518 – فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، وعبد الحميد البلوشي، وكديم، ومحمد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
٥١٨ – قال الإمام النسائي رحمه الله (ج ٧ ص ١٦١): أخبرنا إسحاق بن منصور قال حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن طارق بن شهاب: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد وضع رجله في الغرز أي الجهاد أفضل قال «كلمة حق عند سلطان جائر».
هذا حديث صحيحٌ. وطارق بن شهاب رأى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يسمع منه، فحديثه مرسل، ومراسيل الصحابة مقبولة؛ لأن الصحابة كلهم عدول.
وقد أخرجه الإمام أحمد (ج ٤ ص ٣١٤) فقال رحمه الله : حدثنا وكيع، عن سفيان به.
……………………………..
المقصود بالجهاد في هذا الحديث هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك من عبادات اللسان، ولذلك قال: كلمة الحق ـ والكلام إنما يؤدى باللسان! وهذا ليس من الخروج على الأئمة، وإنما هو من النصح لهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. رواه مسلم.
وإنما كان ذلك من أعظم الجهاد، لما فيه من المخاطرة بالنفس وتوطينها على تحمل الأذى في ذات الله تعالى، قال الخطابي في معالم السنن: إنما صار ذلك أفضل الجهاد، لأن من جاهد العدو وكان مترددا بين رجاء وخوف لا يدري هل يغلب أو يغلب، وصاحب السلطان مقهور في يده، فهو إذا قال الحق وأمره بالمعروف فقد تعرض للتلف وأهدف نفسه للهلاك، فصار ذلك أفضل أنواع الجهاد من أجل غلبة الخوف. اهـ.
ونقل الطيبي في شرح المشكاة عن المظهر سببا آخر، فقال: لأن ظلم السلطان يسري في جميع من تحت سياسته وهو جم غفير، فإذا نهاه عن الظلم فقد أوصل النفع إلى خلق كثير، بخلاف قتل كافر. اهـ.
وكما سبقت إليه الإشارة، فإن هذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليس من الخروج على الأئمة، بل إن تغيير المنكر باليد إذا لم يكن بالسيف وإقامة القتال فليس من الخروج عليهم، إذا لم تترتب عليه فتنة، بل اقتصر خطره على صاحبه ولم يتعده إلى أهله أو أصحابه وجيرانه ونحوهم، وإلا امتنعن، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: التغيير باليد لا يستلزم القتال، وقد نص على ذلك أحمد أيضا في رواية صالح، فقال: التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح، وحينئذ فجهاد الأمراء باليد أن يزيل بيده ما فعلوه من المنكرات، مثل أن يريق خمورهم أو يكسر آلات الملاهي التي لهم، ونحو ذلك، أو يبطل بيده ما أمروا به من الظلم إن كان له قدرة على ذلك، وكل هذا جائز، وليس هو من باب قتالهم، ولا من الخروج عليهم الذي ورد النهي عنه، فإن هذا أكثر ما يخشى منه أن يقتل الآمر وحده، وأما الخروج عليهم بالسيف، فيخشى منه الفتن التي تؤدي إلى سفك دماء المسلمين، نعم، إن خشي في الإقدام على الإنكار على الملوك أن يؤذي أهله أو جيرانه، لم ينبغ له التعرض لهم حينئذ، لما فيه من تعدي الأذى إلى غيره، كذلك قال الفضيل بن عياض وغيره، ومع هذا، فمتى خاف منهم على نفسه السيف، أو السوط، أو الحبس، أو القيد، أو النفي، أو أخذ المال، أو نحو ذلك من الأذى، سقط أمرهم ونهيهم، وقد نص الأئمة على ذلك، منهم مالك وأحمد وإسحاق وغيرهم. اهـ.
وقال الغزالي في إحياء علوم الدين: ذكرنا درجات الأمر بالمعروف، وأن أوله: التعريف، وثانيه: الوعظ، وثالثه: التخشين في القول، ورابعه: المنع بالقهر في الحمل على الحق بالضرب والعقوبة، والجائز من جملة ذلك مع السلاطين الرتبتان الأوليان، وهما: التعريف والوعظ، وأما المنع بالقهر: فليس ذلك لآحاد الرعية مع السلطان، فإن ذلك يحرك الفتنة ويهيج الشر ويكون ما يتولد منه من المحذور أكثر، وأما التخشين في القول كقوله: يا ظالم، يا من لا يخاف الله، وما يجري مجراه، فذلك إن كان يحرك فتنة يتعدى شرها إلى غيره لم يجز، وإن كان لا يخاف إلا على نفسه، فهو جائز، بل مندوب إليه، فلقد كان من عادة السلف التعرض للأخطار والتصريح بالإنكار من غير مبالاة بهلاك المهجة والتعرض لأنواع العذاب لعلمهم بأن ذلك شهادة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ثم رجل قام إلى إمام فأمره ونهاه في ذات الله تعالى فقتله على ذلك ـ وقال صلى الله عليه وسلم: أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر. اهـ.
——
قال باحث :
ذكر الإمام محمد بن جرير الطبري مسألة الإنكار على الأمراء علانية ، وهل هو سنة ؟ وذكر حديث (( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)) ، ثم نقل خلافا بين السلف في ذلك ، فذكر لهم ثلاثة مواقف :
الأول : ونقله عن عبدالله بن مسعود وابن عباس وحذيفة وأسامة بن زيد رضي الله عنهم : أن كلمة الحق عند سلطان جائر تكون أفضل الجهاد إذا أمن المنكِرُ على نفسه القتل أو أن يلحقه من البلاء ما لا قبل له به .
ونقل عن التابعي العابد الجليل مطرف بن بن عبد الله الشِّخِّير أنه قال : ((والله لو لم يكن لي دين ، حتى أقوم إلى رجل معه ألف سيف ، فأنبذ إليه كلمة ، فيقتلنى : إن دينى إذن لضيق)) !! وهي عبارة معبرة !!
والمذهب الثاني : ونقله عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب أنهما أوجبا على من رأى منكرا أن ينكره علانية .
ولكن من المعلوم أنهما ( رضي الله عنهما) قد قالا ذلك في زمنهما ، وكان أحدهما خليفة راشدا ، والآخر مات في زمن خليفة راشد ( عثمان بن عفان ) رضي الله عنهم أجمعين ، فلم يكونا يتحدثان عن كلمة الحق عند السلطان الظالم ، ولا عن الإنكار على الأمراء الظلمة .
والثالث : أن الإنكار عند الأمراء الظلمة يكفي فيه إنكار القلب ، واحتج أصحاب هذا القول بأحاديث صحيحة ، كقوله صلى الله عليه وسلم : ((يُستعمل عليكم أمراء بعدى، تعرفون وتنكرون ، فمن كره فقد برئ ، ومن أنكر فقد سلم ، ولكن من رضى وتابع ، قالوا: يا رسول الله، أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا)) .
ثم رجح ابن جرير : أن الواجب هو الإنكار ؛ إلا إذا خاف على نفسه عقوبة لا قبل له بها . فلم يطلق القول بالوجوب ، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم : ((لا ينبغى للمؤمن أن يذل نفسه . قالوا : وكيف يذل نفسه ؟ قال : يتعرض من البلاء ما لا يطيق)) .
ونقل كلام ابن جرير هذا عدد من أهل العلم : كابن بطال في شرحه البخاري ، ونقله مختصرا ابن حجر في الفتح .
وبغض النظر في تفاصيل هذا الاختلاف ، فإن الصحيح في فهم هذا الحديث : (( كلمة حق عند سلطان جائر )) هو أن المنكِر :
إما أن يكون قائل الحق عند السلطان الجائر آمنا على نفسه : فهذا سيكون فعله صحيحا ، بل واجبا عليه .
وإما أن يكون غير آمن على نفسه ، وله حالتان :
الأولى : إما أن يكون قتله أو أذاه سوف يعود على الدين بالعزة والنصر ، فهذا هو الذي يُشرع له ذلك ، إذا كان يقدر عليه ويصبر عليه . واجتهاده يجب أن يقوم على تقدير أعظم المفسدتين ، وتقديم أخفهما .
والثانية : وإما أن إنكاره لن يعود على الدين بنفع ، بل ربما أدى قوله الحق إلى جر مفاسد عظيمة على الدين ، فهذا لا يكون مشروعا ، ويحرم تعمده ، مع العلم بنتائجه !
إذن ينحصر معنى الحديث فيمن قال الحق وهو يتوقع الأذى بالقتل وغيره ، وهو قادر على تحمل هذا الابتلاء ، إذا كان يعلم أن مفسدة قتله أو أذاه ستؤدي إلى مصلحة إعزازٍ للدين ، بتغيير المنكر ، أو بغير ذلك من صور إعزاز الدين ونصرته . كما حصل مع غلام أصحاب الأخدود ، الذي كان قتله نشرا للدين ونصرا له .
روى محمد بن الحسن (ت١٨٩هـ) في كتاب الأصل ( ٧/ ٣٠٦-٣٠٧) ، وغيره ، بإسناد صحيح ، عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ، أنه قال : (( ما من كلام أتكلم به ، يدرأ عني ضربتين بسوط عند ذي سلطان ؛ إلا كنت متكلما به )) .
ثم تعقبه محمد بن الحسن بقوله : (( وإنما نضع هذا من ابن مسعود على الرخصة منه ، فيما فيه الألم الشديد ، وإن كان سوطين .
فأما أن نقول : إن السوطين اللذين لا يُخاف منهما تلفٌ ولا وجع لا بأس بأن يكفر بالله لمكانهما ، فهذا لا يجوز عندنا أن يقال على عبدالله بن مسعود . ولكن هذا عندنا من عبدالله بن مسعود شبيه بالمثل ، يريد به الرخصة فيما وصفت لك )) .
هذا نموذج عال من طريقة فهم كلام السلف ، وعدم الاكتفاء بظاهره ، بل مخالفة هذا الظاهر ، وتأويله ليوافق أصول الشريعة وقواعد الدين !
وفي أثر ابن مسعود من الفقه : وجه من وجوه مسايرة الواقع ، وعدم مصادمته ، إذا كان يترتب على مصادمته أذى شديد في النفس ، تعجز النفس عن تحمله .
خاصة أن التابعي راوي الخبر ، وهو الحارث بن سويد ، وهو أحد كبار التابعين وساداتهم ، رواه لما أنكر عليه بعضهم خروجه لبيعة المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب الشهير ، وبيعته على كتاب مختوم ، لا يُدرى ما فيه ! فلما سُئل عن فعله هذا باستغراب ، أجاب بأثر ابن مسعود هذا . انتهى كلام الباحث
حكم إنكار المنكر إذا خاف ضررا أو غلب على ظنه أنه لا يفيد ولا يقبل منه :
قال الغزالي رحمه الله: ” فكل من علم أنه يضرب ضرباً مؤلماً يتأذى به في الحسبة، لم تلزمه الحسبة، وإن كان يستحب له ذلك كما سبق. وإذا فهم هذا في الإيلام بالضرب، فهو في الجرح والقطع والقتل: أظهر” انتهى من ” إحياء علوم الدين” (2/ 322).
وقال النووي رحمه الله: ” فإن خاف من ذلك على نفسه أو ماله أو على غيره: سقط الإنكار بيده ولسانه ، ووجبت كراهته بقلبه. هذا مذهبنا ومذهب الجماهير” انتهى من “شرح مسلم” (12/ 230).
حكم الإنكار العلني :
سئل ابن باز رحمه الله:
س: هل من منهج السلف نقد الولاة من فوق المنابر؟ وما منهج السلف في نصح الولاة؟
ج: ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة، وذكر ذلك على المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف: النصيحة فيما بينهم وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير.
أما إنكار المنكر بدون ذكر الفاعل: فينكر الزنا، وينكر الخمر، وينكر الربا من دون ذكر من فعله، فذلك واجب؛ لعموم الأدلة.
ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير أن يذكر من فعلها لا حاكما ولا غير حاكم.
ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه : قال بعض الناس لأسامة بن زيد رضي الله عنه : ألا تكلم عثمان؟ فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه، إلا أسمعكم؟ إني أكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمرًا لا أحب أن أكون أول من افتتحه.
ولما فتح الخوارج الجهال باب الشر في زمان عثمان رضي الله عنه وأنكروا على عثمان علنا عظمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم، حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية، وقتل عثمان وعلي رضي الله عنهما بأسباب ذلك، وقتل جمع كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني، وذكر العيوب علنا، حتى أبغض الكثيرون من الناس ولي أمرهم وقتلوه، وقد روى عياض بن غنم الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه.
نسأل الله العافية والسلامة لنا ولإخواننا المسلمين من كل شر، إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وآله وصحبه.