570 – تحضير سنن الترمذي
جمع أحمد بن علي وعبدالله المشجري وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد ومحمد سيفي
_______
بَابٌ فِي خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ
570 – حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ الأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إِلَى المَسَاجِدِ»، فَقَالَ ابْنُهُ: وَاللَّهِ لَا نَاذَنُ لَهُنَّ يَتَّخِذْنَهُ دَغَلًا فَقَالَ: فَعَلَ اللَّهُ بِكَ وَفَعَلَ، أَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَقُولُ: لَا نَاذَنُ لَهُنَّ وَفِي البَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ: «حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»
[حكم الألباني]: صحيح
_______
قال القاضي عياض:
وقوله: ” إن ابن عبد الله بن عمر قال له: لا تدعهن [يخرجن] (1) فيتخذنه دغلاً “، قال (2) الهروى فى حديث آخر: ” اتخذوا دين الله دغلاً “: أى يخدعون الناس، وأصل الدغل: الشجر الملتف الذى يكون فيه أهل الفساد، وقال الليث: معناه: أدغلوا فى التفسير، يقال: أدغلت فى الأمر إذا أدخلت فيه ما يخالفه، قال: وإذا دخل الرجل مدخلاً مريباً قيل: دغل فيه.
وقوله: ” فزبره ابن عمر ” معناه: انتهره، قال صاحب الأفعال: [يقال] (3) زبرت الكتاب [إذا] (4) كتبته، والشاء قطعته، والرجل انتهرته، والبئر طويتها بالحجارة.
قال القاضى: وانتهار عبد الله لابنه وضربه فى صدره وسبه [له] (5) – كما جاء فى الحديث – فيه تأديب المعترض على السنن برأيه، وعلى العالم بهواه، وجواز التأديب باليد وبالسبِّ وتأديب الرجل ولده وإن كان كبيرًا فى تغيير المنكر، وتأديب العالم من يتعلم عنده أو يتكلم بما لا يُحب بين يديه. ونهى النبى صلى الله عليه وسلم للنساء عن الخروج إلى المساجد إذا تطيبن أو تبخَّرن؛ لأجل فتنة الرجال بطيب ريحهن وتحريك قلوبهم وشهواتهم بذلك، وذلك لغير المساجد أحرى، وفى معنى الطيب ظهور الزينة وحسن الثياب وصوت الخلاخيل والحلى، وكل ذلك يجب منع النساء منه إذا خرجن بحيث يراهن الرجال، وقد قال محمد بن سلمة (1): يمنع الخروج إلى المسجد الجميلة المشهورة لما يخشى من فتنتها.
وقول عائشة: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المسجد قيل: من حسن الملابس والزينة والطيب، وقيل: يحتمل ما اتسعن فيه من حسن الثياب، وإنما كن أولاً فى المروط والشمائل والأكسية
ذكر مسلم فى الحديث الرد على عبد الله بن عمر مرة لابنه بلال، ومرة لابنه واقد، وهما صحيحان، بلال وواقد ابنا عبد الله بن عمر بن الخطاب
[إكمال المعلم بفوائد مسلم 2/ 354]
قال ابن هبيرة:
*وفي هذا الحديث من الفقه أنه لا يجوز أن تمنع إماء الله مساجد الله فربما كان ذلك منهن أدعى إلى حفظهن الصلاة، فأن جلهن يترك الاقتصاد لصلواتهن مضيعات
[الإفصاح عن معاني الصحاح 4/ 33]
قال ابن رجب:
ومراده بهذين الحديثين في هذا الباب: أن إلاذن في خروج النساء إلى المساجد إنما كانَ بالليل خاصةً، وحديث عمر يبين انهن إنما كن يخرجن كذلك، وقد سبق ذكر ذَلِكَ في ((باب: خروج النساء إلى المساجد في الليل والغلس)).
وحينئذ؛ فلا تكون الجمعة مما اذن لهن في الخروج اليها؛ لانها منصلاة النهار، لا من صلوات الليل، وإنما أمر بالغسلٌ من يجيء إلى الجمعة، كما في حديث ابن عمر المتقدم فيدل ذلك على أن المرأة ليست مأمورة بالغسلٌ للجمعة، حيث لم يكن مأذونا لها بالخروج إلى الجمعة.
وقد رود لفظٌ صريحٌ بالغسل للنساء يوم الجمعة.
خرَّجه ابن حبان في ((صحيحه)) من طريق عثمان بن واقد العمري، عن نافعٍ، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل)).
وخرَّجه بلفظٍ أخر، وهو: ((الغسل يوم الجمعة على كل حالم من الرجال، وعلى كل بالغٍ من النساء)).
وخرَّجه البزار في ((مسنده)) باللفظ الأول.
وقال: أحسب عثمان بن واقدٍ وهم في هذا اللفظ.
وعثمان بن واقدٍ هذا، وثقه ابن معين، وقال أحمد والدارقطني: لا بأس به.
قال أبو داود: هو ضعيفٌ، حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل)) لا نعلم أن أحداً قال هذا غيره.
يعني: أنه لم يتابع عليه، وأنه منكرٌ لا يحتمل منه تفردا به
[فتح الباري لابن رجب 8/ 151]
قال ابن حجر:
قوله: (عن مجاهد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد) هكذا ذكره مختصرا، وأورده مسلم من طريق مجاهد عن ابن عمر مطولا، وقد تقدم ذكره في (باب خروج النساء إلى المساجد)، وهو قبيل كتاب الجمعة، وتقدم هناك ما يتعلق به مطولا.
وقوله: بالليل في إشارة إلى أنهم ما كانوا يمنعونهن بالنهار؛ لأن الليل مظنة الريبة، ولأجل ذلك قال ابن عبد الله بن عمر: لا نأذن لهن يتخذنه دغلا، كما تقدم ذكره من عند مسلم. وقال الكرماني: عادة البخاري إذا ترجم بشيء ذكر ما يتعلق به وما يناسب التعلق، فلذلك أورد حديث ابن عمر هذا في ترجمته هل على من لم يشهد الجمعة غسل؟. قال: فإن قيل: مفهوم التقييد بالليل يمنع النهار، والجمعة نهارية، وأجاب بأنه من مفهوم الموافقة لأنه إذا إذن لهن بالليل – مع أن الليل مظنة الريبة – فالإذن بالنهار بطريق الأولى. وقد عكس هذا بعض الحنفية فجرى على ظاهر الخبر فقال: التقييد بالليل لكون الفساق فيه في شغل بفسقهم ونومهم، بخلاف النهار؛ فإنهم ينتشرون فيه. وهذا وإن كان ممكن لكن مظنة الريبة في الليل أشد، وليس لكلهم في الليل ما يجد ما يشتغل به، وأما النهار فالغالب أنه يفضحهم غالبا، ويصدهم عن التعرض لهن ظاهرا لكثرة انتشار الناس ورؤية من يتعرض فيه لما لا يحل له فينكر عليه، والله أعلم
[فتح الباري لابن حجر 2/ 383 ط السلفية]
قال الشنقيطي:
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثني عمرو الناقد، وزهير بن حرب جميعًا عن ابن عيينة. قال زهير: حدثنا سفيان ابن عيينة، عن الزهري سمع سالمًا يحدث عن أبيه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها” وفي لفظ عند مسلم، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها” وفي لفظ عند مسلم أيضًا، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تمنعوا إماء الله مساجد الله” وفي لفظ له عنه أيضًا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إذا استأذنكم نساؤكم إلى المسجد فأذنوا لهن” وفي لفظ له عنه أيضًا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل” وفي رواية له عنه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد” وفي لفظ له عنه أيضًا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم” وفي رواية: “إذا استأذنوكم”. قال النووي في شرح مسلم: وهو صحيح، وعوملن معاملة الذكور لطلبهن الخروج إلى مجلس الذكور. وحديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا الذي ذكرناه عن الشيخين بروايات متعددة أخرجه أيضًا غيرهما، وهو صريح في أن أزواج النساء مأمورون على لسانه صلى الله عليه وسلم بالإِذن لهن في الخروج إلى المساجد إذا طلبن ذلك، ومنهيون عن منعهن من الخروج إليها.
وذكر بعض أهل العلم أن أمر الأزواج بالإِذن لهن في الروايات المذكورة ليس للإِيجاب، وإنما هو للندب، وكذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن منعهن قالوا: هو لكراهة التنزيه، لا للتحريم.
قال ابن حجر في فتح الباري: وفيه إشارة إلى أن الإِذن المذكور لغير الوجوب؛ لأنه لو كان واجبًا لانتفى معنى الاستئذان؛ لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان المستأذن مخيرًا في الإِجابة أو الرد.
وقال النووي في شرح المهذب: فإن منعها لم يحرم عليه هذا مذهبنا. قال البيهقي: وبه قال عامة العلماء. ويجاب عن حديث: “لا تمنعوا إماء الله مساجد الله” بأنه نهي تنزيه؛ لأن حق الزوج في ملازمة المسكن واجب، فلا تتركه لفضيلة. اهـ.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي في هذه المسألة: أن الزوج إذا استأذنته امرأته في الخروج إلى المسجد، وكانت غير متطيبة، ولا متلبسة بشيء يستوجب الفتنة مما سيأتي إيضاحه إن شاء الله، أنه يجب عليها الإِذن لها، ويحرم عليه منعها للنهي الصريح منه صلى الله عليه وسلم عن منعها من ذلك، وللأمر الصريح بالإِذن لها، وصيغة الأمر المجردة عن القرائن تقتضي الوجوب، كما أوضحناه في مواضع من هذا الكتاب المبارك. وصيغة النهي كذلك تقتضي التحريم. وقد قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} وقال صلى الله عليه وسلم: “إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه” إلى غير ذلك من الأدلة، كما قدمنا.
وقول ابن حجر: إن الإِذن لا يتحقق إلَّا إذا كان المستأذن مخيرًا في الإِجابة والرد، غير مسلم، إذ لا مانع عقلًا، ولا شرعًا، ولا عادة من أن يوجب الله عليه الإِذن لامرأته في الخروج إلى المسجد من غير تخيير، فإيجاب الإِذن لا مانع منه، وكذلك تحريم المنع. وقد دل النص الصحيح على إيجابه فلا وجه لرده بأمر محتمل كما ترى.
وقول النووي. لأن حق الزوج في ملازمة المسكن واجب، فلا تتركه للفضيلة، لا يصلح لأن يرد به النص الصريح منه صلى الله عليه وسلم، فأمره صلى الله عليه وسلم الزوج بالإِذن لها يلزمه ذلك، ويوجبه عليه، فلا يعارض بما ذكره النووي كما ترى.
وما ذكره النووي عن البيهقي: من أن عدم الوجوب قال به عامة العلماء غير مسلم أيضًا، فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه لما حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث الذي ذكرنا عنه في أمر الأزواج بالإِذن للنساء في الخروج إلى المساجد، وقال ابنه: لا ندعهن يخرجن، غضب وشتمه ودفع في صدره منكرًا عليه مخالفته لأمر النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك دليل واضح على اعتقاده وجوب امتثال ذلك الأمر بالإِذن لهن.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثني حرملة بن يحيى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها”
فقال بلال بن عبد الله: واللَّه لنمنعهن، فأقبل عليه عبد الله فسبه سبًا سيئًا ما سمعته سبه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: واللَّه لنمنعهن، وفي لفظ عند مسلم: فزبره ابن عمر وقال: أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: لا ندعهن. وفي لفظ لمسلم أيضًا: فضرب في صدره.
واعلم أن ابن عبد الله بن عمر الذي زعم أنه لم يمتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإِذن للنساء إلى المساجد جاء في صحيح مسلم أنه بلال بن عبد الله بن عمر. وفي رواية عند مسلم: أنه واقد بن عبد الله بن عمر. والحق تعدد ذلك فقد قاله كل من بلال، وواقد ابني عبد الله بن عمر، وقد أنكر ابن عمر على كل منهما. كما جاءت به الروايات الصحيحة عند مسلم وغيره.
فكون ابن عمر رضي الله عنهما أقبل على ابنه بلال وسبه سبًا سيئًا وقال – منكرًا عليه -: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: لنمنعهن، فيه دليل واضح أن ابن عمر يرى لزوم الإِذن لهن، وأن منعهن لا يجوز، ولو كان يراه جائزًا ما شدد النكير على ابنيه كما لا يخفى.
وقال النووي في شرح مسلم: فأقبل عليه عبد الله فسبه سبًا سيئًا، وفي رواية: فزبره. وفي رواية: فضرب في صدره. فيه تعزير المعترض على السنَّة والمعارض لها برأيه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: وكلام النووي هذا الذي رأيت اعتراف منه بأن مذهبه وهو مذهب الشافعي ومن قال بقوله – كما نقل عن البيهقي أنه قول عامة العلماء – أن جميع القائلين بذلك مستحقون للتعزير، معترضون على السنَّة، معارضون لها برأيهم. والعجب منه كيف يقر بأن بلال بن عبد الله بن عمر مستحق للتعزير لاعتراضه على السنَّة، ومعارضته لها برأيه، مع أن مذهبه الذي ينصره وينقل أنه قول عامة العلماء عن البيهقي هو بعينه قول بلال بن عبد الله بن عمر الذي صرح هو بأنه يستحق به التعزير، وأنه اعتراض على السنَّة ومعارضة لها بالرأي.
وقال النووي: قوله: فزبره، أي: نهره.
وقال ابن حجر في فتح الباري: ففي رواية بلال عند مسلم، فأقبل عليه عبد الله فسبه سبًا شديدًا ما سمعته سبه مثله قط. وفسر عبد الله بن هبيرة في رواية الطبراني السب المذكور باللعن ثلاث مرات، وفي رواية زائدة عن الأعمش فانتهره وقال: أف لك، وله عن ابن نمير عن الأعمش: فعل الله بك وفعل، ومثله للترمذي من رواية عيسى بن يونس، ولمسلم من رواية أبي معاوية: فزبره، ولأبي داود من رواية جرير: فسبه وغضب عليه. إلى أن قال: وأخذ من إنكار عبد الله على ولده تأديب المعترض على السنن برأيه. وهو اعتراف منه أيضًا بأن من خالف الحديث المذكور معترض على السنن برأيه، وبه تعلم أن ما قدمنا عنه من كون الأمر بالإِذن لهن إلى المساجد ليس للوجوب اعتراض على السنن بالرأي كما ترى.
وبما ذكرنا تعلم أن الدليل قد دل من السنَّة الصحيحة على وجوب الإِذن للنساء في الخروج إلى المساجد كما ذكرنا، ويؤيده أن ابن عمر لم ينكر عليه أحد من الصحابة تشنيعه على ولديه كما أوضحناه آنفًا. والعلم عند الله تعالى.
وإذا علمت أن ما ذكرنا من النصوص الصريحة في الأمر بالإِذن لهن يقتضي جواز خروجهن إلى المساجد، فاعلم أنه ثبت في الصحيح أنهن كن يخرجن إلى المسجد، فيصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري رحمه الله صلى الله عليه وسلم صحيحه: حدثنا يحيى بن بكير قال: أخبرنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير: أن عائشة رضي الله عنها أخبرته قالت. كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس. اهـ. وهذا الحديث أخرجه أيضًا مسلم وغيره. وقد جاءت أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما دالة على ما دلَّ عليه حديث عائشة هذا المتفق عليه من كون النساء كن يشهدن الصلاة في المسجد معه صلى الله عليه وسلم.
تنبيه
قد علمت مما ذكرنا في روايات حديث ابن عمر المتفق عليه: أن في بعض رواياته المتفق عليها تقييد أمر الرجال بالإِذن للنساء في الخروج إلى المسجد بالليل، وفي بعضها الإِطلاق وعدم التقييد بالليل، وهو أكثر الروايات كما أشار له ابن حجر في الفتح.
وقد يتبادر للناظر أن الأزواج ليسوا مأمورين بالإِذن للنساء إلَّا في خصوص الليل، لأنه أستر، ويترجح عنده هذا بما هو مقرر في الأصول من حمل المطلق على المقيد، فتحمل روايات الإِطلاق على التقييد بالليل، فيختص الإِذن المذكور بالليل.
قال مقيده عفا الله وغفر له: الأظهر عندي تقديم روايات الإِطلاق وعدم التقييد بالليل، لكثرة الأحاديث الصحيحة الدالة على حضور النساء الصلاة معه صلى الله عليه وسلم في غير الليل، كحديث عائشة المتفق عليه المذكور آنفًا الدال على حضورهن معه صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، وهي صلاة نهار لا ليل، ولايكون لها حكم صلاة الليل بسبب كونهن يرجعن لبيوتهن، لا يعوفن من الغلس؛ لأن ذلك الوقت من النهار قطعًا، لا من الليل، وكونه من النهار مانع من التقييد بالليل. والعلم عند الله تعالى.
وأما ما يشترط في جواز خروج النساء إلى المساجد فهو المسألة الرابعة. اعلم أن خروج المرأة إلى المسجد يشترط فيه عند أهل العلم شروط يرجع جميعها إلى شيء واحد، وهو كون المرأة وقت خروجها للمسجد ليست متلبسة بما يدعو إلى الفتنة مع الأمن من الفساد.
قال النووي في شرح مسلم في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تمنعوا إماء الله مساجد الله” ما نصه: هذا وما أشبهه من أحاديث الباب ظاهر في أنها لا تمنع المسجد، ولكن بشروط ذكرها العلماء مأخوذة من الأحاديث، وهي ألا تكون متطيبة، ولا متزينة، ولا ذات خلاخل يسمع صوتها، ولا ثياب فاخرة، ولا مختلطة بالرجال، ولا شابة ونحوها ممن يفتتن بها، وألا يكون في الطريق ما يخاف منه مفسدة ونحوها. انتهى محل الغرض من كلام النووي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذه الشروط التي ذكرها النووي وغيره منها ما هو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما لا نص فيه، ولكنه ملحق بالمنصوص لمشاركته له في علته، وإلحاق بعضها لا يخلو من مناقشة كما سترى إيضاح ذلك كله إن شاء الله تعالى …
[أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 6/ 256 ط عطاءات العلم]
قال الإتيوبي:
[فائدة]: قال ابن بطال رحمه الله: ويخرج من هذا الحديث أن الرجل إذا استأذنته امرأته إلى الحجّ لا يمنعها، فيكون وجه نهيه عن مسجد اللَّه الحرام لأداء فريضة الحج نهي إيجاب، قال: وهو قول مالك، والشافعيّ في أن المرأة ليس لزوجها منعها من الحج. انتهى.
قال العراقيّ رحمه الله: وما نقله عن الشافعيّ هو أحد قوليه، والقول الآخر، وهو الأظهر عند أصحابه أن له منعها من حج الفرض، ولا يلزم من الإذن لها في المسجد القريب الإذن في الحج الذي يَحتاج إلى سفر، ونفقة، وأعمال كثيرة. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: القول بمنع المرأة عن فرض الحجّ مما لا وجه له، فإذا كان الشارع نهى الرجال عن منع النساء لأداء صلاة الجماعة التي هي مستحبّة في حقّ النساء، فكيف بفريضة الحجّ؟ وما ذكروه من السفر والنفقة وغير ذلك فليس له وجه في المنع؛ لأن اللَّه تعالى حين فرضه فرضه مع هذه المشاقّ كلها، ولم يرخّص لأحد مع الاستطاعة أن يتساهل في أدائه، بل هدّد في ذلك حيث قال بعد قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، فترك فرض الحج خطر عظيم على الناس جميعًا، رجالًا ونساءً، فتأمله بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 – (منها): بيان جواز خروج النساء إلى المساجد، لكن بشرط أن لا تتطيّب، كما قُيّد في الروايات الآتية …
2 – (ومنها): ما قاله النوويّ: استُدِلَّ به على أن المرأة لا تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه لتوجه الأمر إلى الأزواج بالإذن.
وتعقبه ابن دقيق العيد بأنه إن أُخِذ من المفهوم، فهو مفهوم لقب، وهو ضعيف، لكن يَتَقَوَّى بأن يقال: إن منع الرجال نساءهم أمر مقرّرٌ، وإنما عَلَّق الحكم بالمساجد لبيان محل الجواز، فيبقى ما عداه على المنع.
3 – (ومنها): ما قال في “الفتح”: وفيه إشارة إلى أن الإذن المذكور لغير الوجوب؛ لأنه لو كان واجبًا لانتفى معنى الاستئذان؛ لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان المستأْذَن مخيرًا في الإجابة أو الردّ. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: “لأن ذلك إنما يتحقّق. . . إلخ” فيه نظر؛ إذ لا يلزم ذلك، قال اللَّه تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} الآية [البقرة: 232] فهذا النهي للتحريم قطعًا، فلا قائل بأن الوليّ مخيّر في الإجابة والردّ، فكذا هنا، فتأمّله، واللَّه تعالى أعلم.
4 – (ومنها): أنه يؤخذ من إنكار عبد اللَّه رضي الله عنه على ولده تأديب المعترِض على السنن برأيه، وعلى العالم بهواه.
5 – (ومنها): جواز تأديب الرجل ولده وإن كان كبيرًا إذا تكلم بما لا ينبغي له.
6 – (ومنها): جواز التأديب بالْهِجْران، فقد وقع في رواية ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد عند أحمد: “فما كلَّمه عبد اللَّه حتى مات”، قال الحافظ: وهذا إن كان محفوظًا يَحْتَمِل أن يكون أحدهما مات عقب هذه القصة بيسير. انتهى.
وقال الطيبيّ رحمه الله معلّقًا على هذه الرواية-: أقول: عجبتُ ممن يتسمّي بالسنيّ، وإذا سمع سنّةً من سنن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وله رأي رجّح رأيه عليها، وأيُّ فرق بينه وبين المبتدع؟ أما سمع حديث: “لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به”، وها هو ابن عمر، وهو من أكابر فقهاء الصحابة، والمرجوع إليه بالفتيا والاجتهاد، كيف غضب للَّه تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهَجَرَ فِلْذَة كَبده، وشقيق روحه لتلك الْهَنَة؛ عِبرةً لأولي الألباب. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما أحسن كلام الطيبيّ رحمه الله، وأجمله، كيف يطيب لمسلم يؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يخالف السنة لرأيه، أو لرأي أحد من الناس ممن يرى تقليده، وهو يسمع قوله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، هذا هو السبيل، وهذا هو الحقّ {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32]، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، اللهم أرنا الحقّ حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، آمين آمين آمين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: الحديث صريح في النهي عن المنع للنساء عن المساجد عند الاستئذان، وقوله في الرواية الأخرى: “لا تمنعوا إماء اللَّه” يشعر أيضًا بطلبهن للخروج، فإن المانع إنما يكون بعد وجود المقتضي، ويلزم من النهي عن منعهن من الخروج إباحته لهنّ؛ لأنه لو كان ممتنعًا لم ينه الرجال عن منعهن منه قال: والحديث عامّ في النساء، ولكن الفقهاء قد خصصوه بشروط وحالات:
منها: أن لا يتطيبن، وهذا الشرط مذكور في الحديث، ففي بعض الروايات: “ولْيَخْرُجْن تَفِلات”، وفي بعضها: “إذا شَهِدت إحداكنّ المسجد، فلا تمس طيبًا”، وفي بعضها: “إذا شَهِدت إحداكنّ العشاء، فلا تطيّب تلك الليلة”.
فيُلْحَق بالطيب ما في معناه، فإن الطيب إنما مُنِع منه لما فيه من تحريك داعية الرجال وشهوتهم، وربما يكون سببًا لتحريك شهوة المرأة أيضًا، فما أوجب هذا المعنى التَحَقَ به، وقد صحَّ أن النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- قال: “أيما امرأة أصابت بَخُورًا، فلا تشهد معنا العشاء الآخرة”، ويُلْحَق به أيضًا حُسْن الملابس، ولبس الحليّ الذي يظهر أثره في الزينة، وحَمَل بعضهم قول عائشة رضي الله عنها في “الصحيحين”: “لو أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدثت النساء بعده، لمنعهن المساجد، كما مُنِعت نساء بني إسرائيل” على هذا، تعني إحداث حسن الملابس والطيب والزينة.
قال: ومما خَصّ به بعضهم هذا الحديث أن منع الخروج إلى المسجد للمرأة الجميلة المشهورة جائز.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا القول غير صحيح، فإن النصّ عامّ يتناول الجميلة وغيرها، ومما يردّه ما أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كانت امرأة تصلّي خلف النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- حسناء من أحسن الناس، فكان بعض القوم يستقدم في الصف الأول؛ لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع قال هكذا، ينظر من تحت إبطه، فأنزل اللَّه: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)} [الحجر: 24] في شأنها”.
فقد ثبت أن هذه المرأة الجميلة كانت تحضر الصلاة مع النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، ولم تُمنع من ذلك، فتبصّر بالإنصاف.
قال: ومما ذكره بعضهم مما يقتضي التخصيص أن يكون بالليل، وهذا قد جاء في بعض طرق الحديث في “الصحيح”: “لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل”، فالتقييد بالليل قد يشعر بما قال.
ومما قيل أيضًا في تخصيص هذا الحديث: أن لا يزاحمن الرجال.
وبالجملة فمدار هذا كله النظر إلى المعنى، فما اقتضاه المعنى من المنع، كان خارجًا عن الحديث، وخُصّ العموم به.
وقيل: إن في الحديث دليلًا على أن للرجل أن يمنع امرأته من الخروج إلا بإذنه، وهذا إن أُخِذ من تخصيص النهي بالخروج إلى المساجد، وأن ذلك يقتضي بطريق المفهوم جواز المنع في غير المساجد.
وقد يُعْتَرض عليه بأن هذا تخصيص الحكم باللقب، ومفهوم اللقب ضعيف عند الأصوليين.
ويمكن أن يقال في هذا: إن منع الرجال للنساء من الخروج مشهور معتاد، وقد قُرِّروا عليه، وإنما عُلّق الحكم بالمساجد لبيان محل الجواز، وإخراجه عن المنع المستمر المعلوم، فيبقى ما عداه على المنع، وعلى هذا فلا يكون منع الرجل لخروج امرأته لغير المسجد مأخوذًا من تقييد الحكم بالمسجد فقط.
ويمكن أن يقال فيه وجه آخر، وهو أن في قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تمنعوا إماء اللَّه مساجد اللَّه” مناسبةً تقتضي الإباحة، أعني كونهن إماء اللَّه بالنسبة إلى خروجهن إلى مساجد اللَّه، ولهذا كان التعبير بإماء اللَّه، أوقع في النفس من التعبير بالنساء لو قيل، وإذا كان مناسبًا أمكن أن يكون علة للجواز، وإذا انتفى انتفى الحكم لأن الحكم يزول بزوال علته، والمراد بالانتفاء ها هنا انتفاء الخروج إلى المساجد التي للصلاة. انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم خروج النساء إلى المساجد:
قال في “طرح التثريب” عند الكلام على حديث: “وبيوتهنّ خير لهنّ” -وقد تقدّم الكلام عليه- ما حاصله: في هذا حجة لمن لم يستحبّ لهنّ شهود الجماعة، وهو قول أهل الكوفة، وكان إبراهيم النخعيّ يمنع نساءه الجمعة والجماعة، وقال أبو حنيفة: أكره للنساء شهود الجمعة، والصلاة المكتوبة، وقد أرخص للعجوز أن تشهد العشاء والفجر، وأما غير ذلك فلا، وقال الثوريّ: ليس للمرأة خير من بيتها، وإن كانت عجوزًا، وقال أبو يوسف: أكرهه للشابّة، ولا بأس أن تخرج العجوز في الصلوات كلها، وقال الشافعيّة: إن أردن حضور المسجد مع الرجال كُرِه للشواب دون العجائز، ورَوَى أشهب عن مالك قال: وللْمُتَجَالَّة -أي الكبيرة السنّ- أن تخرج إلى المسجد، ولا تكثر التردد إليه، وللشابة أن تخرج المرة بعد المرة. انتهى.
وقال العلامة أبو محمد بن حزم رحمه الله: ولا يحلّ لوليّ المرأة، ولا لسيّد الأمة منعهما من حضور الصلاة في جماعة في المسجد، إذا عُرف أنهنّ يُردن الصلاة، ولا يحلّ لهنّ أن يخرجن متطيّبات، وفي ثياب حِسَان، فإن فعلت فليمنعها، وصلاتهنّ في الجماعة أفضل من صلاتهنّ منفردات.
قال: وقال أبو حنيفة ومالك: صلاتهنّ في بيوتهنّ أفضل، وكره أبو حنيفة خروجهنّ إلى المساجد لصلاة الجماعة، وللجمعة، وفي العيدين، ورَخص للعجوز خاصّةً في العشاء الآخرة والفجر، وقد روي عنه أنه لم يكره خروجهنّ في العيدين.
وقال مالك: لا نمنعهنّ من الخروج إلى المساجد، وأباح للْمُتَجَالّة –أي الكبيرة السنّ- شهود العيدين، والاستسقاء، وقال: تخرج الشابّة إلى المسجد المرّة بعد المرّة، قال: والمتجالّة تخرج إلى المسجد، ولا تكثر التردّد.
ثم ردّ أبو محمد رحمه الله على هؤلاء بما لا تجده في غير كتابه، فأفاد وأجاد.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما قاله ابن حزم رحمه الله حسنٌ جدًّا إلا قوله: وصلاتهنّ في الجماعة أفضل، فإنه غير مسلّم له، فإن صلاتهنّ في بيوتهنّ أفضل؛ لصحّة الأحاديث بذلك.
(فمنها): ما أخرجه أحمد، والطبرانيّ من حديث أم حميد، امرأة أبي حميد الساعديّ رضي الله عنه أنها جاءت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللَّه، إني أُحب الصلاة معك، قال: “قد علمتُ أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي”، قال: فأمرت فبُنِي لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه، فكانت تصلّي فيه حتى لقيت اللَّه عز وجل. انتهى. وإسناده حسن، ويشهد له حديث ابن مسعود رضي الله عنه الآتي بعده.
(ومنها): حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبيّ قال: “صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مُخْدَعها أفضل من صلاتها في بيتها”، أخرجه أبو داود بإسناد صحيح.
و”الْمُخْدَع” بضمّ الميم: بيت صغير، يُحرز فيه الشيء، وتثليث الميم لغة، قاله الفيّوميّ.
(ومنها): حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: “لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهنّ خير لهنّ”، أخرجه أبو داود، وأحمد، والحاكم، والبيهقيّ، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبيّ، وصححه أيضًا جماعة آخرون، وأعلّه بعضهم بعنعنة حبيب بن أبي ثابت، وهو مدلّس، لكن ينجبر بالأحاديث المذكورة، فتنبّه
وبالجملة فأحاديث الباب صحيحة صالحة للاحتجاج بها، فتضعيف ابن حزم لها، وكذا دعواه النسخ لها على تقدير ثبوتها، فمما لا يُلتفت إليه، فتأمّل بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد.
والحاصل أن صلاة المرأة في المسجد جائزة إذا توفّرت الشروط المذكورة، ولكن صلاتها في البيت أفضل؛ للأحاديث المذكورة.
ووجه كون صلاتها في الإخفاء أفضل تحقّق الأمن فيه من الفتنة، ويتأكّد ذلك بعد وجود ما أحدث النساء من التبرّج والزينة، ومن ثَمّ قالت عائشة رضي الله عنها: “لو أدرك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهنّ المسجد، كما مُنعت نساء بني إسرائيل”، متّفق عليه. وقال الشوكانيّ رحمه الله: وقد حصل من مجموع الأحاديث المذكورة في هذا الباب أن الإذن للنساء من الرجال إلى المساجد إذا لم يكن في خروجهنّ ما يدعو إلى الفتنة، من طيب، أو حليّ، أو زينة واجبٌ على الرجال، وأنه لا يجب مع ما يدعو إلى ذلك، بل لا يجوز، ويحرم عليهنّ الخروج؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: “أيما امرأة أصابت بَخُورًا، فلا تشهد معنا العشاء الآخرة”، رواه مسلم، وأبو داود، والنسائيّ، وصلاتهنّ على كلّ حال في بيوتهنّ أفضل من صلاتهن في المساجد. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق من الأدلّة أنه يجب على الرجال الإذن للنساء بالخروج إلى المسجد، ولا يجوز لهم المنع، إذا طلبن ذلك بشرط أن يلتزمن آداب الخروج، مما هو مذكور في الأحاديث المتقدّمة، من ترك الطيب، وعدم التبخّر بالبخور، وغير ذلك مما ألحقه العلماء بالمنصوص مما يثير الفتنة.
فأما إذا خالفت ذلك فيحرم عليها الخروج، ولا يجوز الإذن لها؛ لأنه يكون إعانة على المعصية؛ لأنها إذا خرجت متعطّرة قاصدة لذلك تكون زانية، فقد أخرج النسائيّ، وأحمد، من حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: “أيما امرأة استَعْطَرت، فمَرّت بقوم؛ ليجدوا ريحها، فهي زانية”، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل
[البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج 10/ 301]
قال العباد:
وفي هذا دليل على الحث على اتباع السنن والتحذير من مخالفتها، والإنكار الشديد على من يحصل منه المخالفة للسنن ومعارضة الأحاديث، وكذلك أيضًا فيه تأديب الرجل لولده ولو كان كبيرًا، وكذلك الهجر حيث يكون فيه مصلحة لاسيما إذا كان من الوالد أو ممن له شأن ومنزلة فإنه يكون في ذلك فائدة ومصلحة.
شرح سنن أبي داود للعباد (78) / (12) — عبد المحسن العباد (معاصر)
[(078)] ما جاء في خروج النساء إلى المسجد شرح حديث: (ائذنوا للنساء إلى المساجد بالليل)
——–
ما جاء في كراهية البزاق في المسجد
شرح حديث: (التفل في المسجد خطيئة وكفارته أن تواريه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كراهية البزاق في المسجد.
حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام وشعبة وأبان عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي قال: (التفل في المسجد خطيئة، وكفارته أن تواريه)].
قوله: [باب في كراهية البزاق في المسجد].
قوله: [باب في كراهية البزاق في المسجد].
البزاق: هو ما يخرج من ريق الفم، وإذا كان من أدناه فهو تفل، وإذا كان من أقصاه يقال له: نخامة، ويقال له: بزاق ويقال له: بصاق، وكل ذلك مما لا يسوغ أن يفعل في المسجد؛ وذلك لكونه مستقذرًا تشمئز منه النفوس، ومن أجل ذلك جاء ما يدل على النهي عنه في المساجد، وليس النهي لكونه نجسًا؛ فإنه طاهر.
أورد أبو داود عدة أحاديث، منها ما يتعلق بلفظ التفل، ومنها بلفظ البصاق، ومنها بلفظ النخامة، وغير ذلك، وكلها في معنى واحد، ولكنها تتفاوت في هيئتها وكيفيتها، فالتفل دون البزاق والنخامة؛ لأن الذي يخرج من الحلق ويخرج من الجوف غير الذي يكون في الفم من الريق إذا تفله الإنسان، فكل ذلك من الأمور المستقذرة.
قوله: (التفل في المسجد خطيئة).
أي: أنه سيئ وأنه إثم، ووقوع في أمر مكروه لا يسوغ، ولكنه إذا وُجد فإن عليه أن يدفنه وأن يواريه، وهذا يدل على طهارته؛ لأنه لو كان نجسًا فلا يكفي فيه أن يوارى، فالنجس يغسل ويصبّ عليه الماء، كما جاء في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، حيث أن النبي أمر أن يراق عليه ذنوب من ماء حتى يطهر بذلك.
ولكن النبي أرشد في البزاق إلى مواراته ودفنه؛ وذلك حتى لا تقع إليه الأنظار وحتى لا تشمئز منه النفوس؛ لكونه شيئًا مستقذرًا تنفر منه الطباع إذا رأته، فإن كون الإنسان يتخلص من مغبة ذلك بأن يواريه وأن يدفنه في تراب المسجد وهذا فيما إذا كان المسجد ترابيًا أو فيه حصباء، أما إذا كان مفروشًا أو مبلطًا فإن الوسخ يظهر عليه سواء كان رطبًا أو يابسًا، ولا يمكن مواراته.
وعلى كُلٍّ فعلى الإنسان في جميع الأحوال أن ينزه المسجد من هذه الأوساخ، ولا يأتي بشيء يسيء فيه إلى المصلين وإلى من في المسجد، بحيث تقع أبصارهم على شيء تشمئز منه نفوسهم وتنفر منه طباعهم، وإنما على الإنسان أن يبصق في ثوبه إذا كان مضطرًا إلى ذلك، أو يبصق في التراب إذا كان المسجد ترابيًا ثم يواريه، أو يبصق عن يساره ويدلكه برجله أو بنعله حتى لا يبقى له أثر.
تراجم رجال إسناد حديث: (التفل في المسجد خطيئة وكفارته أن تواريه)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام].
هو هشام بن أبي عبد الله الدستوائي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وشعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، وُصِفَ بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[وأبان].
هو: ابن يزيد العطار وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري وهو ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك خادم رسول الله وصاحبه، وأحد السبعة من الصحابة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي .
طريق أخرى لحديث: (البزاق في المسجد خطيئة) وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : (البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها)].
أورد المصنف حديث أنس بن مالك من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، إلا أنه بلفظ البزاق وهو اللفظ الذي في الترجمة، والكلام فيه كالذي قبله.
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو عوانة].
هو أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، وهو ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بكنيته أبو عوانة، ويأتي ذكره كثيرًا بهذه الكُنية.
[عن قتادة عن أنس].
قتادة وأنس قد مرّ ذكرهما.
شرح سنن أبي داود للعباد (67) / (3) — عبد المحسن العباد (معاصر)
[(067)] ما جاء في كراهية البزاق في المسجد شرح حديث: (التفل في المسجد خطيئة وكفارته أن تواريه)
قال ابن رسلان:
قوله : ائذنوا للنساء) فيه أن للزوج منعها من الخروج، وكذا وليها، ولولاه لخوطب النساء بالخروج كما خوطبن ((4)) في قوله {وأقمن الصلاة وآتين الزكاة} ((5)).
قوله (إلى المساجد بالليل) رواية البخاري: «بالليل» ((1)). لصلاتهن في مساجد الجماعة، وخص الليل بالذكر لما فيه من الستر، وظلمة الغلس مثله كما زاده ((2)) البخاري في التبويب عليه
فيه أن المرأة إذا استأذنت زوجها للحج لا يمنعها، ويكون وجه نهيه عن ((3)) منعها المسجد الحرام لأداء فرض الحج نهي إيجاب، وهو قول مالك ((4))، وأحد قولي الشافعي: أن المرأة ليس لزوجها منعها من الحج ((5))، ويكون وجه نهيه عن الصلوات الخمس في المساجد نهي أدب لا أنه واجب عليه أن لا يمنعها، وفي معنى الإذن للمسجد ما في معناه ((6)) من العبادة وشهود العيد وزيارة قبر ميت لها، وإذا كان حقا عليهم أن يأذنوا فيما هو مطلق لهن الخروج فيه، فالإذن لهن فيما هو فرض عليهن أو ندب الخروج إليه أولى كخروجهن لأداء شهادة لزمتهن أو لتعرف أسباب ((7)) دينهن.
قوله (والله لا نأذن لهن) وللطبراني من طريق عبد الله بن هبيرة، عن بلال بن عبد الله نحوه، وفيه: فقلت: أما أنا فسأمنع ((1)) أهلي فمن شاء فليسرح أهله ((2)). ولأحمد في رواية شعبة عن الأعمش المتقدمة: فقال سالم: أو بعض بنيه … ((3)).
قال ابن حجر: والراجح من هذا أن صاحب القصة بلال كما قاله ابن عبد البر لورود ذلك من روايته نفسه ((4))، قال: ولم أر في شيء من الروايات عن الأعمش مسمى، ولا عن شيخه مجاهد، ولم يسمه أحد منهم، فإن كانت رواية عمرو بن دينار عن مجاهد محفوظة في تسمية واقد فيحتمل ((5)) أن يكون كل من بلال وواقد وقع منه ذلك إما في مجلس أو مجلسين، وأجاب [ابن عمر] ((6)) كلا منهما بجواب يليق به، ويقوي هذا اختلاف النقلة في جواب ابن عمر ((7)).
قوله (فيتخذنه دغلا) بفتح الدال والغين المعجمة، وهو الفساد والخداع والريبة، وأصل الدغل الملتف بالشجر الذي يكون منه الفساد؛ أدغلت في الأمر إذا أدخلت فيه ما يخالفه، وإذا دخل الرجل مدخلا مريبا قيل دغل فيه.
قوله (والله لا نأذن لهن، فسبه) وفي رواية بلال عند مسلم: فأقبل عليه
عبد الله فسبه سبا ما سمعته سبه مثله قط ((1))، وفسر عبد الله بن هبيرة في رواية الطبراني ((2)) السب المذكور باللعن [ثلاث مرات] ((3))، وفي رواية زائدة عن الأعمش [عند أحمد] ((4)): فانتهره ((5))، وله عن ابن نمير عن الأعمش: فعل الله بك وفعل ((6)).
(وغضب) واختلاف النقلة في ألفاظ ابن عمر يدل على أن بلالا وواقدا خالفاه، ويحتمل أن يكون بلال البادئ، فلذلك أجاب بالسب المفسر باللعن، وكان السر في ذلك أن بلالا عارض الخبر برأيه ولم يذكر علة المخالفة، ووافقه واقد، لكن ذكر العلة بقوله: يتخذنها دغلا؟ وقال ذلك لما رأى من ((7)) فساد الزمان، وفساد النساء في ذلك الوقت، وحملته على ذلك الغيرة؛ وإنما أنكر ابن عمر لمخالفته الحديث، وإلا فلو قال: إن الزمان تغير وأن بعضهن يظهرن المسجد و [يضمرن] ((8)) غيره لما سبه.
(وقال: أقول: قال رسول الله : ائذنوا لهن) وتخالفه أنت (وتقول) والله (لا نأذن لهن) وهذا يدل على أنه لم يسبه إلا لمخالفته ((9)) الخبر.
شرح سنن أبي داود لابن رسلان — ابن رسلان (ت (844))
*****
قال القاضي عياض:
وقوله: «إن ابن عبد الله بن عمر قال له: لا تدعهن [يخرجن] ((1)) فيتخذنه دغلا»، قال الإمام: قال ((2)) الهروى فى حديث آخر: «اتخذوا دين الله دغلا»: أى يخدعون الناس، وأصل الدغل: الشجر الملتف الذى يكون فيه أهل الفساد، وقال الليث: معناه: أدغلوا فى التفسير، يقال: أدغلت فى الأمر إذا أدخلت فيه ما يخالفه، قال: وإذا دخل الرجل مدخلا مريبا قيل: دغل فيه.
وقوله: «فزبره ابن عمر» معناه: انتهره، قال صاحب الأفعال: [يقال] ((3)) زبرت الكتاب [إذا] ((4)) كتبته، والشاء قطعته، والرجل انتهرته، والبئر طويتها بالحجارة.
قال القاضى: وانتهار عبد الله لابنه وضربه فى صدره وسبه [له] ((5)) – كما جاء فالحديث – فيه تأديب المعترض على السنن برأيه، وعلى العالم بهواه، وجواز التأديب باليد وبالسب وتأديب الرجل ولده وإن كان كبيرا فى تغيير المنكر، وتأديب العالم من يتعلم عنده أو يتكلم بما لا يحب بين يديه. ونهى النبى للنساء عن الخروج إلى المساجد إذا تطيبن أو تبخرن؛ لأجل فتنة الرجال بطيب ريحهن وتحريك قلوبهم وشهواتهم بذلك، وذلك لغير المساجد أحرى، وفى معنى الطيب ظهور الزينة وحسن الثياب وصوت الخلاخيل والحلى، وكل ذلك يجب منع النساء منه إذا خرجن بحيث يراهن الرجال، وقد قال محمد بن سلمة ((1)): يمنع الخروج إلى المسجد الجميلة المشهورة لما يخشى من فتنتها.
إكمال المعلم بفوائد مسلم — القاضي عياض (ت (544))
******
قال السندي:
قوله: «فيتخذنه دخلا» بفتحتين أي خديعة، وأصله الشجر الملتف الذي يكمن فيه أهل الفساد.
فتح الودود في شرح سنن أبي داود — السندي، محمد بن عبد الهادي (ت (1138))
*الإفصاح عن معاني الصحاح (4) / (33) — ابن هبيرة (ت (560)) *
الحديث الثامن عشر:
[عن ابن عمر عن النبي ، قال: (إذا أستأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها).
وفي حديث حرملة عن ابن وهب، قال: فقال بلال بن عبد الله (والله لنمنعهن، قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سبًا سيئًا، ما سمعته سبه مثله قط، فقال: أخبرك عن رسول الله ، وتقول: لنمنعهن؟).
وأخرجاه من حديث حنظلة عن سالم عن أبيه عن النبي ، قال: (إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن).
وحكى أبو مسعود: أنهما أخرجاه من حديث عبد الله عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله).
وفي حديث أبي أسامة عن عبيد الله: (كانت امرأة لعمر، تشهد صلاة الصبح والعشاء في جماعة المسجد، فقيل لها: لما تخرجين، وقد تعملين أنه يكره ذلك ويغار؟ قالت: لم، قالت: فما يمنعه أن ينهاني؟. قالوا: يمنعه قول رسول الله : (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله).
قال: وأخرجاه من حديث مجاهد عن ابن عمر قال رسول الله : (لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل).
وفي حديث شبابة عن ورقاء: (ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد).
فقال ابن له يقال له (وافد): إذن يتخذنه دغلًا، قال: فضرب في صدره، وقال: أحدثك عن رسول الله ((67) /أ) وتقول: لا.
وفي رواية لمسلم: (لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنوكم)، فقال بلال: والله لنمنعهن؟ فقال له عبد الله: أقول: قال رسول الله وتقول أنت: لنمنعهن].
*قوله: (يتخذنه دغلًا)، الدغل: الفساد، وأصل الدغل الشجر الملتف الذي يستتر به.
*وفي هذا الحديث من الفقه أنه لا يجوز أن تمنع إماء الله مساجد الله فربما كان ذلك منهن أدعى إلى حفظهن الصلاة، فأن جلهن يترك الاقتصاد لصلواتهن مضيعات.
*مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه (1) / (249) — محمد بن علي بن آدم الأثيوبي (ت (1442)) *
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَسُولَ الله قَالَ:» لَا) ناهية، ولذا جُزم الفعل بعدها (تَمْنَعُوا إِمَاءَ الله) بكسر الهمزة: جمع أمة. قال في «المصباح»: «الأمة»: محذوفة اللام، وهي واو، والأصل: أَمَوَةٌ، ولهذا تردّ في التصغير، فيقال: أُميّةٌ، والأصل أُمَيْوَةٌ، وبالمصغّر سُمّي الرجل، والتثنية أَمَتَان على لغة المفرد، والجمعُ: آمٍ وِزَانُ قاضٍ، وإِمَاءٌ وِزَان كِتَابٍ، وإمْوَانٌ وِزانُ إِسْلام. وقد تُجمع على أَمَوَاتٍ، مثلُ سَنَوَاتٍ. انتهى ((1)).
والتعبير بإماء الله أوقع في النفس من التعبير بالنساء، إذ فيه مناسبة تقتضي الإباحة، حيث عُلّق الحكم على الوصف المناسب، كأنه قيل: لا تمنعوا هؤلاء المملوكات عن بيوت مالكهنّ. أفاده بعض المحقّقين ((2)).
(أَنْ يُصَلِّينَ في المسْجِدِ) «أن» بفتح الهمزة، وتخفيف النون مصدريّة، والفعل في تأويل المصدر مفعول ثان لمنع؛ لأنه يتعدّى بنفسه إلى مفعولين، يقال: منعته الأمرَ، ويتعدّى أيضًا إلى الثاني بـ «من»، فيقال: منعته من الأمر. قال في «المصباح»: منعه الأمرَ، ومن الأمر مَنْعًا، فهو ممنوع منه: محروم. انتهى (فَقَالَ ابْنٌ لَهُ) أي لابن عمر رضي الله تعالى عنهما، واختَلفت الروايات في تسمية ابنه هذا، ففي رواية لمسلم تسميته بلالا، فقد أخرجه من طريق كعب بن علقمة، عن بلال بن عبد الله بن عمر، عن أبيه بلفظ: «لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد، إذا استأذنّكم، فقال بلال. والله لنمنعهن … » الحديث. وللطبراني من طريق عبد الله بن هُبيرة، عن بلال بن عبد الله نحوه، وفيه: «فقلت: أما أنا فسأمنع أهلي، فمن شاء فلْيُسَرِّح أهله». وفي رواية يونس، عن ابن شهاب الزهري، عن سالم، في هذا الحديث قال: فقال بلال بن عبد الله: «والله لنمنعهن»، ومثله في رواية عُقَيل عند أحمد، وعنده في رواية شعبة، عن الأعمش فقال سالم، أو بعض بنيه: «والله لا ندعهن يتخذنه دَغَلًا … » الحديث. وفي رواية لمسلم من طريق عمرو بن دينار، عن مجاهد: فقال له ابن له، يقال له: واقد: إذًا يَتَّخِذنه دَغَلًا، قال: فضرب في صدره، وقال أحدثك عن رسول الله ، وتقول: لا.
قال الحافظ رحمه الله تعالى: والراجح من هذا أن صاحب القصة بلال؛ لورود ذلك من روايته نفسه، ومن رواية أخيه سالم، ولم يُختلف عليهما في ذلك، وأما هذه الرواية الأخيرة فمرجوحة؛ لوقوع الشك فيها، ولم أره مع ذلك في شيء من الروايات عن الأعمش مسمى، ولا عن شيخه مجاهد، فقد أخرجه أحمد من رواية إبراهيم بن مهاجر، وابن أبي نجيح، وليث بن أبي سُليم، كلهم عن مجاهد، ولم يسمه أحد منهم، فإن كانت رواية عمرو بن دينار، عن مجاهد محفوظة في تسميته واقدًا، فيحتمل أن يكون كل من بلال وواقد وقع منه ذلك، إما في مجلس، أو في مجلسين، وأجاب ابن عمر كلا منهما بجواب يليق به. ويقويه اختلاف النَّقَلَة في جواب ابن عمر، ففي رواية بلال عند مسلم: «فأقبل عليه عبد الله، فسبه سبا سيئا، ما سمعته يسبه مثله قط»، وفسر عبد الله ابن هُبيرة في رواية الطبراني السب المذكور باللعن ثلاث مرات. وفي رواية زائدة، عن الأعمش: «فانتهره، وقال: أُفّ لك»، وله عن ابن نمير، عن الأعمش: «فعل الله بك، وفعل»، ومثله للترمذي من رواية عيسى بن يونس. ولمسلم من رواية أبي معاوية: «فزبره». ولأبي داود من رواية جرير: «فسبّه، وغضب».
فيحتمل أن يكون بلال البادئ، فلذلك أجابه بالسب المفسر باللعن، وأن يكون واقد بدأه فلذلك أجابه بالسب المفسر بالتأفيف، مع الدفع في صدره، وكأن السر في ذلك أن بلالا عارض الخبر برأيه، ولم يذكر علة الخالفة، ووافقه واقد، لكن ذكرها بقوله: «يتخذنه دَغَلًا»، وهو -بفتح المهملة، ثم المعجمة- وأصله الشجر الملْتَفّ، ثم
استعمل في المخادعة؛ لكون المخادع يَلُفّ في ضميره أمرا، ويظهر غيره، وكأنه قال ذلك لا رأى من فساد بعض النساء في ذلك الوقت، وحملته على ذلك الغيرة، وإنما أنكر عليه ابن عمر لتصريحه بمخالفة الحديث، هالا فلو قال مثلا: إن الزمان قد تغير، وإن بعضهن ربما ظهر منه قصد المسجد وإضمار غيره، لكان يظهر أن لا ينكر عليه.
(إِنَّا لنَمْنَعُهُنِّ) أي نمنع النساء حضور المساجد (فَغَضِبَ) ابن عمر رضي الله تعالى عنهما على ابنه هذا (غَضَبًا شَدِيدًا) لمعارضته السنّة، كما بيّنه بقوله (وَقَالَ) أي اين عمر (أُحَدِّثُكَ عَن رَسُولِ الله ، وتَقُولُ: إِنَّا لنَمْنَعُهُنَّ) معارضًا للنصّ، وفي رواية لأحمد بن طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد: «فما كلّمه عبد الله حتى مات» .. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
السنة في خروج النساء للمساجد
السؤال:
ذكرتم قول الرسول عن صلاة العشاء: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله عن صلاة النساء، ثم ما ورد عن عائشة -رضي الله عنها-: “لو علم رسول الله ما أحدثته النساء اليوم لمنعهن” كيف يمكن التوفيق بين هذا وذاك؟
الجواب:
النبي هو المشرع عن الله والمبلغ عن الله، وهو الذي قال: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وقال -عليه الصلاة والسلام-: إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها فقال بعض أبناء عبدالله بن عمر: والله لنمنعهن، يعني لما رأى من تغير الأحوال، فأقبل عليه عبدالله والده وسبّه سبًّا شديدًا؛ لأنه عارض السنة برأيه.
فالسنة دلت على أنه لا تمنع النساء المساجد، ولكن بشروط، قال : أي امرأة أصابت بخورًا فلا تشهد معنا العشاء وحث على الستر والجلباب وغير ذلك، فالمرأة لا تمنع لكن بشروط، بشرط أن تكون على الطريقة الحسنة، وعلى السيرة الحميدة، وعلى التستر التام.
أما إذا كانت تفتن الناس بإبراز زينتها، ومفاتنها وبخروجها بالطيب تمنع كما دل عليه قول النبي : أي امرأة أصابت بخورًا فلا تشهد معنا العشاء فهذا يدل على أنها لا تخرج بالطيب، لا بالبخور، ولا بغيره الذي يظهر للناس، ولا بدّ أن تكون متسترة متحجبة، ولا بدّ أن تكون ليست ذات ريبة، فإذا كانت ذات ريبة تستغل خروجها للصلاة، وتستغل هذا لأمر آخر مما يضر زوجها وأهلها تمنع.
فالحاصل: أنها لا تمنع إذا كانت سليمة، إذا كانت طيبة، إذا كانت متسترة، إذا كانت متباعدة عما حرم الله، وخروجها ينفعها ولا يضر الناس فلا بأس.
وأما قول عائشة: لو علم النبي ما أحدث النساء لمنعهن من الخروج، فجواب ذلك: أن الله -جل وعلا- يعلم كل شيء، والرسول المشرع عن الله ما ينطق عن الهوى، فالله يعلم ذلك، يعلم ما يحدث اليوم، وما حدث قبلًا، ومع هذا شرع لنا أن لا نمنعهن، فقول عائشة هنا ليس بجيد، وليس بمعتمد، وإنما العمدة على سنة رسول الله، عليه الصلاة والسلام.
فالله يعلم كل شيء، ربنا يعلم ما يكون في القرن الرابع عشر، والقرن الخامس عشر، والقرن السادس عشر وما بعده، إن عاش الناس إلى ذلك يعلم كل شيء، فالشريعة عامة، شريعة للصحابة ولأهل هذا القرن، ولمن يأتي بعدهم، شريعة عامة، فقول عائشة هنا ليس بجيد في هذا المقام، وإنما قالت هذا من اجتهادها وظنها، والظن يخطئ ويصيب
فتاوى ابن باز رحمه الله
وأما خروج النساء إلى المساجد مظهرات الزينة، فإنّ ذلك منهيٌّ عنه باتفاق الأئمة؛ إذا كانت خارجة إلى صلاة الجماعة. وأما خروجهن في المجامع المبتدَعَة، مثل التعرِيف ببيت المقدس وأمثال ذلك مع إظهار الزينة والطيب؛ فهذا منكر من وجوهٍ عدةٍ، وليس لزوجها ولا أبيها ولا نحوهما تمكينها من ذلك، بل عليهم أن يمنعوها من ذلك فضلًا عن إعانتها على ذلك.
وأما زيارة المرأة لبيت المقدس في غير موسم من غير سفر فلا بأس بذلك.
جامع المسائل – ابن تيمية – ط عطاءات العلم (7) / (433)