[1ج/ رقم (521)] فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
شارك: أحمد بن علي وطارق أبو تيسير ، ومحمد البلوشي
وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد وأسامة الحميري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الإمام الوادعي رحمه الله في الصحيح المسند [1ج/ رقم (521)]: يزيد
٥٢١ – قال الإمام النسائي رحمه الله تعالى (ج ٥ ص ٦١): أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى قَالَ أَنْبَأَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ وَهُوَ ابْنُ زِيَادِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ قَالَ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُوَ يَقُولُ «يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ أُمَّكَ وَأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ»، مختصر.
هذا حديث صحيحٌ. وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطني البخاري ومسلمًا أن يخرجاها.
===================
ولتوضيح الحديث، يمكن تقسيم الكلام عليه من موجوه:
الوجه الأول:
أورد الحديث الحافظ أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب الخراساني النسائي (٢١٥ – ٣٠٣ هـ)، [٢٣] كتاب الزكاة، (٥١) بَابُ أَيَّتُهُمَا الْيَدُ الْعُلْيَا، (٢٥٣٢).
والوادعي رحمه الله جعله في جامعه:
٦ – كتاب الصدقات، ٩ – ابدأ بمن تعول، (١٢٧٩).
٣٢ – كتاب الأدب، ١٧ – البدء بإكرام الرحم، (٣٥١٠).
٣٣ – كتاب التفسير، سورة العنكبوت، ٢٦٨ – قوله تعالى: ﴿ووصينا الإنسان بوالديه حسنا﴾.، (٤٢٣٤).
والثاني: شرح وبيان الحديث:
(عَنْ طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ) رضي الله عنه، (قَالَ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ، وَهُوَ يَقُولُ «يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا، وَابْدَأْ) من: بدأت الشيء أبدؤه بدأً، بهمز لكل؛ أي: ابتدىء بالإنفاق على مَن يجب عليك نفقته. (بِمَنْ تَعُولُ) من: عاله عولًا: كفله، وقام به، والعيال: أهل البيت، ومن يمونه الإنسان، الواحد: عَيِّل، والجمع: عيال: ومنه الحديث: «الخلق عيال الله». والذين تعولهم هم مَن تُنْفِق عليهم. (أُمَّكَ وَأَبَاكَ) نصب بفعل مقدرة أي: الزمهم بالإنفاق عليهم. (وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ») أي: أقربك، فأقربك، (مختصر).
وأصله في الصحيحين، فأوله من حديث حكيم بن حزام، أن النبي ﷺ قال: «اليد العليا خير من اليد السُّفْلى، وابدأ بمن تعول»، وأما آخره فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة: «أن رجلًا أتى النبي ﷺ فقال: من أَبِرّ يا رسول الله؟ فقال: أمك، ثم قال: مَن؟ قال: أمك، ثم قال: من؟ قال: أمك، ثم قال: مَن؟ قال: أباك». قال بعضهم: «رواته كلهم ثقات، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند الطبراني، وقد حسَّنه المنذري»”. [توضيح الأحكام من بلوغ المرام، (6/ 37 – 38)، بتصرف يسير].
والثالث: ملحقات:
أولاً: بيان معاني الحديث:
(المسألة الألى) بيان اليد العليا:
قال الإتيوبي رحمه الله تعالى:
قوله: (اليدُ العليا خير من اليد السفلى)،
فسّر معنى كلامه هذا بقوله: (واليَدُ العُلْيا المُنْفِقَةُ، والسُّفْلى السّائِلَةُ») قال أبو داود رحمه الله: قال الأكثر عن حماد بن زيد: «المنفقة»، وقال واحد عنه: «المتعفّفة»، وكذا قال عبد الوارث، عن أيوب. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: فأما الذي قال عن حماد: «المتعفّفة» -بالعين، وفاءين- فهو مسدّدٌ….
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: «واليد العليا المنفقة»، هكذا وقع في صحيح البخاريّ ومسلم: «العليا المنفقة»، من الإنفاق، وكذا ذكره أبو داود عن أكثر الرواة، قال: ورواه عبد الوارث، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: «العليا المتعفِّفة» بالعين، من العِفّة، ورجح الخطابيّ هذه الرواية، قال: لأن السياق في ذكر المسألة والتعفف عنها، والصحيح الرواية الأولى، ويحْتَمِل صحة الروايتين، فالمنفقة أعلى من السائلة، والمتعففة أعلى من السائلة، وفي هذا الحديث الحثّ على الإنفاق في وجوه الطاعات، وفيه دليل لمذهب الجمهور أن اليد العليا هي المنفقة، وقال الخطابيّ: المتعففة كما سبق، وقال غيره: العليا الآخذة، والسفلى المانعة، حكاه القاضي، والمراد بالعلو علوّ الفضل والمجد، ونيل الثواب. انتهى [«شرح النوويّ» ٧/ ١٢٤ – ١٢٥].
وقال الطيبيّ رحمه الله بعد نقل كلام النووي المذكور: أقول: تحرير ترجيح الخطّابيّ رواية «اليد العليا هي المتعفّفة» أن يقال: إن قوله: «وهو يذكر الصدقة، والتعفّف عن المسألة» كلام مجملٌ في معنى العفّة عن السؤال، وقوله: «اليد العليا خير من اليد السفلى» بيان له، وهو أيضًا مبهم، فينبغي أن يفسّر بالعفّ؛ ليناسب المجمل، وتفسيره باليد المنفقة غير مناسب للمجمل.
وتحقيق الجواب: هذا إنما يتمّ إذا اقتصر على قوله: «اليد العليا هي المنفقة»، ولم يعقبه بقوله: «واليد السفلى هي السائلة»؛ لدلالتهما على علوّ المنفقة، وسفالة السائلة ورذالتها، وهي مما يُستنكف منها، ويُتعفّف عن الاتصاف بها، فظهر من هذا أن رواية الشيخين أرجح من إحدى روايتي أبي داود نقلًا ودرايةً؛ لأنها حينئذ من باب الكناية، وهي أبلغ من التصريح، فيكون أرجح. انتهى [«الكاشف عن حقائق السنن» ٥/ ١٥١٤ – ١٥١٥].
(تنبيه): هذه الأحاديث كلها واضحة في أن التفسير المذكور مرفوع، قال القرطبيّ رحمه الله: وقع تفسير اليد العليا والسفلى في حديث ابن عمر هذا، وهو نصّ يرفع الخلاف، ويدفع تعسّف من تعسّف في تأويله. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: لكن ادعى أبو العبّاس الدانيّ في «أطراف الموطأ» أن التفسير المذكور مدرجٌ في الحديث، ولم يذكر مستنده لذلك، ثم وجدت في «كتاب العسكريّ في الصحابة» بإسناد له، فيه انقطاعٌ، عن ابن عمر أنه كتب إلى بشر بن مروان: إني سمعت النبيّ ﷺ يقول: «اليد العليا خير من اليد السفلى، ولا أحسب اليد السفلى إلا السائلة، ولا العليا إلا المعطية»، فهذا يشعر بأن التفسير من كلام ابن عمر، ويؤيّده ما رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: «كنا نتحدّث أن العليا هي المنفقة». انتهى [«الفتح» ٤/ ٤٩].
قال الإتيوبي عفا الله تعالى عنه: عندي أن دعوى الإدراج المذكور غير صحيحة؛ لأن الحديث اتَّفَقَ عليه الشيخان، مرفوعًا، وما ذكره الحافظ مما يؤيّد الدعوى المذكورة، فغير مقبول؛ لأن ما نقله من كتاب العسكري منقطع، كما اعترف هو به، وكذا ما نقله عن ابن أبي شيبة، ففي سنده سفيان الثوريّ، وهو وإن كان إمامًا، إلا أنه مدلّسٌ، وقد رواه بالعنعنة [انظر: «مصنّف ابن أبي شيبة» ٣/ ٢١١]، فكيف يُعارَض بمثل هذا ما اتَّفَقَ الشيخان على صحته مرفوعًا؟، فتبصّر بالإنصاف، ولا تسلك سبيل الاعتساف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف].
قلت سيف: سفيان الثوري ليس من المكثرين في التدليس. ويمكن الجمع بأنه تارة يرفعه وتارة يقوله من قوله.
ثانيًا: النفقات:
(المسألة الأولى): نَفَقَةٌ
النَّفَقَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ الْمَصْدَرِ نَفَقَ، يُقَال: نَفَقَتِ الدَّرَاهِمُ نَفَقًا: نَفِدَتْ، وَجَمْعُ النَّفَقَةِ نِفَاقٌ مِثْل رَقَبَةٍ وَرِقَابٍ، وَتُجْمَعُ عَلَى نَفَقَاتٍ وَيُقَال: نَفَقَ الشَّيْءُ نَفَقًا فَنِيَ، وَأَنْفَقْتُهُ: أَفْنَيْتُهُ، وَنَفَقَتِ السِّلْعَةُ وَالْمَرْأَةُ نِفَاقًا: كَثُرَ طُلاَّبُهَا وَخُطَّابُهَا [الْمِصْبَاحُ الْمُنِيرُ].
وَالنَّفَقَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا بِهِ قَوَّامٌ مُعْتَادٌ حَال الآْدَمِيِّ دُونَ سَرَفٍ [حَاشِيَةُ الصَّاوِي عَلَى الشَّرْحِ الصَّغِيرِ ٢ / ٧٢٩ دَارُ الْمَعَارِفِ].
(المسألة الثانية):
النَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ فِي الْجُمْلَةِ لأَصْنَافٍ بَيَّنَهَا الْفُقَهَاءُ، وَاخْتَلَفُوا فِي حَصْرِهَا وَفِي شُرُوطِ اسْتِحْقَاقِ كُلٍّ مِنْهُمْ لَهَا عَلَى تَفْصِيلٍ.
(المسألة الثالثة): أَسْبَابُ النَّفَقَةِ:
تَجِبُ النَّفَقَةُ بِأَحَدِ أَسْبَابٍ ثَلاَثَةٍ هِيَ: النِّكَاحُ، وَالْقَرَابَةُ، وَالْمِلْكُ. [الموسوعة الفقهية، (41/ 34)].
(المسألة الرابعة) حكم الإنفاق على الأقارب
أجمع العلماء على وجوب نفقة الأقارب في الجملة، واختلفوا في مدار هذه النفقة:
فذهب الإمام مالك إلى: أنها لا تجب إلَاّ للأب والأم، دون الأجداد والجدات كان علوْا، وتجب للفروع وإن نزلوا؛ سواء أكانوا من الوارثين، أم من غير الوارثين، حتى ذوي الأرحام منهم.
وذهب أبو حنيفة إلى: ثبوت النفقة للأصول، والفروع، والحواشي، ولكن رخَّص في وجوب الإنفاق على ذوي القرابة المحارم، بقطع النظر عن الميراث.
وذهب الإمام أحمد إلى: وجوب النفقة على الأصول والفروع، سواء أكانوا وارثين، أم غير وارثين، وفي الحواشي الذين يرثهم المنفق بفرض، أو تعصيب.
واستدل مالك على وجوب نفقة ولد الصلب: بقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233].
وعلى حق الأب والأم بقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83].
ومن الأحاديث: بقوله صلى الله عليه وسلم: “خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف”.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم”، وغيرها من الأدلة.
واستدل الثلاثة على وجوب النفقة على عموم عمودي النسب:
بأن ولد الولد ولد، وأن الأجداد آباء وإن بعدوا؛ قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُم} [النساء: 11] يدخل فيهم ولد البنين، وقال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] وهو جدهم.
وفضلاً عن ذلك، فإن بينهما قرابة توجب النفقة، وردّ الشهادة، فيسري حكم وجوب النفقة.
أما القرابة من غير عمودي النسب:
فدليل وجوب النفقة عليهم قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233]، وأنَّ الله تعالى ورسوله أمرا بصلة الرحم، ونَهَيا عن قطعها، وله أحكام من حيث ولاية النكاح، وغير ذلك من الأحكام.
قال ابن القيم: “إن مذهب أحمد أوسع من مذهب أبي حنيفة، ومذهب أحمد هو الصحيح في الدليل، وهو الذي تقتضيه أصول أحمد، ونصوصه، وقواعد الشرع، وصلة الرحم التي أمر الله أن توصل”.
(المسألة الخامسة): متى تسقط النفقة ؟
وأجمع العلماء في الجملة على عدم سقوط نفقة الزوجة بمضي الزمن؛ لأنها نفقة واجبة في حال الإعسار، واليسار؛ ولأنها معاوضة.
قال ابن المنذر: “هذه نفقة وجبت بالكتاب، والسنة، والإجماع”.
واتفقوا أيضًا على:
سقوط نفقة القريب بمضي الزمن، على اختلاف يسير بينهم في التفريعات، وحجتهم على سقوطها ما يأتي:
أولاً: أن نفقة الأقارب تجب باعتبار الحاجة، وهي صلةٌ محضةٌ، فلا يتأكد وجوبها إلَاّ بالقبض، أو ما يقوم مقامه، ومادام الأمر كذلك، فإذا مضت المدة، ولم تقبض، فإنه بمضيّ المدة يحصل الاستغناء عن هذه النفقة، بالنسبة للمدة الماضية؛ لأن الحاجة قد اندفعت بمضيّها، فلا يكون لهذه النفقة محل، ولا موجب، فتسقط.
ثانيًا: أن نفقة القريب مبنية على مجرد المواساة؛ لسد الخلة، وإحياء النفس، وهذا قد حصل فعلاً فيما مضى من المدة، بدون أن يدفع النفقة، فلا تبقى، وتسقط.
أما الزوجة: فإن النفقة وجبت مقابل الاستمتاع بها، أو حبسها على عشرته؛ ولذا تجب مع اليسار والإعسار، وهي بذلك تَحْمِل معنى المعاوضة، وما دامت كذلك، فلا يؤثر فيها مضي الزمن.
أما اختلافهم:
فإن أبا حنيفة: يرى أن عدم سقوط نفقة الزوجة بمضي الزمن هو إذا حكم بوجوبها حاكم؛ لأنها تفصير دَيْنًا بحكم القاضي فلا تسقط، أما بدون حكمٍ فإنها تسقط بمضي الزمن؛ كنفقة القريب.
وذهب الشافعي إلى: أن نفقة القريب لا تسقط في حالات هي:
1 – أن يأذن لأحد في الإنفاق على قريبه، فإذا أذن، وتم الإنفاق فعلاً، وجبت على الإذن، فلا تسقط.
2 – أن تكون نفقة القريب بفرض حاكم شرعي، فحكم الحاكم يصيّر النفقة دَيْنًا في الذمة.
والمذاهب الثلاثة: الحنفية، والشافعية، والحنابلة، متقاربة في هذا التفصيل.
قال شيخ الإسلام: “ما علمت أحدًا من العلماء قال: إن نفقة القريب تثبت في الذمة لما مضى من الزمان، إلَاّ إذا كان قد استدان عليه النفقة بإذن حاكم”. [توضيح الأحكام من بلوغ المرام 6/ 37].
ثالثًا: النفقة على الزوجات خاصة:
(المسألة الأولى): النفقة على الزوجات.
يجب على الرجل أن ينفق على زوجته، دلَّ على ذلك القرآن والسنة، ووقع الإجماع على ذلك.
فمن القرآن: قول الله عزوجل: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة:٢٣٣]، وقوله تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾ [الطلاق:٧].
ومن السنة: حديث عائشة، وجابر، ومعاوية بن حيدة رضي الله عنهم، وغيرها من الأحاديث التي في الباب.
ونقل ابن المنذر وغيره الإجماعَ على وجوب ذلك على الأزواج إذا كانوا بالغين، إلا لمن كانت ناشزًا. [انظر: «المغني» (١١/ ٣٤٧ – ٣٤٨)].
(المسألة الثانية): هل الاعتبار في النفقة بحالة الزوج أم الزوجة؟
– مذهب مالك، وأبي حنيفة أنَّ الاعتبار بحال المرأة على قدر كفايتها؛ لقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، وقوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف».
– ومذهب الشافعي رحمه الله أنَّ الاعتبار بحال الزوج؛ لقوله تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ [الطلاق:٧].
– ومذهب الحنابلة أنه يعتبر حالهما معًا؛ فإن كانا موسرين؛ فينفق عليها نفقة الموسرين، وإن كانا معسرين؛ فينفق عليها نفقة المعسرين، وإن كان أحدهما موسرًا والآخر معسرًا؛ فعليه نفقة المتوسطين.
والأظهر – والله أعلم – هو قول الشافعي رحمه الله، وهو ترجيح الإمام ابن عثيمين رحمه الله، والله أعلم. [انظر: «المغني» (١١/ ٣٤٨ – ٣٤٩) «الشرح الممتع» (٦/ ١٣)].
(المسألة الثالثة): ما هو المقدار الذي يلزمه لزوجته ؟
– أكثر أهل العلم على عدم التقدير في ذلك، بل يقولون: يلزمه ما يكفيها بالمعروف. وهذا قول مالك، وأحمد، وأبي حنيفة وغيرهم؛ لقوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك»، وقوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف»، وقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة:٢٣٣].
– وذهب الشافعي إلى التحديد بِمُدٍّ على الْمُقِلِّ، ومُدَّين على الموسر؛ قياسًا على الكفارات.
– وقيد بعض الحنابلة الواجب برطلين من الخبز كل يوم.
والصحيح القول الأول، وهو ترجيح شيخ الإسلام وغيره. [انظر: «المغني» (١١/ ٣٤٩ -) «البيان» (١١/ ٢٠٣) «مجموع الفتاوى» (٣٤/ ٨٣، ٨٦) «الأوسط» (٩/ ٥٣ -)].
(المسألة الرابعة): إذا امتنع من الإنفاق مع القدرة عليه؟
قال أبو محمد بن قدامة رحمه الله في «المغني» (١١/ ٣٦٣): إِنْ قَدَرَتْ لَهُ عَلَى مَالٍ؛ أَخَذَتْ مِنْهُ قَدْرَ حَاجَتِهَا، وَلَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ هِنْدًا بِالْأَخْذِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا الْفَسْخَ، وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ؛ رَافَعَتْهُ إلَى الْحَاكِمِ، فَيَأْمُرُهُ بِالْإِنْفَاقِ، وَيُجْبِرُهُ عَلَيْهِ؛ فَإِنْ أَبَى حَبَسَهُ؛ فَإِنْ صَبَرَ عَلَى الْحَبْسِ؛ أَخَذَ الْحَاكِمُ النَّفَقَةَ مِنْ مَالِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا عُرُوضًا أَوْ عَقَارًا؛ بَاعَهَا فِي ذَلِكَ.
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: النَّفَقَةُ فِي مَالِهِ مِنْ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، وَلَا يَبِيعُ عَرْضًا إلَّا بِتَسْلِيمٍ؛ لِأَنَّ بَيْعَ مَالِ الْإِنْسَانِ لَا يَنْفُذُ إلَّا بِإِذْنِهِ، أَوْ إذْنِ وَلِيِّهِ، وَلَا وِلَايَةَ عَلَى الرَّشِيدِ.
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ لِهِنْدٍ: «خُذِي مَا يَكْفِيك»، وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ لَهُ، فَتُؤْخَذُ مِنْهُ النَّفَقَةُ، كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَلِلْحَاكِمِ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ إذَا امْتَنَعَ، بِدَلِيلِ وِلَايَته عَلَى دَرَاهِمِهِ وَدَنَانِيرِهِ. اهـ
(المسألة الخامسة): هل يشترط أن تسَّلم لزوجها؟
– اشترط ذلك الجمهور؛ فلا تجب النفقة عندهم إلا بتسليمها، فلو منعها أهلها، أو امتنعت، أو تساكتا بعد العقد فلم تسلم، ولم يطلب؛ فليس لها النفقة عندهم.
– وذهب الظاهرية إلى وجوب النفقة بمجرد العقد.
وقول الجمهور قريب في حالة الامتناع، ثم رأيت جماعة من أهل العلم قد قيدوه بحالة الامتناع، وهم الثوري، ومالك، والشافعي، والله أعلم. [انظر: «المغني» (١١/ ٣٩٦) «المحلى» (١٩٢٦) «البيان» (١١/ ١٩١) «الأوسط» (٩/ ٥٩)].
(المسألة السادسة): هل للمرأة الناشز نفقة؟
– أكثر أهل العلم على أنه ليس لها نفقة، وهو قول الشعبي، وحماد، ومالك، والأوزاعي، وأحمد، والشافعي، وأبي ثور، وأصحاب الرأي؛ لأنَّ النفقة تجب مقابل تمكينها.
– وذهب الحكم، والظاهرية، والشوكاني إلى أنها تجب لها النفقة؛ لأنَّ وجوب النفقة بسبب الزوجية لا بسبب التمكين، والأدلة الواردة في وجوب الإنفاق علقت ذلك بالزوجية، ولم يخص بها الطائعة ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم:٦٤].
قال الشوكاني رحمه الله: لم يرد في الأدلة ما يدل على أنَّ الزوجة إذا عصت زوجها سقطت نفقتها. اهـ
والله عزوجل جعل لها النفقة، ولم يسقطها في حال النشوز، بل أباح للرجل الهجر، والضرب، ولم يبح له ترك الإنفاق، قال تعالى: ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا﴾ [النساء:٣٤]، ولكن إن أدَّى بها نشوزها إلى مفارقة بيته والمكوث عند أهلها؛ فالظاهر أنه لا يلزمه أن يتبعها النفقة، والله أعلم. [انظر: «المغني» (١١/ ٤٠٢) «البيان» (١١/ ٢٣٠) «الأوسط» (٩/ ٥٢١ – ٥٢٣)].
(المسألة السابعة): المرأة الذمية، هل لها ما للزوجة المسلمة من النفقة والكسوة؟
– قال ابن قدامة رحمه الله في «المغني» (١١/ ٣٦٠): وَالذِّمِّيَّةُ كَالْمُسْلِمَةِ فِي النَّفَقَةِ، وَالْمَسْكَنِ، وَالْكِسْوَةِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِعُمُومِ النُّصُوصِ وَالْمَعْنَى. اهـ
ثالثًا: النّفَقَةِ عَلَى الأقَارِبِ:
(المسألة الأولى): النفقة على الوالدين والأولاد.
يجب على الرجل أن ينفق على والديه، وأولاده المحتاجين إن قدر على ذلك، ودلَّ على وجوب ذلك الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما من القرآن: فقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الطلاق:٦]، فأوجب أجر رضاع الولد على أبيه.
وقال تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة:٢٣٣]، فأوجب النفقة والكسوة على المرضعة من أجل الولد؛ فدل على وجوب ذلك للولد.
وقال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء:٢٣].
ومن السنة: قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك، ويكفي بنيك»، وحديث: «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإنَّ ولده من كسبه».!! 1 6
وأما الإجماع: فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنَّ نفقة الوالدين الفقيرين اللذين لا كسب لهما ولا مال واجبة في مال الولد، وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أنَّ على المرء النفقة لأولاده الأطفال الذين لا مال لهم. [انظر: «المغني» (١١/ ٣٧٣)].
تنبيه: جاء عن مالك أنه لم يوجب على الرجل أن ينفق على أمه؛ لكونه ليس من عصبتها، وخالفه الجمهور.
ولعله أراد إن كان لها عصبة من نسبها، والله أعلم، ودليل الجمهور أنَّ الأدلة دلت على أنَّ حق الأم أعظم من حق الأب. [انظر: «المغني» (١١/ ٣٧٣) «البيان» (١١/ ٢٤٦) «الأوسط» (٩/ ٧٧)].
(المسألة الثانية): هل تجب النفقة من الأم إن كانت موسرة على ولدها إن كان الأب معسرًا، أو ميتًا؟
– مذهب الجمهور وجوب ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ [البقرة:٢٣٣].
– وقال مالك: لا يجب عليها؛ لأنه ليس من عصبتها. والصحيح قول الجمهور.
– وأكثرهم على أنها لا ترجع بالنفقة على الولد إذا أيسر؛ لأنَّ النفقة واجبة عليها.
– وقال أبو يوسف، ومحمد: ترجع عليه.
والصحيح قول الجمهور، وهو ترجيح الشوكاني في «السيل». [انظر: «المغني» (١١/ ٣٧٣) «البيان» (١١/ ٢٤٦)].
(المسألة الثالثة): هل تجب النفقة على الأجداد وإن علوا، والأولاد وإن سفلوا؟
– أكثرهم على الوجوب، وهو مذهب أحمد، والشافعي، والثوري، وأصحاب الرأي؛ لأنهم يدخلون في مطلق اسم الولد والوالد كما دلت الأدلة على ذلك.
– وقال مالك: لا تجب النفقة عليهم ولا لهم؛ لأنَّ الجد ليس بأب حقيقي. والصحيح قول الجمهور. [انظر: «المغني» (١١/ ٣٧٤) «البيان» (١١/ ٢٤٥)].
(المسألة الرابعة): شروط وجوب الإنفاق على الأقارب.
الأول: أن يكون المنفق عليه فقيرًا لا مال له، ولا كسب يستغني به عن الإنفاق؛ لأنها تجب لهم على سبيل المواساة، والغني ليس بحاجة إلى المواساة، ولأنه لو وجب؛ لوجب في كثير من الصور أن ينفق كل واحد منهما على الآخر، ولا يصح هذا.
الثاني: أن يكون المنفق له فضل عن نفقة نفسه إما من ماله، أو من كسبه؛ لحديث جابر رضي الله عنه في «صحيح مسلم» (٩٩٧)، أنَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها؛ فإن فضل شيء فلأهلك؛ فإن فضل شيء فلذي قرابتك؛ فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا، وهكذا».
الثالث: أن يكون المنفق وارثًا؛ لقول الله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾. [انظر: «المغني» (١١/ ٣٧٤ – ٣٧٥)].
(المسألة الخامسة): إن كان هنالك مانع من الإرث؟
إن كان المانع من الإرث هو الرق؛ فلا نفقة لأحدهما على صاحبه بغير خلاف؛ لأنه لا ولاية بينهما، ولا إرث، ولأنَّ العبد لا مال له؛ فتجب عليه النفقة، وكسبه لسيده، ونفقته على سيده، فيستغني بها عن نفقة غيره.
– وأما إن كان المانع من الإرث هو اختلاف الدين؛ فلا نفقة للآخر على صاحبه؛ لاختلاف الدين، والله عزوجل قيد ذلك بالوارث ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ وهو مذهب الحنابلة.
– وذهب الشافعي، وبعض الحنابلة إلى أنَّ النفقة تجب في عَمُودَي النسب؛ لأنها واجبة مع اتفاق الدين، فتجب مع اختلافه كنفقة الزوجة والمملوك؛ ولأنه يعتق على قريبه، فوجب عليه الإنفاق كما لو اتفق دينهما.
والصحيح القول الأول؛ للآية، وقياسهم المذكور لا عبرة به؛ لوجود الفارق، والله أعلم. وهذا هو ترجيح الإمام ابن عثيمين رحمه الله تعالى. [انظر: «المغني» (١١/ ٣٧٥ – ٣٧٦)].
(المسألة السادسة): وإن كان المانع من الإرث كونه محجوبًا؟
– إن كان الحاجب له موسرًا؛ فالنفقة عليه؛ لأنه أقرب إلى الميت، وإن كان معسرًا؛ فإن كان من عمودي النسب فعليه النفقة أيضًا وهو قول أحمد، والشافعي.
– وإن كان من غير عمودي النسب ففيه وجهان لأصحاب أحمد، والشافعي. [انظر: «المغني» (١١/ ٣٧٦ – ٣٧٧)].
(المسألة السابعة): النفقة على ذوي الأرحام غير الوارثين.
– إن كان من عمودي النسب؛ فيجب النفقة عليه عند الحنابلة، والشافعية.
– وإن لم يكن من عمودي النسب؛ فلا تجب عند الشافعي، وأكثر الحنابلة.
– وقال بعض الحنابلة: تجب عند عدم العصبات، وذوي الفروض. وهذا أقرب؛ لأن الله تعالى أوجبها على الوارث ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾، وذووا الأرحام يرثون عند عدم وجود صاحب فرض وتعصيب، والله أعلم. [انظر: «المغني» (١١/ ٣٧٧)].
(المسألة الثامنة): هل يشترط في النفقة على الوالد والولد أن يكون ناقصًا في الحكم، أو الخلقة؟
الناقص في الحكم هو المجنون، والصغير، والناقص في الخلقة كالأعرج، والأعمى وغيرهما.
– مذهب الحنابلة عدم اشتراط ذلك، وبه قال أبو حنيفة في الوالد، والشافعي في قول؛ لعموم حديث: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف».
– وقال الشافعي، وأبو حنيفة: يشترط ذلك في الولد.
والصحيح القول الأول، والله أعلم. [انظر: «المغني» (١١/ ٣٧٨)].
(المسألة التاسعة): من كان له أب من أهل الإنفاق لم تجب النفقة على غيره؟
قال ابن قدامة رحمه الله في «المغني» (١١/ ٣٧٨): وَمَنْ كَانَ لَهُ أَبٌ مِنْ أَهْلِ الْإِنْفَاقِ؛ لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهُ عَلَى سِوَاهُ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الطلاق:٦]، وَقَالَ: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ [البقرة:٢٣٣]، وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ
لِهِنْدٍ: «خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ»، فَجَعَلَ النَّفَقَةَ عَلَى أَبِيهِمْ دُونَهَا، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا نَعْلَمُهُ، إلَّا أَنَّ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا اجْتَمَعَ لِلْفَقِيرِ أَبٌ وَابْنٌ مُوسِرَانِ، وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَب وَحْدَهُ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِمَا جَمِيعًا؛ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْقُرْب.
وَلَنَا أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَبِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا؛ فَيَجِبُ اتِّبَاعُ النَّصِّ، وَتَرْكُ مَا عَدَاهُ. اهـ
(المسألة العاشرة): النفقة على الأقارب الوارثين.
– أوجبها كثيرٌ من أهل العلم، وهو قول الحسن، ومجاهد، والنخعي، وقتادة، والحسن بن صالح، وابن أبي ليلى، وأبي ثور، وأحمد، وهو الأشهر عند أصحابه؛ لقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة:٢٣٣]، ثم قال: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ [البقرة:٢٣٣]، فأوجب على الأب نفقة الرضاع، ثم عطف الوارث عليه فأوجب على الوارث مثل ما أوجب على الوالد.
واستدلوا بحديث الباب: «أمك وأباك، وأختك وأخاك».
– وذهب بعضهم إلى أنَّ النفقة على العصبة، وهو قول الأوزاعي، وإسحاق، وأحمد في رواية.
واستدلوا على ذلك بأنه نقل عن عمر رضي الله عنه ذلك، وقياسًا على العقل، وأثر عمر أخرجه سعيد بن منصور (٢/ ١١٣)، ومن طريقه البيهقي (٧/ ٤٧٨)، وفي إسناده عنعنة ابن جريج، بل يرويه عن عمرو بن شعيب، ولم يسمع منه كما قال البخاري؛ فالأثر ضعيف.
– وقال أبو حنيفة وأصحابه: تجب النفقة على كل ذي رحم مَحْرَم؛ لقوله تعالى: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأنفال:٧٥/الأحزاب:٦].
– وقال مالك، والشافعي، وابن المنذر: لا نفقة إلا على الوالدين والمولودين؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي في الباب، ففي آخره: «أنت أعلم به»، ولم يأمره بالنفقة على ذوي الأقارب. وحجة أبي حنيفة عليه لا له، ويرد على مالك، والشافعي حديث معاوية بن حيدة المذكور في الباب، والآية.
والصحيح القول الأول، وهو ترجيح الإمام ابن باز. [انظر: «المغني» (١١/ ٣٨٠ – ٣٨٢) «البيان» (١١/ ٢٤٩ -) «فتاوى اللجنة» (٢١/ ١٨٤)].
تنبيه: إذا اجتمع أكثر من وراث، وليس أحدهما محجوبًا بالآخر؛ فالنفقة عليهم بقدر إرثهم، هذا قول الحنابلة وغيرهم، وهو الصحيح، وللشافعية والحنفية خلافات في بعض الصور، والله أعلم. «المغني» (١١/ ٣٨٣ – ٣٨٥).
(المسألة الحادي عشر): هل على المعتِق نفقة معتَقه؟
– إذا توفرت الشروط السابقة؛ وجب عليه النفقة، وهو قول الحنابلة، وخالف مالك، والشافعي، وأبو حنيفة؛ بناء على أصولهم في المسألة السابقة، والصحيح قول الحنابلة.
(المسألة الثانية عشر): على من تجب نفقة المملوك؟
نفقة المملوك على مالكه بالسنة والإجماع، أما من السنة فحديث الباب: «لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ، وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ العَمَلِ إلَّا مَا يُطِيقُ»، وحديث أبي ذر في «الصحيحين»: «فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَه؛ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُل، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَس ..». وأجمع العلماء على ذلك، والواجب من ذلك قدر كفايته بالمعروف، وكذا الكسوة. «المغني» (١١/ ٤٣٤ – ٤٣٥). [فتح العلام في دراسة أحاديث بلوغ المرام، (9/ 106 – 140)].
والرابع: فوائد الحديث:
1 – (منها): بيان فضل المنفِق والمتصدق، وأن يده هي العليا حسًّا ومعنًى؛ فالمنفق يده عالية على يد الآخر في القبض، وهي عالية عليها في شرفها وفضلها، وإحسانها.
2 – (ومنها): تجب البداءة بالنفقات الواجبة بالنفس، ثم الزوجة، ثم الفروع، ثم الأصول، ثم المماليك.
3 – (ومنها): النفقة على النفس هي الأولى، ثم مَن تجب نفقتهم مع اليسار والإعسار؛ وهم الزوجة والمماليك، والبهائم، ثم مَن تجب نفقتهم، ولو لم يرثهم المنفِق من الأصول والفروع، ثم نفقة الحواشي، إذا كان المنفِق يرثهم بفرض، أو تعصيب.
4 – (ومنها): الحديث فيه تقديم الأم، ثم الأب، ثم الإخوان، ثم الأقرب، فالأقرب على حسب درجاتهم في الإرث والقرب؛ قال تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ [الإسراء: ٢٦]، فكل قريب له على قريبه حق، والحقوق متفاوتة.
5 – (ومنها): يشترط لوجوب نفقة القريب من أصول، وفروع، وحواشٍ -غنى المنِفق وفقر المنفَق عليه، وفي الحواشي ما تقدم من إرث المنفِق منهم بفرض، أو تعصيب؛ قال تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٢٣٣].
6 – (ومنها): قال القاضي عياض: «الحديث فيه» أن الأم أحق من الأب بالبر؛ وهو مذهب جمهور العلماء”. [توضيح الأحكام من بلوغ المرام، (6/ 38)].
7 – (منها): “بيان أن اليد العليا هي المعطية، كما أن اليد السفلى هي السائلة.
8 – (ومنها): إباحة الكلام للخطيب أثناء خطبته بكلّ ما يصلح من موعظة، وعلم، وقُرَبٍ.
9 – (ومنها): الحثّ على الإنفاق في وجوه الطاعة.
10 – (ومنها): تفضيل الغِنَى مع القيام بحقوقه على الفقر؛ لأن العطاء إنما يكون مع الغنى.
11 – (ومنها): كراهة السؤال، والتنفير عنه، ومحلّه إذا لم تدع إليه ضرورةٌ، من خوف هلاك ونحوه، وقد روى الطبرانيّ من حديث ابن عمر بإسناد فيه مقالٌ، مرفوعًا: “ما المعطي من سَعَة بأفضل من الآخذ إذا كان محتاجًا”، قاله في “الفتح”، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب”. [البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج 19/ 573، بتصرف يسير].
[للفائدة انظر]: فتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند، [1ج/ رقم (243)]، وفي مواضع أخرى بيان مسائل الباب.