(2997) فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
مجموعة: جمع أحمد بن علي وعبدالله المشجري وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد وأسامة الحميري ومحمد فارح ويوسف بن محمد السوري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من ((56)) – (كِتَابُ: الزُّهْدِ، وَالرَّقَائِقِ)، (11) – باب في الفأر وأنه مسخ
(61) – ((2997)) حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى العنزي ومحمد بن عبد الله الرزي. جميعا عن الثقفي (واللفظ لابن المثنى). حدثنا عبد الوهاب. حدثنا خالد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قال:
قال رسول الله ? «فقدت أمة من بني إسرائيل، لا يدري ما فعلت. ولا أراها إلا الفأر. ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه. وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته؟».
قال أبو هريرة: فحدثت هذا الحديث كعبا فقال: آنت سمعته من رسول الله ?؟ قلت: نعم. قال ذلك مرارا. قلت: أأقرأ التوراة؟ قال إسحاق في روايته «لا ندري ما فعلت».
(62) – ((2997)) وحَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ. حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
قال «الفأرة مسخ. وآية ذلك أنه يوضع بين يديها لبن الغنم فتشربه. ويوضع بين يديها لبن الإبل فلا تذوقه» فقال له كعب: أسمعت هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ?؟ قال: أفأنزلت علي التوراة؟
==========
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
في بعض النسخ قال الحافظ النووي رحمه الله: (” [((11))]- (باب في الفأر وأنه مسخ) “).
علاقة أحاديث الباب بكتاب الزهد والرقائق هذا الحديث يبرز أهمية التذكير بعواقب العصيان كما حصل للأمم السابقة، إذ ينبه إلى أن الابتعاد عن طاعة الله قد يجر على الأمة عقوبة شديدة، كالمسخ.
ويُظهر الحديث أيضًا موقف السلف من مسائل التوبة والزهد، إذ أن معرفة حال من سبق قد تكون باعثًا على الاعتبار والابتعاد عن مشابهة أهل الضلال.
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7465)] ((2997)) -الحديث
شرح الحديث:
(عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: “فُقِدَتْ) بالبناء للمفعول، (أُمَّةٌ)؛ أي: جماعة وطائفة (مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَا يُدْرَى) بالبناء للمفعول؛ أي: لا يُعلم (مَا فَعَلَتْ؟)، أي: أيّ شيء صنعت، هل هي موجودة، أم هالكة، (وَلَا أُرَاهَما) بضمّ الهمزة، وفتحها؛ أي: لا أظنّها (إِلَّا الْفَأْرَ) جمع فأرة، وهذا ظاهر أنه ? لم يوح إليه بأنها هي، وإنما أخبر بظنّه، وهذا قبل أن يوحى إليه بأن الممسوخ لا نسل له، والله تعالى أعلم، ثم استدلّ على ما ظنّه بقوله: (أَلَا) أداة تحضيض، (تَرَوْنَهَا إِذَا وُضِعَ) بالبناء للمفعول، (لَهَا أَلْبَانُ الإِبِلِ، لَمْ تشْرَبْهُ)؛ أي: لأن بني إسرائيل حُرّمت عليهم لحوم الإبل، وألبانها، فامتناعها من شُرب لبنها دليل على أنها من الممسوخين من بني إسرائيل، (وَإِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الشَّاءِ) جمع شاة، (شَرِتَبْهُ) قال النوويّ رحمه الله: معنى هذا أن لحوم الإبل وألبانها حُرمت على بني إسرائيل دون لحوم الغنم، وألبانها، فدلّ امتناع الفأرة من لبن الإبل دون الغنم على أنها مسخ من بني إسرائيل. انتهى.
وهذا قاله النبي ? بظنه واجتهاده، قبل أن يُعْلِمَه الله أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام، ثم أعلمه الله بعد ذلك أن الفأر ليس مسخًا؛ وإنما هي أمة من الأمم، كالكلاب، والخنازير، والطيور.
وأما الذين مُسخوا من بني إسرائيل، فقد مُسخوا قردةً، وخنازيرَ – والعياذ بالله -، ثم ماتوا بعد ثلاثة أيام؛ لأن الممسوخ لا يعيش ولا ينسل، أما هذه القردة والخنازير الموجودة فهي أمة من الأمم. قاله صاحب [توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (8) / (434)].
(قَالَ أَبُو هرَيْرَةَ) رضي الله عنه، هو موصول بالسند السابق، وليس معلّقًا، فتنبّه.
(فَحَدَّثْتُ هَذَا الْحَدِيثَ كَعْبًا) هو: كعب بن ماتع الْحِمْيريّ، أبو إسحاق المعروف بكعب الأحبار، ثقة من الطبقة الثانية، مخضرم، كان من أهل اليمن، فسكن الشام، ومات في آخر خلافة عثمان رضي الله عنهما، وقد زاد على المائة، تقدّمت ترجمته في «الإيمان» (92) / (497).
(فَقَالَ) كعب لأبي هريرة (آنْتَ) بمد الهمزة، أصله: أأنت بهمزتين، أُولاهما للاستفهام، فأُبدلت الثانية ألفًا. (سَمِعْتَهُ)، أي: هذا الحديث (مِنْ رَسُولِ اللهِ ?؟) قال أبو هريرة: (قُلْتُ: نَعَمْ) سمعته منه، (قَالَ) كعب (ذَلِكَ مِرَارًا) للتأكّد من الخبر، قال أبو هريرة (قُلْتُ: أَأَقْرَأُ التَّوْرَاةَ؟) بهمزة الاستفهام الإنكاريّ، وفي الرواية التالية: «أفأُنزلت عليّ التوراة؟»؛ أي: لا علم عندي إلا ما سمعته منه ?.
قال في «الفتح»: وفي سكوت كعب عن الردّ على أبي هريرة دلالة على تورعه، وكأنهما جميعًا لم يبلغهما حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: «وذُكر عند النبيّ ? القردة، والخنازير، فقال: إن الله لم يجعل للمسخ نسلًا، ولا عَقِبًا، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك»، وعلى هذا يُحمل قوله ?: «لا أراها إلا الفأر»، وكأنه كان يظن ذلك، ثم أُعلم بأنها ليست هي، قال ابن قتيبة: إن صح هذا الحديث، وإلا فالقردة والخنازير هي المسوخ بأعيانها، توالدت.
قال الحافظ: الحديث صحيح. انتهى.
قال ابن الجوزي (ت (597)) عفا الله عنه: “أَي لَا أظنها، وَالظَّاهِر أَنه قَالَ هَذَا بظنه، ثمَّ أعلم بعد ذَلِك، فَقَالَ مَا سبق فِي مُسْند ابْن مَسْعُود: «إِن الله لم يمسخ مسخا فَيجْعَل لَهُ نَسْلًا وَلَا عَاقِبَة» “. [كشف المشكل من حديث الصحيحين (3) / (486)].
* قال ابن الملقن (ت (804)) في *التوضيح لشرح الجامع الصحيح* (19) / (245): عند مسلم «الفأرة مسخ، وآية ذلك أنه يوضع بين يديها لبن الغنم فتشربه». الحديث، والظاهر أنه قال هذا أولًا ثم أعلم بعد مما رواه مسلم من حديث ابن مسعود، وذكر عنده صلى الله عليه وسلم القردة والخنازير أهنَّ مسخ؟ فقال: «إن الله لم يجعل لمسخ نسلًا ولا عقبًا» ((1))، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك. وقال ابن قتيبة: أنا أظن أن القردة والخنازير هي المسوخ بأعيانها توالدت، إلا أن يصح هذا الحديث.
قلت: قد صح. وقال ابن التين: قوله في الفأرة على ما ذكره من الظن لا يقطع فيه بشيء.
* قال ابن حجر العسقلاني (ت (852)) في *فتح الباري* (7) / (160): قَوْلُهُ رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَاحِدَةُ الْقُرُودِ وَقَوْلُهُ اجْتَمَعَ عَلَيْهَا قِرَدَةٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ جَمْعُ قِرْدٍ وَقَدْ سَاقَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُطَوَّلَةً مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ حِطَّانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ كُنْتُ فِي الْيَمَنِ فِي غَنَمٍ لأهلي وانا على شرف فجَاء قرد مَعَ قِرَدَةٍ فَتَوَسَّدَ يَدَهَا فَجَاءَ قِرْدٌ أَصْغَرُ مِنْهُ فَغَمَزَهَا فَسَلَّتْ يَدَهَا مِنْ تَحْتِ رَاسِ الْقِرْدِ الأول سلا رَقِيقا وَتَبِعَتْهُ فَوَقَعَ عَلَيْهَا وَأَنَا أَنْظُرُ ثُمَّ رَجَعَتْ فَجَعَلَتْ تُدْخِلُ يَدَهَا تَحْتَ خَدِّ الْأَوَّلِ بِرِفْقٍ فَاسْتَيْقَظَ فَزِعًا فَشَمَّهَا فَصَاحَ فَاجْتَمَعَتِ الْقُرُودُ فَجَعَلَ يَصِيحُ وَيُومِئُ إِلَيْهَا بِيَدِهِ فَذَهَبَ الْقُرُودُ يَمْنَةً ويسرة فجاؤوا بِذَلِكَ الْقِرْدِ أَعْرِفُهُ فَحَفَرُوا لَهُمَا حُفْرَةً فَرَجَمُوهُمَا فَلَقَدْ رَأَيْتُ الرَّجْمَ فِي غَيْرِ بَنِي آدَمَ قَالَ بن التِّينِ لَعَلَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا مِنْ نَسْلِ الَّذِينَ مُسِخُوا فَبَقِيَ فِيهِمْ ذَلِكَ الْحُكْمُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ الْمَمْسُوخَ لَا يَنْسِلُ قُلْتُ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ الْمَمْسُوخَ لَا نَسْلَ لَهُ وَعِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ بن مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا فَيَجْعَلُ لَهُمْ نَسْلًا وَقَدْ ذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ وَأَبُو بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ إِلَى أَنَّ الْمَوْجُودَ مِنَ الْقِرَدَةِ مِنْ نَسْلِ الْمَمْسُوخِ وَهُوَ مَذْهَب شَاذ اعْتمد من ذهب إِلَيْهِ على ماثبت أَيْضًا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ
? لَمَّا أُتِيَ بِالضَّبِّ قَالَ لَعَلَّهُ مِنَ الْقُرُونِ الَّتِي مُسِخَتْ وَقَالَ فِي الفأر فقدت أمة من بني إِسْرَائِيل لا أراها إِلَّا الْفَأْرَ وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ ? قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ وَلِذَلِكَ لَمْ يَاتِ الْجَزْمُ عَنْهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ النَّفْيِ فَإِنَّهُ جَزَمَ بِهِ كَمَا فِي حَدِيث بن مَسْعُودٍ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْقُرُودُ الْمَذْكُورَةُ مِنَ النَّسْلِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ مُسِخُوا لَمَّا صَارُوا عَلَى هَيْئَةِ الْقِرَدَةِ مَعَ بَقَاءِ أَفْهَامِهِمْ عَاشَرَتْهُمُ الْقِرَدَةُ الْأَصْلِيَّةُ لِلْمُشَابَهَةِ فِي الشكل فتلقوا عَنْهُم بعض ماشاهدوه مِنْ أَفْعَالِهِمْ فَحَفِظُوهَا وَصَارَتْ فِيهِمْ وَاخْتُصَّ الْقِرْدُ بِذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفِطْنَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَقَابِلِيَّةِ التَّعْلِيمِ لِكُلِّ صِنَاعَةٍ مِمَّا لَيْسَ لِأَكْثَرِ الْحَيَوَانِ وَمِنْ خِصَالِهِ أَنَّهُ يَضْحَكُ وَيَطْرَبُ وَيَحْكِي مَا يَرَاهُ وَفِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْغَيْرَةِ مَا يُوَازِي الْآدَمِيَّ ….
وَقد استنكر بن عَبْدِ الْبَرِّ قِصَّةَ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ هَذِهِ وَقَالَ فِيهَا إِضَافَةُ الزِّنَا إِلَى غَيْرِ مُكَلَّفٍ وَإِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْبَهَائِمِ وَهَذَا مُنْكَرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ فَإِنْ كَانَتِ الطَّرِيقُ صَحِيحَةً فَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا مِنَ الْجِنِّ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمُكَلَّفِينَ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَى الطَّرِيقِ الَّتِي أَخْرَجَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ حَسْبُ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ صُورَةِ الْوَاقِعَةِ صُورَةَ الزِّنَا وَالرَّجْمِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ زِنًا حَقِيقَةً وَلَا حَدًّا وَإِنَّمَا أُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِشَبَهِهِ بِهِ فَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ إِيقَاعَ التَّكْلِيفِ عَلَى الْحَيَوَانِ وَأَغْرَبَ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ فَزَعَمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ وَأَنَّ أَبَا مَسْعُودٍ وَحْدَهُ ذَكَرَهُ فِي الْأَطْرَافِ قَالَ وَلَيْسَ فِي نُسَخِ الْبُخَارِيِّ أَصْلًا فَلَعَلَّهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُقْحَمَةِ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ وَمَا قَالَهُ مَرْدُودٌ فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُور فِي مُعْظَمِ الْأُصُولِ الَّتِي وَقَفْنَا عَلَيْهَا
. وذكر ما ملخصه، أن هذا يجعلنا لا نثق في صحيح البخاري الذي اتفق على صحة أحاديثه
ثم قال: وَقَدْ أَطْنَبْتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِئَلَّا يَغْتَرَّ ضَعِيفٌ بِكَلَامِ الْحُمَيْدِيِّ فَيَعْتَمِدُهُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى فِي كِتَابِ الْخَيْلِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّ مُهْرًا أُنْزِيَ عَلَى أُمِّهِ فَامْتَنَعَ فَأُدْخِلَتْ فِي بَيت وجللت بكساء وانزي عَلَيْهَا فنزى فَلَمَّا شَمَّ رِيحَ أُمِّهِ عَمَدَ إِلَى ذَكَرِهِ فَقَطَعَهُ بِأَسْنَانِهِ مِنْ أَصْلِهِ فَإِذَا كَانَ هَذَا الْفَهْمُ فِي الْخَيْلِ مَعَ كَوْنِهَا أَبْعَدَ فِي الْفِطْنَةِ مِنَ الْقِرْدِ فَجَوَازُهَا فِي الْقِرْدِ أَوْلَى. انتهى
وقال القرطبيّ رحمه الله: فلما أُوحي إليه بذلك زال عنه ذلك التخوُّف، وعلم أن الضَّبَّ، والفأر ليسا من نسل ما مُسِخ، وعند ذلك أخبرنا بقوله: «إن الله لم يجعل لمسخٍ نسلًا» [المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (5) / (235)].
وفي الإفصاح لابن هبيرة: ” أما قوله: (لا أراها إلا الفأر)؛ فإنه يدل على أن رسول الله ? لم يقطع بذلك، وقد سبق في مسند ابن مسعود: (إن الله لم يمسخ مسخًا، فيجعل له نسلا) فالعمل على ذلك الذي قطع عليه”. [الإفصاح عن معاني الصحاح (7) / (185)].
قال الشوكانيّ رحمه الله: وقد صح عنه ? أن الممسوخ لا نسل له، والظاهر أنه لم يعلم ذلك إلا بوحي، وأن تردّده في الضبّ كان قبل الوحي بذلك. انتهى [«نيل الأوطار» (8) / (287)].
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، هذا متّفقٌ عليه.
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7466)] ( … ) – الحديث
والحديث متّفقٌ عليه.
* فقه وفوائد الحديث:
1 – (منها): إثبات مسخ الآدميّ إلى شكل الحيوانات الأخرى، والله على كلّ شيء قدير.
2 – (ومنها): أن فيه إثبات الاجتهاد للنبيّ ? بدلائل وقرائن تظهر له، دون أن يأتيه الوحي بذلك، ومن جملته هذا الحديث، ثم أعلمه الله عز وجل بأن الواقع خلاف ما ظنّه.
3 – (ومنها): أنه يدلّ على أن أبا هريرة لم يكن يأخذ عن أهل الكتاب، وأن الصحابيّ الذي يكون كذلك إذا أخبر بما لا مجال للرأي والاجتهاد فيه، يكون للحديث حُكم الرفع، قاله في «الفتح». [“الفتح” (6) / (253)]. [البحر المحيط].
4 – (ومنها): مشروعية التثبت في أمور الغيب، وهو ما فعله كعب عندما سأل أبا هريرة رضي الله عنه للتأكد مما سمعه من النبي ?.
5 – (ومنها): تنبيه على عاقبة انحراف الأمم السابقة، وأن المسخ كان إحدى العقوبات.
6 – (ومنها): فائدة تتعلق ببعض خصائص الممسوخ، وهي أنه لا يبقى ولا يتناسل.
7 – (ومنها): تأكيد التثبت في نقل الأحاديث عن الرسول ?.
8 – (ومنها): يأتي الحديث هنا كدرس عميق في الرقائق والزهد، موجهًا المسلمين إلى ضرورة اليقين بقدرة الله وعذابه، وأن العاصي يمكن أن يعاقب في الدنيا بطرق شديدة مثل المسخ، لكنه في الوقت ذاته تذكير بالرحمة الإلهية، فالعقوبة محدودة بزمانها ومكانها، ولا يتوارثها غيرهم، وهذا يتماشى مع سياق الرقائق؛ لأنه يعظ الناس ويذكرهم بعاقبة المعصية وبأن رحمة الله لا تعني التساهل في العقوبة لمن استحقها.
وقال ابن عثيمين رحمه الله تعالى: “وهل المراد بالقردة والخنازير هذه الموجودة؟
والجواب: لا؛ لما ثبت في (صحيح مسلم) عن النبي ?: «أن كل أمة مسخت لا يبقى لها نسل»، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك، وعلى هذا فليس هذا الموجود من القردة والخنازير هو بقية أولئك الممسوخين. انتهى. [مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (9) / (459)].
فالمسخ يقع كعقوبة مؤقتة دون امتداد النسل، ما يبرز الرحمة الإلهية في الاقتصار على المذنبين أنفسهم.
ثانيًا: الأحكام والمسائل والملحقات:
أولاً: المسخ كعقوبة إلهية: مفهومه وحقيقته
(المسألة الأولى): تعريف المسخ، وأنه تحويل الكائن إلى صورة أخرى كعقاب
قال الفيروزآبادي (ت (817)) رحمه الله:
المَسْخ: تشويهُ الخَلْق والخُلُق وتحويلهما من صورة إِلى صورة.
وقال بعض الحكماء: المَسْخُ ضربان:
مَسْخ خاصّ يحصل فى الفَيْنة، وهو مَسْخ الخَلْق؛ ومَسْخ يحصل فى كل زمان، وهو مسخ الخُلُق، وذلك أَن يصير الإِنسان بخُلُق ذميم من أَخلاق الحيوانات، نحو أَن يصير في شدّة الحرص كالكلب، أَو الشره كالخنزير، أَو اللُؤم كالقِرْد قال: وعلى هذا فى أَحد الوجهين قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير وَعَبَدَ الطاغوت}، قال: وقوله {وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ على مَكَانَتِهِمْ} يتضمّن الأَمرين، وإِن كان الأَوّل أَظهر. ومسخْتُ الناقة: أَتعبتها حتى أَزلت خِلقتها عن حالها. [بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز (4) / (506) — الفيروزآبادي (ت (817))].
(المسألة الثانية): المسخ عقوبة تصيب من ابتعد عن الدين والطاعة وتمادى في المعاصي.
ويدل على ذلك عقوبة بني إسرائيل عندما خالفوا أوامر الله تعالى، وضرب مثال عليهم في القردة والخنازير؛ قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}.
لَمَّا بكَّتَ اللهُ اليهودَ والنصارَى، وأقامَ الحُجَّة على هُزْئهم ولَعِبِهم بما تقدَّم، انتقَل عزَّ وجلَّ إلى ما هو أشدُّ تبكيتًا وتشنيعًا عليهم، بما فيه مِن التذكيرِ بسوءِ حالهم مع أنبيائهم، وما كان من جزائِهم على فِسقِهم، وتمرُّدِهم بأشدِّ ما جازَى اللهُ تعالى به الفاسقينَ الظَّالِمين لأنفسِهم، وهو اللَّعنُ والغَضَب، والمسخُ، وعبادةُ الطاغوتِ.
فمسَخ بعضَهم إلى قِرَدةٍ وخنازيرَ، كما في قوله: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ}؛ لما لنوعَيِ القِردةِ والخنازيرِ مِن الخسَّة والحَقارة، وما لهما في صدورِ الدَّهماءِ والخاصَّة من القُبحِ والتشويهِ، وشَناعةِ المنظَر، ونذالَة النَّفْس، وحقارة القَدْر، ووضاعة الطَّبْع، وقُبح الصوتِ، ودناءةِ الهمَّة، ممَّا ليس لغيرِهما مِن سائرِ أنواع الحيوانِ.
ولا نَسْلَ لِمَن مُسِخوا قردةً وخنازيرَ، فعن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه … الحديث [التفسير].
ثانيًا: حقيقة المسخ وعدم استمراريته:
الله عز وجل لم يجعل للمسخ نسلًا أو عقبًا، ويدل على ذلك ما رواه الإمام مسلم ((6747)) أن (أُمُّ حَبِيبَةَ – زَوْجُ النَّبِيِّ ? – رضي الله عنها، قَالَتْ: اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُول اللهِ ?، وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ ?: «قَدْ سَأَلْتِ اللهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَأَيَّامِ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّه، أَو يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّه، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَاب فِي النَّار، أَو عَذَابٍ فِي الْقَبْر، كَانَ خَيْرًا، وَأَفْضَلَ»، قَالَ: وَذُكِرَتْ عِنْدَهُ الْقِرَدَةُ، قَالَ مِسْعَرٌ: وَأُرَاهُ قَالَ: وَالْخَنَازِيرُ مِنْ مَسْخٍ، فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ لِمَسْخٍ نَسْلًا، وَلَا عَقِبًا، وَقَدْ كَانَتِ الْقِرَدَةُ، وَالْخَنَازِيرُ قَبْلَ ذَلِكَ»).
ثالثًا: التحذير من المعاصي وأثرها على الإنسان:
قال الحافظ رحمه الله: ويدلّ على جواز وقوع المسخ في هذه الأمة: ما أخرجه البخاريّ في «المغازي» من «صحيحه» من حديث أبي مالك الأشعريّ رضي الله عنه، أنه سمع النبيّ ? يقول: «ليكوننّ من أمتي أقوام يستحلون الْحِرَ، والحرير، والخمر، والمعازف [«الْحِرُ» بكسر الحاء، وتخفيف الراء: الفرج، و «المعازف»: آلات اللَّهو، كالعود، والطنبور، أفاده في «القاموس»]، ولَيَنْزِلَنَّ أقوام إلى جنب عَلَم يَرُوح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم -يعني الفقير- لحاجة، فيقولون: ارجع إلينا غدًا، فَيُبَيِّتُهُم اللَّه، ويَضَعُ العَلَم، ويَمْسَخ آخرين قِرَدةً وخنازير إلى يوم القيامة».
وأخرج أحمد في «مسنده» بسند صحيح عن عبد الرحمن بن صُحَار [بمهملتين أوله مضموم مع التخفيف، قاله في «الفتح» (8) / (142)] العبديّ، عن أبيه، قال: سمعت رسول اللَّه ? يقول: «لا تقوم الساعة حتى يُخسَف بقبائل، حتى يقال: من بَقِي من بني فلان؟»، فعرفت حين قال: قبائل أنها العربُ؛ لأن العجم إنما تُنسَب إلى قراها.
وأخرج الترمذيّ، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول اللَّه ?: «يكون في آخر الأمة خسف، ومسخ، وقَذْف». قالت: قلت: يا رسول اللَّه، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا ظهر الخبث» [في سنده عبد اللَّه بن عمر العمري المكبر ضعّفه بعضهم، لكن الحديث صحيح بشواهده].
وأخرج أيضًا بإسناد صحيح، عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول اللَّه ? قال: «في هذه الأمة خسفٌ، ومسخ، وقذف»، فقال رجل من المسلمين: يا رسول اللَّه، ومتى ذاك؟ قال: «إذا ظهرت القينات والمعازف، وشُربت الخمور»، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة الكثيرة. [بواسطة البحر المحطيط للأتيوبي].
وقد سبق أن من أشراط الساعة الصغرى:
ظهور الخسف والمسخ والقذف:
وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه عن النّبيّ ?؛ قال: «بين يدي السّاعة مسخٌ وخسفٌ وقذفٌ» [» سنن ابن ماجه «، كتاب الفتن، باب الخسوف، ((2) / (1349)). والحديث صحيح. انظر:» صحيح الجامع الصغير «((3) / (13)) (ح (2853))].
وقد جاء الخبر أن الزِّنادقة والاقدرِيَّةَ يقع عليهم المسخ والقذف.
روى الإِمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ قال: سمعتُ رسول الله ? يقول: «إنّه سيكون في أُمَّتي مسخٌ وقذفٌ، وهو في الزندقية والقدرية» [» مسند أحمد «((9) / (73) – (74)) (ح (6208))، تحقيق أحمد شاكر، وقال:» إسناده صحيح”].
قال الهيثمي: «رواه أحمد والطبراني وأبو يعلى والبزار، ورجاله ثقات». «مجمع الزوائد» ((8) / (9))].
وعن محمّد بن إبراهيم التَّيمي؛ قال: سمعتُ بقيره امرأة القعقاع بن أبي حدرد تقول: سمعتُ رسول الله ? على المنبر وهو يقول: «إذا سمعتُم بجيش قد خُسِفَ به قريبًا؛ فقد أظلَّتِ السّاعة» [«مسند أحمد» ((6) / (378) – (379) – بهامشه منتخب الكنز).
والحديث حسن الإِسناده انظر: «صحيح الجامع الصغير» ((1) / (228)) (ح (631))، و «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (م (3) / (340)) (ح (1355))].
والخسف قد وُجِد في مواضع في الشرق والغرب [انظر: «التذكرة» (ص (654))، و «فتح الباري» ((13) / (84))، و «الإِشاعة» (ص (49) – (52))، و «عون المعبود» ((11) / (429))] قبل عصرنا هذا، ووقع فى هذا الزمن كثيرٌ من الخُسوفات في أماكن متفرِّقة من الأرض، وهي نذيرٌ بين يدي عذابٍ شديد، وتخويفٌ من الله لعباده، وعقوبةٌ لأهل البدع والمعاصي؛ كي يعتبر النَّاس، ويرجِعوا إلى ربِّهم، ويعلموا أن السّاعة قد أزفت، وأنّه لا ملجأ من الله إِلَّا إليه.
والمسخ يكون حقيقيًّا، ويكون معنويًّا:
فقد فسَّر الحافظ ابن كثير رحمه الله (المسخ) في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ في السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئينَ} [البقرة: (65)] بأنّه مسخٌ حقيقيٌّ، وليس مسخًا معنويًّا فقط، وهذا القول هو الراجح، وهو ما ذهب إليه ابن عبّاس وغيره من أئمة التفسير.
وذهب مجاهدٌ وأبو العالية وقتادة إلى أن المسخ كان معنويًّا، وأنّه كان لقلوبهم، ولم يُمْسَخوا قردةً [انظر: «تفسير ابن كثير» ((1) / (150) – (153))].
ونقل ابن حجر عن ابن العربي القولين، ورجَّح الأوّل [انظر: «فتح الباري» ((10) / (56))].
قال ابن كثير – بعد سياقه لطائفة من كلام العلماء -: «الغرض من هذا السياق عن هؤلاء الأئمة بيان خلف ما ذهب إليه مجاهد- رحمه الله من أنَّ مسخَهُم إنّما كان معنويًّا لا صوريًّا، بل الصّحيح أنّه معنويٌّ صوريٌّ، والله أعلم» [«تفسير ابن كثير» ((1) / (153))].
قال الشيخ الألباني: ذهب بعض المفسرين في العصر الحاضر إلى أن مسخ بعض اليهود قردة وخنازير لم يكن مسخا حقيقيًّا بدنيًّا، وإنما كان مسخًا خلقيًّا!
وهذا خلاف ظاهر الآيات والأحاديث الواردة فيهم، فلا تلتفت إلى قولهم فإنهم لا حجة لهم فيه إلا الاستبعاد العقلي، المشعر بضعف الإيمان بالغيب. نسأل الله السلامة. [«الصحيحة» ((1) / (1) / (194))].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله عن أصحاب السبت: ” فبين أنهم استحلوها وعصوا الله بذلك، ومعلوم أنهم لم يستحلوها تكذيبا لموسى – عليه السلام – وكفرا بالتوراة، وإنما هو استحلال تأويل واحتيال ظاهره ظاهر الاتقاء، وحقيقته حقيقة الاعتداء.
ولهذا والله أعلم مسخوا قردة، لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الإنسان.
وفي بعض ما يذكر من أوصافه شبه منه وهو مخالف له في الحد والحقيقة.
فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله، بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهره، دون حقيقته: مسخهم الله قردة، يشبهونهم في بعض ظاهرهم، دون الحقيقة؛ جزاء وفاقًا ” انتهى من “الفتاوى الكبرى” (6/ 28).
هل صح مدة يعيشها الممسوخ؟
جواب ذلك: أنه لم يصح في تحديد مدة بقائهم بعد المسخ، وقبل الإهلاك: شيء. ولم يرد في ذلك حديث مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم.
إنما ورد أثر موقوف عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه من طريقين، بلفظين مختلفين:
الأول: أخرجه الطبري في “تهذيب الآثار” (313) من طريق بشر بن عمارة عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس أنه قال:” لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل “.
ثم ضعفه الطبري فقال:” أما الخبر عن ابن عباس الذي روي بما ذكرت من أن المسخ لا يعيش أكثر من ثلاث: فخبر في سنده نظر، لعلتين:
إحداهما: أن الضحاك لم يسمعه من ابن عباس.
والثانية: أن بشر بن عمارة ليس ممن يعتمد على روايته “. تهذيب الآثار (1/ 195)
واللفظ الثاني: أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (670) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِذَا كَانَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ فَجُعِلُوا قِرَدَةً فَوَاقًا، ثُمَّ هَلَكُوا؛ مَا كَانَ لِلْمَسْخِ نَسْلٌ. انتهى
والفواق: هُوَ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ.
وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا بَيْنَ الْغَدَاةِ إِلَى الْعَشَاءِ ; لِأَنَّ النَّاقَةَ تُحْلَبُ فِيهِمَا.
وإسناد هذا الأثر تالف؛ فيه عبد الله بن محمد بن ربيعة ضعيف جدا، يروي الموضوعات. قال ابن حبان في “المجروحين” (2/ 39):” كان تقلب له الاخبار، فيجيب فيها. كان آفته ابنه، لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل الاعتبار، ولعله أقلب له على مالك أكثر من مائة وخمسين حديثا، فحدث بها كلها “. انتهى.
وقال الحاكم:” يروي عَنْ مالك الموضوعات “. كذا في “تاريخ الإسلام” للذهبي (5/ 102).
وقال الذهبي:” أحد الضعفاء؛ أتى عن مالك بمصائب “. ميزان الاعتدال (2/ 488). (منقول من بحث لمعاصر)
الوجه الثالث: المسخ في الكتاب المقدس:
يحدثنا إنجيل برنابا عن حادثة مسخ، كما في برنابا ((27): (5) – (6)) مسخ المصريين حيوانات: «ألا تعلمون أن الله في زمن موسى مسخ ناسًا كثيرين في مصر حيوانات مخوفة؛ لأنهم ضحكوا واستهزئوا بالآخرين». [موسوعة محاسن الإسلام ورد شبهات اللئام، (7/ 262 – 268)].
المسخ في كتب العلل:
تنبيه: في علل ابن أبي حاتم:
(2372) – وسمعتُ أَبَا زُرْعَةَ وحدَّثنا عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبِ بْنِ الحسن القُرَشي؛
قال: حدَّثنا عبد العزيز بن مُختار؛ قال: حدَّثنا
خَالِدٌ، عَنْ عِكرمَة، عَنِ ابْنِ عباس، عن النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: الحَيَّاتُ مَسْخُ الجِنِّ، كَمَا مُسِخَتِ القِرَدَةُ والخَنَازِيرُ.
فسمعتُ أَبَا زُرْعَةَ يَقُولُ: هَذَا الحديثُ هُوَ موقوفٌ، لا يرفَعُه إلا عبدُالعزيز بنُ المُختار، وَلا بأسَ بِحَدِيثِهِ. انتهى
وقال ابن كثير: «هذا حديثٌ غريب جدًّا»
وفي ذخيرة الحفاظ:
(3279) – حَدِيث: سَيكون فِي أمتِي مسخ، وَقذف، يَعْنِي الزَّنَادِقَة، والقدرية.
رَوَاهُ عبد الله بن لَهِيعَة: عَن أبي صَخْر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر. وَهَذَا يرويهِ ابْن لَهِيعَة هَذَا، وَهُوَ ضَعِيف. وَأوردهُ فِي تَرْجَمَة أبي صَخْر حميد بن يزِيد الْخياط هَذَا: عَن نَافِع، عَن ابْن عمر. وَحميد ضَعِيف.
وفي الموضوعات لابن الجوزي ذكر حديث طويل وفيه: …. وَأَمَّا الْعَنْكَبُوتُ فَكَانَتِ امْرَأَةً سَحَرَتْ زَوْجِهَا، وَأَمَّا الدَّعْمُوصُ فَكَانَ رَجُلا نَمَّامًا يُفَرِّقُ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، وَأَمَّا سُهَيْلٌ فَكَانَ عَشَّارًا بِالْيَمَنِ، وَأَمَّا الزُّهْرَةُ فَكَانَتِ امْرَأَةً نَصْرَانِيَّةً ابْنَةَ بَعْضِ مُلُوكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهِيَ الَّتِي فُتِنَ بِهَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ وَكَانَ اسْمُهَا أَنَاهِيدَ «.
قَالَ عبد الله بْنُ سُلَيْمَانَ: الْوَطْوَاطُ الَّذِي يَطِيرُ والدُّعْمُوصُ الطِّيطَوَى هَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ على رَسُول الله ?، وَمَا وَضَعَهُ إِلا مُلْحِدٌ يَقْصِدُ وَهْنَ الشَّرِيعَةِ بِنِسْبَةِ هَذَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ? أَوْ مُسْتَهِينٌ بِالدِّينِ لَا يُبَالِي مَا فَعَلَ، وَالْمُتَّهَمُ بِهِ مُغِيثٌ.
قَالَ أَبُو الْفَتْحِ الأَزْدِيُّ: خَبِيثٌ كَذَّابٌ لَا يُسَاوِي شَيْئًا رَوَى حَدِيثَ الْمُسُوخِ وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: قُلْتُ وَحَدِيثُ ابْنِ حَبِيبَةَ الصَّحِيحُ فَإِنَّهُ» مَا مسخ الله عزوجل شَيْئًا فَجَعَلَ لَهُ نَسْلا يَرُدُّ هَذَا انتهى
وفي تلخيص الموضوعات للذهبي:
(791) – حَدِيث – «اللوطي إِذا مَاتَ وَلم يتب مسخ فِي قَبره خنزيرًا». فِيهِ مَرْوَان بن مُحَمَّد السنجاري مَتْرُوك عَن مَجْهُول عَن آخر عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس
المسخ في كتب ابن تيمية وابن القيم:
قال ابن تيمية:
[كِتَابُ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى إبْطَالِ التَّحْلِيلِ] [نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ حَرَامٌ بَاطِلٌ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ] ..
وَهُنَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: الْإِشَارَةُ إلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ عُمُومًا.
وَالثَّانِيَةُ: الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خُصُوصًا.
[الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ بُطْلَانُ الْحِيَلِ وَأَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ]
ِ أَنْ نَقُولَ: إنَّ – اللَّهَ سُبْحَانَهُ – حَرَّمَ أَشْيَاءَ، إمَّا تَحْرِيمًا مُطْلَقًا، كَتَحْرِيمِ الرِّبَا، أَوْ تَحْرِيمًا مُقَيَّدًا إلَى أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالٌ مِنْ الْأَحْوَالِ، كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، وَكَتَحْرِيمِ الْمَحْلُوفِ بِطَلَاقِهَا عِنْدَ الْحِنْثِ، وَأَوْجَبَ أَشْيَاءَ إيجَابًا مُعَلَّقًا بِأَسْبَابٍ: إمَّا حَقًّا لِلَّهِ – سُبْحَانَهُ -، كَالزَّكَاةِ، وَنَحْوِهَا، أَوْ حَقًّا لِلْعِبَادِ كَالشُّفْعَةِ، ثُمَّ إنَّهُ شَرَعَ أَسْبَابًا تُفْعَلُ لِتَحْصِيلِ مَقَاصِدَ، كَمَا شَرَعَ الْعِبَادَاتِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ لِابْتِغَاءِ فَضْلِهِ وَرِضْوَانِهِ.
وَكَمَا شَرَعَ عَقْدَ الْبَيْعِ لِنَقْلِ الْمِلْكِ بِالْعِوَضِ، وَعَقْدَ الْقَرْضِ لِإِرْفَاقِ الْمُقْتَرِضِ، وَعَقْدَ النِّكَاحِ لِلْأَزْوَاجِ، وَالسَّكَنِ، وَالْأُلْفَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَالْخُلْعِ لِحُصُولِ الْبَيْنُونَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ افْتِدَاءَ الْمَرْأَةِ مِنْ رِقِّ بَعْلِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ هَدَى خَلْقَهُ إلَى أَفْعَالٍ تُبَلِّغُهُمْ إلَى مَصَالِحَ لَهُمْ كَمَا شَرَعَ مِثْلَ ذَلِكَ.
فَالْحِيلَةُ: أَنْ يَقْصِدَ سُقُوطَ الْوَاجِبِ، أَوْ حِلَّ الْحَرَامِ، بِفِعْلٍ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ مَا جُعِلَ ذَلِكَ الْفِعْلُ لَهُ، أَوْ مَا شُرِعَ، فَهُوَ يُرِيدُ تَغْيِيرَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِأَسْبَابٍ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا مَا جُعِلَتْ تِلْكَ الْأَسْبَابُ لَهُ، وَهُوَ يَفْعَلُ تِلْكَ الْأَسْبَابَ لِأَجْلِ مَا هُوَ تَابِعٌ لَهَا، لَا لِأَجْلِ مَا هُوَ ….
[الْوَجْهُ الْأَوَّلُ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ]
فَنَقُولُ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَإِبْطَالِهَا وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ
أَنَّهُ عزوجل قَالَ فِي صِفَةِ أَهْلِ النِّفَاقِ مِنْ مُظْهِرِي الْإِسْلَامِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: (8)] ….
فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ يُخْسَفُ بِهِمْ وَيُمْسَخُونَ إنَّمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِمْ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ الَّذِي اسْتَحَلُّوا بِهِ الْمَحَارِمَ بِطَرِيقِ الْحِيلَةِ فَأَعْرَضُوا عَنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ وَحِكْمَتِهِ فِي تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَلِذَلِكَ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، كَمَا مُسِخَ أَصْحَابُ السَّبْتِ بِمَا تَأَوَّلُوا مِنْ التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ الَّذِي اسْتَحَلُّوا بِهِ الْمَحَارِمَ، وَخُسِفَ بِبَعْضِهِمْ، كَمَا
خُسِفَ بِقَارُونَ، لِأَنَّ فِي الْخَمْرِ وَالْحَرِيرِ وَالْمَعَازِفِ مِنْ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ مَا فِي الزِّينَةِ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا قَارُونُ عَلَى قَوْمِهِ. فَلَمَّا مَسَخُوا دِينَ اللَّهِ مَسَخَهُمْ اللَّهُ، وَلَمَّا تَكَبَّرُوا عَنْ الْحَقِّ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ.
وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الْمَسْخِ وَالْخَسْفِ عِنْدَ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ مِنْهَا: مَا رَوَى فَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَمْرٍو الْبَجَلِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ النَّبِيِّ ? قَالَ: «تَبِيتُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي … مجموع الفتاوى 6/ 41
وتكلم ابن تيمية وابن القيم في عدة مواضع من كتبهم على خطر الاحتيال المسخ
وقال ابن تيمية:
وَهَذَا ظَاهر لكل اُحْدُ فِيمَن يعظم بدعته وفجوره مثل الرافضة وَأهل الْمَظَالِم وَالْفَوَاحِش من التّرْك وَنَحْوهم فَإِن الرافضي كلما كبر قبح وَجهه وَعظم شينه حَتَّى يقوى شبهه بالخنزير وَرُبمَا مسخ خنزيرا وقردا كَمَا قد تَوَاتر ذَلِك عَنْهُم
الاستقامة (1) / (365) — ابن تيمية (ت (728))
قال ابن القيم في الداء والدواء:
ومنها: الخسف بالقلب، كما يخسف بالمكان وما فيه، فيخسف به إلى أسفل سافلين، وصاحبه لا يشعر. وعلامة الخسف به أن لا يزال جوّالًا حول السفليات والقاذورات والرذائل، كما أنّ القلب الذي رفعه الله وقرّبه إليه لا يزال جوّالًا حول البر والخير ومعالي الأعمال والأقوال والأخلاق.
قال بعض السلف: إنّ هذه القلوب جوّالة، فمنها ما يجول حول العرش، ومنها ما يجول حول الحُشّ.
ومنها: مسخ القلب، فيُمسَخ كما تمسخ الصورة، فيصير القلب على قلب الحيوان الذي شابهه في أخلاقه وأعماله وطبيعته. فمن القلوب ما يمسَخ على خُلُق خنزير لشدة شبه صاحبه به، ومنها ما
يمسخ على خُلُق كلب أو حمار أو حيّة أو عقرب وغير ذلك.
فسبحان الله، كم من قلب منكوس وصاحبُه لا يشعر! وقلبٍ ممسوخ، وقلب مخسوفٍ به! وكم من مفتون بثناء الناس عليه، ومغرورٍ بستر الله عليه»، ومستدرج بنعَم الله عليه! وكل هذه عقوبات وإهانة، ويظنّ الجاهل أنها ((5)) كرامة.
ومنها: مكر الله بالماكر، ومخادعته للمخادع، واستهزاؤه بالمستهزئ، وإزاغته لقلب الزائغ عن الحق.
ومنها: نكسُ القلبِ حتى يرى الباطل حقًّا والحق باطلًا، والمعروف
منكرًا والمنكرَ معروفًا، ويُفسد ويرى أنه يُصلح، ويصدّ عن سبيل الله وهو يرى أنه يدعو إليها ((1))، ويشتري الضلالة بالهدى وهو يرى أنّه على الهدى، ويتّبع ((2)) هواه وهو يزعم أنه مطيع لمولاه. وكلّ هذا من عقوبات الذنوب الجارية على القلوب.
1/ 276 الداء والدواء