه ورسوله: أنه صلى الله عليه وسلم كان أعلم الخلق بما يخبر به، وما يأمر به، فهو أعلم الخلق بما أخبر به عن اللَّه واليوم الآخَر، وأعلمهم بدينه وشرعه الذي شرعه لعباده» [الصواعق المرسلة (٢/ ٦٥١)، وانظر: زاد المعاد (٤/ ٤١٤)].
ثالثًا:
أبطلت هذه القاعدة قول الفلاسفة [هم: الفلاسفة: مأخوذة من الفلسفة (باليونانية)؛ أي: محبة الحكمة، فهي مركبة من كلمتين (فيلا)؛ أي: المحب، و(سوفا)؛ أي: الحكمة، وهم على ثلاثة أقسام (الدهريون، الطبيعيون، الإلهيون). [انظر: الملل والنحل (٢/ ٥٨)]] الذين يقولون: بأن الرسل علموا الحقائق لكن لم يبينوها للناس بل خاطبوا الجمهور بالتخييل، وأنهم كذبوا لمصلحة الخلق، فيجعلون التخييل في خطابه لا في علمه.
وفي هذا القول أيضًا تكذيب للرسل واتهام لهم بعدم البيان وكتمان الحق، وهذا مما لا يليق بالرسل، فإنهم بلغوا البلاغ المبين، بل فيه مسبة لرب العالمين، إذ كيف يرسل رسلًا إلى الخلق يبلغونهم ألفاظًا لا تطابق الحق في نفس الأمر، هذا من أعظم العبث الذي ينزه عنه الرب عزوجل ورسوله صلى الله عليه وسلم .
رابعًا:
أبطلت القاعدة قول الذين يقولون: الرسل علموا الحق وبينوه لكن لا يمكن معرفته من كلامهم بل يعرف بطرق أخرى؛ من المعقول أو القياس أو الكشف، ثم بعد ذلك ينظر في كلام الرسول فما وافق ذلك قبل، وما خالفه إما أن يفوض، وإما أن يؤول، وهذا هو قول أهل الكلام.
وهذا من أعظم التناقض، كيف يكون الرسل قد بلغوا الحق وبينوه للناس، ثم لا يمكن للخلق معرفته إلا بطرق خارجة عن نفس بيانهم وتبليغهم، هذا من أعظم الباطل وأعظم التنقيص للرسول ﷺ، واتهامه بالتلبيس والتدليس إذ جاء بما ظاهره الباطل، ولم يبيِّن الحق الذي يجب اعتقاده، بل أراد منهم أن يجتهدوا فيه بإتعاب أذهانهم، وتأويل ألفاظه حتَّى يتوصلوا إلى المعنى الحق في نفس الأمر،
فحقيقة قول هؤلاء أن مجيء الرسل وعدم ذلك سواء، بل قد يكون حال الناس قبل بعثة الرسل أفضل من حالهم بعد بعثتهم.
يقول الإمام ابن تيمية: “وطريقة التأويل: طريقة المتكلمين من الجهمية، والمعتزلة وأتباعهم، يقولون: إن ما قاله له تأويلات تخالف ما دل عليه اللفظ، وما يفهم منه، وهو وإن كان لم يبين مراده، ولا بيَّن الحق الذي يجب اعتقاده، فكان مقصوده أن هذا يكون سببًا للبحث بالعقل حتَّى يعلم الناس الحق بعقولهم، ويجتهدوا في تأويل ألفاظه إلى ما يوافق قولهم؛ ليثابوا على ذلك، فلم يكن قصده لهم البيان والهداية، والإرشاد والتعليم، بل قصده التعمية والتلبيس، ولم يعرفهم الحق حتَّى ينالوا الحق بعقلهم، ويعرفوا حينئذٍ أن كلامه لم يقصد به البيان، فيجعلون حالهم في العلم مع عدمه خيرًا من حالهم مع وجوده» [مجموع الفتاوى (٤/ ٦٧)].
خامسًا:
دلت القاعدة على إبطال قول الرافضة الذين يدعون أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ جزءًا من الشريعة وكتم الباقي، وأودعه الإمام عليًا رضي الله عنه فأظهر علي منه جزءًا في حياته وعند موته أودعه الحسن، وهكذا كل إمام يظهر منه جزءًا حسب الحاجة ثم يعهد بالباقي لمن يليه إلى أن صار عند إمامهم المنتظر [انظر: مسألة التقريب بين أهل السُّنَّة والشيعة، د. ناصر بن عبد اللَّه القفاري (١/ ٢٥٥ – ٢٥٦)].
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: “ومعلوم أنه قد بلغ الرسالة كما أمر، ولم يكتم منها شيئًا، فإن كتمان ما أنزله اللَّه إليه يناقض موجب الرسالة، كما أن الكذب يناقض موجب الرسالة، ومن المعلوم من دين المسلمين أنه معصوم من الكتمان لشيء من الرسالة». [مجموع الفتاوى (٥/ ١٥٥)].
سادسًا: أفادت القاعدة إبطال قول الرافضة الباطنية الذين يدعون بأن للنصوص ظاهرًا وباطنًا، وزاد بعضهم على ذلك فزعم أن لكل آية سبعة أبطن [انظر: أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية، للقفاري (١/ ١٥٢)]، وأنهم هم الذين يعرفون هذه المعاني الباطنة دون غيرهم.
وهذا من الإفك البيّن على اللَّه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، فليس للشرع باطن لم يبلغه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لأمته، ولم يخص بعض أصحابه بشيء من الدين لم يخبر به عامتهم، بل تبليغه صلى الله عليه وسلم كان عامًا للأسود والأحمر، والحر والعبد، والصغير والكبير، والذكر والأنثى، لم يفرق صلى الله عليه وسلم بينهم في تبليغ الرسالة، وبيان الدين.
قال الإمام ابن حزم: «واعلموا أن دين اللَّه ظاهر لا باطن فيه، وجهر لا سر تحته، …، وكل من ادعى للديانة سرًا وباطنًا فهي دعاوى ومخارق، واعلموا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يكتم من الشريعة كلمة فما فوقها، ولا أطلع أخص الناس به من زوجة، أو ابنة عم، أو ابن عم، أو صاحب على شيء من الشريعة كتمه عن الأحمر والأسود، ورعاة الغنم، ولا كان عنده صلى الله عليه وسلم السر، ولا رمز، ولا باطن غير ما دعا الناس كلهم إليه، ولو كتم شيئًا لما بلَّغ كما أمر». [الفصل في الملل والأهواء والنحل (٢/ ٩١ – ٩٢)، وانظر: معارج القبول (٣/ ١١٠٨)].
وقال القرطبي: “فدلت الآية على رد قول من قال: إن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا من أمر الدين تقية وعلى بطلانه، وهم الرافضة ودلت على أنه صلى الله عليه وسلم لم يسر إلى أحد شيئًا من أمر الدين؛ لأن المعنى بلغ جميع ما أنزل إليك ظاهرًا» [الجامع لأحكام القرآن (٦/ ٢٤٢)].
ويقول الإمام الشوكاني: «العموم الكائن في ﴿مَا أُنْزِلَ﴾: يفيد أنه يجب عليه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ جميع ما أنزله اللَّه إليه، لا يكتم منه شيئًا، وفيه دليلٌ على أنه لم يسر [إلى] [الزيادة لتوضيح المعنى] أحد مما يتعلق بما أنزل اللَّه إليه شيئًا» [فتح القدير (٢/ ٥٩)].
والمقصود من نفي الباطن عن الشرع أن يكون للنصوص معانٍ في الباطن تخالف ظاهرها، ولا تعرف إلا بطرق لم يبيِّنها النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، وقد علم مما سبق أن المقصود بالظاهر والباطن في لفظ القاعدة ما يتعلق بأعمال الجوارح والقلوب، فإن أعمال القلوب من أعظم أمور الدين، وهي أعمال باطنة جاء بها النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وبيَّنها لأمته أكمل البيان وأتمه، بل كل قول وعمل ظاهر فلا بد له من باطن يتعلق بالقلب.
يقول ابن تيمية: «كل قول وعمل فلا بد له من ظاهر وباطن، فظاهر القول لفظ اللسان، وباطنه ما يقوم من حقائقه ومعانيه بالجنان، وظاهر العمل حركات الأبدان، وباطنه ما يقوم بالقلب من حقائقه ومقاصد الإنسان» [مجموع الفتاوى (١٣/ ٢٦٢)].
ويقول ابن القيم: «قاعدة: الإيمان له ظاهر وباطن، وظاهره قول اللسان، وعمل الجوارح، وباطنه تصديق القلب، وانقياده، ومحبته، فلا ينفع ظاهر لا باطن له … ولا يجزئ باطن لا ظاهر له». [الفوائد (ص ٨٥)].
كما قد يراد بالباطن الأمور المجملة في القرآن وجاء النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ببيانها في السُّنَّة، ولم يتوف صلى الله عليه وسلم حتَّى بيَّن جميع ما للناس حاجة إليه.
يقول الإمام أحمد رحمه الله في خطبة كتابه الذي صنفه في طاعة رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: «إن الله جلَّ ثناؤه وتقدست أسماؤه بعث محمدًا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأنزل عليه كتابه الهدى والنور لمن اتبعه، وجعل رسوله الدال على ما أراد من ظاهره وباطنه، وخاصه وعامه، وناسخه ومنسوخه، وما قصد له الكتاب، فكان رسول الله -صلي الله عليه وسلم- هو المعبر عن كتاب الله، الدال على معانيه، شاهده في ذلك أصحابه الذين ارتضاهم الله لنبيه، واصطفاهم له، ونقلوا ذلك عنه، فكانوا هم أعلم الناس برسول الله -صلي الله عليه وسلم- وبما أراد الله من كتابه بمشاهدتهم، وما قصد له الكتاب، فكانوا هم المعبرين عن ذلك بعد رسول الله -صلي الله عليه وسلم-» [إعلام الموقعين عن رب العالمين (٢/ ٢٩٠)].
فبهذين الاعتبارين يصح أن يقال بأن في الدين باطنًا، ولكن المحظور في ذلك هو جعل الباطن مخالفًا للظاهر، ولم يبلغه النبي -صلي الله عليه وسلم- لأمته، والله أعلم.
سابعًا: بيانه صلى الله عليه وسلم لهذا الدين لم يكن من عند نفسه، بل كله كان وحيًا من عند ربه عزوجل، ولذا قال -سبحانه وتعالي-: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤)﴾ [النجم: ٣، ٤]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦)﴾ [الحاقة: ٤٤ – ٤٦].
يقول الإمام الزهري رحمه الله تعالى: «من الله الرسالة، وعلى رسول الله -صلي الله عليه وسلم- البلاع، وعلينا التسليم». [رواه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب: قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ (٦/ ٢٧٣٨)].
فليس له صلى الله عليه وسلم إلا البلاغ والبيان، كما قال -سبحانه وتعالي-: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٥٤)﴾ [النور: ٥٤]. وأما مضمون الرسالة والوحي فهو من عند الله تعالى لم يتدخل فيه صلى الله عليه وسلم ولا بكلمة واحدة، ولا استفاده ممن سبقه، وإنما هو محض الوحي الذي جاء به جبريل كما قال سبحانه: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥)﴾ [الشعراء: ٩٢ – ٩٥].
يقول الإمام ابن تيمية: «وأيضًا فإنه أخبر أنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع، وهذا إخبار بأن كل ما يتكلم به فهو وحي يسمعه، ليس هو شيئًا تعلمه من الناس، أو عرفه باستنباطه، وهذه خاصة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن المسيح ومن قبله من الأنبياء كانوا يتعلمون من غيرهم مع ما كان يوحى إليهم، فعندهم علم غير ما يسمعونه من الوحي». [الجواب الصحيح (٥/ ٢٩٩)].
ويقول الشيخ حافظ حكمي: «يخبر صلى الله عليه وسلم أنه مخبر عن الله ومبلغ رسالته، وأن ما أمر به ونهى عنه وأخبر به هو تبليغ لأمر الله، ونهيه، وخبره، وإنه لم يقل شيئًا من عند نفسه فيقول: هو من عند الله، ومن اعتقد ذلك فهو كافر من حزب أبي جهل، والوليد بن المغيرة، وملئهم. قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (٤٧)﴾ [الحاقة: ٤٤ – ٤٧] …» [معارج القبول (١/ ٢٦٨)].
ثامنًا: أن بيانه صلى الله عليه وسلم لهذا الدين لا يعدله بيان أحد من البشر؛ إذ هو صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالحق، وأفصحهم لسانًا وبيانًا، وأنصح الخلق للخلق، فاجتمع فيه ﷺ كمال العلم وكمال القدرة وكمال الإرادة.
ولذا قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا» [صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم : «أنا أعلمكم بالله» (١/ ١٦) برقم (٢٠)].
ووصفه ربه عزوجل بالحرص على المؤمنين فقال سبحانه: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)﴾ [التوبة: ١٢٨]، ومما يظهر ذلك الحرص معاناته ﷺ وتحمله للمشاق العظام، التي لم يتحملها بشر في سبيل إيضاح هذا الدين تمام الإيضاح بحيث لا يفهم أحد من أصحابه شيئًا من الدين خلاف مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وأنزل الله عليه آيات عديدة تسلية له من الحزن والألم، والضيق الذي أَلَمَّ به بسبب كفر قومه وإعراضهم، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (٨)﴾ [فاطر: ٨]، وقوله: ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٣٧)﴾ [النحل: ٣٧]، وغيرها من الآيات، وما ذاك إلا لشدة حرصه، وكمال نصحه، وشفقته على أمته صلى الله عليه وسلم أن تعتقد أمته شيئًا يبغضه الله ورسوله.
يقول الإمام ابن تيمية: «والرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالحق، وأقدر الناس على بيان الحق، وأنصح الخلق للخلق، وهذا يوجب أن يكون بيانه للحق أكمل من بيان كل أحد» [درء التعارض (١/ ٢٣٣)].
ويقول رحمه الله تعالى أيضًا: «وقد أوجب الله عليه البلاغ المبين، وأنزل عليه الكتاب ليبين للناس ما نُزِّلَ إليهمد، فلا بد أن يكون بيانه، وخطابه، وكلامه أكمل وأتم من بيان غيره، فكيف يكون مع هذا لم يبين الحق، بل بيَّنه من قامت الأدلة الكثيرة على جهله، ونقص علمه وعقله» [المصدر نفسه (١/ ٢٤)].
وقال رحمه الله تعالى: «ومن علم أن الرسول -صلي الله عليه وسلم- أعلم الخلق بالحق، وأفصح الخلق في البيان، وأنصح الخلق للخلق، علم أنه قد اجتمع في حقه كمال العلم بالحق، وكمال القدرة على بيانه، وكمال الإرادة له، ومع كمال العلم والقدرة والإرادة يجب وجود المطلوب على أكمل وجه، فيعلم أن كلامه أبلغ ما يكون، وأتم ما يكون، وأعظم ما يكون بيانًا لما بيَّنه في الدين من أمور الإلهية وغير ذلك» [مجموع الفتاوى (١٧/ ١٢٩) وانظر: كذلك (٥/ ٣١)].
ويقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: “…. فاجمتع في حقه كمال القدرة، وكمال الداعي، وكمال العلم، فهو أعلم الناس بما يدعو إليه، وأقدرهم على أسباب الدعوة، وأعظمهم رغبة وأتمهم نصيحة» [الصواعق المرسلة (٢/ ٥٦١ – ٥٦٢)].
تاسعًا: لا يقدح في هذه القاعدة ما يحصل من الإشكالات والتعارضات في بعض النصوص عند بعض الناس؛ وذلك لأن أفهام الناس تتفاوت وتختلف حتى بين أهل العلم فضلًا عن غيرهم، وهذا التعارض لا يتعلق بذات النصوص، إذ النصوص الشرعية لا يمكن أن تتعارض بحال، أو تتضارب، وإنما يحصل الإشكال والالتباس والتضارب في أذهان البشر، لما فيها من الضعف والقصور.
يقول الإمام ابن تيمية: «وذلك كله داخل في البلاغ المبين، فإنه ليس من شرط البلاغ المبين أن لا يشكل على أحد، فإن هذا لا ينضبط، وأذهان الناس وأهواؤهم متفاوتة تفاوتًا عظيمًا، وفيهم من يبلغه العلم، وفيهم من لا يبلغه؛ إما لتفريطه، وإما لعجزه.
وإنما على الرسول البلاغ المبين: البيان المُمَكِّن، وهذا ولله الحمد قد حصل منه صلى الله عليه وسلم ، فإنَّه بلغَ البلاغ المبين، وترك الأمة على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، وما ترك من شيء يقرب إلى الجنة إلا أمر الخلق به، ولا من شيء يقربهم من النار إلا نهاهم عنه، فجزاه الله عن أمته أفضل ما جزى نبيًا عن أمته». [منهاج السُّنَّة النبوية (٨/ ٥٧٦)]. [القواعد].
—–
(المسألة الثانية): فضل يوم عرفة: يوم مغفرة الذنوب وإكمال الدين، وهو من أعظم أيام السنة، وحيث اختاره الله لنزول هذه الآية العظيمة.
و”من صام يوم عرفة له أجر عظيم، ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أن الله يكفِّر بصوم يوم عرفة السنة التي قبله والسنة التي بعده. يعني: بشرط اجتناب الكبائر كما بينته الأحاديث الأخرى”. قاله الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى. [نور على الدرب للإمام ابن باز رحمه الله تعالى، فضل صيام يوم عرفة].
(المسألة الثالثة): اجتماع الفضائل في يوم نزول الآية: حيث نزلت في يوم عرفة، وكان يوم الجمعة، وكلاهما يوم عيد في الإسلام.
(المسألة الرابعة): إكمال الدين: نزلت الآية في حجة الوداع، فلم يَنْسَخْ شيء من الشرع بعدها، وكل بدعة ضلالة.
وقد سبق الإشارة إلى ذلك في المسألة الأولى.