تكملة شرح صحيح مسلم باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر حديث رقم 3006
ثانيًا: الأحكام والمسائل والملحقات:
المطلب الأول:
(المسألة الأولى): الحث على أخذ العلم من أهله قبل قبض العلم والعلماء:
قال الشيخ مقبل رحمه الله في الصحيح المسند:
473 – قال الإمام أحمد رحمه الله (ج 6 ص 26): حدثنا علي بن بحر قال حدثنا محمد بن حمير الحمصي قال حدثني إبراهيم بن أبي عبلة عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي قال حدثنا جبير بن نفير عن عوف بن مالك أنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات يوم فنظر في السماء ثم قال «هذا أوان العلم أن يرفع» فقال له رجل من الأنصار يقال له زياد بن لبيد أيرفع العلم يا رسول الله وفينا كتاب الله وقد علمناه أبناءنا ونساءنا فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «إن كنت لأظنك من أفقه أهل المدينة» ثم ذكر ضلالة أهل الكتابين وعندهما ما عندهما من كتاب الله عز وجل فلقي جبير بن نفير شداد بن أوس بالمصلى فحدثه هذا الحديث عن عوف بن مالك فقال: صدق عوف ثم قال وهل تدري ما رفع العلم قال قلت لا أدري قال ذهاب أوعيته قال وهل تدري أي العلم أول أن يرفع قال قلت لا أدري قال الخشوع حتى لا تكاد ترى خاشعًا.
هذا حديث صحيحٌ.
وقال البخاري رحمه الله تعالى: 34 – بَابٌ كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ
- [101] وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ: انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاكْتُبْهُ؛ فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ، وَلَا تَقْبَلْ إِلَّا حَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلْتُفْشُوا الْعِلْمَ، وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لَا يَعْلَمُ، فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا.
حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ بِذَلِكَ، يَعْنِي: حَدِيثَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى قَوْلِهِ: ذَهَابَ الْعُلَمَاءِ.
- [102] حدثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا”.
قَالَ الْفِرَبْرِيُّ: حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ هِشَامٍ نَحْوَهُ. [صحيح البخاري 1/ 268].
وقال ابن بطال رحمه الله تعالى:
قال المؤلف: في أمر عمر بن عبد العزيز بكتاب حديث النبي، صلى الله عليه وسلم ، خاصَّة، وأن لا يقبل غيره الحض على اتباع السنن وضبطها، إذ هي الحجةُ عند الاختلاف، وإليها يلجأ عند التنازع، فإذا عدمت السنن ساغ لأهل العلم النظر، والاجتهاد على الأصول. وفيه: أنه ينبغي للعلماء نشر العلم وإذاعته.
وقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا ينزع العلم من العباد”، فمعنى ذلك: أن الله لا يهب العلم لخلقه، ثم ينتزعه بعد أن تفضَّل به عليهم، والله يتعالى أن يسترجع ما وهب لعباده من علمه الذي يؤدى إلى معرفته والإيمان به وبرسله، وإنما يكون قبض العلم بتضييع التعلُّم فلا يوجد فيمن يبقى من يخلف من مضى، وقد أنذر صلى الله عليه وسلم بقبض الخير كله، ولا ينطق عن الهوى. [شرح صحيح البخاري لابن بطال 1/ 177].
قال ابن قدامة في مقدمة كتابه المغني:
أما بعد: فإنَّ اللَّه تعالى برحمتِه وطَوْلِه، وقُوَّتِه وَحَوْلِه، ضَمِن بقاءَ طائفةٍ مِن هذه الأُمَّة على الحقِّ لا يضُرُّهم مَن خَذَلهم حتى يأتِىَ أمرُ اللَّه وهم علَى ذلك، وجعل السببَ في بقائِهم بقاءَ عُلَمائهم، واقْتداءَهم بأئمَّتِهم وفُقَهائهم، وجعل هذه الأُمَّةَ مع علمائِها ، كالأُمَم الخالية مع أنبيائها، وأظهر في كلِّ طبقةٍ مِن فقهائها أئمةً يُقْتَدَى بها، ويُنْتَهَى إلى رأيِها، وجعل في سَلَفِ هذه الأُمَّةِ أئِمَّةً مِن الأعلام، مَهَّد بهم قَواعدَ الإِسلام، وأوْضَح بهم مُشْكلاتِ الأحكام، اتِّفاقُهم حُجَّةٌ قاطِعة، واخْتلافُهم رحمةٌ واسعة، تَحْيَى القلوبُ بأخْبَارِهم، وتحصلُ السعادةُ باقْتفاءِ آثارِهم، ثم اخْتَصَّ منهم نَفَرًا أعْلَى أَقْدَارَهم ومَناصِبَهم، وأبْقَى ذكرَهم ومَذاهِبَهم، فَعلَى أقْوالِهم مَدارُ الأحكام، وبمذاهبِهم يُفْتِى فقَهاءُ الإِسلام. [المغني لابن قدامة 1/ 4].
[انظر: ما يتعلق بأخذ العلم وأنواع العلم وقبضه في فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند (473)].
المطلب الثاني: مَيْسَرَةٌ
(المسألة الأولى): التَّعْرِيفُ: الْمَيْسَرَةُ فِي اللُّغَةِ بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِهَا: ضِدُّ الْعُسْرِ، وَمِثْلُهُ: الْمَيْسِرُ وَالْيُسْرُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾.
وَالْمَيْسَرَةُ وَالْيَسَارُ عِبَارَةٌ عَنِ الْغِنَى، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ [المفردات في غريب القرآن، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط].
الأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعُسْرُ:
الْعُسْرُ فِي اللُّغَةِ: نَقِيضُ الْيُسْرِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ .
وَالْعُسْرَةُ: تَعَسُّرُ وُجُودِ الْمَال، وَأَعْسَرَ فُلاَنٌ: أَضَاقَ، وَيَوْمٌ عَسِيرٌ: يَتَصَعَّبُ فِيهِ الأَمْرُ وَيَشْتَدُّ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: ﴿فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ ، وَعَسَرَنِي الرَّجُل: طَالَبَنِي بِشَيْءٍ حَيْنَ الْعُسْرَةِ، وَمِنْهُ قِيل لِلْفَقْرِ: عُسْرٌ.
وَأَعْسَرَ الرَّجُل – بِالأَْلِفِ – افْتَقَرَ، وَعَسَرَ بِالْفَتْحِ: قَل سَمَاحُهُ فِي الأُْمُورِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ [المفردات في غريب القرآن، والمصباح المنير].
وَالْعِلاَقَةُ بَيْنَ الْعُسْرِ وَالْمَيْسَرَةِ الضِّدِّيَّةُ.
(المسألة الثانية): الْحُكْمُ الإِجْمَالِيُّ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَدِينُ ذَا مَيْسَرَةٍ، وَكَانَ الدَّيْنُ حَالًّا، وَطَلَبَهُ صَاحِبُهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِالدَّيْنِ دُونَ مُمَاطَلَةٍ أَوْ تَسْوِيفٍ
[الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ٣ / ٣٧١ – ٣٧٥، وأحكام القرآن للجصاص ١ / ٤٧٤ وما بعدها، ومغني المحتاج ٢ / ١٤٦ وما بعدها، وكشاف القناع ٣ / ٤١٨ وما بعدها، وأحكام القرآن للكيا الهراس ١ / ٣٦٣]؛
لِقَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ [حديث: «لي الواجد يحل. . .». أخرجه أبو داود (٤ / ٤٥ – ٤٦ ط حمص)، والنسائي (٧ / ٣١٦ ط المكتبة التجارية)، من حديث الشريد بن سويد الثقفي وحسنه ابن حجر في الفتح (٥ / ٦٢)]
فَإِنْ امْتَنَعَ عَنْ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ مَعَ الإِمْكَانِ كَانَ ظَالِمًا لِقَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : مَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ. [حديث: «مطل الغني ظلم». أخرجه البخاري (٤ / ٤٦٤ ط السلفية)، ومسلم (٣ / ١١٩٧ ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة].
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ هَل يَحْبِسُهُ أَوْ يُلاَزِمُهُ ؟
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِعْسَارٌ ف ١٥) في الموسوعة الفقهية.
– أَمَّا إِنْ كَانَ الْمَدِينُ عَاجِزًا عَنْ وَفَاءِ الدَّيْنِ الْحَال بِسَبَبِ إِعْسَارِهِ الَّذِي ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي، أَوْ عِنْدَ الْغَرِيمِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ إِنْظَارُهُ إِلَى الْمَيْسَرَة؛ِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ، وَلِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَال: مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُل يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ قَال ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُول مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُل يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ قُلْتُ سَمِعْتُكَ يَا رَسُول اللَّهِ تَقُول مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُل يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ ثُمَّ سَمِعْتُكَ تَقُول مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُل يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ قَال لَهُ بِكُل يَوْمٍ صَدَقَةٌ قَبْل أَنْ يَحِل الدَّيْنُ فَإِذَا حَل الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ فَلَهُ بِكُل يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ [حديث بريدة: «من أنظر معسرآ فله بكل. . .». أخرجه أحمد (٥ / ٣٦٠ ط الميمنية)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (٤ / ١٣٥ ط القدسي): رجاله رجال الصحيح]، وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ [حديث: «من أنظر معسرًا أو وضع عنه. . .». أخرجه مسلم (٤ / ٢٣٠٢ ط عيسى الحلبي) من حديث أبي اليسر]، وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَكَانَ مُوسِرًا فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ قَال: قَال اللَّهُ تعالى: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ تَجَاوَزُوا عَنْهُ. [حديث: «حوسب رجل ممن كان قبلكم. . .». أخرجه مسلم (٣ / ١١٩٦ ط عيسى الحلبي) من حديث أبي مسعود].
(ر: إِعْسَارٌ ف ١٥) . [الموسوعة الفقهية الكويتية، (39 / 409 – 410)].
(المسألة الثالثة): ١٣ – باب: فضل إنظار المعسر
قال اللَّه تعالى: ﴿فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ [سورة البقرة: ٢٨٠] أي: يسار.
– عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس اللَّه عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر اللَّه عليه في الدنيا والآخرة».
رواه مسلم في العلم (٢٦٩٩)
– عن عبد اللَّه بن أبي قتادة أن أبا قتادة طلب غريما له، فتوارى عنه، ثم وجده، فقال: إني معسر. فقال: آللَّه. قال: آللَّه. قال: فإني سمعت رسول اللَّه ﷺ يقول: «من سره أن ينجيه اللَّه من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه».
صحيح: رواه مسلم في المساقاة (١٥٦٣)
– عن أبي قتادة قال: سمعت رسول اللَّه ﷺ يقول: «من نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة».
صحيح: رواه أحمد (٢٢٥٥٩)، والدارمي (٢٦٣١)، والبغوي في «شرح السنة» (٢١٤٣) كلهم من حديث عفان بن مسلم، نا حماد بن سلمة، نا أبو جعفر الخطمي، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي قتادة فذكره. وإسناده صحيح.. [الجامع الكامل في الحديث الصحيح].
(المسألة الرابعة): في مشاهد المؤمنين يوم القيامة من يغبطون في موقف الحساب:
«من أنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَع عنه، أظلَّه الله تعالى في ظل عرشه»؛ لأنه لما جعله في ظِلِّ الإنظار والصبر، ونجاه من حَرِّ المطالبة، وحرارة تَكَلُّفِ الأداء مع عسرته وعجزه نجَّاه الله تعالى من حر الشمس يوم القيامة إلى ظل العرش. [الوابل الصيب – ط عطاءات العلم ١/٨١].
[تنبيه]: سبق وأن مر ذكر ما يتعلق بظل الله عزوجل.
(المسألة الخامسة ): الفتاوى
٢٦ – حكم خصم الدين من الزكاة عن تارك الصلاة المعسر
س: السائل أ. ب. ر: هل يجوز خصم دَين على معسر من قيمة الزكاة الواجبة؟ وإذا كان الجواب بنعم، ما هي شروط ذلك؟ وإذا كان المعسر لا يصلي، هل يجوز ذلك أيضًا؟ (١) (٢)
ج: لا يجوز خصم الدَّين عن الزكاة، ولكن ينظر المعسر، وأمَّا أن يعتبر دينه على المعسرين من الزكاة فلا؛ لأن هذا وقاية لدينه، لماله؛ لأنّه يخشى أن يضيع عليه المال الذي عند المعسر، فيجعله وقاية لماله، لا، فالزكاة إعطاء، الزكاة إيتاء، يؤتي المال الذي عنده، أمَّا الدَّين الذي على المعسر، فهذا ينظر فيه حتى يوفِّي الله عنه؛ لأنّ الله تعالى يقول: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ فلا يجوز جعله زكاة، وإذا كان لا يصلي لا يُعطى من الزكاة؛ لأن ترك الصلاة كفر، نسأل الله العافية، إلا إذا كان مؤلّفًا من المؤلفة قلوبهم، من رؤساء العشائر، من الكبار الذين يرجى بإسلامهم وقوة إيمانهم أن يسلم نظراؤهم ليقوى إيمانهم ويقتدى بهم؛ لأنّ الله جعل للمؤلفة حقًّا في الزكاة إذا كانوا ممّن يطاع من الرؤساء والأعيان الذين يرجى بإسلامهم إسلام نظرائهم، وقوة إيمانهم قوة إيمان نظرائهم.
[فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر ١٥/٥٢].
المطلب الثالث :
لَعْنُ الْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ:
المسألة الأولى – وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَعْنُ الْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ [إحياء علوم الدين ٣ / ١١٩، والأذكار ص٥٤٥ – ٥٤٦، والقليوبي ٣ / ٢٠٤]؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ عِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه، قَال: بَيْنَمَا رَسُول اللَّهِ ﷺ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَامْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُول اللَّهِ ﷺ، فَقَال: خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ. قَال عِمْرَانُ: فَكَأَنِّي أَرَاهَا الآْنَ تَمْشِي فِي النَّاسِ مَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ [أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٠٤)]. [الموسوعة الفقهية الكويتية، (35/ 272 – 274)].
(المسألة الثانية ): ما يستفاد مما سبق وغيرها من أحكام اللعان:
1 – (منها): بيان الزجر عن لعن شيء من الدوابّ وغيرها، وقد بيّن النبيّ ﷺ علة المنع بأنه مخافة أن يوافق ساعة الإجابة، فيستجاب الدعاء، فيتضرّر بذلك صاحبه، فقد أخرج مسلم من حديث جابر رضي الله عنه الطويل الآتي أواخر الكتاب، قال: سرنا مع رسول الله ﷺ في غزوة بطن بُواط، وهو يطلب الْمَجْديّ بن عمرو الْجُهنيّ، وكان الناضح يعقبه منا الخمسة، والستة، والسبعة، فدارت عقبة رجل من الأنصار على ناضح له، فأناخه، فركبه، ثم بعثه، فتَلَدّن عليه بعض التلَدُّن، فقال له: شَأْ لَعَنَك الله، فقال رسول الله ﷺ: «من هذا اللاعن بعيره؟» قال: أنا يا رسول الله، قال: «انزِلْ عنه، فلا تصحبنا بملعون، لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعةً يُسأل فيها عطاءٌ، فيستجيبَ لكم».
2 – (ومنها): أنه يُستفاد من الحديث جواز العقوبة في المال لمن جنى فيه بما يناسب ذلك، قاله القرطبيّ رحمه الله [»المفهم«٦/ ٥٨١].
3 – (ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: إنما قال ﷺ هذا لهذه المرأة زجرًا لها، ولغيرها، وكان قد سَبَق نهيها، ونهيُ غيرها عن اللعن، فعوقبت بإرسال الناقة، والمراد: النهي عن مصاحبته لتلك الناقة في الطريق، وأما بيعها، وذَبْحها، وركوبها في غير مصاحبته ﷺ، وغير ذلك من التصرفات التي كانت جائزة قبل هذا، فهي باقية على الجواز؛ لأن الشرع إنما ورد بالنهي عن المصاحبة، فبقي الباقي كما كان. انتهى [»شرح النوويّ«١٦/ ١٤٧ – ١٤٨].
وقال القرطبيّ رحمه الله: حَمَل بعض الناس قوله ﷺ: «فإنها ملعونة» على ظاهره، فقال: أطلع الله تعالى نبيّه ﷺ على أن هذه الناقة قد لَعَنها الله تعالى، وقد استُجيب لصاحبتها فيها، فإن أراد هذا القائل أن الله تعالى لعن هذه الناقة كما يلعن من استحقّ اللعنة من المكلّفين كان ذلك باطلًا؛ إذ الناقة ليست بمكلّفة، وأيضًا فإنَّ الناقة لم يصدُر منها ما يوجب لَعْنها، وإن أراد أن هذه اللعنة إنما هي عبارة عن إبعاد هذه الناقة عن مالكتها، وعن استخدامها إياها، فتلك اللعنة إنما ترجع لصاحبتها؛ إذ قد حيل بينها وبين مالها، ومُنعت الانتفاع بها، لا للناقة؛ لأنها قد استراحت من ثِقَل الحَمْل، وكَدّ السير.
فإنْ قيل: فلعلَّ معنى لعنة الله الناقة: أن تُترك، وأن لا يتعرّض لها أحد.
فالجواب: أن معنى تَرْك الناس لها إنما هو أنهم لم يؤووها إلى رحالهم، ولا استعملوها في حَمْل أثقالهم، فأمَّا أن يتركوها في غير مَرْعَى، ومن غير عَلَف حتى تَهْلِك، فليس في الحديث ما يدلّ عليه.
ثم هو مخالف لقاعدة الشرع في الأمر بالرفق بالبهائم، والنهي عن تعذيبها، وإنما كان هذا منه ﷺ تأديبًا لصاحبتها، وعقوبةً لها فيما دَعَت عليها بما دَعَت به. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى [»المفهم” ٦/ ٥٨٠ – ٥٨١].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: وممن ذهب إلى أن سبب قوله ﷺ: «وَدَعُوها، فإنها ملعونة» استجابة دعاء المرأة على تلك الناقة ابن حبّان في «صحيحه»، فإنه قال: أمْر المصطفى ﷺ بتسييب الراحلة التي لُعنت أمْر أُضمر فيه سببه، وهو حقيقة استجابة الدعاء للّاعن، فمتى عُلم استجابة الدعاء من لاعنٍ مّا راحلةً له، أمرناه بتسييبها، ولا سبيل إلى علم هذا؛ لانقطاع الوحي، فلا يجوز استعمال هذا الفعل لأحد أبدًا، ثم استدلّ على ذلك بحديث أبي برزة الأسلميّ رضي الله عنه المذكور هنا بعد هذا [«صحيح ابن حبان» ١٣/ ٥٣].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن سبب أمْره ﷺ بتسييب تلك الناقة هو تأديب صاحبتها، ومعاقبتها عليها، كما ذهب إليه النوويّ، والقرطبيّ، وغيرهما، وليس حديث أبي برزة رضي الله عنه نصًّا فيما قاله ابن حبّان، فما قالوه أَولى، وأقرب مما قاله، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.
4 – (ومنها): بيان التحذير عن كثرة اللعن، وأنه ينافي صفة الإيمان، ولذا جاء في حديث الترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: «لا ينبغي للمؤمن أن يكون لَعّانًا»، وفي لفظ: «لا يكون المؤمن لَعّانًا»، قال الترمذيّ: حديث حسن، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا عند الترمذيّ أيضًا، وصححه ابن حبّان: «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا البذيء ولا الفاحش».
5 – (ومنها): بيان أن مرتبة الصدّيقين أرفع مراتب المؤمنين، حيث إنهم متّصفون بالرحمة، والشفقة على عباد الله، فلا يكونون لعّانين، ولا طعّانين، أخرج البخاريّ في «الأدب المفرد» [١/ ١١٨]، والبيهقيّ في «شُعب الإيمان» [٤/ ٢٩٤] عن عائشة رضي الله عنه، أن أبا بكر لعن بعض رقيقه، فقال النبيّ ﷺ: «يا أبا بكر اللعّانون، والصدّيقون، كلّا ورب الكعبة»، مرتين، أو ثلاثًا، فأعتق أبو بكر يومئذ بعض رقيقه، ثم جاء النبيّ ﷺ، فقال: لا أعود.
6 – (ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: فيه الزجر عن اللعن، وأن من تخلَّق به لا يكون فيه هذه الصفات الجميلة؛ لأن اللعنة في الدعاء يراد بها الإبعاد من رحمة الله تعالى، وليس الدعاء بهذا من أخلاق المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى بالرحمة بينهم، والتعاون على البرّ والتقوى، وجعلهم كالبنيان، يَشُدّ بعضه بعضًا، وكالجسد الواحد، وأن المؤمن يُحِب لأخيه ما يحبّ لنفسه، فمن دعا على أخيه المسلم باللعنة، وهي الإبعاد من رحمة الله تعالى، فهو من نهاية المقاطعة والتدابر، وهذا غاية ما يَوَدّه المسلم للكافر، ويدعو عليه، ولهذا جاء في الحديث الصحيح «لعنُ المؤمن كقتله»؛ لأن القاتل يقطعه عن منافع الدنيا، وهذا يقطعه عن نعيم الآخرة، ورحمةِ الله تعالى، وقيل: معنى لعن المؤمن كقتله في الإثم، وهذا أظهر. انتهى [«شرح النوويّ» ١٦/ ١٤٨ – ١٤٩].
7 – (ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله أيضًا: إنما قال النبيّ ﷺ: «لا ينبغي لصدّيق أن يكون لعّانًا»، و«لا يكون اللعانون شفعاء» بصيغة التكثير، ولم يقل: لاعنًا، ولا اللاعنون؛ لأن هذا الذمّ في الحديث إنما هو لمن كَثُر منه اللعن، لا لمرّة ونحوها، ولأنه يخرج منه أيضًا اللعن المباح، وهو الذي ورد الشرع به، وهو: لعنة الله على الظالمين، لَعَن الله اليهود والنصارى، لعن الله الواصلة، والواشمة، وشارب الخمر، وآكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، والمصوِّرين، ومن انتمى إلى غير أبيه، وتولّى غير مواليه، وغَيَّر منار الأرض، وغيرهم مما هو مشهور في الأحاديث الصحيحة. انتهى، والله تعالى أعلم [«شرح النوويّ» ١٦/ ١٤٨ – ١٤٩]. [البحر المحيط الثجاج، من مواضع متفرقة].
وانظر المسألة في: كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها.
وكذلك في صحيح مسلم بَابٌ: مَنْ لَعَنَهُ النَّبِيُّ ﷺ أَوْ سَبَّهُ أَوْ دَعَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هُوَ أَهْلًا لِذَلِكَ كَانَ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا وَرَحْمَةً
٨٨ – (٢٦٠٠) حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ ، عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي الضُّحَى ، عَنْ مَسْرُوقٍ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ رَجُلَانِ، فَكَلَّمَاهُ بِشَيْءٍ لَا أَدْرِي مَا هُوَ فَأَغْضَبَاهُ، فَلَعَنَهُمَا وَسَبَّهُمَا، فَلَمَّا خَرَجَا قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَصَابَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا مَا أَصَابَهُ هَذَانِ قَالَ: وَمَا ذَاكِ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: لَعَنْتَهُمَا وَسَبَبْتَهُمَا قَالَ: أَوَ مَا عَلِمْتِ مَا شَارَطْتُ عَلَيْهِ رَبِّي؟ قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ لَعَنْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا .»
٨٩ – (٢٦٠١) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ ، حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اللَّهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبَبْتُهُ، أَوْ لَعَنْتُهُ، أَوْ جَلَدْتُهُ فَاجْعَلْهَا لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً .»
٩٠ – (٢٦٠١) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيَّ ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ، شَتَمْتُهُ، لَعَنْتُهُ، جَلَدْتُهُ فَاجْعَلْهَا لَهُ صَلَاةً، وَزَكَاةً، وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .»