(2996) فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
مجموعة: جمع أحمد بن علي وعبدالله المشجري وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد وأسامة الحميري ومحمد فارح ويوسف بن محمد السوري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من ((56)) – (كِتَابُ: الزُّهْدِ، وَالرَّقَائِقِ)، (10) – باب في أحاديث متفرقة
(60) – ((2996)) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ وَعَبْدُ بْنُ حميد (قال عبد: أخبرنا. وقال ابن رافع: حدثنا) عبد الرزاق. أخبرنا معمر عن الزهري، عن عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ? «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم».
==========
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله: ” ((12)) – (بَابٌ فِي أَحَادِيثَ مُتَفَرِّقَةٍ) “.
قال الإتيوبي عفا الله عنه: هكذا ترجم في النسخة الهنديّة بهذا اللفظ، وترجم الأبيّ بلفظ: «أحاديث مختلفة»، وهما متقاربان، ثم أوردا الأحاديث من هنا إلى باب «النهي عن المدح» كلها تحت هذه الترجمة، وهو الصواب، وأما ما وقع في بعض النسخ من الترجمة المختلفة عند كل حديث تقريبًا بعد هذه الترجمة فمما لا وجه له، فليُتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق. قال الإتيوبي رحمه الله.
وأما علاقة الباب بكتاب الزهد والرقائق هذا الحديث مناسب لموضوع الزهد؛ لأنه يذكر أصل خلق الملائكة والنورانية المرتبطة بطهارتهم وسلامة طبيعتهم، مما يبعث في النفس الرغبة في اقتفاء طهرهم ونقاءهم والتخلص من شوائب الدنيا التي تقيد طهارة الإنسان فطريًا، ويدعو الزاهد للاقتداء بصفاء الملائكة، مع التأمل في التكوين الرفيع للخلق المتنوع وأثره في التوجه إلى الله بحب خالص.
وقال الإمام مسلم رحمه الله تعالى:
[(7464)] ((2996)) -الحديث
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها؛ أنها (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «خُلِقَتِ) بالبناء للمفعول (الْمَلَائِكَةُ) جمع مَلَك بفتح اللام، فقيل مخفف من مالك، وقيل: مشتق من الألوكة، وهي الرسالة، وهذا قول سيبويه، والجمهور، وأصله لاك، وقيل: أصله الْمَلْك، بفتح، ثم سكون، وهو الأخذ بقوّة، وحينئذٍ لا مدخل للميم فيه، وأصل وزنه مفعل، فتُركت الهمزة؛ لكثرة الاستعمال، وظهرت في الجمع، وزيدت الهاء إما للمبالغة، وإما لتأنيث الجمع، وجُمع على القلب، وإلا لقيل: مالكة، وعن أبي عبيدة: الميم في الملك أصلية، وزنه فَعَلٌ، كأسد، هو من الْمَلْك، بالفتح، وسكون اللام، وهو الأخذ بقوّة، وعلى هذا فوزن ملائكة فعائلة، ويؤيده أنهم جوّزوا في جمعه أملاك، وأفعال لا يكون جمعًا لِمَا في أوله ميم زائدة، قاله في «الفتح». [» الفتح” (6) / (306)].
(مِنْ نُورٍ)، أي: من جواهر مضيئة منيرة، فكانوا خيرًا محضًا [«المفهم» (7) / (315)].
قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: النور: جسم لطيف، مشرق، وفسَّره صاحب «الصحاح» بالضياء، وذكر بعضهم أن الضياء أبلغ منه؛ بدليل قوله تعالى: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: (5)]، وأما قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: (35)] حيث شبّه هداه بالنور، ولم يشبّهه بالضياء، فأجيب عنه بأنه لو شُبِّه بالضياء لزم أن لا يضل أحد، بخلاف النور، كضوء القمر، فإنه يقع معه الضلال لمن أراد الله تعالى ذلك منه، ويُطلق النور أيضًا على جميع النار، وليس مرادًا هنا، ولم ينحصر النور في ضوء النار، فالملائكة خلقوا من ضوء، لا من نار، والله أعلم بنوع ذلك الضوء، ولو كان من ضوء نار لم يلزم عليه محذور، فالمخلوق من ضوء النار غير مخلوق من النار. انتهى [«طرح التثريب في شرح التقريب» (8) / (266)].
قلنا: قوله: (لو شُبِّه بالضياء لزم أن لا يضل أحد، بخلاف) فيه نظر.
(وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارجٍ مِنْ نَارٍ) [وفي نسخة: «وخلق الجانّ من نار»]؛ أي: من نار مختلطة بهواء مشتعل، والمرج: الاختلاط، فهو من عنصرين هواء ونار، كما أن آدم من عنصرين تراب وماء عُجن به، فحدث له اسم الطين، كما حَدَث للجن اسم المارج [«فيض القدير» (3) / (450)].
وقال القرطبيّ رحمه الله: «من مارج من نار»: أي: من شواظّ ذي لهب، واتّقاد، ودخان، فكانوا شرًّا محضًا، والخير فيهم قليل [«المفهم» (7) / (315)].
(وَخُلِقَ آدَمُ) عليه السلام (مِمَّا وُصِفَ) بالبناء للمفعول، (لَكُمْ»)؛ أي: من تراب صيِّر طينًا، ثم فَخارًا، كما أخبرنا به تعالى في غير موضع من كتابه، والفخار: الطين اليابس، وفي الخبر: «إن الله تعالى لمّا خلق آدم أمر من قبض قبضة من جميع أجزاء تراب الأرض، فأخذ من حَزْنها، وسهلها، وأحمرها، وأسودها، فجاء ولده كذلك»، قاله القرطبيّ [«المفهم» (7) / (315)].
يقصد حديث أخرجه الترمذي في سننه
(2955) عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ قُبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ مِنْهُمُ الْأَحْمَرُ وَالْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ “. وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وأخرجه ابوداود 4693 وصححه الألباني.
وقال المناويّ رحمه الله: «وخُلق آدم مما وُصف لكم» ببناء «وُصف» للمفعول، أي: مما وصفه الله تعالى لكم في مواضع من كتابه، ففي بعضها أنه خلقه من ماء، وفي بعضها من تراب، وفي بعضها من المركَّب منهما، وهو الطين، وفي بعضها من صلصال، وهو طين ضربته الشمس والريح، حتى صار كالفخار.
قال الغزاليّ: قد اجتمع في الفخار النار والطين، والطين طبعه السكون، والنار طبعها الحركة، فلا يتصور نار مشعلة تسكن، بل لا تزال تتحرك بطبعها، وقد كُلِّف المخلوق من النار أن يطمئن من حركته ساجدًا لِمَا خُلق من طين، فأبى، واستكبر أن يسجد لآدم، فلا مطمع في سجوده لأولاده، والله تعالى أعلم.
وحديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(مسألة):
قال بعضهم: إنما قال: «مما وُصف لكم» ولم يقل كما قال فيما قبله؛ طلبًا للاختصار، فإنه أوتي جوامع الكلم، وهذا منها،
إذ الملائكة لم يَختلف أصل خلقتها، ولا الجانّ،
وأما الإنسان فاختلف خلقه على أربعة أنواع:
– فخَلْق آدم لا يشبه خلق حواء،
– وخَلْق حواء لا يشبه خلق آدم،
– وخلق عيسى لا يشبه خلق الكل،
فأحال على ما وصل إلينا من تفصيل خلق الإنسان،
ولمّا كان خلق الجانّ من نار كان فيه طلب القهر، والاستكبار، فإن النار أرفع الأركان مكانًا، ولها سلطان على الإحالة، فلذلك قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: (12)]، وما عَلِم أن سلطان الماء الذي خُلق منه آدم أقوى منه، فإنه يُذهبه،
والتراب أثبت منه، لبرده ويُبسه، فلآدم القوة والثبوت لغلبة ذينك الركنين عليه، وإن كان فيه الآخران، لكن ليس لهما ذلك السلطان،
وأعطى آدم التواضع؛ للطينة، فإن تكبر فلعارض بقلبه، لما فيه من النارية، كما يقبل اختلاف الصور في خياله، وأحواله من الهوائية، وأعطى الجانّ التكبر؛ للنارية، فإن تواضع فلعارض؛ لِمَا فيه من الترابية، كما يقبل الثبات على الإغواء، إن كان شيطانًا، وعلى الطاعة إن لم يكن، ففيهم الطائع والعاصي، ولهم التشكل في أي صورة شاؤوا، وفيهم التناسل، كما مر [«فيض القدير» (3) / (450)]، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج للإتيوبي رحمه الله، بتصرف يسير].
ثانيًا: الأحكام والمسائل والملحقات:
أولاً: الإيمان بالملائكة، وفيه عدة مسائل:
(المسألة الأولى): التعريف:
الملائكة جمع: ملأك، وأصل ملأك: مألك، لأنه من الألوكة، والألوكة في اللغة الرسالة، قال الله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى} [فاطر: (1)].
[ثانيًا]: الإيمان بالملائكة:
1 – نؤمن بأنهم عالم غيبي لا يشاهدون، وقد يشاهدون، إنما الأصل أنهم عالم غيبي.
2 – مخلوقون من نور،
3 – مكلفون بما كلفهم الله به من العبادات، وهم خاضعون لله تعالى أتم الخضوع، {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: (6)].
4 – نؤمن بأسماء من علمنا بأسمائهم،
6 – نؤمن بوظائف من علمنا بوظائفهم،
7 – هم أجساد، بدليل قوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ} [فاطر، (1)]، ورأى النبي ? جبريل على صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح قد سد الأفق، خلافًا لمن قال: إنهم أرواح.
8 – إذا قال قائل: هل لهم عقول؟ نقول لك هل لك عقل؟ ما يسأل عن هذا إلا رجل مجنون؛ فقد قال الله تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: (6)]، فهل يثني عليهم هذا الثناء وليس لهم عقول؟! {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: (20)]، أنقول: هؤلاء ليس لهم عقول؟! يأتمرون بأمر الله، ويفعلون ما أمر الله به ويبلغون الوحي!!
9 – يجب علينا أن نؤمن بذلك على ما عُلمنا.
فنؤمن بملائكة الله تعالى وأنهم: {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}، خلقهم الله تعالى فقاموا بعبادته وانقادوا لطاعته: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}،
وأن الملائكة عالم غيبي، خلقهم الله تعالى من نور، وجعلهم طائعين له متذللين له.
وحجبهم الله عنا فلا نراهم، وربما كشفهم لبعض عباده؛ فقد رأى النبي ? جبريل على صورته، له ستمائة جناح قد سد الأفق [رواه البخاري في صحيحه ((4) / (140)) بدء الخلق وكذا في تفسير سورة النجم ((6) / (176)) ومسلم في صحيحه ((1) / (158)) الإيمان حديث (280) ـ (282)
وتمثل جبريل لمريم بشرًا سويا فخاطبته وخاطبها، وأتى إلى النبي ? وعنده الصحابة بصورة رجل لا يعرف ولا يرى عليه أثر السفر، شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، فجلس إلى النبي ?، فأسند ركبتيه إلى ركبتي النبي ?، ووضع كفيه على فخذيه، وخاطب النبي ?، وخاطبه النبي ?، وأخبر النبي ? أصحابه أنه جبريل.
ونؤمن بأن للملائكة أعمالًا كلفوا بها، ونعلم من ذلك:
فمنهم: جبريل الموكل بالوحي ينزل به من عند الله على من يشاء من أنبيائه ورسله. ومنهم: ميكائيل الموكل بالمطر والنبات.
ومنهم: إسرافيل الموكل بالنفخ في الصور حين الصعق والنشور.
ومنهم: ملك الموت الموكل بقبض الأرواح عند الموت.
ومنهم: ملك الجبال الموكل بها.
ومنهم: مالك خازن النار.
ومنهم: ملائكة موكلون بالأجنة في الأرحام.
وآخرون: موكلون بحفظ بني آدم.
وآخرون: موكلون بكتابة أعمالهم، لكل شخص ملكان: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.
وآخرون: موكلون بسؤال الميت بعد الانتهاء من تسليمه إلى مثواه، يأتيه ملكان يسألانه عن ربه ودينه ونبيه، ف {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}.
ومنهم: الملائكة الموكلون بأهل الجنة: {يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}.
وقد أخبر النبي ?: «أن البيت المعمور في السماء يدخله وفي رواية: يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم» [هذا الحديث جزء من حديث قصة المعراج رواه البخاري في صحيحه ((4) / (134)) بدء الخلق ومسلم في صحيحه ((1) / (150)) الإيمان حديث (264) كلاهما من حديث مالك بن صعصعه رضي الله عنه مرفوعًا].
[شرح العقيدة الواسطية للعثيمين، (1/ 59 – 65)، وعقيدة أهل السنة والجماعة، لابن عثيمين (ت (1421)) رحمه الله، ص (15 – 17) بتصرف].
قال الإتيوبي في البحر المحيط الثجاج في مسائل الحديث:
” في هذا الحديث إثبات وجود الملائكة، وأنهم مخلوقون من نور، قال في «الفتح»: قال جمهور أهل الكلام من المسلمين: الملائكة أجسام لطيفة، أعطيت قدرة على التشكل بأشكال مختلفة، ومسكنها السماوات، وأبطل من قال: إنها الكواكب، أو إنها الأنفس الخيرة التي فارقت أجسادها، وغير ذلك من الأقوال التي لا يوجد في الأدلة السمعية شيء منها، وقد جاء في صفة الملائكة، وكثرتهم أحاديث:
منها: ما أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: «خُلقت الملائكة من نور … » الحديث.
ومنها: ما أخرجه الترمذيّ، وابن ماجه، والبزار، من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه مرفوعًا: «أَطَّت السماء، وحُقّ لها أن تَئِطّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وعليه ملَك ساجد … » الحديث.
ومنها: ما أخرجه الطبراني من حديث جابر رحمه الله مرفوعًا: «ما في السماوات، السبع موضع قدم، ولا شبر، ولا كفّ إلا وفيه ملك قائم، أو راكع، أو ساجد».
وللطبرانيّ نحوه من حديث عائشة رضي الله عنها.
وذكر في «ربيع الأبرار» عن سعيد بن المسيِّب قال: الملائكة ليسوا ذكورًا ولا إناثًا، ولا يأكلون، ولا يشربون، ولا يتناكحون، ولا يتوالدون.
قال الحافظ: وفي قصة الملائكة مع إبراهيم وسارة ما يؤيد أنهم لا يأكلون.
وأما ما وقع في قصة الأكل من الشجرة أنها شجرة الخلد التي تأكل منها الملائكة، فليس بثابت. انتهى
تنبيه 1: أثر: الملائكة ليسوا ذكورًا ولا إناثًا
قاله ابن حجر وعنه نقل الشراح ولم نجده مسندا
تنبيه 2: قال ابن كثير:
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَمُرَةَ الْأَحْمَسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الحِمَّاني، حَدَّثَنَا النَّضْرُ أَبُو عُمَرَ الْخَرَّازُ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الشجرة التي نُهِي عنها آدم، عليه الصلاة والسلام هِيَ السُّنْبُلَةُ …..
فَهَذِهِ أَقْوَالٌ سِتَّةٌ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ.
قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ،: وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَهَى آدَمَ وَزَوْجَتَهُ عَنْ أَكْلِ شَجَرَةٍ بِعَيْنِهَا مِنْ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ، دُونَ سَائِرِ أَشْجَارِهَا، فَأَكَلًا مِنْهَا، وَلَا عِلْمَ عِنْدِنَا بِأَيِّ شَجَرَةٍ كَانَتْ عَلَى التَّعْيِينِ؟ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ لِعِبَادِهِ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ. وَقَدْ قِيلَ: كَانَتْ شَجَرَةَ الْبُرِّ. وَقِيلَ: كَانَتْ شَجَرَةَ الْعِنَبِ، وَقِيلَ: كَانَتْ شَجَرَةَ التِّينِ. وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةً مِنْهَا، وَذَلِكَ عِلْمٌ، إِذَا عُلِمَ يَنْفَعُ العالمَ بِهِ علمُه، وَإِنْ جَهِلَهُ جاهلٌ لَمْ يضرَّه جَهْلُهُ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [وَكَذَلِكَ رَجَّحَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي تفسيره وغيره، وهو الصواب] ((8)).
تفسير ابن كثير – ت السلامة (1) / (235) — ابن كثير (ت (774))
البقرة?
تتمة كلام ابن حجر:
وفي هذا وما ورد من القرآن ردّ على من أنكر وجود الملائكة، من الملاحدة.
قال: ومن أدلة كثرتهم ما يأتي في حديث الإسراء: «أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون».
وقد جاء ذِكر بعض من اشتهر من الملائكة، كجبريل، ووقع ذكره في أحاديث كثيرة، وميكائيل، وهو في حديث سمرة وحده، والملَك الموكل بتصوير ابن آدم، ومالك خازن النار، وملك الجبال، والملائكة الذين في كل سماء، والملائكة الذين ينزلون في السحاب، والملائكة الذين يدخلون البيت المعمور، والملائكة الذين يكتبون الناس يوم الجمعة، وخزنة الجنة، والملائكة الذين يتعاقبون، ووقع ذِكر الملائكة على العموم في كونهم لا يدخلون بيتًا فيه تصاوير، وأنهم يؤمِّنون على قراءة المصلي، ويقولون: «ربنا ولك الحمد»، ويدعون لمنتظر الصلاة، ويلعنون من هجرت فراش زوجها.
فأما جبريل فقد وصفه الله تعالى بأنه روح القدس، وبأنه الروح الأمين، وبأنه رسول كريم ذو قوة مكين مطاع أمين، ومعناه عبد الله، وهو وإن كان سريانيًا، لكنه وقع فيه موافقة من حيث المعنى للغة العرب؛ لأن الجبر هو إصلاح ما وَهَى، وجبريل موكل بالوحي الذي يحصل به الإصلاح العام، وقد قيل: إنه عربيّ، وإنه مشتق من جبروت الله، واستُبعد؛ للاتفاق على منع صرفه.
وروى الطبريّ عن أبي العالية، قال. جبريل من الكروبيين، وهم سادة الملائكة.
وروى الطبراني من حديث ابن عباس قال: «قال رسول الله ? لجبريل: على أيّ شيء أنت؟ قال: على الريح والجنود، قال: وعلى أي شيء ميكائيل؟ قال: على النبات والقطر، قال: وعلى أي شيء ملك الموت؟ قال: على قبض الأرواح … » الحديث، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد ضُعِّف لسوء حفظه، ولم يترك.
وفي الحديث الذي أخرجه الطبراني في كيفية خلق آدم ما يدل على أن خلق جبريل كان قبل خلق آدم، وهو مقتضى عموم قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: (34)] وفي التفسير أيضًا أنه يموت قبل موت ملك الموت، بعد فناء العالم، والله أعلم.
وأما ميكائيل، فروى الطبراني عن أنس: «أن النبيّ ? قال لجبريل: ما لي لم أر ميكائيل ضاحكًا؟ قال: ما ضحك منذ خلقت النار».
ذكره في ضعيف الجامع (5091) -[حكم الألباني] (ضعيف)
وضعفه محققو المسند
وروى الطبراني من حديث ابن عباس أنه الذي نزل على النبيّ ?، فخيّره بين أن يكون نبيًا عبدًا أو نبيًّا ملِكًا، فأشار إليه جبريل أن تواضع، فاختار أن يكون نبيًّا عبدًا.
وروى أحمد، والترمذيّ عن أبي سعيد قال: قال رسولى الله ?: «كيف أنعم، وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته، وانتظر أن يؤذن له … » الحديث.
وعن علي رضي الله عنه أنه ذكر الملائكة، فقال: «منهم الأمناء على وحيه، والحفظة لعباده، والسدنة لجِنانه، والثابتة في الأرض السفلى أقدامهم، المارقة من السماء العليا أعناقهم، الخارجة عن الأقطار أكنافهم، الماسة لقوائم العرش أكتافهم». انتهى ملخّصًا من «الفتح» [«الفتح» (7) / (514) – (517)] “. انتهى.
و ابن كثير ذكر أقسام الملائكة في البدايه والنهايه:
[فَصْلٌ أَقْسَامُ الْمَلَائِكَةِ]
فَصْلٌ
ثُمَّ الْمَلَائِكَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هَيَّأَهُمُ اللَّهُ لَهُ أَقْسَامٌ: فَمِنْهُمْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَمِنْهُمُ الْكَرُوبِيُّونَ الَّذِينَ هُمْ حَوْلَ الْعَرْشِ، وَهُمْ أَشْرَفُ الْمَلَائِكَةِ مَعَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: (172)]. وَمِنْهُمْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: (7)]
[غَافِرٍ: (7) – (9)].
وَلَمَّا كَانَتْ سَجَايَاهُمْ هَذِهِ السَّجِيَّةَ الطَّاهِرَةَ، كَانُوا يُحِبُّونَ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَيَدْعُونَ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا دَعَا الْعَبْدُ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَالَ الْمَلَكُ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ».
وَمِنْهُمْ سُكَّانُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ يَعْمُرُونَهَا عِبَادَةً دَائِبَةً لَيْلًا وَنَهَارًا صَبَاحًا
وَمَسَاءً، كَمَا قَالَ: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: (20)]. فَمِنْهُمُ الرَّاكِعُ دَائِمًا، وَالْقَائِمُ دَائِمًا، وَالسَّاجِدُ دَائِمًا، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يَتَعَاقَبُونَ زُمْرَةً بَعْدَ زُمْرَةٍ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ، وَمِنْهُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِالْجِنَانِ، وَإِعْدَادِ الْكَرَامَةِ لِأَهْلِهَا، وَتَهْيِئَةِ الضِّيَافَةِ لِسَاكِنِيهَا ; مِنْ مَلَابِسَ، وَمَصَاغٍ، وَمَسَاكِنَ، وَمَآكِلَ، وَمَشَارِبَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
وَخَازِنُ الْجَنَّةِ مَلَكٌ يُقَالُ لَهُ: رِضْوَانُ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ. وَمِنْهُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِالنَّارِ، وَهُمُ الزَّبَانِيَةُ، وَمُقَدِّمُوهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ، وَخَازِنُهَا مَالِكٌ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَزَنَةِ، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر: (49)]. الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: (77)]
[التَّحْرِيمِ: (6)]. وَقَالَ تَعَالَى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: (30)]
[الْمُدَّثِّرِ: (30) – (31)].
وَمِنْهُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِحِفْظِ بَنِي آدَمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: (10)]
[الرَّعْدِ: (10) – (11)]. الْآيَاتِ. …. إلى آخر ما قال رحمه الله
======
ثانيًا: تعريف الجن والشياطين، وصفاتهم، وأعمالهم:
(المسألة الأولى): التعريف:
[أولاً]:
(الْجِنّ) بكسر الجيم، وتشديد النون، قال ابن سِيدَهْ: الجِنُّ: نوع من العَالَم، سُمُّوا بذلك لاجتنانهم عن الأبصار، أي: استتارهم، ولأنهم استجنُّوا من الناس، فلا يُرون، والجمع: جِنَان، وهم الجِنّة، والجنيّ: منسوب إلى الجنّ، والجنّة: طائفة من الجنّ، وأرض مَجِنّة كثيرة الجنّ، والجانّ أبو الجن، والجانّ الجنّ، وهو اسم جمع. انتهى من «العمدة» بتصرّف [“المفهم” (2) / (151)].
قال الجوهري: “الجن خلاف الإنس، والواحد جنيٌ، يقال: سميت بذلك لأنها تُتَّقى ولا ترى …. والجنة: الجن ومنه قوله تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، والجانُّ أبو الجن الجمع جِنَّانٌ”. [الصحاح للجوهري مادة «ج ن ن»].
الأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
1 – «الشيطان»:
النون فيه أصلية وهو من شطن أي تباعد ومنه بئر شطون، وشطنت الدار، وقيل بل النون فيه زائدة من شاط يشيط احترق غضبًا، فالشيطان مخلوق من النار كما دل عليه قوله تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}، قال أبو عبيدة» الشيطان اسم لكل عارم من الجن والإنس والحيوانات قال تعالى: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [معجم مفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني مادة «شطن» ص: (267) – (268)].
2 – «عِفْرِيتًا»:
قال القرطبيّ رحمه الله: العِفْريتُ: المارد من الجنّ الشديد، ومنه رجلٌ عِفْريت: أي: شديد الدَّهَاء، والمكر، والحيلة. انتهى [“المفهم” (2) / (151)].
وقال
وقال الراغب: العفريت من الجنّ هو العارم الخبيث، وإذا بولغ فيه قيل: عِفْريت نِفْريت.
وقال ابن قتيبهَ: العِفريت الْمُوَثَّق الْخَلْق، وأصله من العَفَر، وهو التراب، ورجل عِفِرٌّ بكسر أوله وثانيه، وتثقيل ثالثه، إذا بولغ فيه قيل: عِفِرِّيت بكسر أوله وثانيه، وتثقيل ثالثه. انتهى [«الفتح» (8) / (530)].
[ثانيًا]: أسماء الجن في لغة العرب:
قال ابن عبد البرّ: الجنّ على مراتب، فالأصل جنيّ، فإن خالط الإنس قيل: عامر، ومن تعرض منهم للصبيان قيل: أرواح، ومن زاد في الْخُبْث قيل: شيطان، فإن زاد على ذلك قيل: مارد، فإن زاد على ذلك قيل: عِفْريت.
(المسألة الثانية): تعريف الجن والشياطين في الشرع:
عالم الجن والشيطان عالم من عوالم الغيب، غير عالم الإنسان وعالم الملائكة، بينهم وبين الإنسان قدر مشترك من حيث القدرة على اختيار الخير والشر، يخالفون الإنسان في أمور، أهمها: أن أصل الجان مخالف لأصل الإنسان، قد ورد في النصوص كلمة الجن مقابل الإنس؛ قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.
والجِنَّةُ بمقابل الناس؛ قال تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}، ووردت كلمة الجان بمقابل الإنسان؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ((26)) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ}.
وأما كلمة الشيطان فقد وردت في القرآن الكريم أريد بها إبليس، وكان من عالم الجن يعبد الله في بداية أمره وسكن السماء مع الملائكة، ودخل الجنة ثم عصى ربه عند ما أمره أن يسجد لآدم استكبارًا وعلوًا، فطرده الله من رحمته.
والشياطين جمع شيطان أطلق على العارمين من الإنس والجن، إلا أن استخدامه غلب على شياطين الجن؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ}.
قال الإتيوبي رحمه الله في البحر المحيط:
“في هذا الحديث إثبات الجنّ، وأنهم مخلوقون من مارج من نار، ولم يُنكر وجودهم إلا أهل الأهواء الزائغة، فقد نقل إمام الحرمين في «الشامل» عن كثير من الفلاسفة، والزنادقة، والقدرية، أنهم أنكروا وجودهم رأسًا،
قال: ولا يتعجب ممن أنكر ذلك من غير المشرعين، إنما العجب من المشرعين مع نصوص القرآن، والأخبار المتواترة، قال: وليس في قضية العقل ما يقدح في إثباتهم، قال: وأكثر ما استروح إليه من نفاهم حضورهم عند الإنس بحيث لا يرونهم، ولو شاؤوا لأبدوا أنفسهم، قال: وإنما يستبعد ذلك من لم يُحِطْ علمًا بعجائب المقدورات.
وقال القاضي أبو بكر: وكثير من هؤلاء يثبتون وجودهم، وينفونه الآن، ومنهم من يثبتهم، وينفي تسلطهم على الإنس، وقال عبد الجبار المعتزليّ: الدليل على إثباتهم السمع دون العقل؛ إذ لا طريق إلى إثبات أجسام غائبة؛ لأن الشيء لا يدل على غيره من غير أن يكون بينهما تعلّق، ولو كان إثباتهم باضطرار لَمَا وقع الاختلاف فيه إلا أنا قد علمنا بالاضطرار أن النبيّ ? كان يتدين بإثباتهم، وذلك أشهر من أن يتشاغل بإيراده”. انتهى من البحر المحيط.
(المسألة الثالثة): من صفاتهم الخلقية:
– للجن قلوب وأعين وآذان؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَانَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}.
– ولهم قوة لا توجد في الإنسان؛ قال الله تعالى: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}.
– ولهم قدرة على التشكل بأشكال الإنسان والحيوان، فقد جاء الشيطان المشركين يوم بدر في صورة سراقة بن مالك ووعد المشركين بالنصر، وقد تشكل لأبي هريرة في صورة إنسان محتاج صاحب عيال [انظر: صحيح البخاري مع الفتح: (4) / (486) ((2311))]، وقد يتشكل بصورة الكلب الأسود [صحيح مسلم مع الشرح: (3) – (4) / (473) ((510))]، وقد يتشكل بصورة الحية [صحيح مسلم مع الشرح: (13) – (14) / (584) ((2236))].
– ومن الشيطان من له صورة قبيحة، وله قرنان [صحيح البخاري مع الفتح: (6) / (335) ((3273))]،
– والشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم [صحيح البخاري الفتح: (6) / (336) ((3281))]،
وللجن قدرة على سرعة الحركة والانتقال؛ فقد أتى بعرش ملكة سبأ إلى سليمان عليه السلام في طرفة عين.
– ومنذ القدم كانوا يصعدون إلى السماء، فيسترقون أخبار السماء.
– طعامهم الروث والعظام [صحيح البخاري مع الفتح: (7) / (171) ((386))].
– الجن يسكنون على هذه الأرض التي نعيش عليها ويكثر جمعهم في الخراب والفلوات، والشيطان منهم من يسكن في مواضع النجاسات كالحمامات والحشوش والمزابل وأماكن الفساد في الأسواق [صحيح البخاري مع الفتح: (1) / (242) ((142))].
(المسألة الرابعة): من أعمالهم في إيذاء الإنسان:
– إيقاع العباد في الشرك والكفر.
– إيقاعهم في الذنوب والمعاصي [صحيح سنن الترمذي (2) / (230) ((1753))]. صدهم عن طاعة الله تعالى [سورة الأعراف: (16) – (17)، وصحيح سنن النسائي (2) / (657) ((2937))].
– إفساد الطاعات لهم [صحيح مسلم مع الشرح: (13) – (14) / (440) ((2203))]. – إيذاء الوليد عند الولادة [صحيح مسلم مع الشرح: (4) / (1834) ((2366))].
– مس الشيطان للإنسان.
هذا ملخص ما عرفنا من عالم الجن والشياطين في ضوء الكتاب والسنة الصحيحة الثابتة، فيؤمن أهل السنة والجماعة أن الجن أمة كأمة الإنسان، خلقوا من نار، وكلفوا بالشرائع، ومنهم المؤمن والكافر.
والإبليس من شياطينهم، بل هو من قاد المعركة في الصراع الدائر بين عالم الشياطين وعالم البشر، ومن قاعدته يرسل البعوث والسرايا في الاتجاهات المختلفة، ويعقد مجالس ويناقش جنوده فيما صنعته، ويثني على الذين أحسنوا وأجادوا في الإضلال وفتنة الناس.
عن جابر رضى الله عنهما عن النبي ? قال: «إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظم فتنة، يجئ أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا فيقول: ما صنعت شيئا قال: ثم يجئ أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت. قال الأعمش أراه قال فيلتزمه» اهـ[صحيح مسلم مع الشرح (17) – (18) / (162) ((2813))].
هو لم يزل حيًا يضل الناس منذ وجد الإنسان إلى اليوم وإلى أن تقوم الساعة؛ قال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ((36)) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ((37)) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}. [أثر الاستشراق على المنهج العقدي بالهند].
(المسألة الخامسة):
قال الخطابيّ رحمه الله: أن رؤية الجنّ للبشر غير مستحيلة، والجن أجسام لطيفة، والجسم وإن لَطُف فدركه غير ممتنع أصلًا، وأما قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: (72)]، فإن ذلك حكم الأعم الأغلب من أحوال بني آدم، امتحنهم اللَّه تعالى بذلك، وابتلاهم؛ ليَفْزَعُوا إليه، ويستعيذوا به من شرهم، ويطلبون الأمان من غائلتهم، ولا يُنكَر أن يكون حكم الخاص والنادر من المصطفَينَ من عباده بخلاف ذلك.
وقال الكرمانيّ رحمه الله: لا حاجة إلى هذا التأويل؛ إذ ليس في الآية ما ينفي رؤيتنا إياهم مطلقًا، إذ المستفاد منها أن رؤيته إيانا مُقَيَّدة من هذه الحيثية، فلا نراهم في زمان رؤيتهم لنا قطّ، ويجوز رؤيتنا لهم في غير ذلك الوقت. انتهى.
قال الإتيوبي عفا اللَّه عنه: تعقّب الكرمانيّ وجيهٌ، وقد تقدّم البحث بأتمّ من هذا، فتنبّه.
وقال الإتيوبي رحمه الله أيضًا: “أن أصحاب سليمان عليه السلام كانوا يرون الجن، وهو من دلائل نبوته، ولولا مشاهدتهم إياهم لم تكن تقوم الحجة له لمكانته عليهم”.
(المسألة السادسة):
أن الجن ليسوا باقين على عنصرهم الناريّ؛ لأنه ?، قال: «إن عدوّ اللَّه إبليس جاء بشهاب من نار؛ ليجعله في وجهي»، وقال: «رأيت ليلة أُسري بي عفريتًا من الجنّ يطلبني بشُعْلة من نار، كلما التفتُّ إليه رأيته»، ولو كانوا باقين على عنصرهم الناريّ، وأنهم نار محرقة، لما احتاجوا إلى أن يأتي الشيطان، أو العفريت منهم بشعلة من نار، ولكانت يد الشيطان، أو العفريت، أو شيء من أعضائه إذا مس ابن آدم أحرقه، كما تُحْرِق الآدمي النارُ الحقيقية بمجرد اللمس، فدل على أن تلك النارية انغمرت في سائر العناصر، حتى صار إلى البرد، ويؤيِّد ذلك قوله ?: «حتى وجدت بَرْدَ لسانه على يدي»، وفي رواية: «برد لعابه»، قاله في «العمدة» [«عمدة القاري» (4) / (345) – (346)].
(المسألة السابعة):
قال ابن بطال رحمه الله: رؤيته ? للعفريت هو مما خُصّ به كما خُصّ برؤية الملائكة، وقد أخبر أن جبريل له ستمائة جناح، ورأى النبي الشيطان في هذه الليلة، وأقدره اللَّه عليه؛ لتجسّمه لأن الأجسام ممكن القدرة عليها، ولكنه أُلْقِي في رُوعه ما وُهِب سليمان عليه السلام، فلم يُنَفِّذ ما قَوِي عليه من حبسه؛ رغبة عما أراد سليمان الانفراد به، وحرصًا على إجابة اللَّه تعالى دعوته، وأما غير النبيّ ? من الناس فلا يُمَكَّن منه، ولا يرى أحد الشيطان على صورته غيره؛ لقوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ} الآية [الأعراف: (72)]، لكنه يراه سائر الناس إذا تشكل في غير شكله، كما تشكل الذي طعنه الأنصاري حين وَجَده في بيته على صورة حَيّة فقتله، فمات الرجل به، فبَيَّن النبيّ ? ذلك بقوله: «إن بالمدينة جنًا قد أسلموا، فإذا رأيتم من هذه الهوامّ شيئًا فآذنوه ثلاثًا، فإن بدا لكم فاقتلوه»، رواه الترمذيّ، والنسائيّ في «عمل اليوم والليلة» من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه.
(المسألة الثامنة):
قال الإتيوبي رحمه الله تعالى: (اعلم): أن الجن يتصورون في صور شتى، ويتشكلون في صور الإنسان، والبهائم، والحيات، والعقارب، والإبل، والبقر، والغنم، والخيل، والبغال، والحمير، وفي صورة الطيور.
وقال القاضي أبو يعلى: ولا قدرة للشيطان على تغيير خلقتهم، والانتقال في الصور، إنما يجوز أن يُعَلّمهم اللَّه كلمات وضربًا من ضروب الأفعال، إذا فعله وتكلم به نقله اللَّه من صورة إلى صورة أخرى، وأما أن يتصور بنفسه فذلك محالٌ؛ لأن انتقالها من صورة إلى صورة إنما يكون بنقض البنية، وتفريق الأجزاء، وإذا انتقضت بطلت الحياة، والقول في تشكل الملائكة كذلك. انتهى.
قال الإتيوبي عفا اللَّه عنه: كلام أبي يعلى ليس واضحًا، إن أراد نفي قدرة الجنّ على تصوّرهم بالصور المختلفة دون أن يأذن اللَّه به، فهذا حقّ، وإن أراد أنهم لا يتشكّلون بإذن اللَّه تعالى بأشكال مختلفة، فهذا ردّ للنصوص الكثيرة، كقصّة الحيّة المذكورة، وقصّة أسير أبي هريرة حينما كان يحفظ تمرة الصدقة، وهو في الصحيح، وغير ذلك كثير وكثير، فليُتأمّل كلامه، واللَّه تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج].
وقال الإتيوبي في مسائل الحديث:
واختُلف في صفتهم، فقال القاضي أبو بكر الباقلانيّ: قال بعض المعتزلة: الجن أجساد رقيقة بسيطة، قال: وهذا عندنا غير ممتنع إن ثبتٌ به سَمْع.
وقال أبو يعلى بن الفراء: الجنّ أجسام مؤلفة، وأشخاص ممثلة، يجوز أن تكون رقيقة، وأن تكون كثيفة، خلافًا للمعتزلة في دعواهم أنها رقيقة، وأن امتناع رؤيتنا لهم من جهة رقتها، وهو مردود، فإن الرقة ليست بمانعة عن الرؤية، ويجوز أن يخفى عن رؤيتنا بعض الأجسام الكثيفة، إذا لم يخلق الله فينا إدراكها.
وروى البيهقيّ في مناقب الشافعيّ بإسناده، عن الربيع: سمعت الشافعيّ يقول: من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته، إلا أن يكون نبيًّا. انتهى.
وهذا محمول على من يدعي رؤيتهم على صورهم التي خُلقوا عليها، وأما من ادعى أنه يرى شيئًا منهم بعد أن يتطور على صور شتى من الحيوان، فلا يقدح فيه،
وقد تواردت الأخبار بتطورهم في الصور،
واختلف أهل الكلام في ذلك،
فقيل: هو تخييل فقط، ولا ينتقل أحد عن صورته الأصلية،
وقيل: بل ينتقلون، لكن لا باقتدارهم على ذلك، بل بضرب من الفعل إذا فعله انتقل كالسحر، وهذا قد يرجع إلى الأول، وفيه أثر عن عمر، أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: «أن الغيلان ذُكروا عند عمر، فقال: إن أحدًا لا يستطيع أدن يتحول عن صورته التي خلقه الله عليها، ولكن لهم سحرة كسَحَرَتِكم، فإذا رأيتم ذلك فأَذِّنوا».
وإذا ثبتٌ وجودهم فقد اختُلف في أصلهم،
فقيل: إن أصلهم من ولد إبليس، فمن كان منهم كافرًا سمي شيطانًا،
وقيل: إن الشياطين خاصة أولاد إبليس، ومن عداهم ليسوا من ولده، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما يقوي أنهم نوع واحد، من أصل واحد، اختَلَف صنفه، فمن كان كافرًا سمي شيطانًا، وإلا قيل له: جني.
وأما كونهم مكلفين:
فقال ابن عبد البرّ: الجن عند الجماعة مكلفون، وقال عبد الجبار: لا نعلم خلافًا بين أهل النظر في ذلك، إلا ما حكى زرقان عن بعض الحشوية أنهم مضطرون إلى أفعالهم، وليسوا بمكلفين، قال: والدليل للجماعة ما في القرآن من ذم الشياطين، والتحرز من شرهم، وما أعد لهم من العذاب، وهذه الخصال لا تكون إلا لمن خالف الأمر، وارتكب النهي، مع تمكّنه من أن لا يفعل، والآيات والأخبار الدالة على ذلك كثيرة جدًّا.
وإذا تقرر كونهم مكلَّفين فقد اختلفوا، هل كان فيهم نبي منهم أم لا؟
فروى الطبري من طريق الضحاك بن مزاحم إثبات ذلك، قال: ومن قال بقول الضحاك احتج بأن الله تعالى أخبر أن من الجن والإنس رسلًا، أرسلوا إليهم، فلو جاز أن المراد برسل الجن رسل الإنس لجاز عكسه، وهو فاسد. انتهى.
وأجاب الجمهور عن ذلك بأن معنى الآية أن رسل الإنس رسل من قِبَل الله إليهم، ورسل الجن بثّهم الله في الأرض، فسمعوا كلام الرسل من الإنس، وبلّغوا قومهم، ولهذا قال قائلهم: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف: (30)] الآية، واحتج ابن حزم بأنه ? قال: «وكان النبي يبعث إلى قومه»، قال: وليس الجن من قوم الإنس، فثبت أنه كان منهم أنبياء إليهم، قال: ولم يبعث إلى الجن من الإنس نبي إلا نبينا ?؛ لعموم بعثته إلى الجن والإنس باتفاق. انتهى.
وقال ابن عبد البر: لا يختلفون أنه ? بُعث إلى الإنس والجن، وهذا مما فُضِّل به على الأنبياء عليهم السلام، ونُقل عن ابن عباس في قوله تعالى في سورة غافر: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر: (34)] قال: هو رسول الجن، وهكذا ذكره.
وقال إمام الحرمين في «الإرشاد» في أثناء الكلام مع العيسوية: وقد علمنا ضرورة أنه ? ادعى كونه مبعوثًا إلى الثقلين.
وقال ابن تيمية: اتَّفق على ذلك علماء السلف من الصحابة، والتابعين، وأئمة المسلمين.
قال الحافظ: وثبت التصريح بذلك في حديث: «وكان النبيّ يُبعث إلى قومه، وبُعثت إلى الإنس والجن»، فيما أخرجه البزار بلفظ. وعن ابن الكلبيّ: كان النبيّ يُبعث إلى الإنس فقط، وبُعث محمد ? إلى الإنس والجن.
وإذا تقرر كونهم مكلَّفين، فهم مكلَّفون بالتوحيد، وأركان الإسلام، وأما ما عداه من الفروع؟
فاختُلف فيه، لِمَا ثبتٌ من النهي عن الروث والعظم، وأنهما زاد الجن، وفي حديث أبي هريرة: «فقلت: ما بال الروث والعظم؟ قال: هما طعام الجن … » الحديث، فدل على جواز تناولهم للروث، وذلك حرام على الإنس، وكذلك روى أحمد، والحاكم، من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: «خرج رجل من خيبر، فتبعه رجلان، وآخر يتلوهما، يقول: ارجعا حتى ردَّهما، ثم لحقه، فقال له: إن هذين شيطانان، فإذا أتيت رسول الله ?
فاقرأ عليه السلام، وأخبره أنّا في جَمْع صدقاتنا، ولو كانت تصلح له لبعثنا بها إليه، فلما قدم عليه الرجل المدينة، أخبر النبيّ ? بذلك، فنهى عن الخلوة»؛ أي: السفر منفردًا.
واختُلف أيضًا هل يأكلون، ويشربون، ويتناكحون أم لا؟
فقيل: بالنفي، وقيل: بمقابله، ثم اختلفوا، فقيل: أكْلهم وشُربهم تشمم، واسترواح، لا مضغ، ولا بلع، وهو مردود بما رواه أبو داود من حديث أمية بن مخشي قال: «كان رسول الله ? جالسًا، ورجل يأكل، ولم يسمّ، ثم سمى في آخره، فقال النبيّ ?: ما زال الشيطان يأكل معه، فلما سمى استقاء ما في بطنه».
وروى مسلم من حديث ابن عمر قال: «قال رسول الله ?: لا يأكلن أحدكم بشماله، ولا يشرب بشماله، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله».
وروى ابن عبد البرّ عن وهب بن منبه: أن الجن أصناف، فخالصهم ريح، لا يأكلون، ولا يشربون، ولا يتوالدون، وجنس منهم يقع منهم ذلك، ومنهم السعالى، والغول، والقطرب، وهذا إن ثبت كان جامعًا للقولين الأولين.
ويؤيده ما روى ابن حبان، والحاكم، من حديث أبي ثعلبة الخشنيّ قال: “قال رسول الله ? الجن على ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وصنف حيات، وعقارب، وصنف يَحِلّون، ويَظعنون».
وروى ابن أبي الدنيا من حديث أبي الدرداء مرفوعًا نحوه، لكن قال في الثالث: «وصنف عليهم الحساب والعقاب».
وروى ابن أبي الدنيا من طريق يزيد بن يزيد بن جابر، أحد ثقات الشاميين، من صغار التابعين قال: ما من أهل بيت إلا وفي سقف بيتهم من الجن، وإذا وُضع الغداء نزلوا، فتغدوا معهم، والعشاء كذلك.
واستدل من قال بأنهم يتناكحون؛ بقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: (74)]، وبقوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف: (50)] والدلالة من ذلك ظاهرة، واعتل من أنكر ذلك بأن الله تعالى أخبر أن الجان خُلق من نار، وفي النار من اليبوسة والخفة ما يمنع معه التوالد،
والجواب: أن أصلهم من النار كما أن أصل الآدمي من التراب، وكما أن الآدمي ليس طينًا حقيقة، كذلك الجنيّ ليس نارًا حقيقة.
وقد وقع في «الصحيح» في قصة تعرض الشيطان للنبيّ ? أنه قال: «فأخذته، فخنقته حتى وجدت بَرْد ريقه على يدي».
وبهذا الجواب يندفع إيراد من استشكل؛ قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ((10))} [الصافات: (10)] فقال: كيف تحرق النار النار؟
وأما ثوابهم، وعقابهم:
فلم يختلف من أثبت تكليفهم أنهم يعاقبون على المعاصي، واختُلف هل يثابون؟ فروى الطبريّ، وابن أبي حاتم من طريق أبي الزناد موقوفًا قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار قال الله لمؤمن الجنّ، وسائر الأمم؛ أي: من غير الإنس: كونوا ترابًا، فحينئذ يقول الكافر: {يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: (40)].
وروى ابن أبي الدنيا عن ليث بن أبي سليم قال: ثواب الجن أن يُجاروا من النار، ثم يقال لهم: كونوا ترابًا. وروي عن أبي حنيفة نحو هذا القول.
وذهب الجمهور إلى أنهم يُثابون على الطاعة، وهو قول الأئمة الثلاثة، والأوزاعيّ، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وغيرهم.
ثم اختلفوا، هل يدخلون مدخل الإنس على أربعة أقوال:
أحدها: نعم، وهو قول الأكثر.
وثانيها: يكونون في ربض الجنة، وهو منقول عن مالك، وطائفة.
وثالثها: أنهم أصحاب الأعراف.
ورابعها: التوقف عن الجواب في هذا.
وروى ابن أبي حاتم من طريق أبي يوسف، قال: قال ابن أبي ليلى في هذا: لهم ثواب، قال فوجدنا مصداق ذلك في كتاب الله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: (132)]، قال الحافظ: وإلى هذا أشار البخاريّ بقوله قبلها: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَاتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: (130)]، فإن قوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف: (19)] يلي الآية التي بعد هذه الآية.
واستدل بهذه الآية أيضًا ابن عبد الحكم، واستدل ابن وهب بمثل ذلك بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأحقاف: (18)] الآية، فإن الآية بعدها أيضًا: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}.
وروى أبو الشيخ في تفسيره عن مغيث بن سمي أحد التابعين، قال: ما من شيء إلا وهو يسمع زفير جهنم إلا الثقلين الذين عليهم الحساب والعقاب.
ونقل عن مالك أنه استدلّ على أن عليهم العقاب ولهم الثواب؛ بقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ((46))} [الرحمن: (46)]، ثم قال: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ((47))} [الرحمن: (47)] والخطاب للإنس والجن، فإذا ثبت أن فيهم مؤمنين والمؤمن من شأنه أن يخاف مقام ربه ثبت المطلوب، والله أعلم. انتهى.
قال الإتيوبي عفا الله عنه: قول الجمهور القائلين بأنهم يثابون، ويعاقبون هو الصحيح، لظواهر الآيات المذكورة، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج للإتيوبي رحمه الله، بتصرف يسير].
فقه وفوائد الحديث:
1 – (منها): التفريق بين خلائق الله تعالى، يوضح الحديث أن الله تعالى خلق الملائكة من نور، والجن من نار، والإنسان من تراب وماء.
ويبين ذلك اختلاف العناصر التي خلقت منها هذه المخلوقات وما يترتب على ذلك من صفات.
2 – (ومنها): أهمية الإيمان بالملائكة، الحديث يؤكد أهمية الإيمان بوجود الملائكة، وأنهم خلق من خلق الله، لهم مهام محددة ويعملون بأمر الله.
3 – (ومنها): تعظيم خلق الله وقدرته، بيان عظمة خلق الله من حيث تنوعه وقدرته على خلق مخلوقات بأشكال وصفات مختلفة، مما يعزز الإيمان بقدرته الواسعة.
4 – (ومنها): الطبيعة الخلقية لكل من الملائكة والجن والبشر، الملائكة خُلِقوا من نور، فكانوا خيرًا محضًا يميلون إلى الطاعة؛ بينما الجن خُلقوا من نار، ولديهم طبيعة تختلف عن الإنسان، مما يفسر بعض جوانب شخصيتهم كالاستكبار في بعضهم (مثل إبليس).
5 – (ومنها): توجيه المسلم لفهم أصل تكوينه، التذكير بأن الإنسان خُلق من تراب وماء، وأن هذا الأصل يحثه على التواضع وعدم الاستكبار.
6 – (ومنها): تأكيد التواضع لدى الإنسان، يُشير الأصل الطيني للإنسان إلى ضرورة أن يكون متواضعًا بسبب تكوينه، ويظهر الفارق بينه وبين الجن الذين خُلقوا من نار، مما يدفع الإنسان للاعتبار بعدم الاستكبار.
7 – (ومنها): اختلاف الخلق بين آدم وحواء وعيسى عليه السلام، يُلفت الحديث إلى اختلاف الخلق بين آدم الذي خُلق مباشرة من تراب، وحواء التي خُلقت منه، وعيسى الذي خُلق من غير أب، مما يعزز الفهم الإسلامي لأصول البشر وأحوالهم.
8 – (ومنها): تشجيع التأمل في صفات المخلوقات المختلفة، يدعو الحديث المسلم للتأمل في خلق الملائكة والجن والبشر، بما يعزز التفكر في حكمة الله وتدبيره.
9 – (ومنها): التوجيهات الفقهية حول الإيمان بالغيب، ضرورة الإيمان بما ورد في النصوص الشرعية من أوصاف لمخلوقات الله غير المرئية كالإيمان بخلق الملائكة والجن، وهذا جزء من عقيدة المسلم في الإيمان بالغيب.
10 – (ومنها): التوازن بين الطاعة والاختيار، يشير النص إلى أن الملائكة مطيعون دائمًا، بخلاف الجن الذين يتمتعون بقدرة على الطاعة أو العصيان، مما يُظهر الاختلافات بين المخلوقات في التوجهات الأخلاقية.
11 – فائدة: (1179)] باب منه
[قال رسول الله صلى الله عليه وسلم]:
«خُلِقت الملائكة من نور، وخلق إبليس من نار السموم، وخُلِق آدم عليه الصلاة والسلام مما قد وصف لكم».
[قال الألباني]:
قلت: وفيه إشارة إلى بطلان الحديث المشهور على ألسنة الناس: «أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر».ونحوه من الأحاديث التي تقول بأنه صلى الله عليه وسلم خلق من نور، فإن هذا الحديث دليل واضح على أن الملائكة فقط هم الذين خُلِقُوا من نور، دون آدم وبنيه، فتنبه ولا تكن من الغافلين. «الصحيحة» (1) / (2) / (820)).
موسوعة الألباني في العقيدة (7) / (900)
12 – في السلسلة الضعيفة (3549) – (خلق الله الجن على ثلاثة أصناف: صنف حيات وعقارب وخشاش الأرض، وصنف كالريح في الهواء، وصنف كبني آدم؛ عليهم الحساب والعقاب. وخلق الله الإنس على ثلاثة أصناف: صنف كالبهائم؛ لهم قلوب لا يعقلون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، قال الله تعالى: (أولئك كالأنعام بل هم أضل)، وصنف أجسادهم كأجساد بني آدم، وأرواحهم أرواح الشياطين، وصنف في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله).
ضعيف