(3015) فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
مجموعة: أحمد بن علي، ومحمد البلوشي
عدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد وأسامة الحميري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من (٥٦) – (كِتَابُ: التفسير)، (١) – (بَابٌ فِي تَفْسِيرِ آيَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ)
[٧٤٨٤] (٣٠١٥) – (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «قِيلَ لِبَني إِسْرَائِيلَ: ﴿وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾ [البقرة: ٥٨] فَبَدَّلُوا، فَدَخَلُوا الْبَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ، وَقَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعَرَةٍ»).
==========
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
مقدمات ممهدات:
(التمهيد الأول): التفسير النبوي:
المقدمة الأولى: المراد بـ”التفسير”:
المراد بـ”التفسير”:
أنه في اللغة: تفعيل من (الفَسْر)، بمعنى: الإبانة والكشف.
“التفسير لغة: من الفسر، وهو: الكشف عن المغطى”. [أصول في التفسير، (23)].
فيقال: فسر الكلام، أي: أبان معناه وأظهره، كما يقال: فَسَرَ عن ذراعه، أي: كشف عنها. [انظر: لسان العرب، مادة فسر، (5/ 55)].
وفي الاصطلاح، عرف بتعريفات، ومن ذلك:
علم يفهم به القرآن، بمعرفة معانيه، واستخراج أحكامه وحِكمه، وعظاته وعبره.
قال ابن عثيمين رحمه الله:
“وفي الاصطلاح. بيان معاني القرآن الكريم”. [أصول في التفسير، (23)].
[فائدة]: من معاني التأويل في الاصطلاح – الذي أطلق على ثلاثة معاني -: التفسير، وهو إيضاح المعنى وبيانه.
وكان السلف يسمون علم التفسير علم التأويل، وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: ((اللم فقهه في الدين وعلمه التأويل)). وعلى هذا المراد استعمل السلف، ومنهم ابن جرير في تسميته كتابه: “جامع البيان عن تأويل آي القرآن”، فيكون التفسير والتأويل على هذا مترادفين.
وقال في «الفتح»: واختلفوا في التفسير والتأويل، قال أبو عبيدة، وطائفة: هما بمعنى، وقيل: التفسير: هو بيان المراد باللفظ، والتأويل: هو بيان المراد بالمعنى [«الفتح» ٩/ ٦٢٧ «التفسير»].
المقدمة الثانية: حكم تعلم التفسير، وأهميته:
قال السيوطي عفا الله عنه: “أجمع العلماء أن التفسير من فروض الكفايات”[الإتقان، (4/ 199)].
وقال ابن عثيمين رحمه الله: “تعلم التفسير واجب؛ لقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص: ٢٩)، ولقوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: ٢٤).
وجه الدلالة من الآية الأولى: أن الله تعالى بين أن الحكمة من إنزال هذا القرآن المبارك؛ أن يتدبر الناس آياته، ويتعظوا بما فيها.
وإلا صار مجرد ألفاظ لا تأثير لها، ولأنه لا يمكن الاتعاظ بما في القرآن بدون فهم معانيه.
ووجه الدلالة من الآية الثانية: أن الله تعالى وبخ أولئك الذين لا يتدبرون القرآن، وأشار إلى أن ذلك من الإقفال على قلوبهم، وعدم وصول الخير إليها.
وكان سلف الأمة على تلك الطريقة الواجبة، يتعلمون القرآن ألفاظه ومعانيه؛ لأنهم بذلك يتمكنون من العمل بالقرآن على مراد الله به، فإن العمل بما لا يعرف معناه غير ممكن.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذي كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات، لم يجاوزوها، حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: والعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فن من العلم كالطب والحساب، ولا يستشرحوه، فكيف بكلام الله تعالى الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم.
ويجب على أهل العلم أن يبينوه للناس عن طريق الكتابة أو المشافهة؛ لقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَه}) (آل عمران: الآية ١٨٧)، وتبيين الكتاب للناس شامل لتبيين ألفاظه ومعانيه، فيكون تفسير القرآن، مما أخذ الله العهد على أهل العلم ببيانه.
والغرض من تعلم التفسير: هو الوصول إلى الغايات الحميدة والثمرات الجليلة، وهي التصديق بأخباره والانتفاع بها وتطبيق أحكامه على الوجه الذي أراده الله؛ ليعبد الله بها على بصيره.
الواجب على المسلم في تفسير القرآن أن يشعر نفسه حين يفسر القرآن بأنه مترجم عن الله تعالى، شاهد عليه بما أراد من كلامه، فيكون معظما لهذه الشهادة، خائفا من أن يقول على الله بلا علم، فيقع فيما حرم الله، فيخزى بذلك يوم القيامة؛ قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُون} (الأعراف: ٣٣).
وقال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} (الزمر: ٦٠). [أصول في التفسير، (23 – 24)].
المقدمة الثالثة: شروط المفسر:
لابد لمن يفسر القرآن الكريم أ، يستجمع شروطا، وهي:
أولا: صحة الاعتقاد، وسلامة المنهج.
ثانيًا: صحة المقصد، والتجرد للحق، والسلامة من الهوى.
ثالثا: التحري، والتثبت في الفهم والنقل.
رابعًا: القدرة على الكلام في معاني القرآن الكريم.
خامسًا: سلوك المنهج الصحيح في تفسير القرآن الكريم.
المقدمة الرابعة: المرجع في تفسير القرآن – مصادر التفسير -:
“يرجع في تفسير القرآن إلى ما يأتي:
أ- كلام الله تعالى: فيفسر القرآن بالقرآن؛ لأن الله تعالى هو الذي أنزله، وهو أعلم بما أراد به. ولذلك أمثلة منها: قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس: ٦٢). فقد فسر أولياء الله، بقوله في الآية التي تليها: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (يونس: ٦٣).
ب – كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيفسر القرآن بالسنة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله تعالى، فهو أعلم الناس بمراد الله تعالى كلامه. [وهو المراد هنا]
ولذلك أمثلة منها:
١- قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (يونس: الآية ٢٦)، ففسر النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة بالنظر إلى وجه الله تعالى، فيما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم صريحا من حديث أبي موسى [ أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره ٦/١٩٤٥، حديث رقم ١٠٣٤١، وأخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد المجلد الثاني ٣/٤٥٨-٤٥٩، حديث رقم ٧٨٥]، وأبي بن كعب [أخرجه الطبري في تفسيره ١٥/٦٩، حديث رقم ١٧٦٣٣، والالكائي في شرح أصول الاعتقاد، المجلد الثاني ٣/٤٥٦.]. ورواه جرير من حديث كعب بن عجرة [أخرجه الطبري في تفسيره ١٥٦٨، حديث رقم ١٧٦٣١، والالكائي في شرح أصول الاعتقاد، المجلد الثاني ٣/٤٥٦. -٤٥٧]
في ” صحيح مسلم ” [أخرجه مسلم ص ٧٠٩، كتب الإيمان باب ٨٠: إثبات روية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى، حديث رقم ٤٤٩ (٢٩٧) ١٨١، ٤٥٠ (٢٩٨) ١٨١]، عن صهيب بن سنان عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث قال فيه: “فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل”، ثم تلا هذه الآية {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (يونس: ٢٦).
٢- قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (لأنفال: الآية ٦٠) فقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم القوة بالرمي. رواه مسلم [أخرجه مسلم ص ١٠٢٠، كتاب الإمارة، باب ٥٢: فضل الرمي والحث عليه … ، حديث رقم ٤٩٤٦ (١٦٧) ١٩١٧، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
[سيأتي بيان ما يتعلق بهذا النوع بإذن الله تعالى].
ج- كلام الصحابة رضي الله عنهم لا سيما ذوو العلم منهم والعناية بالتفسير، لأن القرآن نزل بلغتهم وفي عصرهم، ولأنهم بعد الأنبياء أصدق الناس في طلب الحق، وأسلمهم من الأهواء، وأطهرهم من المخالفة التي تحول بين المرء وبين التوفيق للصواب. ولذلك أمثلة كثيرة جدا منها: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (النساء: الآية ٤٣)، فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه فسر الملامسة بالجماع [أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (١/١٣٤) ، وابن أبي شيبة في مصنفه (١/١٩٢)].
قال شيخ الإسلام ابن تيميه [في مجموع الفتاوى]: إذا أجمعوا – يعني التابعين – على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن، أو ألسنة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك.
وقال أيضا: من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك، كان مخطئا في ذلك، بل مبتدعا، وإن كان مجتهدا مغفورا له خطؤة، ثم قال: فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم، فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعا.
هـ – ما تقتضيه الكلمات من المعاني الشرعية أو اللغوية حسب السياق؛ لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: الآية ١٠٥) وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف: ٣) وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (ابراهيم: الآية ٤) .
فإن اختلف المعنى الشرعي واللغوي، أخذ بما يقتضيه الشرعي؛ لأن القرآن نزل لبيان الشرع، لا لبيان اللغة إلا أن يكون هناك دليل يترجح به المعنى اللغوي فيؤخذ به.
مثال ما اختلف فيه المعنيان، وقدم الشرعي: قوله تعالى في المنافقين: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} (التوبة: الآية ٨٤) فالصلاة في اللغة الدعاء، وفي الشرع هنا الوقوف على الميت للدعاء له بصفة مخصوصة فيقدم المعنى الشرعي؛ لأنه المقصود للمتكلم المعهود للمخاطب، وأما منع الدعاء لهم على وجه الإطلاق فمن دليل آخر.
ومثال ما اختلف فيه المعنيان، وقدم فيه اللغوي بالدليل: قوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) (التوبة: الآية ١٠٣) فالمراد بالصلاة هنا الدعاء، وبدليل ما رواه مسلم عن عبد الله بن أبي أوفي، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى بصدقة قوم، صلى عليهم، فأتاه أبي بصدقته فقال: ” اللهم صل على آل أبي أوفي “.
وأمثلة ما اتفق فيه المعنيان الشرعي واللغوي كثيرة: كالسماء والأرض والصدق والكذب والحجر والإنسان. [أصول في التفسير، (25 – 28)، بتصرف يسير].
المقدمة الخامسة: التفسير النبوي:
الحديثُ عن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن يتضمنُ ثلاث مسائل قد يدمجها البعض، وهذه المسائل الآتية:
الأول: أهمية الرجوع للسنة في تفسير القرآن الكريم.
الثاني: هل فسر الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن كله أو بعضه؟
الثالث: أنواع البيان النبوي للقرآن الكريم، وصوره.
ويظهر أهمية الرجوع للسنة في تفسير القرآن الكريم:
يعد الرسولُ صلى الله عليه وسلم – بلا خلاف – المفسرَ الأول، والمرجعَ المقدم في بيان معاني كلام الله تعالى؛ وذلك لأنه مؤيدٌ بالوحي، وهو أعلمُ الناس بربه جل وعلا، ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤)﴾ [النجم: ٣، ٤]،
وبين الله تعالى أن مهمةَ الرسول الكريم: بيانُ هذا الذكر الحكيم، فقال جل وعلا: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤)﴾ [النحل: ٤٤].
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما من شيء إلا بُيِّن لنا في القرآن، ولكن فهمنا يقصر عن إدراكه، فلذلك قال تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾) [ أورده السيوطي في (مفتاح الجنة) ص ٥٨ رقم (١٠١)، وعزاه إلى ابن أبي حاتم].
وقال الإمام أحمد رحمه الله: «السنة عندنا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والسنة تفسر القرآن، وهي دلائل القرآن» [أخرجه اللالكائى في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) ١: ١٥٦ رقم (٣١٧)، وابن أبي يعلى في (طبقات الحنابلة) ١: ٢٤١].
وقال الشنقيطي-رحمه الله تعالى: “المراد بالذكر في هذه الآية: القرآن
[قال ابن الجوزي في (زاد المسير) ٤: ٤٥٠ – في بيان معنى الذكر الوارد في الآية: «هو القرآن بإجماع المفسرين»]، كقوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)﴾ [الحجر: ٩].
المسألة الأولى: تعريف التفسير النبوي:
والتفسير النبوي هو: «ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير في بيان معاني القرآن».
مثال القول: ما جاء عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن المغضوب عليهم: اليهود، والضالين: النصارى).
أخرجه أحمد مطولا
١٩٣٨١ – حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ سِمَاكَ بْنَ حَرْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبَّادَ بْنَ حُبَيْشٍ، يُحَدِّثُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: جَاءَتْ خَيْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَوْ، قَالَ: رُسُلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَأَنَا بِعَقْرَبٍ، فَأَخَذُوا عَمَّتِي وَنَاسًا، ….. «يَا عَدِيُّ بْنَ حَاتِمٍ مَا أَفَرَّكَ أَنْ يُقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ فَهَلْ مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ؟ مَا أَفَرَّكَ أَنْ يُقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ؟ فَهَلْ شَيْءٌ هُوَ أَكْبَرُ مِنَ اللهِ ؟» قَالَ: فَأَسْلَمْتُ، فَرَأَيْتُ وَجْهَهُ اسْتَبْشَرَ، وَقَالَ: «إِنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمُ الْيَهُودُ، وإنَّ الضَّالِّينَ النَّصَارَى»،….
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدَّثَنَاهُ شُعْبَةُ، مَا لَا أُحْصِيهِ وَقَرَأْتُهُ عَلَيْهِ
قال محققو المسند: بعضه صحيح، وفي هذا الإسناد عبَّاد بن حُبَيْش، لم يرو عنه غيرُ سماك بن حرب، ولم يوثقه غير ابن حبان، وقال الذهبي في «الميزان»: لا يعرف. قلنا: وبقية رجال الإسناد ثقات رجال الشيخين، غير سماك بن حرب، فمن رجال مسلم، وهو صدوق في غير روايته عن عكرمة.
وأخرجه مطولًا ومختصرًا أيضًا الترمذي (٢٩٥٤)، والطبري (١٩٤) و(٢٠٨)، وابن حبان (٧٢٠٦) و(٧٣٦٥)، والطبراني في «الكبير» ١٧/ (٢٣٧) من طريق محمد بن جعفر، به. قال الترمذي: هذا حديث حسنٌ غريب، ولا نعرفه إلا من حديث سماك بن حرب.
وأخرجه مطولًا ومختصرًا كذلك الترمذي (٢٩٥٣)، (٢٣٦) من طريق قيس بن الربيع، كلاهما عن سِماك بن حرب، به. ولم يرد في رواية الترمذي- وقد رواه مطولًا- قصة عمة عدي بن حاتم.
وقوله: «إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى» تابع عبادًا فيه عامرُ بنُ شَراحيل الشعبي- وهو ثقة- عند الطبري في «التفسير» (١٩٣) و(٢٠٧)، ومُرَيُّ بن قَطَري- وهو مجهول- عند الطبري أيضًا (١٩٥) و(٢٠٩) . = وله شاهد من حديث عبد الله بن شقيق، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ،
سيرد ٥/٧٧. …. الى آخر كلامهم
مسند أحمد – ط الرسالة ٣٢/١٢٤
وَذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) وَذَكَرَ رِوَايَاتٍ أُخْرَى، وَقَدْ خَرَّجَهَا الشَّيْخُ أَحْمَدُ شَاكِر وَصَحَّحَ أَكْثَرُهَا. انْظُرِ التَّفْسِيرَ (ط. الْمَعَارِفِ) ١/١٨٥ – ١٨٨ ١٩٣ – ١٩٥.
——
عن عدي بن حاتم، قال: قال رسول الله ﷺ: «إنّ المغضوب عليهم: اليهود، وإنّ الضّالِّين: النصارى»
أخرجه أحمد ٣٢/ ١٢٣ (١٩٣٨١)، والترمذي ٥/ ٢١٥ (٣١٨٦)، وابن جرير ١/ ١٩٤، وابن أبي حاتم ١/ ٣١ (٤٠)، وابن حبان ٥/ ٢١٧ (٣١٨٧) ١٦/ ١٨٣ (٧٢٠٦).
قال الترمذي: «حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حرب، عن عدي بن حاتم». وقال الهيثمي في المجمع ٥/ ٣٣٥ (٩٧١٩): «رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير عباد بن حبيش، وهو ثقة».
موسوعة التفسير المأثور ٢/٤٤
ومثاله:
﴿إِنّا فَتَحنا لَكَ فَتحًا مُبينًا﴾ [الفتح: 1]
٣١٨٢ – حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو وَائِلٍ قَالَ: «كُنَّا بِصِفِّينَ فَقَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ فَإِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ فَقَالَ: بَلَى فَقَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ ابْنَ الْخَطَّابِ إِنِّي رَسُولُ اللهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللهُ أَبَدًا فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللهُ أَبَدًا فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ نَعَمْ.»
صحيح البخاري – ط السلطانية ٤/١٠٣ — البخاري
وأما الفعل؛ فمن أمثلته:
١ – جاء عن جابر رضي الله عنه في صفة الحج: (.. حتى إذا أتينا البيت معه صلى الله عليه وسلم استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام، فقرأ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥]، فجعل المقام بينه وبين البيت .. كان يقرأ في الركعتن: قل هو الله أحد، وقل يا أيها الكافرون) [أخرجه مسلم رقم (١٢١٨)].
فهذا تفسير نبوي فعلي لقوله تعالى: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥].
٢ – قال جابر رضي الله عنه في الحديث السابق: (.. حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتن، ولم يسبح بينهما شيئا، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس).
فهذا تفسير نبوي فعلي لقوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ [البقرة: ١٩٨].
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله في سياق بحثه لبعض مسائل الحج: «أفعاله صلى الله عليه وسلم في حجته؛ تفسير لآيات الحج». [أضواء البيان ٤: ٤٩٦].
ومثال التقرير؛
فيبدو أن أمثلته قليلة جدا، ومنها: ما جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: جاء حبر من اليهود، فقال: إنه إذا كان يوم القيامة جعل الله السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك أنا الملك. فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه تعجبا وتصديقا لقوله، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: ٦٧] [أخرجه البخاري رقم (٧٥١٣) في التوحيد: باب كلام الرب عزوجل يوم القيامة، وفي مواضع أخرى، ومسلم رقم (٢٧٨٦) في صفة القيامة والجنة والنار]. فهذا تقرير نبوي يفيد في تفسير الآية.
المسألة الثانية: هل فسر الرسولُ صلى الله عليه وسلم القرآن كله أو بعضه؟
عرض بعض المتأخرين لهذه المسألة، ونصب فيها الخلاف بين العلماء على قولين:
الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم فسَّر وبين لأصحابه كل معاني القرآن، كما بين لهم ألفاظه. ونسب هذا القول لشيخ الإسلام ابن تيمية.
٢ – أنه صلى الله عليه وسلم لم يبين لأصحابه كل معاني القرآن.
وعند التأمل يبدو أن الخصومة مفتعلة، وأن الخلاف لفظي، وأن حاصل البحث يؤدي إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه ما يحتاجون إليه في تفسير القرآن، وهذا البيان على صور يأتي بيانها -إن شاء الله-.
وهل يتصور عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم فسَّر للصحابة ألفاظ القرآن كلها كالجبل والماء، والأرض والسماء، مع علو شأنه في الفصاحة والبلاغة، وما اختص به من جوامع الكلم؟!.
ومن المناسب هنا أن يذكر ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (التفسير على أربعةِ أوجهٍ: وجهٌ تعرفه العربُ من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحدٌ بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله) [أخرجه الطبري ١: ٧٠ من طريق أبي الزناد عن ابن عباس، ولم يسمع منه. ينظر: تهذيب الكمال ١٤: ٤٨٢. وأخرجه الفريابي في (القدر) رقم (٤١٤) والطبراني في (مسند الشاميين) ٢: ٣٠٢ رقم (١٣٨٥) من طريق أبي حصين عثمان بن عاصم، عن أبي صالح باذام، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، بنحوه. وأبو صالح لم يسمع من ابن عباس كما سيأتي في بحث الحديث رقم (١٢١). ولعله يتقوى بمجموع الطريقين.
قال الشيخ صالح سندي: أخرجه ابن جرير مرفوعاً وموقوفاً، أما المرفوع فهو موضوع لأن فيه محمد بن السائب الكلبي متهم بالكذب، وأما الموقوف …فذكر الطريقين السابقين وقال : ولعله يتقوى هذا الأثر بهذين الطريقين، ومقصود هذا الأثر أنه مشهور ويتداوله أهل العلم في كتبهم.
تفريغ صوتي – تعليق الشيخ صالح سندي على أثر ابن عباس رضي الله عنهما
قال الإمام الطبري: «تأويل جميع القرآن على أوجهٍ ثلاثة:
أحدها: لا سبيل إلى الوصول إليه، وهو الذي استأثر الله بعلمه، وحَجب علمه عن جميع خلقه، وهو أوقاتُ ما كانَ من آجال الأمور الحادثة، التي أخبر الله في كتابه أنها كائنة، مثل: وقت قيام الساعة، ووقت نزول عيسى بن مريم، ووقت طلوع الشمس من مغربها، والنفخ في الصور، وما أشبه ذلك.
والوجه الثاني: ما خصَّ الله بعلم تأويله نبيَّه صلى الله عليه وسلم دون سائر أمته، وهو ما فيه مما بعباده إلى علم تأويله الحاجةُ، فلا سبيل لهم إلى علم ذلك إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم لهم تأويلَه.
والثالث منها: ما كان علمهُ عند أهل اللسان الذي نزل به القرآن، وذلك علم تأويل غريبه وإعرابه، لا يُوصَل إلى علم ذلك إلا من قِبَلهم» [تفسير الطبري ١: ٨٧ – ٨٨].
قال الزرقاني في مناهل العرفان: ورد عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن التفسير أربعة: حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تفسره العرب بألسنتها، وتفسير تفسره العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله. اهـ.
ثم نقل شرح ذلك عن الزركشي فقال: قال الزركشي في البرهان ما ملخصه: هذا تقسيم صحيح فأما الذي تعرفه العرب بألسنتها: فهو ما يرجع إلى لسانهم من اللغة والإعراب، فأما اللغة: فعلى المفسر معرفة معانيها ومسميات أسمائها ولا يلزم ذلك القارئ، وأما الإعراب: فما كان اختلافه محيلا للمعنى وجب على المفسر والقارئ تعلمه ليوصل المفسر إلى معرفة الحكم ويسلم القارئ من اللحن، وإن لم يكن محيلا للمعنى وجب تعلمه على القارئ ليسلم من اللحن ولا يجب على المفسر لوصوله إلى المقصود بدونه.
وأما ما لا يعذر أحد بجهله: فهو ما تبادر إلى الأفهام معرفة معناه من النصوص المتضمنة شرائع الأحكام ودلائل التوحيد وكل لفظ أفاد معنى واحدا جليا يعلم أنه مراد الله تعالى، فهذا القسم لا يلتبس تأويله، إذ كل أحد يدرك معنى التوحيد من قوله تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله ـ أنه لا شريك له في الألوهية وإن لم يعلم أن لا موضوعة في اللغة للنفي، وإلا موضوعة للإثبات وأن مقتضى هذه الكلمة الحصر، ويعلم كل أحد بالضرورة أن مقتضى: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ـ ونحوه طلب إيجاب المأمور به وإن لم يعلم أن صيغة افعل للوجوب.
وأما ما لا يعلمه إلا الله تعالى: فهو ما يجري مجرى الغيوب كالآيات التي تذكر فيها الساعة والروح والحروف المقطعة وكل متشابه في القرآن عند أهل الحق، فلا مساغ للاجتهاد في تفسيره ولا طريق إلى ذلك إلا بالتوقيف بنص من القرآن، أو الحديث، أو إجماع الأمة على تأويله.
وأما ما يعلمه العلماء ويرجع إلى اجتهادهم: فهو الذي يغلب عليه إطلاق التأويل وذلك باستنباط الأحكام وبيان المجمل وتخصيص العموم وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه اعتمادا على الدلائل والشواهد دون مجرد الرأي. اهـ.
المسألة الثالثة: أنواع التفسير النبوي:
النوع الأول: التفسير النصي اللفظي الصريح:
وهو ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من نص لفظي صريح في تفسير الآية.
– عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن المغضوب عليهم: اليهود، والضالين: النصارى) [وقد سبق].
– عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على المنبر، يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (لأنفال: الآية ٦٠) ألا إن القوة بالرميُ، ألا إن القوة بالرميُ، ألا إن القوة بالرميُ”. [أخرجه مسلم (1917)].
النوع الثاني: التفسير الموضوعي:
بمعنى: أن يستفاد من السنة النبوية في بيان الموضوع الذي تضمنته الآية تقريرا أو تفصيلا دون أن يكون في الحديث تفسير مباشر للآية.
فمثلا: عند قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٤]؛ تذكر الأحاديث التالية:
(أ) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: (ناركم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم) قيل: يا رسول الله؛ إن كانت لكافية! قال: (فضلت عليهن بتسعة وستين جزءا، كلهن مثل حرها) [أخرجه البخاري رقم (٣٢٦٥) في بدء الخلق: باب صفة النار وأنها مخلوقة، ومسلم رقم (٢٨٤٣) في الجنة وصفة نعيمها: باب في شدة حر نار جهنم].
(ب) عن أي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم. واشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب؛ أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين؛ نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير) [أخرجه البخاري رقم (٥٣٧) في مواقبت الصلاة باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، ومسلم رقم (٦١٧) في المساجد ومواضع الصلاة باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر، واللفظ للبخاري].
(جـ) عن أي هريرة رضي الله عنه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمع وجبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (تدرون ما هذا؟) قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: (هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها) [أخرجه مسلم رقم (٢٨٤٤) في الجنة وصفة نعيمها: باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها].
ونحوها من الأحاديث الواردة في صفة النار، وشدة حرارتها، والتخويف منها.
تنبيه:
وقد توسع بعض المفسرين في هذا الباب حتى صارت تفاسيرهم أشبه بالكتب الجوامع، وقد انتقد الإمام الشوكاني هذا المسلك، فقال في صدر تفسير سورة الإسراء: «واعلم أنه قد أطال كثير من المفسرين كابن كثير والسيوطي وغيرهما في هذا الموضع بذكر الأحاديث الواردة في الإسراء على اختلاف ألفاظها، وليس في ذلك كثير فائدة، فهي معروفة في موضعها من كتب الحديث، وهكذا أطالوا بذكر فضائل المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وهو مبحث آخر، والمقصود في كتب التفسير؛ ما يتعلق بتفسير ألفاظ الكتاب العزيز، وذكر أسباب النزول، وبيان ما يؤخذ منه من المسائل الشرعية، وما عدا ذلك فهو فضلة لا تدعو إليه حاجة» [فتح القدير ٣: ٢٠٨].
النوع الثالث: التفسير اللغوي:
بمعنى أن يستفاد من السنة في بيان المعنى اللغوي للفظة من ألفاظ القرآن.
وهذا النوع لم يكن موجها للصحابة رضي الله عنه؛ لأنهم عرب أقحاح، لم تشبهم عجمة أو لكنة، وقد نزل القرآن بلسان عربي مبين، لذا لم يكونوا محتاجن إلى بيان الغريب ومعاني مفردات القرآن كحاجة من بعدهم، وإنما استفاد من هذا النوع من البيان من جاء بعد تأثر العربية عند العرب.
ومن الأمثلة على ذلك:
عن جابر بن سمرة رضي الله عنه، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خبل شمس؟! اسكنوا في الصلاة)، قال: ثم خرج علينا فرآنا حلقا، فقال: (مالي أراكم عزين؟!) .. الحديث. [أخرجه مسلم (430)].
فهذا الحديث يفيد في فهم معنى لفظة (عزين) الواردة في قوله تعالى: ﴿فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ﴾ [المعارج: ٣٦، ٣٧].
النوع الرابع: التفسير الاستشهادي:
بمعنى أن يذكر النبي صلى الله عليه وسلم الآية في حديثه من غير أن يكون فيه تفسير مباشر لها، بل يذكرها على سبيل الاستشهاد لحادثة، أو التأكيد والتقرير لحديثه.
ومن الأمثلة على ذلك: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فقال: (ألا تصليان) فقلت: يا رسول الله، أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلنا ذلك، ولم يرجع إلي شيئا، ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه، وهو يقول: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ [الكهف: ٥٤]) [أخرجه البخاري رقم (١١٢٧) في الجمعة: باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب، ومسلم رقم (٧٧٥) في صلاة المسافرين: باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح].
فهذا الحديث يفيد في تفسير الآية بوجه غير مباشر.
النوع الخامس: التفسير العام:
هو عموم سنته صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية والتقريرية مما يفيد في بيان شيء من القرآن، ولا يندرج تحت شيء مما سبق.
فلا غنى للمفسر عن النظر في عموم سنته وسيرته صلى الله عليه وسلم ، وما فيها من التطبيق العملي للقرآن الكريم، كما قال سعد بن هشام لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت: (ألست تقرأ القرآن؟) قلت: بلى، قالت: (فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن). [أخرجه أحمد ٦: ٥٣، ومسلم رقم (٧٤٦) في صلاة المسافرين: باب جامع صلاة الليل، وأبو داود رقم (١٣٤٢) في الصلاة: باب صلاة الليل، والنسائي رقم (١٦٠١) في قيام الليل وتطوع النهار: باب قيام الليل، وفيه قصة].
قال الإمام الشافعي: «جميع السنة شرح للقرآن» [نقله عنه السيوطي في (الإكليل في استنباط التنزيل) ١: ٢٣٧].
المسألة الرابعة: صور التفسير النبوي:
إن بيان النبي صلى الله عليه وسلم وتفسيره للقرآن الكريم جاء على صور متعددة، من أشهرها:
١ – تفسير المفردات (بيان الغريب):
وهذا ليس بكثير، لأن الذين نزل عليهم القرآن عرب فصحاء يفهمون الألفاظ ومعانيها.
ومن أمثلة ذلك:
(أ) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك با رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟
فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فتشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليكم شهيدا، فذلك قوله جل ذكره: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: ١٤٣] والوسط: العدل) [قال الحافظ ابن حجر في الفتح ٨: ٢٢: «قوله: (والوسط العدل) هو مرفوع من نفس الخبر، وليس بمدرج من قول بعض الرواة كما وهم فيه بعضهم»].
(ب) عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قوله: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ [النساء: ٣] قال: (أن لا تجوروا) .
٢ – تعيين المبهم:
ومن أمثلته:
(١) عن عياض الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي موسى رضي الله عنه: (هم قوم هذا)، يعني في قوله: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: ٥٤] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (هم قوم هذا).
(ب) عن عبد الله بن زمعة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وذكر الناقةَ والذي عقر، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ﴿إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا﴾ [الشمس: ١٢] انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه، مثل أبي زمعة) وهذا فيه تعيين بالوصف دون الاسم.
٣ – تخصيص العام:
ومن أمثلته: ما جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: ٨٢] شق ذلك على الناس، وقالوا: يا رسول الله، فأينا لا يظلم نفسه؟! قال: (إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: ﴿يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣]، إنما هو الشرك) .
فلفظة: ﴿ظلم﴾ في آية الأنعام؛ نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، فخصَّ النبي صلى الله عليه وسلم هذا العموم، وبيَّن المراد به.
وقد عقد الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى بابا في كتابه: (الكفاية في علم الرواية) ، فقال: «باب تخصيص السنن لعموم محكم القرآن، وذكر الحاجة في المجمل إلى التفسير والبيان».
٤ – تقييد المطلق:
ومن أمثلته: قوله تعالى في سياق أحكام المواريث: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء: من آية ١١] فلفظ ﴿وَصِيَّةٍ﴾ مطلق ورد الدليل من السنة بتقييده بالثلث، كما في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني من وجع اشتد بي زمن حجة الوداع، فقلت: بلغ بي ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مال؟ قال: (لا) قلت: بالشطر؟ قال: (لا) قلت: الثلث؟ قال: (الثلث كثير، إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) [أخرجه البخاري رقم (٥٦٦٨) في المرضى: باب قول المريض: إني وجع ..، ومسلم رقم (١٦٢٨) في الوصية: باب الوصية بالثلث].
٥ – بيان المجمل:
وأمثلته كثيرة، ومن أشهرها بيان السنة للأمر بالصلاة الوارد في القرآن، بذكر مواقيتها وصفتها تفصيلا، وشروطها، ونحو ذلك، وهكذا في الزكاة، والصيام، والحج.
ومن ذلك: فدية الأذى الواردة في قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ …﴾ [البقرة: ١٩٦] فالفدية مجملة جاء بيانها في السنة، كما روى عبد الله بن معقل قال: جلست إلى كعب بن عجرة رضي الله عنه فسألته عن الفدية؟ فقال: نزلت فيَّ خاصة وهي لكم عامة، حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: (ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى -أو ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى- تجد شاة؟) فقلت: لا، فقال: (فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع)
وعن الحسن البصري، قال: بينما نحن عند عمران بن حصين رضي الله عنه، قال له رجل: يا أبا نجيد، حدثنا بالقرآن، قال: (أليس تقرأ: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: ٤٣] أكنتم تعرفون ما فيها؟ وما ركوعها وسجودها، وحدودها، وما فيها؟، أكنت تدري كم الزكاة في الورق والذهب، والإبل والبقر، وأصناف المال؟ شهدتُ ووعيتُ فرضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزكاة كذا وكذا) قال الرجل: أحييتني يا أبا نجيد، أحياك الله كما أحييتني. قال الراوي: فما مات ذلك الرجل حتى كان من فقهاء السلمين [أخرجه بهذا اللفظ: الخطيب في (الفقيه والمتفقه) ١: ٢٣٨ رقم (٢٣٨). وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه ١١: ٢٥٥ رقم (٢٠٤٧٤)، وأبو داود رقم (١٥٦١) في الزكاة: باب ما تجب فيه الزكاة، وغيرهم من طرق عن عمران رضي الله عنه بمعناه]. [التفسير النبوي، (1/ 25 – 70) وتيسير ، بتصرف].
—–
(التمهيد الثاني): كتاب التفسير من صحيح مسلم رحمه الله تعالى
المقدمة الأولى: المؤلفات في التفسير:
النوع الأول: مؤلفات مستقلة، ومنها على سبيل المثال:
أ) من شرح القرآن الكريم كاملا أو أغلبه، مثل:
1- “تفسير القرآن العظيم” للحافظ ابن كثير رحمه الله، وهو مطبوع.
2- تفسير السعدي رحمه الله تعالى.
ب) من أفرد بعض السور لشرحها.
ج) من أفرد بعض الآيات على الطريقة الموضوعية لشرحها، مثاله:
1- في الأحكام، أحكام القرآن، لأبي بكر بن العربي، المتوفى سنة (٥٤٣ هـ).
والجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله القرطبي، المتوفى سنة (٦٧١). تكلموا عن عددها، والأحكام المستنبطة منها.
وهذا النوع غالبا يأتي بعد النوع الثاني:
النوع الثاني: مؤلفات ضمنية، ومنها على سبيل المثال:
وهي متنوعة، فمنها:
أولاً: تفسير بعض الآيات في الكتب الشرعية، مثل الآيات العقدية في الكتب العقدية، وآيات الأحكام في كتب الأحكام، وهكذا في آيات الأخلاق، وغيرها.
ثانيًا: وضع كتب التفسير ضمن الكتب، كما هو صنيع الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما، وهو صنيع وغيرهما.
المقدمة الثانية: مزايا الكتاب المشروح:
تميز كتاب التفسير الذي بين أيدينا بمزايا، من ذلك:
أولاً: من التفاسير المأثورة.
ثانيًا: من التفاسير الصحيحة، وعلى شرط الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه.
ثالثًا: ذكر فيه جملة من الأحاديث عن عدد من الصحابة أم المؤمنين عائشة وابن عباس وابن مسعود وغيرهم رضي الله عنهم.
رابعًا: ذكر أنواعا من علوم القرآن، ومن ذلك أسباب النزول والناسخ والمنسوخ …إلخ. وقد سبق ذكر طرق تفسير القرآن الكريم.
المقدمة الثالثة:
قال الإتيوبي رحمه الله تعالى:
“كتب صاحب «التكملة» هنا بحثًا نفيسًا، أحببت إيراده هنا؛ لنفاسته، قال رحمه الله: قد اختصر مسلم رحمه الله في كتاب التفسير، فلم يورد فيه إلا ثمانية عشر حديثًا، وذلك لأن الأحاديث المرفوعة الخاصّة بتفسير القرآن الكريم يقلّ فيها توافر الشروط التي التزم بها مسلم لإخراج الأحاديث في هذا الكِتاب،
وأما الأحاديث التي يُستنبط منها مسألة من مسائل التفسير، أو لها علاقة بآية من آيات القرآن، وإن لم تكن في صميم موضوع التفسير، فإن المصنّف أخرجها في الأبواب الأخرى من هذا الكتاب، وليس من عادته التكرار، ولهذا قلّت أحاديث هذا الكتاب.
وقد اشتهَر فيما بين المتأخّرين ممن كتبوا في مصطلح الحديث أن اسم «الجامع» إنما يُطلق على الكتاب الذي يجمع أحاديث تتعلّق بثمانية مواضيع، وهي: العقائد، والأحكام، والرقاق، والآداب، والتفسير، والسيرة، والفتن، والمناقب، وذكروا أن «صحيح البخاريّ» جامع لتضمّنه هذه الأبواب كلها، وأما «صحيح مسلم» فقالوا: إنه ليس جامعًا، لقلّة التفسير فيه.
قال: وقد بحثت عن تعريف اصطلاح «الجامع» في كتب المتقدّمين، فلم أجد عندهم هذا الاصطلاح بهذا التعريف، ولكنهم أطلقوا هذا اللفظ على «صحيح البخاريّ»، و«جامع سفيان الثوريّ»، و«جامع عبد الرزّاق»، و«موطأ الإمام مالك»، وغيره، وقد عرّف الشيخ محمود محمد خطّاب السبكيّ رحمه الله لفظ الجامع بطريق آخر، فقال في مقدّمة «المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود»: والجامع ما كان مرتّبًا على أبواب الفقه؛ كالكتب الستّة، أو على ترتيب الحروف في أوائل الترجمة؛ ككتاب الإيمان، والبرّ، والتوبة، والثواب، وهكذا فعل صاحب «جامع الأصول»، أو باعتبار رعاية الحروف في أوائل الحديث، كما فعل السيوطيّ في «الجامع الصغير»، وقد جمع في «الجامع الكبير» بين الجامع والمسند.
قال: وأول من عرّف الجامع بما يجمع العلوم الثمانية – فيما أعلم – هو الشيخ عبد العزيز الدهلويّ رحمه الله في رسالته المسمّاة بـ «العجالة النافعة»، وهو الذي صرّح فيها بأن «صحيح مسلم» ليس جامعًا؛ لأنه لا يوجد فيه أحاديث التفسير والقراءات.
وقد مرّ في مقدّمة هذا الكتاب أن مجد الدين الشيرازيّ صاحب «القاموس» قد أطلق لفظ الجامع على «صحيح مسلم»، وكذلك ذكر حاجي خليفة في «كشف الظنون» «صحيح مسلم» بلفظ «الجامع الصحيح»، وكذلك فعل العلامة علي القاري في «مرقاة المفاتيح» حيث قال في ترجمة مسلم رحمه الله: وله المصنّفات الجليلة غير جامعه الصحيح.
قال: وإطلاق هذا اللفظ على «صحيح مسلم» هو الراجح على كلا التعريفين للجامع، أما على تعريف الخطاب السبكيّ فظاهر؛ لأن كتاب مسلم مرتّب على أبواب الفقه، وأما على تعريف الشيخ الدهلويّ فكذلك، وذلك لوجهين:
الأول: أن الإمام مسلمًا رحمه الله لم يترك أحاديث التفسير رأسًا، بل عقد لها هذا الباب، أما قلّة أحاديثه فيه فلِمَا ذكرنا من أن الأحاديث المرفوعة التي هي في صميم موضوع التفسير، والتي تستجمع الشروط التي التزمها مسلم قليلة، وقد أخرج رحمه الله أحاديث كثيرة في الأبواب الأخرى لها علاقة بالتفسير، وإنما طال كتاب التفسير في «صحيح البخاريّ»؛ لأنه يورد الأحاديث بأدنى مناسبة، ولا يرى بالتكرار بأسًا، ولأنه أدخل فيه كثيرًا من تفسير غريب القرآن.
قال: وقد التمست من بعض أصحابي أن يتتبع الأحاديث التي أخرجها البخاريّ في «كتاب التفسير» كم أخرج منها مسلم في غير «كتاب التفسير»، فتبيّن من هذا التتبّع أن اثنين وستين حديثًا أخرجها البخاريّ في «التفسير»، وأخرجها مسلم في الأبواب الأخرى غير «كتاب التفسير»، وإذا أضفنا إليها هذه الثمانية عشر التي أخرجها مسلم في «كتاب التفسير» بلغ عددها إلى ثمانين حديثًا، وهناك أحاديث أخرى في «صحيح مسلم» يمكن أن تُدرج في «كتاب التفسير» لمناسبة من المناسبات، لم يُخرجها البخاريّ في «التفسير»، فيزداد العدد، فأحاديث التفسير في «صحيح مسلم» ليست قليلة بما يخرجه من كونه جامعًا.
والوجه الثاني: أن أحاديث التفسير في «جامع سفيان الثوريّ»، و«جامع سفيان بن عيينة» قليلة أيضًا، كما ذكره الكتانيّ في «الرسالة المستطرفة» ناقلًا عن «قوت القلوب»، ومع ذلك فإنهما يُطلق عليهما لفظ الجامع بالاتفاق. انتهى كلام صاحب «التكملة» [راجع: «تكملة فتح الملهم» ٦/ ٥٣٤ – ٥٣٦]، وهو بحث مفيد.
قال الإتيوبي عفا الله عنه: قد أسلفت في مقدّمة «شرح المقدّمة» تحقيق هذه المسألة، وترجيح القول بإطلاق لفظ «الجامع» على «صحيح مسلم»، فراجعه [راجع: «قرة عين المحتاج في شرح مقدّمة صحيح مسلم بن الحجاج» ١/ ٥٢ – ٥٣] تستفد، وبالله تعالى التوفيق”. انتهى.