452 – فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: أحمد بن علي وعبدالله المشجري وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد ومحمد سيفي وسلطان الحمادي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الشيخ مقبل رحمه الله:
مسند سلمة بن يزيد الجعفي رضي الله عنه
452 – قال الإمام أحمد رحمه الله (ج 3 ص 478): حدثنا ابن أبي عدي عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن سلمة بن يزيد الجعفي قال: انطلقت أنا وأخي إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال قلنا يا رسول الله إن أمنا مليكة كانت تصل الرحم وتقري الضيف وتفعل وتفعل هلكت في الجاهلية فهل ذلك نافعها شيئًا قال «لا» قال قلنا فإنها كانت وأدت أختًا لنا في الجاهلية فهل ذلك نافعها شيئًا قال «الوائدة والموءودة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فيعفو الله عنها».
هذا حديث صحيحٌ، رجاله رجال الصحيح.
وقد أخرجه أبو داود (ج 12 ص 492) من حديث عامر الشعبي، عن علقمة، عن ابن مسعود. وذكر البخاري الاختلاف فيه عل علقمة في “تاريخه” (ج 4 ص 72)، والذي يظهر لي أن علقمة وهو ابن قيس قد رواه عن ابن مسعود وعن سلمة بن يزيد الجعفي.
وحديث علقمة عن سلمة بن يزيد الجعفي من الأحاديث التي ألزم الدارقطني البخاري ومسلمًا أن يخرجاها.
صححه الألباني في أبي داود 4717
قال محققو المسند 15923:
رجاله ثقات رجال الشيخين، غير داود بن أبي هند، فمن رجال مسلم، وصحابيه روى له النسائي، وله ذكر في “صحيح مسلم” لكن في متنه نكارة. ابن أبي عدي: هو محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، والشعبي: هو عامر بن شَراحيل، وعلقمة: هو ابن قيس بن عبد الله النخعي.
وأخرجه البخاري في “التاريخ الكبير” 4/ 72، والنسائي في “الكبرى” (11649) -وهو عنده في “التفسير” (669) -، وابن أبي عاصم في “الآحاد والمثاني” (2474)، والطبراني في “الكبير” (6319) من طرق عن داود بن أبي هند، بهذا الإسناد
وأورده الهيثمي في “مجمع الزوائد” 1/ 119، وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، والطبراني في “الكبير” بنحوه.
وأخرجه الطبراني أيضاً (6320) من طريق جابر -وهو الجعفي- عن الشعبي، به. بلفظ: “الوائدة والموؤودة في النار”.
وأخرجه بنحوه الطيالسي (1306)، ومن طريقه ابن أبي عاصم (2475) عن سليمان بن معاذ، عن عمران بن مسلم، عن يزيد بن مرة، عن سلمة بن يزيد، به.
وقوله: “الوائدة والموؤودة في النار” جاء من حديث ابن مسعود مرفوعاً، عند البخاري في “التاريخ الكبير” 4/ 73، وأبي داود (4717)، وابن حبان (7480)، والطبراني (10059) و (10236).
قلنا: فيه أن الموؤودة -وهي البنت التي تدفن حية- تكون غير بالغة، ونصوص الشريعة متضافرة على أنه لا تكليف قبل البلوغ.
والمذهب الصحيح المختار عند المحققين من أهل العلم أن أطفال المشركين الذين يموتون قبل الحِنْث هم من أهل الجنة، وقد استدلوا بما أخرجه ابن أبي حاتم فيما نقله عنه الحافظ ابن كثير في “تفسيره” 8/ 357 عن أبي عبد الله الطهراني -وهو محمد بن حماد-، حدثنا حفص بن عمر العدني، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، قال: قال ابن عباس: أطفال المشركين في الجنة، فمن زعم أنهم في النار فقد كذب، يقول الله عز وجل: {وإذا الموؤودة سُئِلَت، بأيِّ ذنبٍ قُتِلَتْ) [التكوير: 8، 9]، قال: هي المدفونة. وبقوله تعالى: {وما كنا معذِّبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء: 15]، فإذا كان لا يُعَذَّب العاقلُ بكونه لم تبلغه الدعوة، فلأن لا يُعَذَّبُ غيرُ العاقل من باب الأَوْلى.
وبما أخرج أحمد 5/ 58 من طريق حسناء بنت معاوية بن صريم عن عمها، قال: قلت: يا رسول الله، من في الجنة؟ قال: “النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والموؤودة في الجنة”، وحسّن الحافظ إسناده في “الفتح” 3/ 246.
وبما أخرج ابن أبي حاتم فيما ذكر ابن كثير في “تفسيره”- عن أبيه، عن مسلم بن إبراهيم، عن قرة قال: سمعت الحسن يقول: قيل: يا رسول الله: من في الجنة؟ قال: “الموؤودة في الجنة”، قال ابن كثير: هذا حديث مرسل من مراسيل الحسن، ومنهم من قبله.
وبما أخرج البخاري في “صحيحه” (7047) من حديث سمرة، وفيه: “وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم، وأما الولدان الذين حوله، فكل مولودٍ مات على الفطرة”، قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله: وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وأولاد المشركين”.
وبما أخرجه البخاري (1385)، ومسلم (2658) من حديث أبي هريرة رفعه: “كل مولودٍ يولد على الفطرة (والفطرة هنا الإسلام)، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه”.
وفي مستخرج البرقاني على البخاري من حديث عوف الأعرابي، عن أبي رجاء العطاردي، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كل مولودٍ يولد على الفطرة”، فقال الناس: يا رسول الله: وأولاد المشركين؟ قال: “وأولاد المشركين”.
وانظر: “طريق الهجرتين وباب السعادتين” ص 512 – 516.
[مسند أحمد 25/ 270 ط الرسالة]
*موسوعة الألباني في العقيدة (5) / (918) — ناصر الدين الألباني (ت (1420)) *
سؤال: حديث «الوائدة والموءودة في النار» ما معناه؟
الشيخ: الوائدة والموءودة في النار، أي: «والموءودة له» في النار، فيطيح الإشكال، وضح لك أم لا؟ يعني: يوجد تقدير هنا شيء ليس مذكورًا صراحةً، لكن هو معروف فكرًا: الوائد والموءودة في النار، أو الوائدة والموءودة في النار، الوائدة: كونها في النار لا يوجد إشكال؛ لأنها مكلفة بالغة، أما الموءودة: الطفلة الصغيرة كيف تكون في النار؟
أولًا: لا تزر وازرة وزر أخرى.
ثانيًا: رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ، فهذه موءودة لا تعقل شيئًا، فكيف يحكم بها في النار؟ الجواب: ليست المقصودة هي الموءودة بذاتها وإنما المقصود: الموءود له إما الأب وإما الأم وإما كلاهما معًا إذا كانا اشتركا واتفقا على وأد البنت تَبَعْهُم فهما الاثنان في النار، أما الموءودة هي بالذات فلا حكم لها لا بالجنة ولا بالنار، فالوائدة والموءودة له أي: الزوج في النار.
فالوائدة المصرح به بأنها هي الأم المؤنثة، أما الأب لم يذكر في الحديث صراحةً لكن ذكر ضمنًا؛ لأن قوله: «والموءودة» لا يمكن أن يحمل على ظاهر النص؛ لأن الشريعة قاطعة الدلالة على أن الطفل الصغير الذي لم يبلغ سن التكليف ليس مكلفًا ولا مؤاخذًا فلا يحكم له بالنار، *ولذلك فتأويل الحديث: «والموءودة له» أي: وهو زوج الوائدة.*
«الهدى والنور» ((15) /: (00): (50): (29))
بوب عليه مقبل في الجامع:
20 – ما جاء في الوأد
سورة التكاثر
382 – قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ}
قال ابن عبدالبر:
وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَطْفَالِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ أَوْلَادُ النَّاسِ كُلُّهُمُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ وَالْكَافِرِينَ إِذَا مَاتُوا أَطْفَالًا صِغَارًا مَا لَمْ يَبْلُغُوا فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ عز وجل يُصَيِّرُهُمْ إِلَى مَا شَاءَ مِنْ رَحْمَةٍ أَوْ عَذَابٍ وَذَلِكَ كُلُّهُ عَدْلٌ مِنْهُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ
وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْأَثَرِ مِنْهُمْ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مُوَطَّأُ مَالِكٍ وَهَذَا الْقَوْلُ نَسَبَهُ أَهْلُ الْكَلَامِ إِلَى أَهْلِ الْأَخْبَارِ
وَحُجَّةُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الْأَطْفَالِ فَقَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ
وَحَدِيثُ أَنَسِ بْنُ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِنَّ اللَّهَ عز وجل وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا يَقُولُ يَا رَبِّ نُطْفَةً يَا رَبِّ عَلَقَةً يَا رَبِّ مُضْغَةً فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهُ قَالَ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى أَشَقِيٌ أَمْ سَعِيدٌ وَمَا الرِّزْقُ وَمَا الْأَجَلُ فَيُكْتَبُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ
وَحَدِيثُ بن مَسْعُودٍ قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق أن بن آدَمَ يَمْكُثُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَصِيرُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَصِيرُ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا فَيَقُولُ يَا رَبِّ أَذْكَرٌ أَمْ أُنْثَى أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ وَمَا الْأَجَلُ وَمَا الْأَثَرُ فَيُوحِي اللَّهُ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ حَتَّى أَنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى لَا يَكُونَ بينه وبينها إلا ذراع أو قيد ذراع فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الَّذِي سَبَقَ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وبينها إلا ذراع أو قيد ذراع فيغلب عَلَيْهِ الْكِتَابُ الَّذِي سَبَقَ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْمَعْنَى جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْآثَارَ عَنْهُمْ في التمهيد
وقد روي عن بن عَبَّاسٍ بِالْأَسَانِيدِ الصِّحَاحِ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ
وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ وَطُرُقُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ صِحَاحٌ ثَابِتَةٌ وَهِيَ أَثْبَتُ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ مِنْ كُلِّ مَا رُوِيَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي التَّمْهِيدِ
وَمِنْ جِهَةِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ أَيْضًا حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَبِيٍّ مِنْ صِبْيَانِ الْأَنْصَارِ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَقُلْتُ طُوبَى لَهُ عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا وَلَمْ يُدْرِكْهُ ذَنْبٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلَهَا وَخَلَقَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ وَخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلَهَا وَخَلَقَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ
وَهُوَ حَدِيثٌ رَوَاهُ طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى وَفُضَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَلَيْسَ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ
ومن حجتهم أيضا حديث بن عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال إن الْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخِضْرُ طُبِعَ كَافِرًا
وَهَذَا خَبَرٌ لَمْ يَرْوِهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سعيد بن جبير عن بن عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي مَرْفُوعًا إِلَّا رَقَبَةُ بْنُ مَسْقَلَةَ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَبَّاسٍ الْهَمْدَانِيُّ وَلَمْ يرفعه شعبة والثوري
وهو مذهب بن عَبَّاسٍ فِي كِتَابِهِ إِلَى نَجْدَةَ الْحَرُورَيِّ حَيْثُ قَالَ لَهُ وَأَمَّا الْغِلْمَانُ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا عَلِمَهُ الْخِضْرُ مِنَ الْغُلَامِ فَاقْتُلْهُمْ
عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ أَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ الْخِضْرُ رَجُلٌ وَكَانَ قَاطِعَ طَرِيقٍ
وَهَذَا خِلَافُ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي لَفْظِ الْغُلَامِ لِأَنَّ الْغُلَامَ عِنْدَهُمْ هُوَ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ يَقَعُ عَلَيْهِ عِنْدَ بَعْضِهِمُ اسْمُ الْغُلَامِ مِنْ حِينِ يَفْهَمُ إِلَى سَبْعِ سِنِينَ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يُسَمَّى غُلَامًا وَهُوَ رَضِيعٌ إِلَى سَبْعِ سِنِينَ ثُمَّ يَصِيرُ يَافِعًا وَيَفَاعًا إِلَى عَشْرِ سِنِينَ ثُمَّ يَصِيرُ حَزَوَّرًا إِلَى خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً
وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَةِ مَنَازِلَ سِنِّهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَصِيرَ هَمًّا فَانِيًا كَبِيرًا مِمَّا لَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى ذِكْرِهِ
وَقَدْ ذَكَرْنَا آثَارَ هَذَا الْبَابِ بِأَسَانِيدِهَا وَمَا كَانَ مِنْ مَعْنَى طُرُقِهَا فِي التَّمْهِيدِ
وَقَالَ آخَرُونَ (وَهُمُ الْأَكْثَرُ) أَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ وَأَطْفَالُ الْكُفَّارِ فِي الْمَشِيئَةِ
وَمِنْ حُجَّتِهِمْ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَمُوتُ لَهُ ثَلَاثٌ مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلَّا أَدْخَلَهُمُ اللَّهُ وَإِيَّاهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ تُجَاوِبُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَيَقُولُونَ لَا حَتَّى يَدْخُلَ آبَاؤُنَا فَيُقَالُ لَهُمْ ادْخُلُوا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ بِفَضْلِ رَحْمَتِي
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَتْهُ الرَّحْمَةُ مِنْ أَجْلِ غَيْرِهِ وَشُفِّعَ فِيهِ غَيْرُهُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَرْحُومًا قَبْلَهُ وَكَانَ أَرْفَعَ حَالًا وَأَسْلَمَ مِمَّنْ شُفِّعَ فِيهِ
وَحَدِيثُ شُعْبَةَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ بِابْنِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتُحِبُّهُ فَقَالَ أَحَبَّكَ اللَّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمَا أُحِبُّهُ فَتُوُفِّيَ الصَّبِيُّ فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَيْنَ فُلَانٌ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوُفِّيَ ابْنُهُ ثُمَّ دَخَلَ الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَا تَرْضَى أَنْ لَا تَاتِيَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا جَاءَهُ يَسْعَى يَفْتَحُهُ لَكَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَهُ وَحْدَهُ! أَمْ لَنَا كُلِّنَا قَالَ بَلْ لكم كلكم
رواه يحيى القطان وبن مَهْدِيٍّ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَعَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ وَغَيْرُهُمْ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ أَنْ لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنَّةِ
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ صِغَارُكُمْ دَعَامِيصُ الْجَنَّةِ
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا أَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ فِي جَبَلٍ تَكْفُلُهُمْ سَارَّةُ وَإِبْرَاهِيمُ فَإِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دَفَعُوهُمْ إِلَى آبَائِهِمْ
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) الْمُدَّثِّرِ 38 39 قَالَ هُمْ أَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ
وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْآثَارَ بِأَسَانِيدِهَا فِي التَّمْهِيدِ
وَقَالَ آخَرُونَ حُكْمُ الْأَطْفَالِ كُلِّهِمْ كَحُكْمِ آبَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْهُمْ مُؤْمِنُونَ بِإِيمَانِ آبَائِهِمْ وَكَافِرُونَ بِكُفْرِ آبَائِهِمْ فَأَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ وَأَطْفَالُ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ
وحجتهم حديث بن عَبَّاسٍ عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي أَطْفَالِ الْكُفَّارِ هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ
وَهَذَا عِنْدِي لَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَرَدَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا أَنَّهُمْ إِنْ أُصِيبُوا فِي التَّبْيِيتِ وَالْغَارَةِ فَلَا قَوْدَ فِيهِمْ وَلَا دِيَةَ وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَلَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أُمَّنَا مَاتَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَتْ تُقْرِي الضَّيْفَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ فَهَلْ يَنْفَعُهَا مِنْ عَمَلِهَا شَيْءٌ قَالَ لَا قُلْنَا إِنَّ أُمَّنَا وَأَدَتْ أُخْتًا لَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ تَبْلِغِ الْحِنْثَ فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعٌ أُخْتَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الوائدة والموؤودة فِي النَّارِ إِلَّا أَنْ تُدْرِكَ الْوَائِدَةُ الْإِسْلَامَ فَيُغْفَرُ لَهَا
وَرَوَى بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الْأَلْهَانِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي قَيْسٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَرَارِي الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ هُمْ مَعَ آبَائِهِمْ قُلْتُ فَلَا عَمَلَ قَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ وَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَرَارِي الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ هُمْ مَعَ آبَائِهِمْ قُلْتُ فَلَا عَمَلَ قَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ غَيْرِ هَذَا هُمَا أَضْعَفُ مِنْ هَذَا
وَفِي حَدِيثِ أَبِي عُقَيْلٍ يَحْيَى بْنِ الْمُتَوَكِّلِ عَنْ بَهِيَّةَ عَنْ عَائِشَةَ زِيَادَةٌ فِي أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ شِئْتِ لَأَسْمَعْتُكِ تَضَاغِيهِمْ فِي النَّارِ
وَأَبُو عُقَيْلٍ ضَعِيفٌ مَتْرُوكٌ
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَسَانِيدَ هَذِهِ الْآثَارِ وَمَا كَانَ مِثْلَهَا فِي التَّمْهِيدِ وَلَوْ صَحَّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ خُصُوصًا لِقَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ لَئِنْ شِئْتِ أَسْمَعْتُكِ تَضَاغِيهِمْ فِي النَّارِ
وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِيمَنْ مَاتَ وَصَارَ فِي النَّارِ عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ لَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنَ النَّظَرِ وَالْأَوْلَى بِأَهْلِ النَّظَرِ أَنْ يَعْرِضُوا لِهَذِهِ الْآثَارِ بِمَا هُوَ أَقْوَى مَجِيئًا مِنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالشَّهَادَةِ لِلْأَطْفَالِ كُلِّهِمْ بِالْجَنَّةِ
وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ أَطْفَالَ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ وَأَطْفَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) الطَّوْرِ 21 وَقَوْلِهِ عز وجل لِنُوحٍ عليه السلام (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) هُودٍ 36 فَلَمَّا قِيلَ لِنُوحٍ ذَلِكَ وَعَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَأَنَّهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ يَمُوتُونَ دَعَا عَلَيْهِمْ بِهَلَاكِهِمْ جَمِيعًا فَقَالَ (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) نُوحٍ 26 27
وَهَذَا عِنْدِي لَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ فِي قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ يَلِدُونَ الْفُجَّارَ وَالْكُفَّارَ وَلَا يَصِحُّ الْفُجُورُ وَالْكُفْرُ إِلَّا مِمَّنْ تَجْرِي عَلَيْهِ الْأَقْلَامُ وَيَلْحَقُهُ التَّكْلِيفُ
وَقَالَ آخَرُونَ أَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ وَأَوْلَادُ الْكُفَّارِ إِذَا مَاتُوا صِغَارًا فِي الْجَنَّةِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُمْ خَدَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْنِي أَوْلَادَ الْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً
وَحُجَّتُهُمْ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْخُشَنِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ خَنْسَاءَ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي صَرِيمٍ عَنْ عَمِّهَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ الْأَنْبِيَاءُ فِي الْجَنَّةِ وَالشُّهَدَاءُ فِي الْجَنَّةِ وَالْمَوْلُودُ فِي الْجَنَّةِ وَالْوَلِيدُ فِي الْجَنَّةِ
وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ سَأَلَتْ خَدِيجَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ هُمْ مَعَ آبَائِهِمْ ثُمَّ سَأَلَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ ثُمَّ سَأَلَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) الْأَنْعَامِ 164 فَقَالَ هُمْ عَلَى الْفِطْرَةِ وَهُمْ فِي الْجَنَّةِ
وَفِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلْتُ رَبِّي عَنِ اللَّاهِينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْبَشَرِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ فَأَعْطَانِيهِمْ
قَالَ أَبُو عُمَرَ إِنَّمَا قِيلَ لِلْأَطْفَالِ اللَّاهِينَ لِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَاللَّهْوِ وَاللَّعِبُ مِنْ غَيْرِ عَمْدٍ وَلَا قَصْدٍ مِنْ قَوْلِهِمْ لَهَيْتُ عَنِ الشَّيْءِ إِذَا لَمْ أَعْتَقِدْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى (لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) الْأَنْبِيَاءِ 3
وَمِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ قَالَ أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ خَدَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ
وَرَوَى أَبُو رَجَاءٍ العطاردي عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ الطَّوِيلَ حَدِيثَ الرويا وَفِيهِ قَوْلُهُ عليه السلام وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام وَأَمَّا الْوِلْدَانُ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ قَالَ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ سَمُرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَالشَّيْخُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ أَوْلَادُ النَّاسِ فَهَذَا يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ وَعُمُومُهُ جَمِيعَ النَّاسِ
وَآثَارُ هَذَا الْبَابِ مُعَارِضَةٌ لِحَدِيثِ الوائدة والموؤودة فِي النَّارِ وَمَا كَانَ مِثْلُهُ وَإِذَا تَعَارَضَتِ الْآثَارُ وَجَبَ سُقُوطُ الْحُكْمِ بِهَا وَرَجَعَنَا إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ إِلَّا بِذَنْبٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) الْإِسْرَاءِ 15 وَقَوْلِهِ (أَلَمْ يَاتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) الزُّمْرِ 71
وَآيَاتُ الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى عَلَى أَنِّي أَقُولُ إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَلَوْ عَذَّبَهُمْ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا لَهُمْ وَلَكِنْ جَلَّ مَنْ تَسَمَّى بالغفور الرحيم الرؤوف الْحَكِيمِ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ إِلَّا حَقِيقَةً لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ
وَقَالَ آخَرُونَ يُمْتَحَنُونَ فِي الْآخِرَةِ
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في الْهَالِكِ فِي الْفَتْرَةِ وَالْمَعْتُوهِ وَالْمَوْلُودِ قَالَ يَقُولُ الْهَالِكُ فِي الْفَتْرَةِ لَمْ يَاتِ كِتَابٌ وَلَا رَسُولٌ ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ) طه 134 وَيَقُولُ الْمَعْتُوهُ يَا رَبِّ لَمْ تَجْعَلْ لِي عَقْلًا أَعْقِلُ بِهِ خَيْرًا وَلَا شَرًّا قَالَ وَيَقُولُ الْمَوْلُودُ رَبِّ لَمْ أُدْرِكْ الْعَقْلَ وَالْعَمَلَ قَالَ فَتُرْفَعُ لَهُمْ نَارٌ فَيُقَالُ لَهُمْ رُدوهَا وَادْخُلُوهَا قَالَ فَيَرِدُهَا أَوْ يَدْخُلُهَا مَنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ سَعِيدًا لَوْ أَدْرَكَ الْعَمَلَ وَيُمْسِكُ عَنْهَا مَنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ شَقِيًّا لَوْ أَدْرَكَ الْعَمَلَ قَالَ فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل إِيَّايَ عَصَيْتُمْ فَكَيْفَ بِرُسُلِي لَوْ أَتَتْكُمْ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنُ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلُ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ
وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مِثْلُهُ وَمَعْنَاهُ
وَهِيَ كُلُّهَا أَسَانِيدُ لَيْسَتْ بِالْقَوِيَّةِ وَلَا يَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا بِأَسَانِيدِهَا فِي التَّمْهِيدِ
وَأَهْلُ الْعِلْمِ يُنْكِرُونَ أَحَادِيثَ هَذَا الْبَابِ لِأَنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ وَلَيْسَتْ دَارَ عَمَلٍ وَلَا ابْتِلَاءٍ وَكَيْفَ يُكَلَّفُونَ دُخُولَ النَّارِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي وُسْعِ الْمَخْلُوقِينَ وَاللَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَا يَخْلُو أَمْرُ مَنْ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ مِنْ أَنْ يَمُوتَ كَافِرًا أَوْ غَيْرَ كَافِرٍ إِذَا لَمْ يَكْفُرُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَلَا رَسُولٍ فَإِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ كَافِرًا جَاحِدًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ فَكَيْفَ يُمْتَحَنُونَ وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا بِأَنْ لَمْ يَاتِهِ نَذِيرٌ وَلَا أُرْسِلَ إِلَيْهِ رَسُولٌ فَكَيْفَ يُؤْمَرُ أَنْ يَقْتَحِمَ النَّارَ وَهِيَ أَشَدُّ الْعَذَابِ وَالطِّفْلُ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ أَحْرَى بِأَنْ لَا يُمْتَحَنَ بِذَلِكَ
وَإِنَّمَا أَدْخَلَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ النَّظَرَ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُمْ فِيهِ الْأَثَرُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
[الاستذكار 3/ 108]
قال الطيبي:
قوله: (([و] الله أعلم بما كانوا عاملين)) ومن ثمة قال النواوي في شرح صحيح مسلم: اختلف العلماء فيمن مات من أطفال المشركين، فمنهم من يقول: هم تبع لآبائهم في النار، ومنهم من توقف فيهم، والثالث – وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون -: أنهم من أهل الجنة، واستدل بأشياء، منها حديث إبراهيم خليل الله عليه السلام حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم ((وحوله أولاد الناس، قالوا: يا رسول الله؛ وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين)) رواه البخاري في صحيحه، ومنه قوله تعالى: ((ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)) ولا يتوجه على المولود التكليف حتى يبلغ فيلزم الحجة، وهذا متفق عليه.
أقول – والعلم عند الله -: والحق الأول؛ يعني التوقف، لما ورد في مسند أحمد بن حنبل عن علي في حديث خديجة في أولادها كما سيجيء في الفصل الثالث من هذا الباب، وحديث الوائدة والموءودة في النار)) مخالف لحديث إبراهيم عليه السلام، فالوجه أن يبني الكلام على حديث عائشة رضي الله عنها. وقولها: ((عصفور من عصافير الجنة)) في شأن ولد من المسلمين، كما سبق أن إنكار الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: ((أو غير ذلك كان))؛ لأن حكمها على الصغير حكم على أبويه، و [الجزم] بأنهما من أهل الجنة؛ لأن الصغير تابع لهما، فعلى هذا أولاد المشركين الذين كانوا بين يدي إبراهيم الخليل عليه السلام هم المشركون الذي لم يسلموا حينئذ، ثم في المآل آمنوا. وأما ولد خديجة، والموءودة، [فهم] الذين مات آباؤهم على الكفر، وأما قوله تعالى: ((ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)) فيحتمل أن يراد بالعذاب الاستئصال في الدنيا؛ لأن ((حتى)) تقتضي ظاهراً أن يكون العذاب في الدنيا، ويعضده ما أتبعه من قوله: {وإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} وقد يشتمل عذاب الاستئصال في الدنيا الظالم وغيره قال الله تعالى: ((واتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً)) وحديث الخسف بالزوراء ((يخسف بهم جميعاً، ويحشرون على قدر نياتهم)) معلوم، فحينئذ لا يتم الاستدلال بالآية.
((قض)): الثواب والعقاب ليسا لأحد بالأعمال، وإلا لزم أن لا يكون ذراري المسلمين والكفار من أهل الجنة والنار، بل الموجب لهما هو اللطف الرباني، والخذلان الإلهي المقدر لهم وهم في أصلاب آبائهم، بل هم [وآباؤهم] وأصول أكوانهم بعد في العدم، فالواجب فيها التوقف وعدم الجزم بشيء من ذلك، فإن أعمالهم موكولة إلى علم الله تعالى فيما يعود إلى أمر الآخرة من الثواب والعقاب؛ لأن السعادة والشقاوة ليستا معللتين [عندنا]، بل الله تعالى خلق من شاء سعيداً، ومن شاء شقياً، وجعل الأعمال دليلا على السعادة والشقاوة، وأنت تعلم أن عدم الدليل وعدم العلم به – لا يوجبان عدم المدلول والعلم بعدمه، وكما أن البالغين منهم شقى وسعيد، وأما الذين شقوا، فهم مستعملون بأعمال أهل النار حتى يموتوا عليها، فيدخلوا النار فأما الذين سعدوا فهم موفقون للطاعات وصالح الأعمال، حتى يتوفوا عليها فيدخلوا الجنة، فأطفال منهم من سبق القضاء بأنه سعيد من أهل الجنة، فهو لو عاش عمل أعمال أهل الجنة، ومنهم من جف القلم بأنه شقى من أهل النار، فهو لو أمهل لاشتغل بالعصيان وانهمك في الطغيان.
[شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن 2/ 574]
قال ابن القيم:
وأمَّا أطفال المشركين فللنَّاس فيهم ثمانية مذاهب:
أحدها: الوقف فيهم، وترك الشهادة بأنَّهم في الجنَّة أو في النار، بل يوكل علمهم إلى اللَّه تعالى، ويقال: اللَّه أعلم بما كانوا عاملين ….
المذهب الثاني: أنَّهم في النَّار. وهذا قول جماعة من المتكلّمين وأهل التفسير، وأحد الوجهين لأصحاب أحمد، وحكاه القاضي نصًّا عن أحمد …
المذهب الثالث: أنَّهم في الجنَّة، وهذا قول طائفة من المفسِّرين والمتكلمين وغيرهم …
المذهب الرابع: أنَّهم في منزلة بين المنزلتين بين الجنَّة والنَّار، فإنَّهم ليس لهم إيمان يدخلون به الجنَّة، ولا لآبائهم فوز يلحق بهم أطفالهم تكميلًا لثوابهم وزيادةً في نعيمهم، وليس لهم من الأعمال ما يستحقون به دخول النار.
وهذا قول طائفة من المفسّرين. قالوا: وهم أهل الأعراف …
المذهب الخامس: أنَّهم تحت مشيئة اللَّه تعالى، يجوز أن يعمّهم بعذابه، وأن يعمّهم برحمته، وأن يرحم بعضًا ويعذِّب بعضًا، بمحض الإرادة والمشيئة. ولا سبيل إلى إثبات شيء من هذه الأقسام إلا بخبر يجب المصير إليه، ولا حكم فيهم إلا بمحض المشيئة.
وهذا قول الجبرية نفاة الحكمة والتعليل، وقول كثير من مثبتي القدر غيرهم.
المذهب السادس: أنَّهم خدم أهل الجنَّة ومماليكهم، وهم معهم بمنزلة أرقَّائهم ومماليكهم في الدنيا.
المذهب السابع: أنَّ حكمهم حكم آبائهم في الدنيا والآخرة، فلا يفرَدون عنهم بحكم في الدارين. فكما هم منهم في الدنيا، فهم منهم في الآخرة.
والفرق بين هذا المذهب وبين مذهب من يقول: هم في النَّار، أن صاحب هذا المذهب يجعلهم معهم تبعًا لهم، حتَّى لو أسلم الأبوان بعد موت أطفالهما لم يحكم لأفراطهما بالنَّار. وصاحب القول الآخر يقول: هم في النَّار لكونهم ليسوا بمسلمين، ولم يدخلوها تبعًا.
المذهب الثامن: أنَّهم يمتحنون في عرصة القيامة، ويرسل إليهم هناك رسول وإلى كلِّ من لم تبلغه الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنَّة، ومن عصاه أدخله النَّار. وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنَّة وبعضهم في النَّار. وبهذا يتألَّف شمل الأدلّة كلَّها، وتتوافق الأحاديث، ويكون معلومُ اللَّه عز وجل الذي أحال عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث يقول: “اللَّه أعلم بما كانوا عاملين” يظهر حينئذٍ، ويقع الثواب والعقاب عليه حال كونه معلومًا خارجيًّا لا علمًا مجرَّدًا، ويكون النبيّ صلى الله عليه وسلم قد ردَّ جوابهم إلى علم اللَّه فيهم، واللَّه تعالى يردّ ثوابهم وعقابهم إلى معلومه منهم. فالخبرُ عنهم مردودٌ إلى علمه، ومصيرُهم مردودٌ إلى معلومه.
وقد جاءت بذلك آثار كثيرة يؤيد بعضها بعضًا …
فإن قيل: قد أنكر ابن عبد البرّ هذه الأحاديث وقال: أهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب، لأنّ الآخرة ليست دار عمل ولا ابتلاء. وكيف يكلَّفون دخولَ النار، وليس ذلك في وسع المخلوقين، واللَّه لا يكلّف نفسًا إلَّا وسعها؟
فالجواب من وجوه:
أحدها: أنّ أهل العلم لم يتفقوا على إنكارها، بل ولا أكثرهم. وإن أنكرها بعضهم فقد صحّح غيرُه بعضَها، كما تقدّم.
الثاني: أنّ أبا الحسن الأشعري حكى هذا المذهب عن أهل السنة والحديث، فدلّ على أنّهم ذهبوا إلى موجب هذه الأحاديث.
الثالث: أنّ إِسناد حديث الأسود أجود من كثير من الأحاديث التي يحتجّ بها في الأحكام، ولهذا رواه الأئمّة: أحمد وإسحاق وعليّ بن المديني.
الرابع: أنّه قد نصّ جماعة من الأئمة على وقوع الامتحان في الدار الآخرة، وقالوا: لا ينقطع التكليف إلَّا بدخول دار القرار. ذكره البيهقي عن غير واحد من السلف.
الخامس: ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد في الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولًا إليها: أنّ اللَّه تعالى يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأله غيرَ الذي يعطيه، وأنّه يخالفه ويسأله غيره، فيقول اللَّه له: “ما أغدرك! “. وهذا الغدر منه هو لمخالفته العهد الذي عاهد اللَّه عليه.
السادس: قوله: “وليس ذلك في وسع المخلوقين” جوابه من وجهين: أحدهما: أنَّ ذلك ليس تكليفًا بما ليس في الوسع، وإنَّما هو تكليف بما فيه مشقَّة شديدة، وهو كتكليف بني إسرائيل قتلَ أولادِهم وأزواجِهم وآبائهم حين عبدوا العجل، وكتكليف المؤمنين إذا رأوا الدجّال ومعه مثال الجنة والنار أن يقعوا في الذي يرونه نارًا. الثاني: أنَّهم لو أطاعوه ودخلوها لم يضرّهم، وكانت بردًا وسلامًا، فلم يكلَّفوا بممتنع ولا بما يشقّ.
السابع: أنَّه قد ثبت أنَّه سبحانه يأمرهم في القيامة بالسجود ويحول بين المنافقين وبينه، وهذا تكليف بما ليس في الوسع قطعًا، فكيف ينكر التكليف بدخول النَّار في رأي العين إذا كان سببًا للنجاة؟ كما جعل قطع الصراط الذي هو أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف سببًا للنجاة، كما قال أَبو سعيد الخدري: “بلغني أنَّه أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف” رواه مسلم. فركوب هذا الصراط الذي هو في غاية المشقة كالنّار، ولهذا كلاهما يفضى منه إلى النجاة. واللَّه أعلم.
الثامن: أنَّ هذا استبعاد مجرَّد لا تُرَدّ بمثله الأحاديث. والنَّاس لهم طريقان: فمن سلك طريق المشيئة المجرَّدة لم يمكنه أن يستبعد هذا التكليف، ومن سلك طريق الحكمة والتعليل لم يكن معه حجَّة تنفي أن يكون هذا التكليف موافقًا للحكمة؛ بل الأدلَّة الصحيحة تدلّ على أنَّه مقتضى الحكمة كما ذكرناه.
التاسع: أنَّ في أصحّ هذه الأحاديث -وهو حديث الأسود- أنَّهم يعطُون ربّهم المواثيقَ ليُطيعُنَّه فيما يأمرهم به، فيأمرهم أن يدخلوا نار الامتحان، فيتركون الدخول معصيةً لأمره، لا لعجزهم عنه. فكيف يقال إنَّه ليس في الوسع؟.
فإن قيل: فالآخرة دار جزاءٍ، وليست دار تكليف، فكيف يمتحنون في غير دار التكليف؟
فالجواب: أنَّ التكليف إنَّما ينقطع بعد دخول دار القرار، وأمَّا في البرزخ وعرصات القيامة فلا ينقطع. وهذا معلوم بالضرورة من الدين من وقوع التكليف بمسألة الملكين في البرزخ، وهي تكليف. وأمَّا في عرصة القيامة فقد قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)} [القلم/ 42]. فهذا صريح في أنَّ اللَّه تعالى يدعو الخلائق إلى السجود يوم القيامة، وأنَّ الكفار يحال بينهم وبين السجود إذ ذاك، ويكون هذا التكليف بما لا يطاق حينئذٍ حسنًا عقوبةً لهم؛ لأنَّهم كُلِّفوا به في الدنيا وهم يطيقونه، فلما امتنعوا منه وهو مقدور لهم، كُلِّفوا به وهم لا يقدرون عليه حسرةً عليهم وعقوبةً لهم. ولهذا قال تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)} [القلم/ 43] يعني أصحاء، لا آفةَ تمنعهم منه. فلمَّا تركوه وهم سالمون دُعوا إليه في وقت حيل بينهم وبينه، كما في الصحيح من حديث زيد بن أسلم، عن عطاء، عن أبي سعيد: “إنَّ ناسًا قالوا: يا رسول اللَّه، هل نرى ربّنا”. فذكر الحديث بطوله. إلى أن قال: “فيقول: تتبع كلّ أمَّةٍ ما كانت تعبد، فيقول المؤمنون: فارقنا الناس في الدنيا أفقرَ ما كنَّا إليهم، ولم نصاحبهم. فيقول: أنا ربّكم. فيقولون: نعوذ باللَّه منك، لا نشرك باللَّه شيئًا -مرَّتين أو ثلاثًا- حتَّى إنَّ بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه آيةٌ تعرفونه بها؟ فيقولون: نعم. فيكشف عن ساقٍ، فلا يبقى من كان يسجد للَّه من تلقاءِ نفسه إلا أذن اللَّه له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل اللَّه ظهره طبقةً واحدةً كلَّما أراد أن يسجد خرَّ على قفاه، ثمَّ يرفعون رؤوسهم”. وذكر الحديث.
وهذا التكليف نظير التكليف في البرزخ بالمسألة، فمن أجاب في الدنيا طوعًا واختيارًا أجاب في البرزخ، ومن امتنع من الإجابة في الدنيا مُنِع منها في البرزخ. ولم يكن تكليفه في تلك الحال -وهو غير قادر- قبيحًا؛ بل هو مقتضى الحكمة الإلهية؛ لأنَّه كُلِّف وقتَ القدرة فأبى، فإذا كُلِّف وقت العجز وقد حيل بينه وبين الفعل، كان عقوبة له وحسرة.
والمقصود أنَّ التكليف لا ينقطع إلا بعد دخول الجنَّة أو النَّار. وقد تقدَّم أنَّ حديث الأسود بن سريع صحيح، وفيه التكليف في عرصة القيامة. فهو مطابق لما ذكرنا من النصوص الصحيحة الصريحة. فعلم أنَّ الذي تدلّ عليه الأدلّة الصحيحة، وتأتلف به النصوص، وهو مقتضى الحكمة = هو هذا القول، واللَّه أعلم.
وقد حكى بعض أهل المقالات عن ثمامة بن أشرس أنَّه ذهب إلى أنَّ الأطفال يصيرون يوم القيامة ترابًا.
وقد نقل عن ابن عباس ومحمد ابن الحنفية والقاسم بن محمد وغيرهم أنَّهم كرهوا الكلام في هذه المسألة جملةً.
[طريق الهجرتين وباب السعادتين 2/ 842]
قال الإتيوبي بعد يراد أقوال العلماء وأدلتهم:
قال الجامع عفا الله عنه: عندي الحقّ قول من قال: إن أولاد الناس في الجنّة، مسلميهم، وكافريهم؟ لقوّة الحجة في ذلك، ولا سيّما قصّة إبراهيم عليه السلام وحوله أولاد الناس، فقد أخرجه البخاريّ، والله تعالى أعلم.
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
[البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج 41/ 239]
ونقلنا بحث مطول في بعض شروحنا في تخريج الأحاديث خلص الباحث إلى ترجيح أن أطفال المشركين في الجنة