(467) و (468) و (469) و (470) و (471) و (472) و (473) و (474) عبق الياسمين شرح رياض الصالحين
سلطان الحمادي
بالتعاون مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘-
باب فضل الزهد في الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقر
(467) – -وعنهُ عن رَسُولِ اللَّه ? قَالَ: «يَتْبَعُ المَيِّتَ ثَلاثَةٌ: أَهْلُهُ وَمالُهُ وَعَمَلُهُ: فَيَرْجِعُ اثْنَانِ. وَيَبْقَى معه وَاحدٌ: يَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ» متفقٌ عَلَيهِ
مر معنا في باب المجاهدة
(468) – وعنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ?: «يُؤْتِيَ بَأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِن أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعيمٌ قَطُّ؟ فيقول: لا واللَّه يارَبِّ. وَيُؤْتِى بأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا في الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةُ قَطُّ؟ فيقولُ: لاَ، وَاللَّه، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ» رواه مسلم.
يؤتى) بالبناء للمفعول ونائب الفاعل الظرف بعده والفاعل إما الله تعالى لأنه الموجد للجميع، وإما الملائكة لأنهم المنتصبون في ذلك بأمره (دليل الفالحين)
يؤتى بأنعم أهل الدنيا) الباء للتعدية؛ أي: بأشدهم تنعما، وأكثرهم ظلما؛ لقوله: (من أهل النار).
قال ابن باز:” يؤتى به يوم القيامة بعدما يدخل النار ويذزق شرها وبلاءها. (شرح رياض الصالحين (2) / (219))
قوله صلى الله عليه وسلم: (فيصبغ في النار صبغة) الصبغة – بفتح الصاد – أي: يغمس غمسة (شرح مسلم للنووي) قال ابن الأثير:” (فيصبغ) أي: يغمس في النار أو الجنة غمسة، كأنه يدخل إليها إدخالة واحدة.” (جامع الأصول) يغمس كما يغمس الثوب فى الصبغ. «النهاية
(يا ابن آدم، هل رأيت خيرا)؛ أي: نعمة (قط؟)؛ أي: فيما مضى من زمانك، (هل مر بك نعيم قط؟)؛ أي: في زمان من الأزمنة، وفي رواية عبد بن حميد: “فيقول الله ?: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط، أو قرة عين قط؟ فيقول: لا وعزتك”، قال القاري:” وفي الكلام مبالغة لا تخفى، حيث أوقع الاستفهام على مجرد الرؤية، والمرور، دون الذوق، والتمتع، والسرور (مرقاة المفاتيح)
فيقول: لا والله يا رب) نفي مؤكد بالقسم، والنداء في الجواب؛ لما أنسته شدة العذاب ما مضى عليه من نعيم الدنيا، أو ما بعده من النعيم نظرا إلى مآله، وسوء حاله، فأي نعيم آخره الجحيم، وأي شدة مآلها الجنة،
وقال ابن الجوزي ?: هذا الحديث يحث على مراعاة العواقب، فإن التعب إذا أعقب الراحة هان، والراحة إذا أثمرت النصب، فليست راحة، فالعاقل من نظر في المآل، لا في عاجل الحال، وقد كشف هذا المعنى حديث أنس ? الآتي عند مسلم (^ (2)): “حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات”، وقد قالت الحكماء: لا تنال الراحة بالراحة، وقيل: إن يلمع برق لذة، إلا وتقع صاعقة ندم. انتهى (كشف المشكل)
قال ابن باز:” هذه الدار ليست دار إقامة وليست دار خلد وليست دار نعيم حتى تؤثر على الآخرة، بل هي دار زوال، ودار انتقال، ودار عمل، فالواجب أن يُعد فيها العدة لآخرته، وأن يحذر أن يغتر بالدنيا وزينتها ومتاعها العاجل، والزهد فيها معناه عدم التعلق بها، وعدم الركون إليها حتى تشغلهم عن الآخرة وليس المراد تركها بالكلية لا يعمل فيها وأن يطلب الرزق وأن يسعى لكسب الحلال حتى يستغني عما في أيدي الناس، كما قال: احْرِضْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجِزُ (?) وسُئل عليه الصلاة والسلام: أي الكسب أفضل؟ قال: بَيْعٌ مَبْرُورٌ، وَعَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ» (?) فأفضل الأكساب عملك بيدك لطلب الرزق من نجارة، حدادة، خرازة، زراعة كتابة وغير ذلك من الأعمال التي تعملها، وهكذا التجارة وطلب الرزق …
وقال أيضا:” يغلط كثير من الناس ويحسب أن الزهد في الدنيا تركها وأن يبقى بالمسجد أو يبقى يسأل الناس، لا، الزهد فيها عدم إيثارها على الآخرة وعدم الركون إليها حتى تشغله عن الحق وعن طاعة الله ورسوله. (شرح رياض الصالحين لابن باز (2) / (218))
وفي هذا الحديث: أن الإنسان يوم القيامة ينسى ما كان فيه في الدنيا من نعيم، أو شقاء.
قال فيصل آل مبارك:” عذاب الآخرة ينسي نعيم الدنيا، وأن نعيم الآخرة ينسي شدَّة الدنيا.”
مما جاء في الزهد عن السلف
عن الرَّبِيْعَ، قَالَ لِيَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْكَ بِالزُّهْدِ، فَإِنَّ الزُّهْدَ عَلَى الزَّاهِدِ أَحْسَنُ مِنَ الحُلِيِّ عَلَى المَرْأَةِ النَّاهِدِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى، عَنْ بِشْرٍ بن الحارث: لَيْسَ أَحَدٌ يُحِبُّ الدُّنْيَا إِلاَّ لَمْ يُحِبَّ المَوْتَ، وَمَنْ زَهِدَ فِيْهَا، أَحَبَّ لِقَاءَ مَوْلاَهُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: كَانَتْ مَجَالِسُ أَحْمَدَ مَجَالِسَ الآخِرَةِ، لاَ يُذكَرُ فِيْهَا شَيْءٌ مِنْ أَمرِ الدُّنْيَا، مَا رَأَيْتُهُ ذَكَرَ الدُّنْيَا قَطُّ.
كَتبَ إِلَيَّ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ، سَمِعْتُ أَبِي، وَذَكَرَ الدُّنْيَا، فَقَالَ: قَلِيْلُهَا يُجْزئُ، وَكَثِيْرُهَا لاَ يُجْزئُ.
وَقَالَ أَبِي – وَقَدْ ذُكرَ عِنْدَهُ الفَقْرُ – فَقَالَ: الفَقْرُ مَعَ الخَيْرِ.
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بنُ هَانِئٍ، قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ:
بَكِّرْ حَتَّى نُعَارِضَ بشَيْءٍ مِنْ الزُّهْدِ ((1)).
فَبَكَّرْتُ إِلَيْهِ، وَقُلْتُ لأُمِّ وَلَدِهِ: أَعطِينِي حَصِيرًا وَمِخَدَّةً.
وَبَسَطتُ فِي الدِّهْلِيْزِ، فَخَرَجَ أَبُو عَبْدِ اللهِ، وَمَعَهُ الكُتُبُ وَالمِحْبرَةُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟
فَقُلْتُ: لِنَجْلِسَ عَلَيْهِ.
فَقَالَ: ارفَعْهُ، الزُّهْدُ لاَ يَحْسُنُ إِلاَّ بِالزُّهْدِ.
فَرَفَعْتُه، وَجَلَسَ عَلَى التُّرَابِ.
قال الذهبي:” الطريقة المثلى هي المحمدية، وهو الأخذ من الطيبات، وتناول الشهوات المباحة من غير إسراف، كما قال -تعالى -: {يا أيها الرسل، كلوا من الطيبات واعملوا صالحا} [المؤمنون: (51)].
وقد قال النبي ?: (لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآتي النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي، فليس مني ((3)»، فلم يشرع لنا الرهبانية ((4))، ولا التمزق ولا الوصال، بل ولا صوم الدهر، ودين الإسلام يسر وحنيفية سمحة، فليأكل المسلم من الطيب إذا أمكنه، كما قال تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته} [الطلاق: (7)]، وقد كان النساء أحب شيء إلى نبينا ((1)) ? وكذلك اللحم والحلواء والعسل والشراب الحلو البارد والمسك، وهو أفضل الخلق وأحبهم إلى الله -تعالى-.
ثم العابد العري من العلم، متى زهد وتبتل وجاع، وخلا بنفسه، وترك اللحم والثمار، واقتصر على الدقة والكسرة، صفت حواسه ولطفت، ولازمته خطرات النفس، وسمع خطابا يتولد من الجوع والسهر، لا وجود لذلك الخطاب -والله- في الخارج، وولج الشيطان في باطنه وخرج، فيعتقد أنه قد وصل، وخوطب وارتقى، فيتمكن منه الشيطان، ويوسوس له، فينظر إلى المؤمنين بعين الازدراء، ويتذكر ذنوبهم، وينظر إلى نفسه بعين الكمال، وربما آل به الأمر إلى أن يعتقد أنه ولي، صاحب كرامات وتمكن، وربما حصل له شك، وتزلزل إيمانه.
فالخلوة والجوع أبو جاد الترهب، وليس ذلك من شريعتنا في شيء.
بلى، السلوك الكامل هو الورع في القوت، والورع في المنطق، وحفظ اللسان، وملازمة الذكر، وترك مخالطة العامة، والبكاء على الخطيئة، والتلاوة بالترتيل والتدبر، ومقت النفس وذمها في ذات الله، والإكثار من الصوم المشروع، ودوام التهجد، والتواضع للمسلمين، وصلة الرحم، والسماحة وكثرة البشر، والإنفاق مع الخصاصة، وقول الحق المر برفق وتؤدة، والأمر بالعرف، والأخذ بالعفو، والإعراض عن الجاهلين، والرباط بالثغر، وجهاد العدو، وحج البيت، وتناول الطيبات في الأحايين، وكثرة الاستغفار في السحر، فهذه شمائل الأولياء، وصفات المحمديين – أماتنا الله على محبتهم -.
(469) – وعن المستورد بن شداد ?، قال: قال رسول الله ?: ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم. فلينظر بم يرجع؟ ” رواه مسلم.
قوله فلينظر بم ترجع)، وفي رواية: ” وأشار إسماعيل بالإبهام “، هكذا هو في نسخ بلادنا: ” بالإبهام “، وهي الأصبع العظمى المعروفة، وكذا نقله القاضي عن جميع الرواة إلا السمرقندي، فرواه: ” البهام “، قال: وهو تصحيف، قال القاضي: ورواية السبابة أظهر من رواية الإبهام وأشبه بالتمثيل؛ لأن العادة الإشارة بها لا بالإبهام، ويحتمل أنه أشار بهذه مرة وهذه مرة. (شرح مسلم للنووي)
قال النووي:”
ومعنى الحديث: ما الدنيا بالنسبة إلى الآخرة في قصر مدتها، وفناء لذاتها، ودوام الآخرة، ودوام لذاتها ونعيمها إلا كنسبة الماء الذي يعلق بالأصبع إلى باقي البحر.
قال القرطبي:” وهذا مثل لحقارة الدنيا وقلتها، وهو نحو قوله تعالى: {قل متاع الدنيا قليل} أي: كل شيء يتمتع به في الدنيا من أولها إلى آخرها قليل، إذ لا بقاء له ولا صفو فيه، وهذا بالنسبة إلى نفسها، وأما بالنسبة إلى الآخرة، فلا خطر، ولا قدر للدنيا، وهذا هو المقصود بتمثيل هذا الحديث، حيث قال: فلينظر بماذا يرجع. ووجه هذا التمثيل أن القدر الذي يتعلق بالإصبع من ماء البحر لا قدر له ولا خطر، وكذلك الدنيا بالنسبة إلى الآخرة. (المفهم)
قال القاري:” وحاصله: أن منح الدنيا، ومحنها في كسب الجاه والمال من الأمور الفانية السريعة الزوال، فلا ينبغي لأحد أن يفرح، ويغتر بسعتها، ولا يجزع، ويشكو من ضيقها، بل يقول في الحالتين: “لا عيش إلا عيش الآخرة”، فإنه ? قاله مرة في يوم الأحزاب، وأخرى في حجة الوداع، وجمعية الأصحاب، ثم ليعلم أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الدنيا ساعة، فيصرفها في الطاعة (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح” (15) / (38).
قال الطيبي ?: قوله: “فلينظر بم يرجع” وضع موضع قوله: فلا يرجع بشيء، كأنه ? يستحضر تلك الحالة في مشاهدة السامع، ثم يأمره بالتأمل والتفكر، هل يرجع بشيء أم لا؟ وهذا تمثيل على سبيل التقريب، وإلا فأين المناسبة بين المتناهي، وغير المتناهي.
قال ابن باز:” يعني: في البحر فينظر بم يرجع لا يرجع بشيء لا يعلق بها شيء كما يدخل أحدنا أصبعه في البحر ثم يرفعها ماذا يعلق بها من البحر، لا شيء فالدنيا لا قيمة لها بالنسبة للآخرة؛ لأن الآخرة نعيمها لا يفنى مطرد دائم، وأما هذه الدار فنعيمها مؤقت وإن عشت ألف عام فأنت منتهٍ منها متنقل عنها، كيف وبقاؤك فيها مدة يسيرة ستين عاماً عاماً إن عشت ثم تنتقل إلى دار الجزاء إما الجنة وإما النار. (شرح رياض الصالحين (2) / (220))
(470) – وعن جابرٍ أَنَّ رسولَ اللَّه ? مَرَّ بِالسُّوقِ وَالنَّاسُ كنفته، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ، فَأَخَذَ بَأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ: “أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟ “فَقالوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ ثُمَّ قَالَ:”أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟ قَالُوا: وَاللَّه لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فيه، لأنه أَسَكُّ. فكَيْفَ
وَهو مَيَّتٌ، فقال:”فَوَ اللَّه للدُّنْيَا أَهْونُ عَلى اللَّه مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ” رواه مسلم.
قوله”كنفته”أَيْ: عن جانبيه. وَ”الأَسكُّ”الصغير الأُذُن
مر بالسوق: قال ابن علان:” سميت بذلك لسوق الناس بضائعهم إليها أو لأنهم يقومون فيها على سوقهم أو لتصاكك السوق فيها من الازدحام” (دليل الفالحين)
قوله: (والناس كنفته)، وفي بعض النسخ: ” كنفتيه “، معنى الأول: جانبه، والثاني: جانبيه.
قوله: (جدي أسك) أي: صغير الأذنين.
قال القاضي:” اسك قيل هُوَ الصَّغِير الْأُذُنَيْنِ الملتصقهما وَهُوَ أَيْضا الَّذِي لَا أذنان لَهُ وَالَّذِي قطعت أذنَاهُ سككته اصطلمت أُذُنَيْهِ وَهُوَ أَيْضا الْأَصَم الَّذِي لَا يسمع” (المشارق)
قال ابن الأنباريّ: هو الذَّكر من أولاد المعز، والأنثى عَنَاق، وقيّده بعضهم بكونه في السنة الأُولى، والجمع أَجْدٍ، وجِدَاءٍ، مثل دَلْوٍ وأَدْلٍ، وَدِلاءٍ، والجِدْيُ بالكسر لغة رديئة، (المصباح المنير)
قال ابن باز: ” الجدي: التيس الصغير”
جاء في مسند أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِسَخْلَةٍ جَرْبَاءَ قَدْ أَخْرَجَهَا أَهْلُهَا، فَقَالَ: ” أَتَرَوْنَ هَذِهِ هَيِّنَةً عَلَى أَهْلِهَا؟ “. قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: ” لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هَذِهِ عَلَى أَهْلِهَا “.
ولد المعز أو الضأن ذكرا أو أنثى
وأيضا في مسند أحمد عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: كُنْتُ فِي رَكْبٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ مَرَّ بِسَخْلَةٍ مَيْتَةٍ مَنْبُوذَةٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” أَتَرَوْنَ هَذِهِ هَانَتْ عَلَى أَهْلِهَا؟ ” فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِنْ هَوَانِهَا أَلْقَوْهَا. قَالَ: ” فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى أَهْلِهَا “.
ميت فتناوله) فيه دليل على أن لمس النجس إذا لم تكن رطوبة من أحد الجانبين لا ينجس (فأخذ بأذنه) كان الأخذ بها لمزيد الحقارة،
(نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ) مقابل له جليل أو حقير،
قال القرطبيّ ?: الدُّنيا: وزنها فُعْلى، وألفها للتأنيث، وهي من الدنوّ بمعنى القُرْب، وهي صفة لموصوف محذوف، كما قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: (185)]، غير أنه قد كَثُر استعمالها استعمال الأسماء، فاستُغني عن موصوفها، كما جاء في هذا الحديث. والمراد: الدار الدنيا، أو الحياة الدنيا التي تقابلها الدار الأخرى، أو الحياة الأخرى، ومعنى هوان الدنيا على الله: أن الله تعالى لم يجعلها مقصودة لذاتها، بل جعلها طريقًا موصلًا إلى ما هو المقصود لذاته، وأنه لم يجعلها دار إقامة، ولا جزاء، وإنَّما جعلها دار رِحلة، وبلاء، وأنه مَلَكها في الغالب الكفرة والجهال، وحماها الأنبياء، والأولياء، وقد أوضح النبيّ ? هذا المعنى، فقال: “لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء” (^ (1))، وحسبك بها هوانًا أن الله تعالى قد صغّرها، وحقّرها، وذمَّها، وأبغضها، وأبغض أهلها، ومحبيها، ولم يرض لعاقل فيها إلا بالتزوّد منها، والتأهب للارتحال عنها، (المفهم)
(فوالله للدنيا اهون على الله من هذا عليكم) لأنها ليس لا قيمة عند الله إلا لمن عمّرها بالخير.
جاء في صحيح مسلم (لأن أقول سبحان الله والحمدلله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس)
قال ابن باز:” هو الحذر من إيثار هذه العاجلة والشغل بها عن الله وعن الدار الآخرة، أو تعاطي ما حرم الله منها، أو تعاطي ما يصده عن أداء الواجب وترك المُحرَّم، أما الشغل بها فيما أباح الله من الكسب الحلال والنفقة في الخير والغُنية عما في أيدي الناس، فهذا أمر مطلوب شرعاً ولازم للإنسان
قال ابن عثيمين:” فهذا جدي ميت لا يساوي شيئًا، ومع ذلك فالدنيا أهون وأحقر عند الله تعالى من هذا الجدي الأسك الميت، فهي ليست بشيء عند الله، ولكن من عمل فيها عملًا صالحًا؛ صارت مزرعة له في الأخرة، ونال فيها
السعادتين: سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
أما من غفل وتغافل وتهاون ومضت الأيام عليه وهو لم يعمل؛ فإنه يخسر الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: (ِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الزمر: (15))، وقال تعالى: (وَالْعَصْرِ) (إِنَّ الْإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر: (3): (1)).
وكل بني آدم خاسر إلا هؤلاء الذين جمعوا هذه الأوصاف الأربعة: آمنوا، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر. جعلنا الله وإياكم منهم.”
(471) – وعن أَبي ذرٍّ ?، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ ?، في حَرَّةٍ بِالمَدِينَةِ، فَاسْتَقْبلَنَا أَحُدٌ فقال: «يَا أَبَا ذَرٍّ». قلت: لَبَّيْكَ يَا رسولَ اللَّه. فقال: «مَا يَسُرُّني أَنَّ عِنْدِي مِثل أَحُدٍ هَذَا ذَهبًا تَمْضِي عَلَيَّ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ وعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ، إِلاَّ شَيْءٌ أَرْصُدُهُ لِدَيْنِ، إِلاَّ أَنْ أَقُولَ بِهِ في عِبَاد اللَّه هكَذَا وَهَكَذا» عن يَمِينهِ وعن شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، ثُمَّ سَارَ فقال: «إِنَّ الأَكثَرِينَ هُمُ الأَقَلُّونَ يَومَ القيامةِ إِلاَّ مَنْ قَالَ بالمَالِ هكذَا وَهكَذَا» عن يمينهِ، وعن شمالهِ، ومِنْ خَلفه «وَقَليلٌ مَا هُمْ». ثُمَّ قَالَ لي: «مَكَانَك لاَ تَبْرَحْ حَتَّى آتيَكَ». ثُمَّ انْطَلَقَ في سَوَادِ اللَّيْلِ حَتَّى تَوَارَى، فسمِعْتُ صَوْتًا قَدِ ارْتَفَعَ، فَتَخَوَّفْتُ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ عَرَضَ للنَّبِيِّ ? فَأَرَدْتُ أَنْ آتِيَهُ فَذَكَرْتُ قَوْله: «لا تَبْرَحْ حَتَّى آتيَكَ» فلم أَبْرَحْ حَتَّى أَتَاني، فَقُلْتُ: لَقَدْ سَمِعْتُ صَوتًا تَخَوَّفْتُ مِنْهُ، فَذَكَرْتُ لَهُ. فقال: «وَهَلْ سَمِعْتَهُ؟» قلت: نَعَم، قَالَ: «ذَاكَ جِبريلُ أَتاني فقال: مَن ماتَ مِنْ أُمتِكَ لايُشرِكُ باللَّه شَيئًا دَخَلَ الجَنَّةَ، قلتُ: وَإِنْ زَنَي وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» متفقٌ عليه. وهذا لفظ البخاري.
(كنت أمشي مع النبي) فيه كمال تواضعه مع أصحابه وعدم ترفعه على أحد منهم. (دليل الفالحين لابن علان)
(في حَرَّةٍ بِالمَدِينَةِ،) قَالَ الْأَصْمَعِي الْحرَّة الأَرْض الَّتِي ألبسها حِجَارَة سَوْدَاء وَقَالَ اللَّيْث الْحرَّة أَرض ذَات حِجَارَة سود نخرة كَأَنَّهَا أحرقت بالنَّار وَمِنْه حرَّة الْمَدِينَة. (غريب الحديث لابن الجوزي) قال ابن حجر: ” وَالْحَرَّةُ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ الْمَشْهُورُ مِنْهَا اثْنَتَانِ حَرَّةُ وَاقِمٍ وَحَرَّةُ لَيْلَى” وهما الحرتين حرة شرقية وحرة غربية، تقع المدينة بينهما، تقع بين حرتين.
قوله: (فاستقبلنا أحد) في رواية عبد العزيز بن رفيع: ” فالتفت فرآني ” (فتح الباري) أحد الجبل المعروف في الصحيحين ” وهذا أحد. وهو جبل يحبنا ونحبه”
قوله: (فقال: يا أبا ذر، فقلت: لبيك يا رسول الله)، في رواية عند أحمد: ” فقال: يا أبا ذر، أي جبل هذا؟ قلت: أحد “، وفي رواية الأحنف: ” يا أبا ذر، أتبصر أحدا؟ قال: فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار، وأنا أرى أن يرسلني في حاجة له، فقلت: نعم “. (فتح الباري)
فيه تكنية العالم تلميذه وتابعه تأنيسًا وتكريمًا، وهو من كمال فضله وحسن خلقه.، (دليل الفالحين لابن علان)
قوله: (ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا تمضي علي ثالثة وعندي منه دينار) في رواية حفص بن غياث: ” ما أحب أن لي أحدا ذهبا يأتي علي يوم وليلة أو ثلاث عندي منه دينار “،
قوله (تمضي علي ثلاثة) وفي رواية البخاري: (تمضي علي ثالثة) أي ليلة ثالثة، قيل: وإنما قيد بالثلاثة لأنه لا يتهيأ تفريق قدر أحد من الذهب في أقل منها غالبا، ويعكر عليه رواية: ” يوم وليلة “، فالأولى أن يقال: الثلاثة أقصى ما يحتاج إليه في تفرقة مثل ذلك، والواحدة أقل ما يمكن.
قوله: (إلا شيئا أرصده لدين) أي أعده أو أحفظه، وهذا الإرصاد أعم من أن يكون لصاحب دين غائب حتى يحضر فيأخذه، أو لأجل وفاء دين مؤجل حتى يحل فيوفى،
قوله: (إلا أن أقول به في عباد الله) هو استثناء بعد استثناء فيفيد الإثبات، فيؤخذ منه أن نفي محبة المال مقيدة بعدم الإنفاق، فيلزم محبة وجوده مع الإنفاق، فما دام الإنفاق مستمرا لا يكره وجود المال، وإذا انتفى الإنفاق ثبتت كراهية وجود المال، ولا يلزم من ذلك كراهية حصول شيء آخر، ولو كان قدر أحد أو أكثر مع استمرار الإنفاق.
قوله: (هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه) هكذا اقتصر على ثلاث وحمل على المبالغة؛ لأن العطية لمن بين يديه هي الأصل، والذي يظهر لي أن ذلك من تصرفات الرواة، وأن أصل الحديث مشتمل على الجهات الأربع،
ثم وجدته في الجزء الثالث من ” البشرانيات ” من رواية أحمد بن ملاعب عن عمر بن حفص بن غياث عن أبيه بلفظ: ” إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا وهكذا وأرانا بيده ” كذا فيه بإثبات الأربع.
قال ابن حجر:” وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَأَنَّ النَّبِيَّ ? كَانَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا” جاء في رواية عند البخاري قَالَ: النَّبِيُّ ?: يَا أَبَا ذَرٍّ، أَتُبْصِرُ أُحُدًا قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ، وَأَنَا أُرَى أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? يُرْسِلُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ، قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، أُنْفِقُهُ كُلَّهُ، إِلَّا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ”
وجاء عند البزار عن عبيد الله بن عباس ? قال: قال لي أبو ذر: يا ابنَ أخي! كنتُ مع رسول الله ? آخذًا بيده، فقال لي:
«يا أبا ذرٍ ما أُحبُّ أنَّ لي أُحُدًا ذهبًا وفضةً، أُنفِقُه في سبيل الله، أموتُ يومَ أموتُ أدعُ منه قِيراطًا».
قلت: يا رسول اللهِ قنطارًا؟ قال:
«يا أبا ذر! أذهبُ إلى الأقلِّ، وتذهبُ إلى الأكثرِ! أريدُ الآخرة، وتُريدُ الدنيا؟! قيراطًا؟!». فأعادها عليَّ ثلاث مرات. (صحيح الترغيب)
قال ابن عثيمين:” وهذا يدل على أن النبي ? من أزهد الناس في الدنيا؛ لأنه لا يريد أن يجمع المال إلا شيئًا يرصده لدين، وقد توفي ?
ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير أخذه لأهله.
ولو كانت الدنيا محبوبة إلى الله ? ما حرم منها نبيه ? ” فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما ولاه وعالمًا ومتعلمًا” وما يكون في طاعة الله ?.”
قوله: (ثم مشى ثم قال: ألا إن الأكثرين هم المقلون يوم القيامة) المراد الإكثار من المال والإقلال من ثواب الآخرة، وهذا في حق من كان مكثرا ولم يتصف بما دل عليه الاستثناء بعده من الإنفاق.
قال ابن عثيمين:” الغالب على من كثر ماله في الدنيا الغالب عليه الاستغناء والتكبر والإعراض عن طاعة الله؛ لأن الدنيا تلهيه، فيكون مكثرًا في الدنيا مقلًا في الآخرة”
قوله: (إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه) في رواية أبي شهاب: ” إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، وأشار أبو شهاب بين يديه وعن يمينه وعن شماله “، وفي رواية أبي معاوية عن الأعمش عند أحمد: ” إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا فحثا عن يمينه ومن بين يديه وعن يساره ” فاشتملت هذه الروايات على الجهات الأربع، وإن كان كل منها اقتصر على ثلاث،
وقد جمعها عبد العزيز بن رفيع في روايته، ولفظه: ” إلا من أعطاه الله خيرا – أي مالا – فنفح – بنون وفاء ومهملة أي أعطى كثيرا – بغير تكلف يمينا وشمالا وبين يديه ووراءه “،
وبقي من الجهات فوق وأسفل، والإعطاء من قبل كل منهما ممكن، لكن حذف لندوره، (فتح الباري)
إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا” يعني في المال وصرفه في سبيل الله ?. (ابن عثيمين)
(هكذا وهكذا وهكذا) في وجوه البر وأعمال الخير، فالمال نعمة، المال الصالح للرجل الصالح.
فيه: الحث على الصدقة في وجوه الخير، وأنه لا يقتصر على نوع من وجوه البر، بل ينفق في كل وجه من وجوه الخير يحضر. (شرح النووي)
وقد فسر بعضهم الإنفاق من وراء بالوصية، وليس قيدا فيه، بل قد يقصد الصحيح الإخفاء فيدفع لمن وراءه مالا يعطي به من هو أمامه،
وقوله: ” هكذا ” صفة لمصدر محذوف أي: أشار إشارة مثل هذه الإشارة، وقوله: ” من خلفه ” بيان للإشارة، وخص عن اليمين والشمال؛ لأن الغالب في الإعطاء صدوره باليدين. (فتح الباري)
وأما إشارته صلى الله عليه وسلم إلى قدام ووراء والجانبين فمعناها ما ذكرنا أنه ينبغي أن ينفق متى حضر أمر مهم. (شرح النووي)
قوله: (وقليل ما هم) قدم الخبر للمبالغة في الاختصاص.
ففيه التحريض على الإنفاق لأصحاب الأموال ليندرج في القليل الذي هو الجليل. (دليل الفالحين)
روى ابن أبي الدنيا وعن ابن عمر ? قال:
لا يُصيبُ عبدٌ مِنَ الدُّنيا شيْئًا إلا نَقَص مِنْ دَرَجاتِهِ عندَ الله؛ وإنْ كانَ عليه كَريِمًا. (صحيح الترغيب)
قوله: (ثم قال لي: مكانك) بالنصب أي: الزم مكانك، وقوله: ” لا تبرح ” تأكيد لذلك ورفع لتوهم أن الأمر بلزوم المكان ليس عاما في الأزمنة،
وقوله: ” حتى آتيك ” غاية للزوم المكان المذكور، وفي رواية حفص: ” لا تبرح يا أبا ذر حتى أرجع “، ووقع في رواية عبد العزيز بن رفيع: ” فمشيت معه ساعة فقال لي اجلس ههنا فأجلسني في قاع ” أي أرض سهلة مطمئنة.
قوله: (ثم انطلق في سواد الليل) فيه إشعار بأن القمر كان قد غاب.
قوله: (حتى توارى) أي: غاب شخصه.
قوله: (فسمعت صوتا قد ارتفع) في رواية أبي معاوية: ” فسمعت لغطا وصوتا “.
قوله: (فتخوفت أن يكون أحد عرض للنبي صلى الله عليه وسلم) أي تعرض له بسوء.
قوله: (فأردت أن آتيه) أي: أتوجه إليه،
قوله: (فذكرت قوله لا تبرح، فلم أبرح حتى أتاني) في رواية أبي معاوية عن الأعمش: ” فانتظرته حتى جاء “.
فيه حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم والحرص على سلامته صلى الله عليه وسلم.
كل مصيبة دون النبي صلى الله عليه وسلم فهي هينة، في البخاري وصفهم عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ ? قبل إسلامه، فقال: “وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ كَمَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا ?؛ إِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ “? ().
فيه عظم امتثال الصحابة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، مهما رأو في عقولهم، جاء في صحيح مسلم عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: … جائنا ذات بوم رَجُلٌ مَنْ عُمُومَتِي. فَقَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ ? عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا. وَطَوَاعِيَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْفَعُ لَنَا.
قال ابن تيمية: “وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ اعْتِصَامُهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَكَانَ مِنْ الْأُصُولِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ قَطُّ أَنْ يُعَارِضَ الْقُرْآنَ لَا بِرَايِهِ وَلَا ذَوْقِهِ وَلَا مَعْقُولِهِ وَلَا قِيَاسِهِ وَلَا وَجْدِهِ” (مجموع الفتاوى)
قوله: (قلت: يا رسول الله، لقد سمعت صوتا تخوفت فذكرت له فقال: وهل سمعته؟ قلت: نعم، قال: ذاك جبريل) أي الذي كنت أخاطبه أو ذلك صوت جبريل.
قوله: (من مات لا يشرك بالله شيئا) زاد الأعمش: ” من أمتك “.
قوله: (دخل الجنة) هو جواب الشرط رتب دخول الجنة على الموت بغير إشراك بالله، وقد ثبت الوعيد بدخول النار لمن عمل بعض الكبائر، وبعدم دخول الجنة لمن عملها فلذلك وقع الاستفهام.
قال القرطبي:” قوله ?: أَتَانِي جِبرِيلُ، فَبَشَّرَنِي: أَنَّهُ مَن مَاتَ مِن أُمَّتِكَ لاَ يُشرِكُ بِاللهِ شَيئًا دَخَلَ الجَنَّةَ) يدلُّ على شِدَّةِ تَهمُّمِ النبيِّ ? بأمرِ أُمَّته، وتعلُّقِ قَلبِهِ بما يُنجِيهم، وخوفِهِ عليهم؛ ولذلك سكَّن جبريلُ قلبَهُ بهذه البشرَى.
قال ابن باز: ” إذا مات على التوحيد وترك الشرك بالله، فمصيره الجنة والسعادة، وهو على حالين: إن مات على توبة وعمل صالح وعدم المعاصي فهو إلى الجنة من أول وهلة وإن مات على المعاصي فهو تحت مشيئة الله كما قال:: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} ” (شرح رياض الصالحين لابن باز)
قوله: (قلت: وإن زنى وإن سرق؟) قال ابن مالك: حرف الاستفهام في أول هذا الكلام مقدر ولا بد من تقديره، وقال غيره: التقدير أو إن زنى أو إن سرق دخل الجنة؟ وقال الطيبي: أدخل الجنة وإن زنى وإن سرق، والشرط حال ولا يذكر الجواب مبالغة، وتتميما لمعنى الإنكار قال وإن زنى وإن سرق.
“وَإنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ) أي كان تكرير أبي ذرّ ? للسؤال، وتكرير النبيّ ? للجواب ثلاث مرّات، قال الطيبيّ رحمه الله تعالى: أما تكرير أبي ذرّ ?، فلاستعظامه شأن الدخول مع مباشرة الكبائر، وتعجّبه منه، وأما تكرير النبيّ ? فللإنكار على استعظامه: أي أتبخل يا أبا ذرّ برحمة الله تعالى؟ فرحمة الله تعالى واسعة على خلقه، وإن كَرِهتَ ذلك، فقد قال الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: (53)]، وإنما ذكر من الكبائر نوعين، ولم يقتصر على واحد؛ لأن الذنب إما حقّ الله تعالى، وهو الزنى، أو حقّ العباد، وهو أخذ مالهم بغير حقّ، وفي تكريره أيضًا معنى الاستيعاب والعموم، كقوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: (62)]: أي دائمًا. انتهى (^ (3)).
قال النوويّ رحمه الله تعالى: هذا الحديث فيه حجة لمذهب أهل السنة أن أصحاب الكبائر لا يُقطَع لهم بالنار، وأنهم إن دخلوها أُخرجوا منها، وخُتِم لهم بالخلود في الجنة. (شرح مسلم)
وهذا لا يعني أن الزنى والسرقة سهلة، بل هي صعبة، ولهذا استعظمها أبو ذر وقال: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق».
وذلك لأن من مات على الإيمان وعليه معاص من كبائر الذنوب؛ فإن الله يقول: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء).
قد يعفو الله عنه ولا يعاقبه، وقد يعاقبه، ولكن إن عاقبه فمآله إلى الجنة؛ لأن كل من كان لا يشرك بالله ولم يأت شيئًا مكفرًا؛ فإن مآله إلى الجنة.
(472) – وعن أبي هريرة ?، عن رسول الله ? قال: “لو كان لي مثل أحد ذهبا، لسرني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين “متفق عليه.
هذا الحديث فوائده مرت معانا
جاء عند أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ? الْتَفَتَ إِلَى أُحُدٍ، فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أُحُدًا يُحَوَّلُ لِآلِ مُحَمَّدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَمُوتُ يَوْمَ أَمُوتُ أَدَعُ مِنْهُ دِينَارَيْنِ، إِلا دِينَارَيْنِ أُعِدُّهُمَا لِدَيْنٍ إِنْ كَانَ» فَمَاتَ، وَمَا تَرَكَ دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، وَلا عَبْدًا وَلا وَلِيدَةً، وَتَرَكَ دِرْعَهُ مَرْهُونَةً عِنْدَ يَهُودِيٍّ عَلَى ثَلاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. (قال محققوا المسند: إسناده قوي) (الصحيح المسند للشيخ مقبل (615))
(472) -وعنه قال: قال رسول الله ?: انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم” متفق عليه وهذا لفظ مسلم.
وفي رواية البخاري، “إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه”.
قوله (إلى من هو أسفل منكم) أي: في المنزلة والمال والجاه ونحوها وليس المراد: الأسفل في المكان. (حاشية السندي على مسند أحمد)
معنى ” أجدر “: أحق. (شرح النووي)
و ” تزدروا “: تحقروا. (شرح النووي)
والازدراء الاحتقار فكان أصله الازتراء فأبدلت التاء بالدال. (تحفة الأحوذي)
قال السندي:” الاحتقار والانتقاص والعيب افتعال من زريت عليه: إذا عبت.” (حاشية السندي على مسند أحمد)
في رواية الأخرى
قوله: (في المال والخلق) بفتح الخاء أي الصورة، ويحتمل أن يدخل في ذلك الأولاد والأتباع، وكل ما يتعلق بزينة الحياة الدنيا، ورأيته في نسخة معتمدة من ” الغرائب ” للدارقطني، ” والخلق ” بضم الخاء واللام.
قال ابن بطال: هذا الحديث جامع لمعاني الخير؛ لأن المرء لا يكون بحال تتعلق بالدين من عبادة ربه مجتهدا فيها، إلا وجد من هو فوقه، فمتى طلبت نفسه اللحاق به استقصر حاله، فيكون أبدا في زيادة تقربه من ربه، ولا يكون على حال خسيسة من الدنيا إلا وجد من أهلها من هو أخس حالا منه.
فإذا تفكر في ذلك علم أن نعمة الله وصلت إليه دون كثير ممن فضل عليه بذلك من غير أمر أوجبه، فيلزم نفسه الشكر فيعظم اغتباطه بذلك في معاده، وقال غيره: في هذا الحديث دواء الداء؛ لأن الشخص إذا نظر إلى من هو فوقه لم يأمن أن يؤثر ذلك فيه حسدا، ودواؤه أن ينظر إلى من هو أسفل منه؛ ليكون ذلك داعيا إلى الشكر،.
قال ابن جرير وغيره: هذا حديث جامع لأنواع من الخير ; لأن الإنسان إذا رأى من فُضّل عليه في الدنيا طلبت نفسه مثل ذلك، واستصغر ما عنده من نعمة الله تعالى، وحرص على الازدياد ليلحق بذلك أو يقاربه، هذا هو الموجود في غالب الناس، وأما إذا نظر في أمور الدنيا إلى من هو دونه فيها ظهرت له نعمة الله تعالى عليه، فشكرها وتواضع، وفعل فيه الخير. (شرح النووي)
قال القرطبي: “اعتبروا بمن فضلتم عليه في المال، والخلق، والعافية، فيظهر عليكم ما أنعم الله به عليكم فتشكرونه على ذلك، فتقومون بحق النعمة، وذلك بخلاف ما إذا نظر إلى ما فضل عليه غيره من ذلك؛ فإنَّه يضمحل عنده ما أنعم الله عليه به من النعم، ويحتقرها، فلا يحسبها نعما، فينسى حق الله فيها، وربما حمله ذلك النظر إلى أن تمتد عينه إلى الدنيا فينافس أهلها، ويتقطع لحسرة فوتها، ويحسد أهلها، وذلك هو الهلاك في الدنيا والآخرة” (المفهم)
فإن المرء إذا نظر إلى من فضل عليه في الدنيا استصغر ما عنده من نعم الله فكان سببا لمقته، وإذا نظر للدون شكر النعمة وتواضع وحمد. فينبغي للعبد أن لا ينظر إلى تجمل أهل الدنيا فإنه يحرك داعية الرغبة فيها ومصداقه: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا}. (تحفة الإحوذي)
قال ابن عثيمين: ” الإنسان لا ينبغي أن يعلق نفسه بها، وأن تكون الدنيا بيده لا بقلبه، حتى يقبل بقلبه على الله ?؛ فإن هذا هو كمال الزهد، وليس المعنى أنك لا تأخذ شيئا من الدنيا؛ بل خذ من الدنيا ما يحل لك، ولا تنس نصيبك منها، ولكن اجعلها في يدك ولا تجعلها في قلبك، وهذا هو المهم”. (شرح رياض الصالحين (3) / (369))
مما يعين على العمل بهذا الحديث القراءة في سير الصالحين.
بكر بن عبد الله المزني: كن عدادا لنعم الله، فإنك إن أحصيتها كنت قمنا أن تشكرها، وإذا نسيتها كنت قمنا أن تكفرها. (ربيع الابرار ونصوص الاخيار للزمخشري)
عَنْ أَبِي الْحَوَارِي، قَالَ: ” جَلَسَ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ لَيْلَةً إِلَى الصَّبَاحِ يَتَذَاكَرَانِ النَّعَمَ، فَجَعَلَ سُفْيَانُ يَقُولُ: «أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي كَذَا، فَعَلَ بِنَا كَذَا، فَعَلَ بِنَا كَذَا» (الشكر لابن أبي الدنيا)
قال الجريري: “تعداد النعم من الشكر” (عدة الصابرين)
قال ابن علان: ” (متفق عليه) أي في الجملة، وإلا فالحديث المذكور رواه مسلم في الزهد من «صحيحه» من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وكذا رواه الترمذي وابن ماجه في الزهد من «جامعه» وقال الترمذي صحيح، وحديث البخاري باللفظ الآتي بعده هو الذي اتفقا عليه فرواه مسلم عقب هذا الحديث عن يحيى بن يحيى وقتيبة قال: حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة والبخاري في أواخر الرقاق من «صحيحه» عن إسماعيل عن مالك عن أبي الزناد به، فالحديث الآتي هو المتفق عليه، أما الأوّل فانفرد به مسلم عن البخاري، وقد صنع كذلك المزي في «الأطراف» فرمز على حديث الباب برمز مسلم دون رمز البخاري، ورمز على الحديث الثاني برمز البخاري دون مسلم، وكأن المصنف اعتمد آخر كلامه فقال (وهذا لفظ مسلم).
(12514) -[م ت ق] حديث انظروا إلى من هو أسفل منكم … الحديث. (تحفة الأشراف)
(473) – وعنه عن النبي ? قال: “تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض “رواه البخاري.
وفي رواية عند البخاري عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ ”
قوله: (تعس) بكسر العين المهملة ويجوز الفتح أي سقط، والمراد هنا هلك، وقال ابن الأنباري: التعس الشر؛ قال تعالى {فتعسا لهم} أراد ألزمهم الشر، وقيل: التعس البعد أي بعدا لهم، وقال غيره: قولهم: ” تعسا لفلان ” نقيض قولهم: ” لعا له “، فتعسا دعاء عليه بالعثرة، ولعا دعاء له بالانتقاش.
قوله: (عبد الدينار) أي طالبه الحريص على جمعه القائم على حفظه، فكأنه لذلك خادمه وعبده، قال الطيبي: قيل خص العبد بالذكر ليؤذن بانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها، كالأسير الذي لا يجد خلاصا، ولم يقل: مالك الدينار، ولا جامع الدينار؛ لأن المذموم من الملك والجمع الزيادة على قدر الحاجة،
وقوله: ” إن أعطي … ” إلخ يؤذن بشدة الحرص على ذلك، وقال غيره: جعله عبدا لهما لشغفه وحرصه، فمن كان عبدا لهواه لم يصدق في حقه {إياك نعبد}، فلا يكون من اتصف بذلك صديقا.
قال ابن تيمية:” فما كان يرضي الإنسان حصوله، ويسخطه فقده فهو عبده إذ العبد يرضى باتصاله بهما ويسخط لفقدهما” (مجموع الفتاوى)
وقال أيضا ” لا يكون عبدا لله خالصا مخلصا دينه لله كله حتى لا يكون عبدا لما سواه ولا فيه شعبة ولا أدنى جزء من عبودية ما سوى الله فإذا كان يرضيه ويسخطه غير الله فهو عبد لذلك الغير ففيه من الشرك بقدر محبته، وعبادته لذلك الغير زيادة” (مجموع الفتاوى (10) / (598))
قوله: (والقطيفة) هي الثوب الذي له خمل، والخميصة الكساء المربع، وقد تقدم الحديث في كتاب الجهاد من رواية عبد الله بن دينار عن أبي صالح بلفظ: ” تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش “،
وقوله: ” وانتكس ” أي عاوده المرض، فعلى ما تقدم من تفسير التعس بالسقوط يكون المراد أنه إذا قام من سقطته عاوده السقوط، ويحتمل أن يكون المعنى بـ: ” انتكس ” بعد: ” تعس ” انقلب على رأسه بعد أن سقط، ثم وجدته في شرح الطيبي.
قال في قوله: ” تعس وانتكس ” فيه الترقي في الدعاء عليه؛ لأنه إذا تعس انكب على وجهه فإذا انتكس انقلب على رأسه؛ وقيل: التعس الخر على الوجه، والنكس الخر على الرأس،
وقوله: في الرواية المذكورة: أي إذا دخلت فيه شوكة لم يجد من يخرجها بالمنقاش، وهو معنى قوله: ” فلا انتقش “، ويحتمل أن يريد لم يقدر الطبيب أن يخرجها، وفيه إشارة إلى الدعاء عليه بما يثبطه عن السعي والحركة، وسوغ الدعاء عليه كونه قصر عمله على جمع الدنيا، واشتغل بها عن الذي أمر به من التشاغل بالواجبات والمندوبات، قال الطيبي: وإنما خص انتقاش الشوكة بالذكر؛ لأنه أسهل ما يتصور من المعاونة، فإذا انتفى ذلك الأسهل انتفى ما فوقه بطريق الأولى.
قال ابن بطال:” الحديث فيه ذم مَنْ فتنه متاع الدنيا الفاني”
(474) – وعنه، رضي الله عنه، قَالَ: لقَدْ رَأَيْتُ سبعِين مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، مَا منْهُم رَجُلٌ عَلَيْهِ رداءٌ، إِمَّا إِزَارٌ، وإِمَّا كِسَاءٌ، قدْ ربطُوا في أَعْنَاقِهِمْ، فَمنْهَا مَا يبْلُغُ نِصفَ السَّاقَيْن. ومنْهَا مَا يَبْلُغُ الكَعْبينِ. فَيجْمَعُهُ بيدِه كراهِيَةَ أَنْ تُرَى عوْرتُه”رواه البخاري.
بوب عليه البخاري باب فضل الفقر. هؤلاء أكرم الناس عند الله وهذه حالهم، لو كان الغنى فضيلة لخصها أولياءه المتقون.
قوله: (لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة)
قال ابن تيمية:” أَهْلِ الصُّفَّةِ» بَلْ عَامَّةُ أَهْلِ الصُّفَّةِ إنَّمَا كَانُوا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؛ لِأَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا فِي دِيَارِهِمْ”
أَهْلُ الصُّفَّةِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ كَانُوا يَاوُونَ إِلَى مَوْضِعٍ مُظَلَّلٍ فِي الْمَسْجِدِ (عون المعبود)
يشعر بأنهم كانوا أكثر من سبعين، وهؤلاء الذين رآهم أبو هريرة غير السبعين الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بئر معونة، وكانوا من أهل الصفة أيضا لكنهم استشهدوا قبل إسلام أبي هريرة. (فتح الباري)
جاء عند الترمذي وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه:
أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلَّى بالناسِ يَخِرُّ رِجالٌ مِن قامَتِهم في الصلاة منَ الخَصاصَةِ، وهُمْ أصْحابُ الصَّفَّة، حتى يقولَ الأَعْرابُ: هؤلاءِ مَجانينَ أو مَجانُون، فإذا صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم انْصَرف إلَيْهِم، فقال:
«لو تَعْلَمونَ ما لَكُمْ عندَ الله لأحْبَبْتُم أنْ تَزْدادوا فاقَةً وحاجةً”) قال في «النهاية»: «جمع تكسير لـ (مجنون)، وأما (مجانون) فشاذ كما شذ (شياطون) في (شياطين)».الخَصاصَةُ) بفتح الخاء المعجمة وصادين مهملتين: هي الفاقة والجوع.
وقد اعتنى بجمع أصحاب الصفة ابن الأعرابي والسلمي والحاكم وأبو نعيم، وعند كل منهم ما ليس عند الآخر، وفي بعض ما ذكروه اعتراض ومناقشة، لكن لا يسع هذا المختصر تفصيل ذلك. (فتح الباري)
قوله: «ما منهم رجل عليه رداء»؛ يعني: لم يكن رجل منهم عليه رداءٌ وإزار، بل لم يكن له إلا إزارٌ واحدٌ يستر به عورته، أو كساءٌ واحد. (المفاتيح شرح المصابيح للزيداني)
قوله: (رداء) هو ما يستر أعالي البدن فقط.
وقوله: (إما إزار) أي فقط (وإما كساء) أي على الهيئة المشروحة في المتن. (فتح الباري) يعني ثوب واحد.
قوله (رداء) هو ما يكسو النصف الأعلى (والإزار) ما يكسو النصف الأسفل (الكواكب الدراري)
(فَمنْهَا مَا يبْلُغُ نِصفَ السَّاقَيْن) لقصره. (دليل الفالحين)
(ومنها ما يبلغ الكعبين) لطوله، والكعب العظم الناتاء، عند مفصل السابق والقدم سمي به لنتوئه. (دليل الفالحين)
قوله: (فيجمعه بيده) أي الواحد منهم، زاد الإسماعيلي أن ذلك في حال كونهم في الصلاة. ومحصل ذلك أنه لم يكن لأحد منهم ثوبان. (فتح الباري)
قال أبو نعيم: الظاهر من أحوالهم والشاهد من أخبارهم غلبة الفقر عليهم وإيثار القلة واختيارهم لها فلم يجتمع لهم ثوبان ولا حضرهم من الطعام لونان. (دليل الفالحين)
قال ابن علان: “واقتصارهم على ذلك زهدًا في زهرات الدنيا وإقبالًا على العبادة وعمارة الدار الآخرة”
قال فيصل آل مبارك: “فيه: فضيلة الصحابة رضي الله عنهم، وصبرهم على الفقر، وضيق الحال، والاجتزاء من اللباس على ما يستر العورة، وقد أثابهم الله على ذلك فاستخلفهم في الأرض، ومكّن لهم دينهم وبدلهم من بعد فقرهم غنىً، ومن بعد خوفهم أمنًا مع ما أعد الله لهم في الآخرة من الثواب في الجنة.” (تطريز رياض الصالحين)
قال ابن باز: ” عجزوا عن الرداء الذي يضعونه على أكتافهم، وإن طال ربطوا أطرافهم على الكتف، صبروا وما ضرهم، نجحوا وأفلحوا ورزقهم الله الدنيا بعد ذلك، وفتحوا الفتوحات وكسروا كسرى وملكوا قصور قيصر وملكوا الدنيا وملكوا العبيد … هكذا المؤمن يجب عليه الصبر على الشدائد وأن يسعى لتفريج الكروب والأخذ بالأسباب فقد وعده الله خيراً، وعده الله الفرج وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: ?، ?] وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرا [الطلاق: (4)] فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يسرا ”
وقال أيضا:” يجب الصبر لو كانت الدنيا تحصل للناس على هواهم ما بقي فقير في الدنيا، لا بد من صبر واحتساب والأخذ بالأسباب وسؤال الله التوفيق والهداية، ويعلم أن لله حِكَماً في غنى هذا وفقر هذا، وفي تسهيل هذا ومنع هذا إلى غير ذلك إن ربك حكيم عليم”
فيه جواز كشف العاتق عند الضرورة.
(475) -وعنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: “الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤْمِنِ وجنَّةُ الكَافِرِ” رواه مسلم.
النووي: “قوله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) معناه: أن كل مؤمن مسجون ممنوع في الدنيا من الشهوات المحرمة والمكروهة، مكلف بفعل الطاعات الشاقة، فإذا مات استراح من هذا، وانقلب إلى ما أعد الله تعالى له من النعيم الدائم، والراحة الخالصة من النقصان، وأما الكافر فإنما له من ذلك ما حصل في الدنيا مع قلته وتكديره بالمنغصات، فإذا مات صار إلى العذاب الدائم، وشقاء الأبد.” (شرح النووي)
قال القرطبي: “وأيُ سجن أعظم من هذا؟ ثم هو في هذا السجن على غاية الخوف والوجل؛ إذ لا يدري بماذا يُختم له من عمل، كيف وهو يتوقّع أمرًا لا شيء أعظم منه، ويخاف هلاكًا لا هلاك فوقه؟! فلولا أنه يرتجي الخلاص من هذا السجن لهلك مكانه، لكن الله عز وجل لطف به، فهوّن عليه ذلك كلّه بما وعده على صبره، وبما كشف له من حميد عاقبة أمره.
والكافر منفكّ عن تلك الحالات بالتكاليف، آمِن من تلك المخاويف، مقبلٌ على لذّاته، منهمك في شهواته، مغترّ بمساعدة الأيام، يأكل، ويتمتع، كما تأكل الأنعام، وعن قريب يستيقظ من هذه الأحلام، ويحصل في السجن الذي لا يرام، فنسأل الله السلامة من أهوال يوم القيامة”
قال ابن القيم: “الدُّنيا سِجْنُ المُؤْمِنِ» ((1)) فيه تفسيرانِ صحيحانِ:
أحدهما: أن المؤمنَ قَيَّدَهُ إيمانُهُ عن المحظورات، والكافر مطلقُ التَّصَرُّف.
الثاني: أن ذلك باعتبار العواقب، فالمؤمنُ لو كان أنعمَ النَّاس، فذلك بالإضافة إلى مآله في الجنة كالسِّجن، والكافرُ عكْسُه، فإنه لو كان أشدَّ النَّاس (ظ/ (192) ب) بؤسًا فذلك بالنسبة إلى النار جَنَّتُه”
وقال المناوي: لأنه ممنوع من شهواتها المحرمة فكأنه في سجن، والكافر عكسه فكأنه في جنة انتهى. وقيل: كالسجن للمؤمن في جنب ما أعد له في الآخرة من الثواب والنعيم المقيم، وكالجنة للكافر في جنب ما أعد له في الآخرة من العقوبة والعذاب الأليم. (تحفة الأحوذي)
السندي:” قوله (سجن المؤمن)
فإنه وإن كان في نعمة فالجنة خير له منها
(وجنة الكافر)
إنه وإن كان في مقيتة فالنار شر له منها.” حاشية ابن ماجه”
وفي الحديث تحريض للمؤمن على الإعراض عنها وعدم النظر لها نظر محبة لأن ذلك شأن السجن. (دليل الفالحين)
قال ابن علان:” «لطيفة» حكى القرطبي في كتاب جمع الحرص بالقناعة عن سهل الصعلوكي الفقيه الخراساني وكان ممن جمع رياسة الدين والدنيا أنه كان في بعض مواكبه ذات يوم إذ خرج عليه يهودي من إيوان حمام وهو بثياب دنسة وصفة نجسة فقال أنتم تزعمون أن نبيكم قال: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر؟» وأنا عبد كافر وترى حالي. وأنت مؤمن وترى حالك فقال له على الفور: إذا صرت غدًا إلى عذاب الله كانت هذه الجنة لك وإذا صرت أنا إلى النعيم ورضوان الله صار هذا سجني، فعجب الخلق من فهمه وسرعة جوابه”
قال المناوي: “ذكروا أن الحافظ ابن حجر لما كان قاضي القضاة مر يوما بالسوق في موكب عظيم وهيئة جميلة فهجم عليه يهودي يبيع الزيت الحار وأثوابه ملطخة بالزيت وهو في غاية الرثاثة والشناعة فقبض على لجام بغلته وقال: يا شيخ الإسلام تزعم أن نبيكم قال الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر فأي سجن أنت فيه وأي جنة أنا فيها فقال: أنا بالنسبة لما أعد الله لي في الآخرة من النعيم كأني الآن في السجن وأنت بالنسبة لما أعد لك في الآخرة من العذاب الأليم كأنك في جنة فأسلم اليهودي. (فيض القدير للمناوي)
(476) – وعن ابن عمر، رضي الله عنهما، قَالَ: أَخَذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبَيَّ، فقال:» كُنْ في الدُّنْيا كأَنَّكَ غريبٌ، أَوْ عَابِرُ سبيلٍ «.
وَكَانَ ابنُ عمرَ، رضي الله عنهما، يقول: إِذَا أَمْسيْتَ، فَلا تَنْتظِرِ الصَّباحَ وإِذَا أَصْبحْت، فَلا تنْتَظِرِ المَساءَ، وخُذْ منْ صِحَّتِكَ لمرضِكَ ومِنْ حياتِك لِموتكَ. رواه البخاري.
قالوا في شَرْحِ هَذَا الحديث معناه لاَ تَركَن إِلَى الدُّنْيَا وَلاَ تَتَّخِذْهَا وَطَنًا، وَلاَ تُحدِّثْ نَفْسكَ بِطُول الْبقَاءِ فِيهَا، وَلا بالاعْتِنَاءِ بِهَا، وَلاَ تَتَعَلَّقْ مِنْهَا إلاَّ بِما يَتَعَلَّقُ بِه الْغَرِيبُ في غيْرِ وطَنِهِ، وَلاَ تَشْتَغِلْ فِيهَا بِما لاَ يشتَغِلُ بِهِ الْغرِيبُ الَّذِي يُريدُ الذَّهاب إِلَى أَهْلِهِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقٌ.
قال ابن رجب: “وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنا ومسكنا، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر: يهيئ جهازه للرحيل.” (جامع العلوم والحكم)
قوله: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم
بمنكبي) فيه تعيين ما أبهم في رواية ليث عند الترمذي: ” أخذ ببعض جسدي “، والمنكب بكسر الكاف مجمع العضد والكتف، وضبط في بعض الأصول بالتثنية.
قال ابن علان: “والمنكب بوزن مسجد مجتمع رأس العضد والكتف لأنه يعتمد عليه كذا في المصباح” (دليل الفالحين)
وقال أيضا:” وأخذه بمنكبيه ليقبل بقلبه على ما يلقيه إلي ويستيقظ إن كان في غفلة لذلك عما هو فيه مع ما فيه من التأنيس والتنبيه والتذكير، إذ محال عادة أن ينسى من فعل معه هذا ما يقال له، وهذا لا يفعل غالبًا إلا مع من يميل إليه الفاعل دليل على محبته، ونظير هذا قول ابن مسعود: علمني رسول الله ? وكفي بين كفيه”
قوله: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) قال الطيبي: ليست ” أو ” للشك بل للتخيير والإباحة، والأحسن أن تكون بمعنى بل، فشبه الناسك السالك بالغريب الذي ليس له مسكن يأويه ولا مسكن يسكنه، ثم ترقى وأضرب عنه إلى عابر السبيل؛ لأن الغريب قد يسكن في بلد الغربة بخلاف عابر السبيل القاصد لبلد شاسع وبينهما أودية مردية، ومفاوز مهلكة، وقطاع طريق، فإن من شأنه أن لا يقيم لحظة ولا يسكن لمحة؛ ومن ثم عقبه بقوله: ” إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ” إلخ، … المعنى استمر سائرا ولا تفتر؛ فإنك إن قصرت انقطعت وهلكت في تلك الأودية، وهذا معنى المشبه به، وأما المشبه فهو قوله: ” وخذ من صحتك لمرضك ” أي أن العمر لا يخلو عن صحة ومرض؛ فإذا كنت صحيحا فسر سير القصد، وزد عليه بقدر قوتك ما دامت فيك قوة، بحيث يكون ما بك من تلك الزيادة قائما مقام ما لعله يفوت حالة المرض والضعف.
زاد عبدة في روايته عن ابن عمر: ” اعبد الله كأنك تراه، وكن في الدنيا ” الحديث، وزاد ليث في روايته: ” وعد نفسك في أهل القبور “، وفي رواية سعيد بن منصور: ” وكأنك عابر سبيل “، وقال ابن بطال: لما كان الغريب قليل الانبساط إلى الناس، بل هو مستوحش منهم؛ إذ لا يكاد يمر بمن يعرفه مستأنس به، فهو ذليل في نفسه خائف، وكذلك عابر السبيل لا ينفذ في سفره إلا بقوته عليه، وتخفيفه من الأثقال غير متثبت بما يمنعه من قطع سفره معه، زاده وراحلته يبلغانه إلى بغيته من قصده، شبهه بهما وفي ذلك إشارة إلى إيثار الزهد في الدنيا وأخذ البلغة منها والكفاف، فكما لا يحتاج المسافر إلى أكثر مما يبلغه إلى غاية سفره فكذلك لا يحتاج المؤمن في الدنيا إلى أكثر مما يبلغه المحل،
قال غيره: عابر السبيل هو المار على الطريق؛ طالبا وطنه فالمرء في الدنيا كعبد أرسله سيده في حاجة إلى غير بلده، فشأنه أن يبادر بفعل ما أرسل فيه، ثم يعود إلى وطنه ولا يتعلق بشيء غير ما هو فيه، وقال غيره: المراد أن ينزل المؤمن نفسه في الدنيا منزلة الغريب، فلا يعلق قلبه بشيء من بلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه، ويجعل إقامته في الدنيا ليقضي حاجته وجهازه للرجوع إلى وطنه، وهذا شأن الغريب، أو يكون كالمسافر لا يستقر في مكان بعينه، بل هو دائم السير إلى بلد الإقامة،
واستشكل عطف عابر السبيل على الغريب، وقد تقدم جواب الطيبي، وأجاب الكرماني بأنه من عطف العام على الخاص، وفيه نوع من الترقي؛ لأن تعلقاته أقل من تعلقات الغريب المقيم.
قوله: (وكان ابن عمر يقول وخذ من صحتك) أي: زمن صحتك (لمرضك) في رواية ليث: ” لسقمك ” والمعنى اشتغل في الصحة بالطاعة بحيث لو حصل تقصير في المرض لانجبر بذلك.
قوله: (ومن حياتك لموتك) في رواية ليث:” قبل موتك “، وزاد: ” فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدا ” أي هل يقال له: شقي أو سعيد؟ ولم يرد اسمه الخاص به؛ فإنه لا يتغير، وقيل: المراد هل هو حي أو ميت.
قال ابن علان:”المراد إذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالبقاء إلى الصباح وكذا عكسه بل انتظر الموت كل وقت واجعله نصب عينيك” (دليل الفالحين)
أخرجه الحاكم: ” أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه: اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك”
قال ابن علان:” فمن قصر أمله زهد ومن طال أمله رغب وترك الطاعة وتكاسل عن التوبة وقسا قلبه لنسيان الآخرة ومقدماتها من الموت وما بعده من الأهوال” (دليل الفالحين)
ولا يعارض ذلك الحديث الماضي في الصحيح: ” إذا مرض العبد أو سافر، كتب الله له ما كان يعمل صحيحا مقيما “؛ لأنه ورد في حق من يعمل، والتحذير الذي في حديث ابن عمر في حق من لم يعمل شيئا، فإنه إذا مرض ندم على تركه العمل، وعجز لمرضه عن العمل، فلا يفيده الندم.
قال ابن علان: “فرأس مال المؤمن صحته وحياته وأيام حياته زمن تجارته فلا ينبغي له أن يفرط فيها مع التمكن منها ليحصل له من ربح التجارة ونفعها ما يدوم نفعه عليه عند حاجته إليه لنحو مرض، وفي الحديث «إذا مرض العبد أو سافر بقول الله لملائكته اكتبوا ما كان يعمله صحيحا مقيما» وهذا فيه توسل لدوام فضل المولى سبحانه بحسن العمل، وفي الحديث «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة» وقلت في هذا المعنى:
أيها السالك المريد تنبه
من منامك وغفلة قبل فوتك
خذ لسقم من الشباب وبادر
ومن الوقت قبل فوت لموتك ….. ” (دليل الفالحين)
وفي الحديث مس المعلم أعضاء المتعلم عند التعليم، والموعوظ عند الموعظة؛ وذلك للتأنيس والتنبيه ولا يفعل ذلك غالبا إلا بمن يميل إليه، وفيه مخاطبة الواحد وإرادة الجمع، وحرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيصال الخير لأمته، والحض على ترك الدنيا والاقتصار على ما لا بد منه.
قال ابن عثيمين: “وهذا التمثيل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم هو الواقع؛ لأن الإنسان في هذه الدنيا مسافر، فالدنيا ليست دار مقر؛ بل هي دار ممر، سريعٌ راكبه لا يفتر ليلًا ولا نهارًا، فالمسافر ربما ينزل منزلًا فيستريح، ولكن مسافر الدنيا لا ينزل، هو دائمًا في سفر، كل لحظة فإنك تقطع بها شوطًا من هذه الدنيا لتقرب من الآخرة.
فما ظنكم بسفر لا يفتأ صاحبه يمشي ويسير. أليس ينتهي بسرعة؟
الجواب: بلى، ولهذا قال الله عزوجل: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) (النازعات: (46)).
وينبغي للإنسان أن يقيس ما يستقبل من عمره بما مضي، فالذي مضى كأنه لا شيء، حتى أمسك الأدنى، كأنك لم تمر به، أو كأنه حلم، وكذلك فما يستقبل من دنياك، فهو كالذي تقدم، ولهذا لا ينبغي الركون إلى الدنيا ولا الرضا بها؛ وكأن الإنسان مخلد فيها.” (شرح رياض الصالحين (3) / (372))
وعن أنسٍ رضي الله عنه قال:
اشتَكى سَلْمانُ، فعادَهُ سَعْدٌ، فَرآهُ يَبْكي، فقالَ لَهُ سعدٌ: ما يُبْكيكَ يا أَخي؟ ألَيْسَ قد صَحِبْتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، أليسَ، أليسَ؟ قال سلْمانُ: ما أبْكي واحِدَةً مِنِ اثْنَتَيْنِ، ما أبْكي ضَنًّا على الدُّنْيا، ولا كَراهِيَةَ الآخِرَةِ؛ ولكِنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عَهِدَ إليْنا عَهْدًا، ما أَراني إلا قد تَعَدَّيْتُ.
قال: وما عَهِدَ إليْك؟ قال:
عَهِدَ إليْنا أنَّه:
“يكْفي أحدَكم مثل زاد الراكِبِ”.
وعن أبي سفيان عن أشياخه قال:
قدم سعدٌ على سلمانَ يعوده، قال: فبَكَى، فقال سعدٌ: ما يُبْكيكَ يا أبا عبد الله؟ تُوفِّيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو عَنْكَ رَاضٍ، وتَرِدُ عليهِ الحوْضَ، وتَلْقَى أصْحابَكَ، فقال: ما أبْكي جَزَعًا مِنَ الموْتِ، ولا حِرْصًا على الدنيا؛ ولكنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: عهِدَ إليْنا عَهْدًا قال:
“لِيَكُنْ بُلغةُ، أحدِكم مِنَ الدنيا كَزادِ الراكِبِ
ولا أُراني إلا قَدْ تَعدَّيْتُ. وحَوْلي هذهِ الأساوِدُ! قال: وإنَّما حولَهُ إجَّانَةٌ وجَفْنَةٌ ومَطْهَرةٌ! (صحيح الترغيب)
بلغة ما يتبلغ به من العيش.
(وحولي هذه الأساود) قال أبو عبيد:
“أراد الشخوص من المتاع، وكل شخص سواد، من إنسان أو متاع أو غيره”.
إجانة: بكسر الهمزة وتشديد الجيم وفتحها وبالنون: شيء تغسل فيه الثياب.
و (الجفنة) كالقصعة بفتح أولها.
و (المطهرة): إداوة الماء، ذكرها الجوهري بفتح الميم وكسرها ثم قال: والفتح أعلى. كذا في “العجالة” ((211) / (1)).
نسير إلى الآجال في كل لحظة وأيامنا تطوى وهن مراحل
ولم أرى مثل الموت حقا كأنه إذا ما تخطته الأماني باطل
وما اقبح التفريط في زمن الصبا فكيف به والشيب للرأس شامل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى فعمرك أيام وهن قلائل.
(474) – وعن أَبي الْعبَّاس سَهْلِ بنِ سعْدٍ السَّاعديِّ، رضي الله عنه، قَالَ: جاءَ رجُلٌ إِلَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم: فقالَ: يَا رسولَ اللَّه دُلَّني عَلى عمَلٍ إِذا عَمِلْتُهُ أَحبَّني اللَّه، وَأَحبَّني النَّاسُ، فقال: ” ازْهَدْ في الدُّنيا يُحِبَّكَ اللَّه، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحبَّكَ النَّاسُ” حديثٌ حسنٌ رواه ابن مَاجَه وغيره بأَسانيد حسنةٍ.
قال المنذري: “هذا الحديث لامعة من أنوار النبوة، ولا يمنع كون راويه ضعيفًا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله”.
قال الألباني في الصحيحة: ” الحديث صحيح أو على الأقل حسن …
حسنه النووي والعراقي والهيثمي
في درس شيخنا نقلا عن الرحيمي: أصح طرقه مرسل مجاهد وبقية الطرق معلة (لكن معناه صحيح) ويغني عنه حديث كعب بن عجرة (إن هذا المال خضرة حلوة)
قال ابن رجب: ” اشتمل هذا الحديث على وصيتين عظيمتين: إحداهما: الزهدُ في الدنيا، وأنه مُقْتَضٍ لمحبة الله عزوجل لعبده
• والثانية: الزهد فيما في أيدي الناس فإنه مُقْتَضٍ لمحبة الناس”
(دُلَّني عَلى عمَلٍ إِذا عَمِلْتُهُ أَحبَّني اللَّه، وَأَحبَّني النَّاسُ) هذا السؤال يدل على علو الهمة؛ لأن محبة الله عزوجل غاية المطالب،
قال ابن عثيمين: “علو-همم الصحابة رضي الله عنهم، فلا تكاد تجد أسئلتهم إلا لما فيه خير في الدنيا أو الآخرة أو فيهما جميعًا.
فدله النبي صلى الله عليه وسلم على عمل معين محدد، فقال: «ازهَد في الدُّنيَا» والزهد في الدنيا الرغبة عنها، وأن لا يتناول الإنسان منها إلا ما ينفعه في الآخرة، وهو أعلى من الورع، لأن الورع: ترك ما يضر من أمور الدنيا، والزهد: ترك مالا ينفع في الآخرة، وترك ما لا ينفع أعلى من ترك ما يضر، لأنه يدخل في الزهد الطبقة الوسطى التي ليس فيها ضرر ولا نفع، فالزهد يتجنب مالا نفع فيه، وأما الوَرَع فيفعل ما أبيح له، لكن يترك ما يضره. (شرح الأربعين النووية للعثيمين)
وقوله: «وازهَد فيمَا عِندَ النَاس يُحِبكَ النَّاس» أي لا تتطلع لما في أيديهم، ارغب عما في أيدي الناس يحبك الناس، وهذا يتضمن ترك سؤال الناس أي أن لا تسأل الناس شيئًا، لأنك إذا سألت أثقلت عليهم، وكنت دانيًا سافلًا بالنسبة لهم، فإن اليد العليا المعطية خير من اليد السفلى الآخذة.
قال السندي في حاشيته على ابن ماجه: ”
فإن الدنيا محبوبة عندهم فمن يزاحمهم فيها يصير مبغوضا عندهم بقدر ذلك ومن تركهم ومحبوبهم يكون محبوبا في قلوبهم بقدر ذلك”
روى الطبراني عن سهل بن سعدٍ رضي الله عنه قال:
جاء جبريل إلى النبي ? فقال:
«يا محمد! عِشْ ما شئتَ فإنك ميتٌ، واعمل ما شئتَ فإنك مجزيٌّ به، وأحبِبْ من شئتَ فإنك مفارقُه، واعلم أنّ شرفَ المؤمنِ قيامُ الليلِ، وعزَّه استغناؤه عن الناس». (صحيح الترغيب)
روى مسلم عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَبِيبُ الْأَمِينُ، أَمَّا هُوَ، فَحَبِيبٌ إِلَيَّ، وَأَمَّا هُوَ عِنْدِي، فَأَمِينٌ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةً، أَوْ ثَمَانِيَةً، أَوْ سَبْعَةً، فَقَالَ: ” أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟ “. وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: ” أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟ “. فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا، وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: ” عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَتُطِيعُوا – وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً – وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا، فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ، فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ “.
قال ابن باز:” هذه من أسباب السلامة والنجاة أن يقطع تعلق قلبه بهذه الدار، وألا تشغله عن الآخرة، وأن يأخذ منها بنصيب فيما ينفعه مما يقربه من الله وفيما يدنيه من رحمته ويباعده من سخطه” (شرح رياض الصالحين (2) / (230))
في هذا الحديث اثبات محبة الله.