(3000 ‘ 3001 ‘3002) فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
مجموعة: أحمد بن علي، ومحمد البلوشي وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد وأسامة الحميري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من ((56)) – (كِتَابُ: الزُّهْدِ، وَالرَّقَائِقِ)، ((14)) – (بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْمَدْحِ، إِذَا كَانَ فِيهِ إِفْرَاطٌ، وَخِيفَ مِنْهُ فِتْنَةٌ عَلَى الْمَمْدُوحِ)
(65) – ((3000)) حدثنا يحيى بن يحيى. حدثنا يزيد بن زريع عن خالد الحذاء، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أبيه، قال:
مدح رجل رجلا، عند النبي ? قال، فقال «ويحك! قطعت عنق صاحبك. قطعت عنق صاحبك» مرارا «إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة، فليقل: أحسب فلانا. والله حسيبه. ولا أزكي على الله أحدا. أحسبه، إن كان يعلم ذاك، كذا وكذا».
(66) – ((3000)) وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. ح وحدثني أبو بكر بن نافع. أخبرنا غندر قال: شعبة حدثنا عن خالد الحذاء، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنِ النَّبِيِّ ?؛ أنه ذكر عنده رجل. فقال رجل: يا رسول الله! ما من رجل، بَعْدَ رَسُولُ اللَّهِ ?، أَفْضَلُ منه في كذا وكذا. فقال النبي ? «ويحك! قطعت عنق صاحبك» مرارا يقول ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ? «إن كان أحدكم مادحا أخاه، لا محالة، فليقل: أحسب فلانا، إن كان يرى أنه كذلك. ولا أزكى على الله أحدا».
(66) – م – ((3000)) وحدثنيه عمرو الناقد. حدثنا هاشم بن القاسم. ح وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا
? (2297) ?شبابة بن سوار. كلاهما عن شعبة، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ. وليس في حديثهما: فقال رجل: ما من رجل بَعْدَ رَسُولُ اللَّهِ ? أَفْضَلُ منه.
(67) – ((3001)) حدثني أَبُو جَعْفَرٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ. حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بن زكرياء عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبي موسى، قَالَ:
سَمِعَ النَّبِيُّ ? رَجُلًا يثني على رجل، ويطريه في المدحة. فقال «لقد أهلكتم، أو قطعتم، ظهر الرجل».
(68) – ((3002)) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى. جميعا عن ابن مهدي (واللفظ لابن الْمُثَنَّى) قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عن حبيب، عن مجاهد، عن أبي معمر، قال:
قام رجل يثني على أمير من الأمراء. فجعل المقداد يحثي عليه التراب، وقال: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ? أن نحثي في وجوه المداحين التراب.
(69) – ((3002)) وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ (واللفظ لابن المثنى) قالا: حدثنا محمد بن جَعْفَرٍ. حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ الحارث؛
أن رجلا جعل يمدح عثمان. فعمد المقداد. فجثا على ركبتيه. وكان رجلا ضخما. فجعل يحثو في وجهه الحصباء. فقال له عثمان: ما شأنك؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ? قال «إذا رأيتم المداحين، فاحثوا في وجوههم التراب».
(69) – م – ((3002)) وحدثناه محمد بن المثنى وابن بشار. قالا: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان، عن منصور. ح وحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدَّثَنَا الأشجعي، عبيد الله بن عبيد الرحمن عن سفيان الثوري، عن الأعمش ومنصور، عن إبراهيم، عن همام، عن المقداد، عن النبي ?. بمثله.
==========
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله: (” [((13))]- (بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْمَدْحِ، إِذَا كَانَ فِيهِ إِفْرَاطٌ، وَخِيفَ مِنْهُ فِتْنَةٌ عَلَى الْمَمْدُوحِ) “).
قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى:
[(7470)] ((3000)) -الحديث
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ) أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: مَدَحَ رَجُلٌ رَجُلًا) لم يُعرف اسمهما، (عِنْدَ النَّبِيِّ ?) وفي رواية غندر التالية:» فقال: يا رسول الله ما من رجل بعد رسول الله ? أفضل منه في كذا وكذا «، قال الحافظ: لعله يعني: الصلاة، لما سيأتي. (قَالَ) أبو بكرة: (فَقَالَ) رسول الله ?: (» وَيْحَكَ) هي كلمة ترحم، وتوجع، و «ويل» كلمة عذاب، وقد تأتي موضع «ويح»، قاله في «الفتح».
(قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ) قال في «العمدة»: قطع العنق استعارة من قطع العنق الذي هو القتل؛ لاشتراكهما في الهلاك، لكن هذا الهلاك في الدين، وذاك من جهة الدنيا [» عمدة القاري شرح صحيح البخاري «(32) / (244)].
(قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ «، مِرَارًا)؛ أي: كرّر هذا القول أكثر من مرّة، وبيّن في رواية وهيب أنه قال ذلك ثلاثًا.
(إِذَا كانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا صَاحِبَهُ لَا مَحَالَةَ)؛ أي: لا حيلة له في ترك ذلك، وهي بمعنى: لا بُدّ، والميم زائدة، ويَحْتَمِل: أن يكون من الحول؛ أي: القوّة، والحركة، (فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلَانًا) بكسر السين المهملة، وفتحها، من بابي علم، وورث؛ أي: أظنّ، وفي الرواية الآتية:» إن كان يرى أنه كذلك «، وفي رواية:» إن كان يعلم ذلك «، (وَاللهُ حَسِيبُهُ) بفتح أوله، وكسر ثانيه، وبعد التحتانية الساكنة موحّدة، أي: كافيه، ويَحْتَمِل: أن يكون هنا فعيل، من الحساب؛ أي: محاسبه على عمله الذي يعلم حقيقته، وهي جملة اعتراضية، (وَلَا أُزَكِّي) بهمزة المتكلّم، (عَلَى اللهِ أَحَدًا) وفي رواية للبخاريّ:» ولا يُزكَّى على الله أحد «، قال في» الفتح «: كذا لأبي ذرّ عن المستملي، والسرخسيّ بفتح الكاف، على البناء للمجهول، وفي رواية الكشميهنيّ:» ولا يزكي «بكسر الكاف على البناء للفاعل، وهو المخاطب أوّلًا المقول له:» فليقل «وكذا في أكثر الروايات، أي: لا يقطع على عاقبة أحد، ولا على ما في ضميره؛ لكون ذلك مغيبًا عنه، وجيء بذلك بلفظ الخبر، ومعناه النهي؛ أي: لا تزكوا أحدًا على الله؛ لأنه أعلم به منكم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: «قطعت عنق صاحبك»، وفي حديث أبي موسى: «قطعتم ظهر الرجل» كل ذلك بمعنى أهلكتموه، وقد جاء عنه ? أنَّه قال: «إياكم، والمدح، فإنَّه الذبح»، رواه أحمد، وابن ماجه في سنن – 3743
قال الألباني: حسن صحيح سنن ابن ماجه: (231/ 3)
قال شعيب الأرنؤوط: إسناده جيد
سنن ابن ماجه: (680/ 4)
ويعني بذلك كله أن الممدوح إذا أُكثر عليه من ذلك يُخاف عليه منه العُجب بنفسه، والكِبْر على غيره، فيهلك دينه بهاتين الكبيرتين، فإذًا المدح مظنة الهلاك الديني، فيحرم، لكن هذه المظنة لا تتحقّق إلا عند الإكثار منه، والإطراء به، وأما مع الندرة والقلّة فلا يكون مظنة، فيجوز ذلك إذا كان حقًّا في نفسه، ولم يقصد به الإطراء، وأُمِن على الممدوح الاغترار به، وعلى هذا يُحمل ما وقع للصحابة رضي الله عنهم من مَدْح بعضهم لبعض مشافهةً، ومكاتبةً، وقد مُدِح النبيّ ? مشافهة نظمًا ونثرًا، ومَدَح هو أيضًا جماعة من أعيان أصحابه مشافهة، لكن ذلك كله إنما جاز لَمّا صحّت المقاصد، وأُمنت الآفات المذكورة.
وقوله: «إن كان أحدكم مادحًا أخاه لا محالة، فليقل: أحسب فلانًا، إن ما كان يرى أنه كذلك»، ظاهر هذا أنه لا ينبغي للإنسان أن يمدح أحدًا ما وجد من ذلك مندوحة، فإنْ لم يجد بدًّا مدح بما يعلمه من أوصافه، وبما يظنّه، ويحترز من الجزم والقطع بشيء من ذلك، بل يتحرّز، بأن يقول: فيما أحسب، أو أظن، ويزيد على ذلك: ولا أزكّي على الله أحدًا؛ أي: لا أقطع بأنه كذلك عند الله، فإنَّ الله تعالى هو المطلع على السرائر، العالم بعواقب الأمور. انتهى [«المفهم» (6) / (627) – (628)]. والله تعالى أعلم.
قال العباد:
قوله: [(ولا أزكيه على الله)] يعني: هكذا يظهر لي، والناس لهم الظاهر وقد تكون البواطن بخلاف ذلك، فلا يزكي على الله أحدًا؛ لأنه سواء كان بالنسبة لواقعه أثناء الكلام فيه، أو بالنسبة للنهاية والمآل، فكل ذلك لا يعلمه إلا الله ?، وهو الذي يعلم أن المدح يكون في محله أو في غير محله، فهذا في النهايات و (الأعمال بالخواتيم) كما قال ذلك رسول الله ?.
شرح سنن أبي داود للعباد (546) / (24) — عبد المحسن العباد (معاصر)
[(546)] ?كراهية التمادح?شرح حديث: (إذا مدح أحدكم صاحبه لا محالة فليقل: إني أحسبه)
وحديث أبي بكرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
وقال الإمام مسلم رحمه الله تعالى:
[(7471)] ( … ) – الحديث
وقوله: (ذُكِرَ عِنْدَهُ)؛ أي: عند النبيّ ? (رَجُلٌ، فَقَالَ رَجُلٌ إلخ) لم يُعرف الرجلان.
وقوله: (أَفْضَلُ مِنْهُ فِي كَذَا وَكَذَا)؛ أي: في صلاته، أو خشوعه، أو نحو ذلك.
وقوله: (قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ) وفي رواية: «قطعتم ظهر الرجل» معناه: أهلكتموه، وهذه استعارة من قطع العنق الذي هو القتل؛ لاشتراكهما في الهلاك، لكن هلاك هذا الممدوح في دينه، وقد يكون من جهة الدنيا؛ لِمَا يشتبه عليه من حاله بالإعجاب، قاله النوويّ عفا الله عنه [«شرح النوويّ» (18) / (127)].
والحديث متّفقٌ عليه.
وقال الإمام مسلم رحمه الله تعالى:
[(7473)] ((3001)) -الحديث
[تنبيه]: وقع في بعض نُسخ مسلم في هذا السند غلط فاحش، وذلك أنه سقط قوله: «عن أبي بردة» بعد قوله: «عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة»، فصار بعده مباشرة: «عن أبي موسى»، فبناء على هذا وقع الشيخ الهرري في غلط، فقال: إن هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف، والصواب أنه من خماسيّاته بزيادة أبي بردة.
ومما يترتب على إسقاط بريد من السند أنه يكون منقطعًا؛ لأنه لم يلق أبا موسى، مع أن هذا السند مما اتفق الشيخان على إخراجه عن شيخ واحد، فتنبّه، وبالله تعالى التوفيق.
[تنبيه آخر]: قال في «الفتح»: هذا الحديث مما اتفق الشيخان على تخريجه عن شيخ واحد، ومما ذكره البخاري بسنده ومتنه في موضعين، ولم يتصرف في متنه، ولا إسناده، وهو قليل في كتابه، وقد أخرجه أحمد في «مسنده» عن محمد بن الصباح، وقال عبد الله بن أحمد بعد أن أخرجه عن أبيه عنه: قال عبد الله: وسمعته أنا من محمد بن الصباح، فذكره. انتهى [«الفتح» (13) / (617)].
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد الله بن قيس الأشعريّ رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ ? رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ) قال الحافظ رحمه الله تعالى: لم أقف على اسمهما صريحًا، ولكن أخرج أحمد، والبخاريّ في «الأدب المفرد» من حديث مَحْجن بن الأدرع الأسلميّ، قال: أخذ رسول الله ? بيدي، فذكر حديثًا قال فيه: «فدخل المسجد، فإذا رجل يصلي، فقال لي: من هذا؟ فأثنيت عليه خيرًا، فقال: اسكت لا تسمعه، فتهلكه»، وفي رواية له: «فقلت: يا رسول الله هذا فلان، وهذا، وهذا»، وفي أخرى له: «هذا فلان، وهو من أحسن أهل المدينة صلاة، أو من أكثر أهل المدينة … » الحديث، والذي أثنى عليه محجن يُشبه أن يكون هو عبد الله ذو البجادين [وقع في النسخة «ذو النجادين» بالنون، وهو غلط، والصواب ذو البجادين] المزنيّ، فقد ذكرت في ترجمته في «الصحابة» ما يقرب من ذلك. انتهى [«الفتح» (13) / (618)].
(وَيُطْرِيهِ) بضم أوله، وبالطاء المهملة، من الإطراء، وهو المبالغة في المدح، (فِي الْمِدْحَةِ) بكسر الميم؛ أي: المدح، ووقع في بعض نُسخ البخاريّ: في «المدح» بفتح الميم بلا هاء، وفي أخرى: «في مدحه» بفتح الميم، وزيادة الضمير، قال الحافظ: والأول هو المعتمَد.
انتهى.
وحديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ) عبد الله بن سَخْبرة؛ أنه (قَالَ: قَامَ رَجُلٌ) لم يُسمّ، (يُثْنِي عَلَى أَمِيرٍ مِنَ الأُمَرَاءِ) هو عثمان بن عفّان رضي الله عنه، كما في الرواية التالية، (فَجَعَلَ)؛ أي: شرع، وأخذ (الْمِقْدَادُ) بن عمرو رضي الله عنه، (يَحْثِي) بالياء، ويجوز يحثو بالواو … [«المصباح المنير» (1) / (121)].
(عَلَيْهِ التُّرَابَ، وَقَالَ) المقداد رضي الله عنه: (أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ ? أَنْ نَحْثِيَ فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ)، أي: الذين صناعتهم الثناء على الناس [«فيض القدير» (1) / (362)].
نقل في بذل المجهود فيحل سنن أبي داود:
قوله: «فأثنى على عثمان» ولعله كان يمدحه بغير ما هو فيه، أو كان مدحه ليعطيه شيئًا، وإن كان حقًّا، واستحيى عثمان أن يواجهه بما يسوؤه مع حصول المقصود بنهي الغير، ويمكن أن يكون مدحه حقًّا غير داخل فيما ينهى عنه، إلَّا أن المقداد ذهب بالرواية على عموم النهي، إما لفهمه منه العموم، أو سد الباب المديح، وإن كان يعلم أن كل مدحة ليس خطأ، انتهى.
وقال في «المرقاة»: قوله: «المدّاحين»؛ أي: المبالغين في المدح، متوجهين إليكم طمعًا، سواء يكون نثرًا أو نظمًا، «فاحثوا» بهمزة وصل، وضم مثلثة؛ أي: ارموا في وجوههم، قيل: يؤخذ التراب، ويُرمَى به في وجه المداح؛ عملًا بظاهر الحديث، وقيل: معناه: الأمر بدفع المال إليهم؛ إذ المال حقير كالتراب بالنسبة إلى العرض في كل باب؛ أي: أعطوهم إياه، واقطعوا به ألسنتهم؛ لئلا يهجوكم، وقيل: معناه أعطوهم عطاء قليلًا، فشبّهه لقلّته بالتراب، وقيل: المراد منه أن يخيب المادح، ولا يعطيه شيئًا لمدحه، والمراد: زجر المادح، والحث على منعه من المدح؛ لأنه يجعل الشخص مغرورًا، ومتكبرًا.
قال المناوي: لَا تعطوهم على الْمَدْح شَيْئا فالحثو كِنَايَة عَن الردّ والحرمان أَو أعطوهم مَا طلبُوا فَإِن كل مَا فَوق التُّرَاب تُرَاب
(احثوا فِي أَفْوَاه المداحين التُّرَاب) فِيهِ التوجيهان الْمَذْكُورَان وَمن حمله على ظَاهره وَرَمَاهُمْ بِالتُّرَابِ فَمَا أصَاب
قال الخطابيّ: المداحون هم الذين اتخذوا مدح الناس عادة، وجعلوه بضاعة، يستأكلون به الممدوح، فأما من مَدَح الرجل على الفعل الحسن، والأمر المحمود، يكون منه ترغيبًا له في أمثاله، وتحريضًا للناس على الاقتداء في أشباهه، فليس بمداح.
وفي «شرح السُّنَّة»: قد استعمل المقداد رضي الله عنه الحديث على ظاهره في تناول عين التراب، وحثيه في وجه المادح ….. وذكر الاحتمالات السابقة في معناه انتهى [«مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» (14) / (93)].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: عندي أن المعنى الصحيح هو الذي عمل المقداد رضي الله عنه، وهو أخْذ التراب ورميه في وجوه المداح؛ لأنه ظاهر الحديث، ولا يُعدل عن الظاهر إلا لموجب، والله تعالى أعلم.
وحديث المقداد بن عمرو رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
وقال الإمام مسلم رحمه الله تعالى:
[(7475)] ( … ) – الحديث
شرح الحديث:
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: «يحثو في وجهه الحصباء» كأن هذا الرجل أكثر من المدح حتى صدق عليه أنه مدّاح، ولذلك عمل المقداد بظاهر ذلك الحديث، …. فذكر الاحتمالات
وقيل: معناه: التنبيه للممدوح على أن يتذكّر أن المبدأ والمنتهى التراب، فليعرضه على نفسه؛ لئلا يعجب بالمدح، وعلى المدّاح، لئلا يُفرط، ويُطري بالمدح، وأشبه المَحامل بعد المحمل الظاهر الوجه الأول، وما بعده ليس عليه معوّل. انتهى [«المفهم» (6) / (628) – (629)].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: خلاصة القول أن في معنى هذا الحديث ست تأويلات:.
السادس: أن يقوم الممدوح عن مجلس المادح، ويثير بقيامه التراب عليه [راجع: «تكملة فتح الملهم» (6) / (500) – (501)]، وكل هذه التأويلات بعيدة عن معنى الحديث، فالصواب هو الأول الذي عمل به الصحابيّ الراوي، والله تعالى أعلم.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، وقد مضى تخريجه، ولله الحمد.
وذكر النووي رحمه الله تعالى وجه الجمع بين هذه الأحاديث، فقال: «قال العلماء: وطريق الجمع بينها: أن النهي محمول على المجازفة في المدح، والزيادة في الأوصاف، أو على من يُخاف عليه فتنة من إعجاب ونحوه إذا سمع المدح، وأما من لا يُخاف عليه ذلك؛ لكمال تقواه، ورسوخ عقله ومعرفته فلا نهي في مدحه في وجهه إذا لم يكن فيه مجازفة، بل إن كان يحصل بذلك مصلحة كنشطه للخير، والازدياد منه، أو الدوام عليه، أو الاقتداء به كان مستحبًّا، والله أعلم» [شرح مسلم، للنووي ((18) / (126))].
وقوله: «فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلَانًا وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا أَحْسِبُهُ»: هذا الأمر ليس للوجوب، بل هو للاستحباب، بدليل أن النبي ? لما مدح أبا بكر رضي الله عنه، وعمر رضي الله عنه، وعثمان رضي الله عنه لم يقل لواحد منهم: أحسبه والله حسيبه؛ فدل على أن هذا الأمر للاستحباب.
: قوله ?: «وَيْحَكَ! قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ- مِرَارًا»، فقال: قطعت عنق الرجل، ولم يَحْث في وجهه الترابَ، فدل على أن حَثْيَ التراب في وجه المادح للاستحباب؛ لأن فيه اللوم والتوبيخ، ولكن هذا إذا لم يترتب عليه مفسدة، وهذا الأخير مأخوذ من نصوص أخرى، ومن قواعد الشريعة، أما إذا كان يترتب على هذا الفعل شر فلا يُحثَى على وجهه التراب، بل يُكتفَى بنصحه ووعظه”. [توفيق الرب المنعم، (8/ 439 – 441)].
بوب البخاري
باب ما يكره من الإطناب في المدح، وليقل ما يعلم
(2663) – عن أبي موسى رضي الله عنه، قال: سمع النبي ? رجلا يثني على رجل ويطريه في مدحه، فقال: «أهلكتم – أو قطعتم – ظهر الرجل» انتهى
وبوب أيضا
بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّمَادُحِ
(6060) – حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ: حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: «سَمِعَ النَّبِيُّ ? رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي الْمِدْحَةِ، فَقَالَ: أَهْلَكْتُمْ أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ.»
(6061) – حَدَّثَنَا آدَمُ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَجُلًا ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ ? فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ ?: وَيْحَكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ يَقُولُهُ مِرَارًا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أَحْسَبُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يَرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَحَسِيبُهُ اللهُ، وَلَا يُزَكِّي عَلَى اللهِ أَحَدًا» قَالَ وُهَيْبٌ عَنْ خَالِدٍ: وَيْلَكَ.
بَابُ مَنْ أَثْنَى عَلَى أَخِيهِ بِمَا يَعْلَمُ وَقَالَ سَعْدٌ مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ ? يَقُولُ لِأَحَدٍ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا لِعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ
(6062) – حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? حِينَ ذَكَرَ فِي الْإِزَارِ مَا ذَكَرَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ إِزَارِي يَسْقُطُ مِنْ أَحَدِ شِقَّيْهِ، قَالَ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْهُمْ.»
فيه من الفقه: أنه يجوز الثناء على الناس بما فيهم، على وجه الإعلام بصفاتهم؛ لتعرف لهم سابقتهم، وتقدمهم في الفضل، فينزلوا منازلهم ويقدموا على من لا يساويهم، ويقتدى بهم في الخير، ولو لم يجز وصفهم بالخير والثناء عليهم بأحوالهم لم يعلم أهل الفضل من غيرهم. ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم خص أصحابه بخواص من الفضائل بانوا بها على سائر الناس، وعرفوا بها إلى يوم القيامة، فشهد للعشرة بالجنة
التوضيح شرح الجامع الصحيح
ثانيًا: فوائد الحديث:
1 – (منها): ذمّ الإطراء في المدح، وأنه يُعتبر كقطع العنق في الهلاك؛ لأن به هلاك الدين، وهو أشدّ من هلاك الدنيا.
2 – (ومنها): أنه إذا لم يكن للإنسان بُدّ من المدح، فليقل: أحسب فلانًا كذا وكذا، والله تعالى حسيبه، ولا أزكي على الله تعالى أحدًا.
3 – (ومنها): النهي عن المدح في الوجه، وقد ورد المدح في الوجه في أحاديث صحيحة، فجمع العلماء بين الأحاديث:
4 – (ومنها): من كان مادحاً لا محالة فليوكل حال الممدوح في النهاية إلى الله فهو حسيبه وأعلم بحاله.
5 – (ومنها): الثناء على العبد ينبغي أن يكون على سبيل حسن الظن به وليس على سبيل الجزم والقطع.
6 – (ومنها): النهي عن الجزم في المدح والقطع بمصائر العباد، وكذلك مدحهم جزافاً بما ليس فيهم.
ثالثًا: مسائل وأحكام:
معنى مَدْحٌ:
الْمَدْحُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الثَّنَاءُ بِذِكْرِ أَوْصَافِ الْكَمَال وَالأَفْضَال، خُلُقِيَّةً كَانَتْ أَوِ اخْتِيَارِيَّةً.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ [المصباح المنير، والتعريفات للجرجاني، وفتح الباري (13) / (400)].
الأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّقْرِيظُ فِي اللُّغَةِ: الْمَدْحُ وَالثَّنَاءُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْقَرْظِ، وَهُوَ شَيْءٌ يُدْبَغُ بِهِ الأَدِيمُ، وَإِذَا دُبِغَ بِهِ حَسُنَ وَصَلُحَ وَزَادَتْ قِيمَتُهُ، فَشُبِّهَ مَدْحُكَ لِلإِنْسَانِ الْحَيِّ بِذَلِكَ، كَأَنَّكَ تَزِيدُ فِي قِيمَتِهِ بِمَدْحِكَ إِيَّاهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدْحِ: أَنَّ الْمَدْحَ يَكُونُ لِلْحَيِّ وَالْمَيِّتِ، وَالتَّقْرِيظَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ لِلْحَيِّ [الفروق في اللغة ص (42). نشر دار الآفاق الجديدة، والمعجم الوسيط].
الأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَدْحِ:
مِنَ الأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَدْحِ مَا يَاتِي:
(المسألة الأولى): مدح الله تعالى ومَدْح النَّبِيِّ ?:
أ. مَدْحُ اللَّهِ تعالى وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ:
– وَرَدَ فِي مَدْحِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْل النَّبِيِّ ?: وَلاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ اللَّهِ [حديث: «ولا أحد أحب إليه المدحة من الله». أخرجه البخاري (الفتح (13) / (399)) من حديث المغيرة بن شعبة]، وَالْمِدْحَةُ – كَمَا قَال عُلَمَاءُ اللُّغَةِ – مَا يُمْدَحُ بِهِ [المعجم الوسيط]، وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ عَنِ ابْنِ بَطَّالٍ قَوْلَهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ: أَرَادَ بِهِ الْمَدْحَ مِنْ عِبَادِهِ – أَيْ عِبَادِ اللَّهِ – بِطَاعَتِهِ وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لاَ يَلِيقُ بِهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِنِعَمِهِ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَى ذَلِكَ [فتح الباري (13) / (400)].
ب. مَدْحُ النَّبِيِّ ?:
– دَأَبَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَدْحِ النَّبِيِّ ? بِعَظِيمِ قَدْرِهِ عِنْدَ رَبِّهِ وَمَنْزِلَتِهِ وَمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ فِي الدَّارَيْنِ مِنْ كَرَامَتِهِ، قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: لاَ خِلاَفَ أَنَّهُ ? أَكْرَمُ الْبَشَرِ وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَأَفْضَل النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأَعْلاَهُمْ دَرَجَةً وَأَقْرَبُهُمْ زُلْفَى، ثُمَّ سَاقَ أَحَادِيثَ فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ مَكَانَتِهِ ? عِنْدَ رَبِّهِ وَالاِصْطِفَاءِ وَرِفْعَةِ الذِّكْرِ وَالتَّفْضِيل وَسِيَادَةِ وَلَدِ آدَمَ وَمَا خَصَّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَزَايَا الرُّتَبِ وَبَرَكَةِ اسْمِهِ الطَّيِّبِ [الشفا بتعريف حقوق المصطفى (1) / (215) – (217)]،
وَكَانَ ? لَهُ شُعَرَاءُ يُصْغِي إِلَيْهِمْ [مغني المحتاج (4) / (430)]، مِنْهُمْ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَقَدْ مَدَحَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ رضي الله عنه النَّبِيَّ ? بِقَصِيدَتِهِ الَّتِي مَطْلَعُهَا «بَانَتْ سُعَادُ. . .»، فَأَثَابَهُ عَلَى مَدْحِهِ بِبُرْدَتِهِ ? [حديث: «إثابة النبي ? كعب بن زهير. . .». أخرجه البيهقي في دلائل النبوة ((5) / (207) – (211)) قال ابن كثير في البداية والنهاية ((4) / (373)) وهذا من الأمور المشهورة جدًا، ولكن لم أر ذلك في شيء من الكتب المشهورة بإسناد أرتضيه، فالله أعلم].
إِلاَّ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لاَ يَصِل مَدْحُهُ ? إِلَى حَدِّ الإِطْرَاءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ لِقَوْلِهِ ?: لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ [حديث: «لا تطروني كما أطرت النصارى. . .». أخرجه البخاري (فتح الباري (6) / (478)) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه].
قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي مَعْنَاهُ: لاَ تَصِفُونِي بِمَا لَيْسَ فِيَّ مِنَ الصِّفَاتِ، تَلْتَمِسُونَ بِذَلِكَ مَدْحِي، كَمَا وَصَفَتِ النَّصَارَى عِيسَى بِمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ، فَنَسَبُوهُ إِلَى أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ فَكَفَرُوا بِذَلِكَ وَضَلُّوا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ رَفَعَ أَمْرًا فَوْقَ حَدِّهِ وَتَجَاوَزَ مِقْدَارَهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَمُعْتَدٍ آثِمٌ؛ لأَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَازَ فِي أَحَدٍ لَكَانَ أَوْلَى الْخَلْقِ بِذَلِكَ رَسُول اللَّهِ ?. [الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5) / (247) ص (277)].
(المسألة الثانية): مَدْحُ النَّاسِ:
أولاً:
– الأَصْل أَنَّ مَدْحَ الْغَيْرِ – كَمَا قَال الرَّاغِبُ الأَصْفَهَانِيُّ – لَيْسَ فِي نَفْسِهِ بِمَحْمُودٍ وَلاَ مَذْمُومٍ، وَإِنَّمَا يُحْمَدُ وَيُذَمُّ بِحَسَبِ الْمَقَاصِدِ،
فَمَنْ قَصْدُهُ طَلَبُ مَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الثَّنَاءُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُسْتَحَبُّ فَذَلِكَ مَحْمُودٌ،
وَالْمَذْمُومُ مِنْهُ: أَنْ يَمِيل إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَحَرِّيهِ لِفِعْلٍ مَا يَقْتَضِيهِ، وَقَدْ تَوَعَّدَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ طَلَبَ الْمَحْمَدَةَ مِنْ غَيْرِ فِعْل حَسَنَةٍ تَقْتَضِيهَا [الذريعة إلى مكارم الشريعة ص (277)]؛ فَقَال تَعَالَى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ}. [سورة آل عمران / (188)].
قال ابن باز: حديث (ويحك قطعت عنق الرجل! إذا كان أحدكم مادحاً لا محالة فليقل: أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحد) هذا حديث ثابت، الإنسان لا يسرف في المدح، إنه كيت وكيت وكيت وكيت بل يقول: أحسبه كذلك والله حسيبه؛ لأنه قد يكون في الباطن على خلاف ما ظهر منه، ولكن يذكره بأعماله الطيبة التي يعرفها منه ويقول: الله حسيبه وحسبه الله. نعم. [نور على الدرب للإمام ابن باز رحمه الله، الحكم على حديث: (ويحك قطعت عنق الرجل … )].
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل ينبغي للإنسان أن يمدح أخاه بما هو فيه أو لا؟
وهذا له أحوال:
الحال الأولى: أن يكون في مدحه خير وتشجيع له على الأوصاف الحميدة والأخلاق الفاضلة، فهذا لا بأس به؛ لأنه تشجيع … وهو داخل في قوله تعالى: ((وتعاونوا على البر والتقوى)).
والثاني: أن تمدحه لتبين فضله بين الناس وينتشر ويحترمه الناس، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما …..
الثالث: أن يمدح غيره ويغلو في إطرائه ويصفه بما لا يستحق فهذا محرم، وهو كذب وخداع.
الرابع: أن يمدحه بما هو فيه، لكن يُخشى أن الإنسان الممدوح يغتر بنفسه فهذا أيضًا محرم لا يجوز. [شرح رياض الصالحين للشيخ ابن عثيمين رحمه الله].
ثانيًا: الْمَدْحُ تَدْخُلُهُ سِتُّ آفَات:
وَقَال الْغَزَالِيُّ: وَالْمَدْحُ تَدْخُلُهُ سِتُّ آفَاتٍ: – أَرْبَعٌ فِي الْمَادِحِ، وَاثْنَتَانِ فِي الْمَمْدُوحِ -:
أ. فَأَمَّا الْمَادِحُ:
فَالأُولَى: أَنَّهُ قَدْ يُفْرِطُ فَيَنْتَهِي بِهِ إِلَى الْكَذِبِ
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ، فَإِنَّهُ بِالْمَدْحِ مُظْهِرٌ لِلْحُبِّ، وَقَدْ لاَ يَكُونُ مُضْمِرًا لَهُ وَلاَ مُعْتَقِدًا لِجَمِيعِ مَا يَقُولُهُ، فَيَصِيرُ بِهِ مُرَائِيًا مُنَافِقًا.
وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهُ قَدْ يَقُول مَا لاَ يَتَحَقَّقُهُ وَلاَ سَبِيل لَهُ إِلَى الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ … وفي الحديث فليقل ( … أحسب فلان … )
وَهَذِهِ الافَةُ تَتَطَرَّقُ إِلَى الْمَدْحِ بِالأَوْصَافِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي تُعْرَفُ بِالأَدِلَّةِ؛ كَقَوْلِهِ: “إِنَّهُ مُتَّقٍ، وَوَرِعٌ، وَزَاهِدٌ، وَخَيِّرٌ، … وَمَا يُجْرَى مُجْرَاهُ”.
فَأَمَّا إِذَا قَال: رَأَيْتُهُ يُصَلِّي بِاللَّيْل وَيَتَصَدَّقُ، وَيَحُجُّ فَهَذِهِ أُمُورٌ مُسْتَيْقَنَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّهُ عَدْلٌ رِضًا، فَإِنَّ ذَلِكَ خَفِيٌّ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْزِمَ الْقَوْل فِيهِ إِلاَّ بَعْدَ خَبِرَةٍ بَاطِنَةٍ،
سَمِعَ عُمَرُ رضي الله عنه رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ،
فَقَال: أَسَافَرْتَ مَعَهُ؟ قَال: لاَ،
قَال: أَخَالَطْتُهُ فِي الْمُبَايَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ؟ قَال: لاَ،
قَال: فَأَنْتَ جَارُهُ صَبَاحَهُ وَمَسَاءَهُ؟ قَال: لاَ، قَال: وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لاَ أَرَاكَ تَعْرِفُهُ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ قَدْ يَفْرَحُ الْمَمْدُوحُ وَهُوَ ظَالِمٌ أَوْ فَاسِقٌ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِز قَال الْحَسَنُ: مَنْ دَعَا لِظَالِمٍ بِطُول الْبَقَاءِ، فَقَدْ أَحَبَّ أَنْ يُعْصَى اللَّهُ تَعَالَى فِي أَرْضِهِ.
وَالظَّالِمُ الْفَاسِقُ يَنْبَغِي أَنْ يُذَمَّ لِيَغْتَمَّ، وَلاَ يُمْدَحَ لِيَفْرَحَ.
ب. وَأَمَّا الْمَمْدُوحُ،
فَيَضُرُّهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يُحْدِثُ فِيهِ كِبْرًا وَإِعْجَابًا وَهُمَا مُهْلِكَانِ
الثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ إِذَا أَثْنَى عَلَيْهِ بِالْخَيْرِ فَرِحَ بِهِ وَفَتَرَ وَرَضِيَ عَنْ نَفْسِهِ
أَمَّا إِذَا سَلِمَ الْمَدْحُ مِنْ هَذِهِ الافَاتِ فِي حَقِّ الْمَادِحِ وَالْمَمْدُوحِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، بَل رُبَّمَا كَانَ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ. [إحياء علوم الدين (3) / (233) – (235)].
وَقَال الْخَادِمِي: مِنَ السِّتَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِآفَاتِ اللِّسَانِ – فِيمَا الأَصْل فِيهِ الإِذْنُ وَالإِبَاحَةُ مِنْ جَانِبِ الشَّرْعِ – الْمَدْحُ، وَهُوَ جَائِزٌ تَارَةً وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ تَارَةً عَلَى اخْتِلاَفِ الأَحْوَال وَالأَوْقَاتِ، فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَسَائِرِ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَنَحْوِهِمَا مِمَّنْ يَجِبُ تَعْظِيمُهُ فَهُوَ مِنَ الْقُرْبِ وَأَعْلَى الرُّتَبِ، وَجَازَ الْمَدْحُ – أَيْ لِغَيْرِهِمْ كَمَا صَرَّحَ ابْنُ أَحْمَدَ – لأَنَّهُ يُورِثُ زِيَادَةَ الْمَحَبَّةِ وَالأُلْفَةِ وَاجْتِمَاعَ الْقُلُوبِ.
ثالثًا: شروط جواز المدح:
ثُمَّ قَال الْخَادِمِي: لَكِنْ جَوَازُهُ بِشُرُوطٍ خَمْسَةٍ:
الأَوَّل: أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَدْحُ لِنَفْسِهِ؛ لأَنَّ تَزْكِيَةَ النَّفْسِ لاَ تَجُوزُ؛ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [سورة النجم / (32)]، لَكِنْ إِنْ كَانَ يَقْصِدُ التَّحْدِيثَ بِالنِّعْمَةِ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ جَائِزٌ، بَل قَدْ يُسْتَحَبُّ، وَفِي حُكْمِ مَدْحِ النَّفْسِ مَدْحُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الأَوْلاَدِ وَالابَاءِ وَالتَّلاَمِذَةِ وَالتَّصَانِيفِ وَنَحْوِهَا بِحَيْثُ يَسْتَلْزِمُ مَدْحَ الْمَادِحِ.
وَالثَّانِي: الاِحْتِرَازُ عَنِ الإِفْرَاطِ فِي الْمَدْحِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْكَذِبِ وَالرِّيَاءِ، وَعَنِ الْقَوْل بِمَا لاَ يَتَحَقَّقُهُ، وَلاَ سَبِيل لَهُ إِلَى الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ كَالتَّقْوَى وَالْوَرَعِ وَالزُّهْدِ لِكَوْنِهَا مِنْ أَحْوَال الْقُلُوبِ، فَلاَ يَجْزِمُ الْقَوْل بِمِثْلِهَا بَل يَقُول: أَحْسَبُ وَنَحْوُهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَمْدُوحُ فَاسِقًا
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمَدْحَ لاَ يُحْدِثُ فِي الْمَمْدُوحِ كِبْرًا
وَأَمَّا إِذَا أَحْدَثَ فِي الْمَمْدُوحِ كَمَالًا وَزِيَادَةَ مُجَاهَدَةٍ وَسَعَى طَاعَةً فَلاَ مَنْعَ بَل لَهُ اسْتِحْبَابٌ.
وَالْخَامِسُ: أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَدْحُ لِغَرَضٍ حَرَامٍ، أَوْ مُفْضِيًا إِلَى فَسَادٍ، مِثْل مَدْحِ الأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ لِيَتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْمَال الْحَرَامِ الْمُجَازَى بِهِ مِنْهُمْ أَوِ التَّسَلُّطِ عَلَى النَّاسِ وَظُلْمِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ [بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية (4) / (19) – (25)].
وَقَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: لاَ يُكْثِرُ مِنَ الْمَدْحِ الْمُبَاحِ، وَلاَ يَتَقَاعَدُ عَنِ الْيَسِيرِ مِنْهُ عِنْدَ مَسِيسِ الْحَاجَةِ، تَرْغِيبًا لِلْمَمْدُوحِ فِي الإِكْثَارِ مِمَّا مُدِحَ بِهِ، أَوْ تَذْكِيرًا لَهُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ لِيَشْكُرَهَا وَلِيَذْكُرَهَا بِشَرْطِ الامِنِ عَلَى الْمَمْدُوحِ مِنَ الْفِتْنَةِ [قواعد الأحكام (2) / (177)].
ربعًا:
وَقَدْ عَقَدَ النَّوَوِيُّ بَابًا فِي كِتَابِهِ (رِيَاضِ الصَّالِحِينَ) بِعِنْوَانِ (كَرَاهَةُ الْمَدْحِ فِي الْوَجْهِ لِمَنْ خِيفَ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ مِنْ إِعْجَابٍ وَنَحْوِهِ، وَجَوَازُهُ – أَيْ: بِلاَ كَرَاهَةٍ – لِمَنْ أُمِنَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ)؛ أَوْرَدَ فِيهِ أَحَادِيثَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْمَدْحِ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو مُوسَى رضي الله عنه …
وَمَا رَوَاهُ هَمَّامُ بْنُ الْحَارِثِ عَنِ الْمِقْدَادِ رضي الله عنه …
وَوَرَدَ أَنَّهُ ? قَال لِعُمَرَ: مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ إِلاَّ سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ [حديث: «ما لقيك الشيطان سالكًا». أخرجه البخاري (الفتح (7) / (41))]،
ثُمَّ قَال النَّوَوِيُّ: قَال الْعُلَمَاءُ: وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ الأَحَادِيثِ – …. وسبق نقله [دليل الفالحين (4) / (584) – (588)].
وقال ابن الملقن:
“الجمع أن يكون النهي محمولًا على المجازفة في المدح والزيادة في الأوصاف، أو على من يخاف عليه فتنة بإعجاب، وأما من لا يخاف عليه ذلك فلا نهي في مدحه في وجهه إذا لم يكن فيه مجازفة، بل إن كان يحصل منه مصلحة؛ لازدياد في الخير، أو الدوام عليه، أو الاقتداء به، كان مستحبًّا”. [التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (ت (804))]. انتهى.
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: تَأَوَّل الْعُلَمَاءُ، قَوْلَهُ ? احْثُوا التُّرَابَ فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ، أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَدَّاحُونَ فِي وُجُوهِهِمْ بِالْبَاطِل وَبِمَا لَيْسَ فِيهِمْ حَتَّى يَجْعَلُوا ذَلِكَ بِضَاعَةً يَسْتَأْكِلُونَ بِهِ الْمَمْدُوحَ وَيَفْتِنُونَهُ [تفسير القرطبي (5) / (247)].
(المسألة الثالثة): مَا يَفْعَلُهُ الْمَمْدُوحُ:
(6) – قَال الْغَزَالِيُّ: عَلَى الْمَمْدُوحِ أَنْ يَكُونَ شَدِيدَ الاِحْتِرَازِ عَنْ آفَةِ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَآفَةِ الْفُتُورِ، وَلاَ يَنْجُو مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ بِأَنْ يَعْرِفَ نَفْسَهُ، وَيَتَأَمَّل مَا فِي خَطَرِ الْخَاتِمَةِ، وَدَقَائِقِ الرِّيَاءِ وَآفَاتِ الأَعْمَال، فَإِنَّهُ يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ مَا لاَ يَعْرِفُهُ الْمَادِحُ، وَلَوِ انْكَشَفَ لَهُ جَمِيعُ أَسْرَارِهِ وَمَا يَجْرِي عَلَى خَوَاطِرِهِ لِكَفِّ الْمَادِحُ عَنْ مَدْحِهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَ كَرَاهَةَ الْمَدْحِ بِإِذْلاَل الْمَادِحِ [إحياء علوم الدين (3) / (236)]، قَال ?: إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ [تقدم تخريجه ف (5)].
وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ [فتح الباري (10) / (478)]: أَنَّهُ إِذَا مُدِحَ الرَّجُل فِي وَجْهِهِ، فَلْيَقُل: اللَّهُمَّ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لاَ يَعْلَمُونَ، وَاجْعَلْنِي خَيْرًا مِمَّا يَظُنُّونَ [أثر: «اللهم لا تؤاخذني بما يقولون. . .». أخرجه البيهقي في شعب الإِيمان ((4) / (288))].
(المسألة الرابعة): مَدْحُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ وَذِكْرُ مَحَاسِنِهِ:
(7) – ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلإِنْسَانِ فِي الْجُمْلَةِ أَنْ يَمْدَحَ نَفْسَهُ وَأَنْ يُزْكِيَهَا، قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: وَمَدْحُكَ نَفْسَكَ أَقْبَحُ مِنْ مَدْحِكَ غَيْرِكَ، فَإِنَّ غَلَطَ الإِنْسَانِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَكْثَرُ مِنْ غَلَطِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَإِنَّ حُبَّكَ الشَّيْءَ يَعْمِي وَيَصُمُّ، وَلاَ شَيْءَ أَحَبُّ إِلَى الإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ يَرَى عُيُوبَ غَيْرِهِ وَلاَ يَرَى عُيُوبَ نَفْسِهِ، وَيَعْذِرُ بِهِ نَفْسَهُ بِمَا لاَ يَعْذِرُ بِهِ غَيْرَهُ؛ وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}، وَقَال {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَل اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ}.
* وَلاَ يَمْدَحُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ إِلاَّ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ، مِثْل: أَنْ يَكُونَ خَاطِبًا إِلَى قَوْمٍ فَيُرَغِّبَهُمْ فِي نِكَاحِهِ، أَوْ لِيُعَرِّفَ أَهْلِيَّتَهُ لِلْوِلاَيَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ، لِيَقُومَ بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنًا أَوْ كِفَايَةً كَقَوْل يُوسُفَ عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}.
وَقَدْ يَمْدَحُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ لِيُقْتَدَى بِهِ فِيمَا مَدَحَ نَفْسَهُ بِهِ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالأَقْوِيَاءِ الَّذِينَ يَامَنُونَ التَّسْمِيعَ وَيُقْتَدَى بِأَمْثَالِهِمْ [قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام (2) / (177) – (178)]،
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ ?: ((أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ)) [حديث: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر». أخرجه مسلم ((4) / (1782))]،
وَقَوْل عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَاللَّهِ مَا آيَةٌ إِلاَّ وَأَنَا أَعْلَمُ بِلَيْلٍ نَزَلَتْ أَمْ بِنَهَار
قَال ابْنُ مُفْلِحٍ فَهَذِهِ الأَشْيَاءُ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الشُّكْرِ لِلَّهِ وَتَعْرِيفُ الْمُسْتَفِيدِ مَا عِنْدَ الْمَفِيدِ [الآداب الشرعية لابن مفلح (3) / (474) – (475)].
وَقَال: اعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَ مَحَاسِنِ نَفْسِهِ ضَرْبَانِ: مَذْمُومٌ وَمَحْبُوبٌ، فَالْمَذْمُومُ: أَنْ يَذْكُرَهُ لِلاِفْتِخَارِ وَإِظْهَارِ الاِرْتِفَاعِ وَالتَّمَيُّزِ عَلَى الأَقْرَانِ وَشِبْهُ ذَلِكَ، وَالْمَحْبُوبُ: أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ آمِرًا بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَاهِيًا عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ نَاصِحًا، أَوْ مُشِيرًا بِمَصْلَحَةٍ، أَوْ مُعَلِّمًا، أَوْ مُؤَدِّبًا، أَوْ وَاعِظًا، أَوْ مُذَكِّرًا، أَوْ مُصْلِحًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ شَرًّا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَيَذْكُرُ مَحَاسِنَهُ نَاوِيًا بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَقْرَبَ إِلَى قَبُول قَوْلِهِ وَاعْتِمَادِ مَا يَذْكُرُهُ، أَوْ أَنَّ هَذَا الْكَلاَمَ الَّذِي أَقُولُهُ لاَ تَجِدُونَهُ عِنْدَ غَيْرِي فَاحْتُفِظُوا بِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ [الأذكار للنووي ص (246) – (248)].
وقال ابنُ عُثَيمين: (ثَناءُ المَرءِ على نَفسِه له أربَعُ أحوالٍ:
الحالُ الأولى: أن يُريدَ بذلك التَّحَدُّثَ بنِعمةِ اللهِ عليه فيما حَباه به مِن الإيمانِ والثَّباتِ. الحالُ الثَّانيةُ: أن يُريدَ بذلك تَنشيطَ أمثالِه ونُظَرائِه على مِثل ما كان عليه.
فهاتانِ الحالانِ مُحمودتانِ لما تَشتَمِلانِ عليه مِن هذه النِّيَّة الطَّيِّبةِ.
الحالُ الثَّالثةُ: أن يُريدَ بذلك الفخرَ والتَّباهيَ والإدلالَ على اللهِ -عَزَّ وجَلَّ- بما هو عليه مِن الإيمانِ والثَّباتِ، وهذا غَيرُ جائِزٍ.
الحالُ الرَّابعةُ: أن يُريدَ بذلك مُجَرَّدَ الخَبَرِ عن نَفسِه بما هو عليه مِن الإيمانِ والثَّباتِ، فهذا جائِزٌ ولَكِنَّ الأولى تَركُه).
((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (3/ 97).
قال ابن كثير:
وقوله تعالى: فلا تزكوا أنفسكم أي تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم هو أعلم بمن اتقى كما قال تعالى: ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا [النساء (49)]. وقال مسلم في صحيحه: حدثنا عمرو الناقد، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن عمرو بن عطاء قال:
سميت ابنتي برة فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: أن رسول الله ? نهى عن هذا الاسم وسميت برة، فقال رسول الله ?: «لا تزكوا أنفسكم إن الله أعلم بأهل البر منكم» فقالوا: بم نسميها؟
قال: «سموها زينب»
قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حِينَ قَالُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18]
تفسير ابن كثير
وفي تيسير العزيز الحميد:
ومحبة المدح من العبد لنفسه تخالف ما يحبه الله منه، والمادح يغره من نفسه فيكون آثمًا، فمقام العبودية يقتضي كراهة المدح رأسًا، والنهي عنه صيانة لهذا المقام، فمتى أخلص العبد الذل لله والمحبة له، خلصت أعماله وصحت، ومتى أدخل عليها ما يشوبها من هذه الشوائب، دخل على مقام العبودية بالنقص أو الفساد، وإذا أداه المدح إلى التعاظم في نفسه والإعجاب بها، وقع في أمر عظيم ينافي العبودية الخاصة، كما في الحديث: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني شيئًا منهما عذبته» (1). وفي الحديث: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» (2). وهذه الآفات قد تكون محبة المدح سببًا لها وسلمًا إليها، والعجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وأما المادح فقد يفضي به المدح إلى أن ينْزل الممدوح منْزلة لا يستحقها، كما يوجد كثيرًا من أشعارهم من الغلو الذي نهى عنه الرسول ? وحذر أمته أن يقع منهم، فقد وقع الكثير منه حتى صرحوا فيه بالشرك في الربوبية والإلهية والملك، كما تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك.
والنبي ? لما أكمل الله له مقام العبودية صار يكره أن يمدح صيانة لهذا المقام، وأرشد الأمة إلى ترك ذلك نصحًا لهم، وحماية لمقام التوحيد عن أن يدخله ما يفسده أو يضعفه، من الشرك ووسائله {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} (3). ورأوا أن فعل ما نهاهم ? عن فعله قربة من أفضل القربات، وحسنة من أعظم الحسنات. انتهى
(المسألة الخامسة): مَدْحُ الْمَيِّتِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ:
(8) – نَقَل ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ عَنِ الزَّيْنِ بْنِ الْمُنِيرِ: أَنَّ ثَنَاءَ النَّاسِ عَلَى الْمَيِّتِ مَشْرُوعٌ وَجَائِزٌ مُطْلَقًا، بِخِلاَفِ الْحَيِّ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إِذَا أَفْضَى إِلَى الإِطْرَاءِ خَشْيَةً عَلَيْهِ مِنَ الزَّهْوِ [فتح الباري (3) / (229)].
وَقَال النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ الثَّنَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ، وَذِكْرُ مَحَاسِنِهِ.
وَقَال: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ مَرَّ بِهِ جِنَازَةٌ أَوْ رَأَىهَا أَنْ يَدْعُوَ لَهَا وَيُثْنِيَ عَلَيْهَا بِالْخَيْرِ إِنْ كَانَتْ أَهْلًا لِلثَّنَاءِ، وَلاَ يُجَازِفُ فِي الثَّنَاءِ.
وَنَقَل فِي الْمَجْمُوعِ عَنِ الْبَنْدَنِيجِيِّ نَحْوَ ذَلِكَ [الأذكار ص (105)، (146)، والمجموع (5) / (281)، وفتح الباري (3) / (228) – (229)].
وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه، قَال: مَرُّوا بِجِنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَال النَّبِيُّ ?: وَجَبَتْ. ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَال: وَجَبَتْ. فَقَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: مَا وَجَبَتْ؟ قَال: هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ [حديث: «مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرًا. . .». أخرجه البخاري (فتح الباري (3) / (228))، ومسلم ((2) / (655)) من حديث أنس واللفظ للبخاري].
قَال الدَّاوُدِيُّ: الْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ أَهْل الْفَضْل وَالصِّدْقِ، لاَ الْفَسَقَةُ؛ لأَنَّهُمْ قَدْ يُثْنُونَ عَلَى مَنْ يَكُونُ مِثْلَهُمْ، وَلاَ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ عَدَاوَةٌ، لأَنَّ شَهَادَةَ الْعَدُوِّ لاَ تُقْبَل. [فتح الباري (3) / (230) – (231)].
وَقَال النَّوَوِيُّ: قَال بَعْضُهُمْ: مَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ الثَّنَاءَ بِالْخَيْرِ لِمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ أَهْل الْفَضْل – وَكَانَ ذَلِكَ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ – فَهُوَ مِنْ أَهْل الْجَنَّةِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ فَلاَ، وَكَذَا عَكْسُهُ قَال: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى عُمُومِهِ وَأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَأَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى النَّاسَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ بِخَيْرٍ كَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْل الْجَنَّةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ أَفْعَالُهُ تَقْتَضِي ذَلِكَ أَمْ لاَ، فَإِنَّ الأَعْمَال دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، وَهَذَا إِلْهَامٌ يُسْتَدَل بِهِ عَلَى تَعْيِينِهَا، وَبِهَذَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ الثَّنَاءِ.
قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: وَهَذَا فِي جَانِبِ الْخَيْرِ وَاضِحٌ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَشْهَدُ لَهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ جِيرَانِهِ الأَدْنَيْنَ، وَفِي رِوَايَةٍ: ثَلاَثَةٌ مِنْ جِيرَانِهِ الأَدْنَيْنَ أَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مِنْهُ إِلاَّ خَيْرًا إِلاَّ قَال اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ قَبِلْتُ قَوْلَكُمْ وَغَفَرْتُ لَهُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [حديث: «ما من مسلم يموت فيشهد. . .». أخرجه الرواية الأولى أحمد في المسند ((2) / (408))، وأخرج الرواية الثانية أيضًا أحمد ((3) / (242)) من حديث أنس – قال الهيثمي في مجمع الزوائد ((3) / (4)): ورجال أحمد رجال الصحيح]، وَأَمَّا جَانِبُ الشَّرِّ فَظَاهِرُ الأَحَادِيثِ أَنَّهُ كَذَلِكَ، لَكِنْ إِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ غَلَبَ شَرُّهُ عَلَى خَيْرِهِ [فتح الباري (3) / (288) – (231)، والأذكار للنووي ص (146)، (150) – (151)]، لِحَدِيثِ: إِنَّ لِلَّهِ مَلاَئِكَةً تَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَةِ بَنِي آدَمَ بِمَا فِي الْمَرْءِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ [حديث: «إن لله ملائكة. . .». أخرج الحاكم في المستدرك ((1) / (377)) من حديث أنس وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي].
قَال فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَكَرِهَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الإِفْرَاطِ فِي مَدْحِ الْمَيِّتِ عِنْدَ جِنَازَتِهِ؛ حَتَّى كَانُوا يَذْكُرُونَ مَا هُوَ يُشْبِهُ الْمُحَال، وَأَصْل الثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ عَلَى الْمَيِّتِ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، وَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ بِمَا لَيْسَ فِيهِ. [الفتاوى الهندية (5) / (319)]. [جميع المسائل السابقة من الموسوعة الفقهية الكويتية، (36/ 275 – 382)].
(المسألة السادسة):
مواقف من التواضع:
روى ابن أبي شيبة في المصنف بسنده عن حبيب بن أبي ثابت قال: رأى ابن مسعود ناس فجعلوا يمشون خلفه فقال ألكم حاجة قالوا: لا، قال: ارجعوا فإنها ذلة للتابع وفتنة للمتبوع.
وذكر ابن الجوزي في صفة الصفوة بعد ذكر هذه القصة عن الحارث بن سويد قال: قال عبد الله: لو تعلمون ما أعلم من نفسي حثيتم على رأسي التراب.
وأخرج الحاكم في المستدرك أن عبد الله بن مسعود قال: لو تعلمون ذنوبي ما وطئ عقبي رجلان ولحثيتم على رأسي التراب ولوددت أن الله غفر لي ذنبا من ذنوبي وأني دعيت عند الله ابن روثة.
وقد كان من هدي السلف منع تعظيم الرجال لهم بالمشي خلفهم، فقد روي عن عمر أنه ضرب أبي بن كعب بالدرة لما رأى الناس يمشون خلفه وقال هذا ذلة للتابع وفتنة للمتبوع، ذكره شيخ الإسلام في المنهاج والغزالي في الإحياء.
وأما خروج ابن مسعود فليس من باب عزله ولا طرده فإنه كان مكرما من قبل أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وكانوا يجلونه، والظاهر أنه إنما رآه الناس يمشي في الشارع فأحبوا مرافقته فقط.
بعض لجان الفتوى
قال الألباني بعد أن تعقب المادح:
وبهذه المناسبة أنا أذكر أثرا صحيحا كان يتلفظ به الخليفة الراشد الأول ألا وهو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حينما كان يسمع ثناء في وجهه فيقول ” اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيرا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون ”
– موقف للشيخ ابن عثيمين رحمه الله
أحد تلاميذ الشيخ ـ رحمه الله ـ ألقى قصيدة بحضرة الشيخ ـ رحمه الله ـ، قال فيها:
يَا أُمَّتِي! إِنَّ هَذَا اللَّيلَ يَعقُبُهُ
فَجرٌ، وَأَنوَارُهُ فِي الأَرضِ تَنتَشِرُ
وَالخَيرُ مُرتَقَبٌ، وَالفَتحُ مُنتَظَرُ
وَالحَقُّ رَغمَ جُهُودِ الشَّرِّ مُنتَصِرُ
وَبِصَحوَةٍ بَارَكَ البَارِي مَسِيرَتَهَا
نَقِيَّةٍ مَا بِهَا شَوبٌ وَلاَ كَدَرُ
مَا دَامَ فِينَا ابنُ صَالِحٍ شَيخُ صَحوَتِنَا
بِمِثلِهِ يُرتَجَى التَّأيِيدُ وَالظَّفَرُ
فما كان من الإمام الفقيه ـ رحمه الله ـ إلا أن قاطعه،
وقال: “أنا لا أوافق على هذا البيت، لا لا أوافق؛ لأني لا أريد أن يُربَط الحقُّ بالأشخاص.
كلُّ شخصٍ سيفنى، فإذا ربطنا الحقَّ بالأشخاص؛ معناه أنَّ الإنسان إذا مات قد ييأس النَّاسُ من هذا.
فأقول: إذا كان يمكنك الآن تبدِّل البَيت “مَا دَامَ فِينَا كِتَابُ اللهِ وسُنَّةُ رَسُولِهِ”، هذا طيِّب”.
ثم حاول الطالب إصلاح البيت الذي نسفه تواضع الشيخ ـ رحمه الله ـ، ولما عجز عن ذلك، أوقفه الشيخ ـ رحمه الله ـ،
ثم قال:
“أنا أنصحُكم من الآن ـ وبعد الآن ـ: ألاَّ تجعَلُوا الحقَّ مربوطًا بالرِّجال؛ الرِّجال:
أوَّلاً يَضِلُّون؛ حتىَّ ابن مسعود رضي الله عنه يقول: “مَن كَانَ مُستَنًّا؛ فَلْيَستَنَّ بِمَن مَاتَ، فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَن علَيه الفِتنَة”،
الرِّجال إذا جعَلتُم الحقَّ مربوطًا بهم يُمكِن الإنسان يغترُّ بنفسه ـ نعوذ بالله من ذلك ـ، ويسلُك طرُقًا غيرَ صحيحة.
ولذلك؛ أنا أنصحكم الآن ألاَّ تجعلوا الحقَّ مقيَّدًا بالرِّجال؛ الرجل:
أوَّلاً: ما يَأمَنُ الإنسانُ ـ نسأل الله أن يثبِّتَنا وإيَّاكم ـ، ما يَأمَنُ الزَّلَل والفِتنة.
وثانِيًا: أنَّه سيَمُوت؛ ما في أحد سيبقى “وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ”.
وثالثاً: أنَّ بني آدم بشَرٌ؛ ربما يغترُّ إذا رأى النَّاس ـ يعني ـ يبجِّلونه، ويُكرِمونَه، ويلتَفُّون حولَه، ربَّما يغتَرُّ ويظُنُّ أنَّه معصومٌ، ويدَّعي لنفسه العِصمة، وأنَّ كلَّ شيءٍ يفعله فهو حقٌّ، وكلُّ طريقٍ يسلُكه فهو مشروعٌ، فيحصُل بذلك الهلاك.
ولهذا امتدَح رجلٌ رجلاً عند النَّبِيِّ ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ فقال: “وَيحَكَ، قَطَعتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ”، أو قال: “ظَهرَ صَاحِبِكَ”.
وأنا أشكر الأخ مقدَّمًا ـ وإن لم أسمع ما يقولُه فيَّ ـ على ما يُبدِيه من السُّرور نحوي، وأسأل الله أن يجعلني عند حسن ظنِّه أو أكثر، ولكن ما أحِبُّ هذا، وأنا أجازيك مجازاةً ـ إن شاء الله تعالى ـ: أسأل الله أن يجزيك عني خيرًا، وأن يُثِيبك”. [(لقاء الباب المفتوح 47)].