[1ج/ رقم (438)] فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، أحمد عبد العزيز، محمد الكعبي، ومحمد البلوشي.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الإمام الوادعي رحمه الله في الصحيح المسند [1ج/ رقم (438)]:
قال أبو داود رحمه الله (ج (10) ص (445)) فقال: حَدَّثَنَا مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدٍ، أخبرَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ، عَنْ سَفِينَةَ، قَالَ: رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ مَا عِشْتَ. فَقُلْتُ: وَإِنْ لَمْ تَشْتَرِطِي عَلَيَّ مَا فَارَقْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ مَا عِشْتُ، فَأَعْتَقَتْنِي وَاشْتَرَطَتْ عَلَيَّ.
هذا حديث حسنٌ.
* الحديث أخرجه ابن ماجه رحمه الله (ج (2) ص (844)) فقال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُمَحِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ، عَنْ سَفِينَةَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: أَعْتَقَتْنِي أُمُّ سَلَمَةَ، وَاشْتَرَطَتْ عَلَيَّ أَنْ أَخْدُمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ مَا عَاشَ.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
الوجه الأول:
أورد الحديث أبو داود (ت (275)) رحمه الله في السنن، (28) – كتاب العتق، (3) – باب: في العَتق على الشرط، رقم ((3932)).
وابن ماجه في السنن، أبواب العتق، (6) – بابُ: مَن أعْتَقَ عَبْدًا واشْتَرَطَ خِدْمَتَهُ، رقم ((2526)).
والوادعي رحمه الله جعله في جامعه:
(10) – كتاب البيوع، (48) – العتق، ((1766)).
و (16) – كتاب الفضائل، (57) – ذكر سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ((2552)).
قال محققو سنن أبو داود – ط: دار الرسالة العالمية – (6/ 76) عن الإسناد الأول:
“إسناده حسن من أجل سعيد بن جُمهان، فهو صدوق حسن الحديث.
وأخرجه ابن ماجه ((2526))، والنسائي في «الكبرى» ((4976)) و ((4977)) من طريقين عن سعيد بن جُمهان، به.
وهو في «مسند أحمد» ((21927)) “. انتهى.
وقال محققو سنن ابن ماجه – ط: دار الرسالة العالمية – (3/ 567) عن الإسناد الثاني:
“إسناده قوي من أجل سعيد بن جمهان.
وأخرجه أبو داود ((3932))، والنسائي في» الكبرى «((4976)) و ((4977)) و ((11746)) من طريقين عن سعيد بن جمهان، بهذا الإسناد.
وهو في» مسند أحمد «((21927)) و ((26711)).
وقد استدل بهذا الحديث على صحة العتق المعلق بشرط، قال ابن قدامة في» المغني” (14) / (571): وإن شرط عليه خدمة معلومة بعد العتق جاز، وبه قال عطاء وابن شبرمة، وقال مالك والزهري: لا يصح؛ لأنه ينافي مقتضى العقد، أشبه ما لو شرط ميراثه … “. انتهى.
والثاني: شرح وبيان الحديث
قال الحافظ ابن حجر عفا الله عنه: “سفينة مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :
قيل: كان اسمه مهران. وقيل: طهمان، وقيل: مروان وقيل: نجران، وقيل: رومان، وقيل: ذكوان، وقيل: كيسان، وقيل: سليمان، وقيل: سنة [في حاشية المحقق: “في أسنينة”. انتهى]- بالمهملة والنون وقيل: بالمعجمة، وقيل: أيمن، وقيل: مرقنة [في حاشية المحقق: “في أمرقية”. انتهى]، وقيل أحمر، وقيل أحمد، وقيل رباح، وقيل مفلح، وقيل عمير، وقيل معتب، وقيل قيس، وقيل عبس، وقيل عيسى، فهذه واحد وعشرون قولا،
وكان أصله من فارس فاشترته أمّ سلمة، ثم أعتقته واشترطت عليه أن يخدم النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد روى عن: النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وعن أم سلمة، وعليّ.
وعنه: ولداه: عبد الرحمن، وعمر، وسالم بن عبد اللَّه بن عمر، وأبو ريحانة، وغيرهم.
قال حماد بن سلمة، عن سعيد بن جمهان، عن سفينة: كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر، فكان بعض القوم إذا أعيا ألقى عليّ ثوبه حتى حملت من ذلك شيئا كثيرا، فقال: ما أنت إلا سفينة، وكان يسكن بطن نخلة [في حاشية المحقق: “بطن نخل: قرية قريبة من المدينة على طريق البصرة. انظر معجم البلدان (1) / (533) “. انتهى].”. انتهى كلام الحافظ رحمه الله. [الإصابة في تمييز الصحابة ((3) / (111))].
وقال الحافظ أبو داود رحمه الله تعالى في كتابه السنن في كتاب العتق: “باب: في العتق على الشرط”، وبوب بن تَيْمِيَّةَ فِي الْمُنْتَقَى: مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ خِدْمَةً”. [عون المعبود، وحاشية ابن القيم (10/ 316)].
قال الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله وعافاه:
“أورد أبو داود رحمه الله بابًا في العتق على شرط، أي: أن ذلك سائغ إذا كان شرطًا معلومًا، وكان شيئًا محددًا ليس شيئًا مبهمًا أو شيئًا ليس له أمد، فإنه سائغ بأن يقول مثلًا: أعتقك على أن تخدم لمدة شهر أو لمدة سنة،
لكن كونه يكون دائمًا وأبدًا فإن هذا ينافي مقتضى العتق،
ولكن الذي ورد في الحديث شيء يتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم ، ومعلوم أن مرافقة الرسول صلى الله عليه وسلم وملازمته شرف عظيم لمن يحصل له، وكان الصحابة يتنافسون في ذلك ويحرصون عليه، ويحبون كثيرًا أن يخدموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يكون لهم صلة وثيقة بالنبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الملازمة، كأن يكون أحدهم مولاه أو خادمًا له.
وإذا أعتق الإنسان عبدًا على أن يخدمه ما عاش كان هذا منافيًا لمقتضى العتق، وكأنه ما أعتقه، ولكن إذا حدد مدة سنة أو شهر أو أي زمن معلوم فإنه يعتق،
قالوا: وإذا كان دائمًا، فإنه يشتري منه هذه الخدمة التي التزم بها، أي: يعتق ولكنه يدفع له مقابل هذا الذي لا يمكنه أن يأتي به، ولأنه ينافي مقتضى العتق؛ لأن معنى ذلك أنه سيخدمه ما عاش مثل الرقيق، إذًا: ما الفرق بينه وبين الرقيق؟
لكن الذي ورد فيه الحديث شرف كان يحرص عليه كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم”. [شرح سنن أبي داود للعباد – عبد المحسن العباد].
قال الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله وعافاه:
“أورد أبو داود حديث سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد أعتقته أم سلمة رضي الله تعالى عنها واشترطت عليه أن يخدم النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال: إنني لا أفارقه حتى أموت، يعني: وإن لم يحصل ذلك فأنا يعجبني ويهمني أن أرافقه وأن ألازمه حتى أموت، فأعتقته واشترطت عليه خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم “. [شرح سنن أبي داود للعباد – عبد المحسن العباد].
“قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا وَعْدٌ عُبِّرَ عَنْهُ بِاسْمِ الشَّرْطِ، وَلَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ لَا يُصَحِّحُونَ إِيقَاعَ الشَّرْطِ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يُلَاقِي مِلْكًا وَمَنَافِعُ الْحُرِّ لَا يَمْلِكُهَا غَيْرُهُ إِلَّا فِي الْإِجَارَةٍ أَوْ فِي مَعْنَاهَا. انْتَهَى.
وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ:
لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِعَبْدِهِ: أُعْتِقُكَ عَلَى أَنْ تَخْدُمَنِي شَهْرًا، فَقَبِلَ عَتَقَ فِي الْحَالِ وَعَلَيْهِ خِدْمَةُ شَهْرٍ وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنْ تَخْدُمَنِي أَبَدًا أَوْ مُطْلَقًا فَقَبِلَ عَتَقَ فِي الْحَالِ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ رَقَبَتِهِ لِلْمَوْلَى وَهَذَا الشَّرْطُ إِنْ كَانَ مَقْرُونًا بِالْعِتْقِ فَعَلَى الْعَبْدِ الْقِيمَةُ وَلَا خِدْمَةَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَلَا يَلْزَمُ الشَّرْطُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَبْدِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. انْتَهَى.
وَفِي النَّيْلِ: وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى صحة العتق المعلق على شرط.
قال ابن رُشْدٍ: وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ عَلَى أَنْ يَخْدُمَهُ سِنِينَ أَنَّهُ لَا يتم عتقه إلا بخدمته.
قال ابن رَسْلَانَ فِي شَرْحِ السُّنَنِ:
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي هذا فكان بن سِيرِينَ يُثْبِتُ الشَّرْطَ فِي مِثْلِ هَذَا،
وَسُئِلَ عَنْهُ أَحْمَدُ، فَقَالَ: يَشْتَرِي هَذِهِ الْخِدْمَةَ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي اشْتَرَطَ لَهُ.
قِيلَ لَهُ: يَشْتَرِي بِالدِّرْهَمِ؟ قَالَ: نَعَمْ. انْتَهَى.
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النسائي وبن مَاجَهْ وَقَالَ النَّسَائِيُّ لَا بَاسَ بِأَسْنَادِهِ.
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ أَبُو حَفْصٍ الْأَسْلَمِيُّ الْبَصْرِيُّ وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: شَيْخٌ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ. انْتَهَى”. انتهى. [عون المعبود، وحاشية ابن القيم (10/ 316)].
والثالث: المسائل والأحكام:
(أولاً تمهيد: تعريف العتق وبيان بعض أحكامه):
(المسألة الأولى):
وفي توضيح الأحكام للبسام رحمه الله (7/ 237):
العتق: بكسر العين، وسكون التَّاء، يُقال: عَتَقَ العبدُ -من باب ضرب- عَتْقًا وعِتَاقًا وَعَتَاقَة، فهو عتيق.
والعتق لغة: الخلوصُ والحريَّة، والخروجُ من الملكية.
قال الأزهري: هو مشتق من قولهم: عَتَقَ الفرسُ: إذا سبق ونجا، وعتق الفرخ: طار واستقل؛ لأنَّ العبد يتخلَّص بالعتق ويذهب حيث شاء، فصارت المادَّة تعبِّر عن الكرم، وما يتصل به، فيقال: فرس عتيق رائع، وعِتَاقُ الطير: كرائمها.
وشرعًا: تحرير الرقبة، وتخليصها من الرق، وتثبيتُ الحرية لها”. انتهى. [توضيح الأحكام للبسام رحمه الله (7/ 237)].
وفي الشرع: هو إزالة ملك عن الآدمي لا إلى مالك؛ تقربًا لله تعالى. [انظر: «المغني» ((14) / (344)) «حاشية البيان» ((8) / (321))، – فتح العلام].
«العتق»: هو تحرير الرقبة وتخليصها من الرق. قاله الشيخ ابن عثيمين. [فتح ذي الجلال والإكرام، لابن عثيمين رحمه الله، (6/ 221)].
(المسألة الثانية): والأصل فيه الكتاب، والسنَّة، والإجماع:
فأمَّا الكتاب: فمثل قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: (92)].
وأمَّا السنَّة: فكثيرةٌ جدًّا؛ ومنها ما جاء في البخاري ((6715)) ومسلم ((1509)) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم : «من أعتق رقبة مسلمة، أعتق الله بكلِّ عضوٍ منه عضوًا منه من النَّار، حتَّى فرجه بفرجه». وأحاديث الباب الآتية.
وأجمعت الأمَّة على صحَّة العتق، وحصولِ القربة به. [توضيح الأحكام من بلوغ المرام، (7/ 237)].
(المسألة الثالثة): في موقف الإسلام من الرِّق والعتق.
“عاب بعض أعداء الدِّين الإسلامي إقرار الشريعة الإسلامية الرق الَّذي هو -في نظرهم- من الأعمال الهمجية جملة.
لذا نحب أنْ نُبيِّنَ حال الرِّقِّ في الإسلام وغيره، ونبين موقف الإسلام منه بشيءٍ من الاختصار؛ لأَنَّ المقام لم يخصَّص لمثل هذه البحوث.
فالإسلام لم يختص بالرقِّ، بل كان منتشرًا في جميع أقطار الأرض.
فهو عند الفرس، والروم، والبابليين، واليونان وأقرَّه أساطينهم من أمثال أفلاطون، وأرسطو.
* وللرِّقِّ -عندهم- أسبابٌ متعدِّدة في: الحرب، والسبي، والخطف، واللصوصية، بل يبيع أحدهم من تحت يده من الأولاد، وبعضهم يعدُّون الفلاحين أرقاء، وكانوا ينظرون إلى الأرقاء بعين الاحتقار والازدراء؛ فكانوا يمتهنونهم في الأعمال القذرة، والأعمال الشَّاقة.
فـ «أرسطو»: من الأقدمين يرى أنَّهم غير مخلَّدين، لا في عذابٍ، ولا في نعيم، بل هم كالحيوانات.
والفراعنة: استعبدوا بنى إسرائيل أشنع استعباد حتَّى قتلوا أبناءَهُمْ، واستَحْيَوْا نساءهم.
والأوربيون: -بعد أنْ اكتشفوا أمريكا- عاملوا الأمريكيين أسوأ معاملة.
هذا هو الرِّق بأسبابه وآثاره وكثرته في غير الإسلام.
ولم نأتِ إلاَّ بالقليل من شنائعه عندهم.
* فلننظر في الرق في الإسلام:
أولًا:
إن الإسلام ضيَّق مورد الرِّق؛ إذ جعل النَّاس كلهم أحرارًا، لا يطرأ عليهم الرِّق إلاَّ بسببٍ واحدٍ، وهو أنْ يؤسروا وهم كفَّار مقاتلون، مع أنَّ الواجب على القائد أنْ يختار في المقاتلة من رجالهم الأصلح من الرق، أو الفداء، أو الإطلاق بلا فداء، حسب المصلحة العامَّة.
فهذا هو السبب وحده في الرق، وهو سبب كما جاء في النقل الصحيح؛ فإنَّه يوافق العقل الصحيح أيضًا:
فإنَّ من وقف في سبيل عقيدتي ودعوتي، وأراد الحدَّ من حريتي، وألَّب علىَّ، وحاربني، فجزاؤه أنْ أمسكه عندي ليفسح المجال أمامي وأمام دعوتي.
هذا هو سبب الرِّق في الإسلام، لا النهب، والسلب، وبيع الأحرار، واستعبادهم؛ كما هو عند الأمم الأخرى.
ثانيًا:
إنَّ الإسلام رفَقَ بالرقيق، وَعَطَفَ عليهم، وتوعَّد على تكليفهم وإرهاقهم؛ فقال صلى الله عليه وسلم : «الصَّلاة، وما ملكت أيمانكم» [رواه أحمد ((11759))].
وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: «للمملوك طَعَامُهُ وقُوتُهُ، ولا يكلَّف من العمل مالا يطيق». [رواه مسلم].
بل إنَّ الإسلام رفع من قَدْرِ الرقيق حتَّى جعلهم إخوان أسيادهم:
فقد قال صلى الله عليه وسلم : «هم إخوانكم وخَوَلُكُمْ، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم، فإنْ كلفتموهم، فأعينوهم». [رواه البخاري ((30)) ومسلم ((1661))].
ورفع من مقامهم عند مخاطبتهم حتَّى لا يشعروا بالضَّعَة؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم «لا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتايَ وفتاتي». [رواه البخاري ((3552)) ومسلم ((2249))].
كما أنَّ المقياس في الإسلام لكرامة الإنسان في الدنيا والآخرة لا يرجع إلى الأنساب والأعراق، وإنَّما يرجع إلى الكفاءات، والقيم المعنوية؛ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: (13)].
وقد بلغ شخصيات من الموالي -لفضلهم وقدرتهم- ما لم تبلغه ساداتهم؛ إذ قادوا الجيوش، وساسوا الأُمم، وتولَّوا الأعمال الجليلة بكفاءاتهم، التي هي أصل مجدهم.
ومع ما رفع الشَّارع من مقام المملوك، فإنَّ له تشوُّفًا، وتطلُّعًا إلى تحرير الرقاب وفكِّ أغلالهم:
فقد حثَّ على ذلك، ووَعَدَ عليه النَّجاةَ من النَّار، والفوزَ بالجنَّة، وقد تقدَّم بعضٌ من ذلك.
* ثمَّ إنَّه جَعَلَ لتحريرهم عدَّة أسباب بعضها قهرية، وبعضها اختيارية:
فمن القهرية: أنَّ مَن جَرَحَ مملوكه، عَتَقَ عليه، فقد جاء في الحديث أنَّ رجلًا جدع أنف غلامه، فقال صلى الله عليه وسلم : «اذهب فأنت حر، فقال: يا رسول الله! فمولى من أنا؟ قال: مولى الله ورسوله». [رواه أحمد ((6671))]. وحسنه بغيره محققو المسند وكذلك الألباني الإرواء (1744)
وهو في مصنف عبدالرزاق
-[17932] عَنْ مَعْمَرٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ زِنْبَاعًا أَبَا رَوْحِ بْنَ زِنْبَاعٍ وَجَدَ غُلامًا لَهُ مَعَ جَارِيَةٍ، فَقَطَعَ ذَكَرَهُ وَجَدَّعَ أَنْفَهُ، فَأَتَى الْعَبْدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ: ” مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ “، قَالَ: فَعَلَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: ” اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ “، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: وَسَمِعْتُ أَنَا مُحَمَّدَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَرْزَمِيَّ يُحَدِّثُ بِهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ
قلنا: على شرط الذيل على الصحيح المسند من طريق معمر.
وراجع تحقيقنا لسنن أبي داود 4519
ومن أعتق نصيبه من مملوك مشترك، عَتَقَ نصيب شريكه قهرًا؛ كما في الحديث: «مَنْ أعتق شِرْكًا في مملوكٍ، وجب عليه أنْ يُعْتِقَهُ كله». [رواه البخاري ((2503))، ومسلم ((1501))] على تفصيلٍ.
ومن ملك ذا رحمٍ محرم عليه، عتق عليه قهرًا؛ لحديث: «من ملك ذا رحمٍ محرم، فهو حرٌّ» [رواه أبو داود ((3949)) والترمذي ((1365))].
فهذه أسبابٌ قهرية تزيل ملك السيد عن رقيقه خاصَّة في هذا الباب؛ لما له من السراية الشرعية، والنفوذ القوي الَّذي لم يُجْعَلْ في عتقه خيارٌ ولا رجعة.
* ثمَّ إن المشرِّع -مع حثِّه على الإعتاق- جعله أوَّل الكفَّارات في التخلُّص من الآثام، والتحلُّل من الأيمان:
فالعتق هو الكفَّارة الأولى في الوطء في نهار رمضان، وفي الظهار، وفي الأيمان، وفي القتل الخطأ.
* دين العزَّة والكرامة والمساواة:
فكيف بعد هذا يأتي الغربيون والمستغربون، فيعيبون على الإسلام إقراره الرق، ويتشدَّقون بالحرية، والمناداة بحقوق الإنسان، وهم الَّذين استعبدوا الشعوب، وأذلُّوا الأمم، واسترقُّوهم في عُقْرِ دارهم، وأكلوا أموالهم، واستحلُّوا ديارهم؟!.
أفيرفعون رؤوسهم، وهم الَّذين يعامِلون بعض الطبقات في بلادهم أدنى من معاملة العبيد؟!
فأيْنَ مساواة الإسلام ممَّا تفعله أمريكا بالزنوج، الَّذين لا يُباحُ لهم دخول المدارس، ولا تحل لهم الوظائف، ويجعلونهم والحيوانات سواسية؟!
وأين رفق الإسلام وإحسانه، ممَّا يفعله الغرب بأسارى الحرب الَّذين لا يزالون في المجاهل، والمتاهات، والسجون المظلمة؟!
وأين دولةُ الإسلامِ الرحيمةُ التي جعلتِ النَّاسَ على اختلاف طبقاتهم، وأديانهم، وأجناسهم أمَّةً واحدةً، في مالها وما عليها، ممَّا فعلته «فرنسا» بأحرار الجزائر في بلادهم، وبين ذويهم؟!
إنَّها دعاوَى بِاطلةٌ!!.
بعد هذا: أَلَمْ يأنِ للمصلحين ومحبِّي السلام أنْ يُبْعِدُوا عن أعينهم الغشاوة، فيراجعوا تعاليمَ الإسلام بتدبُّر وإنصافٍ؛ ليجدوا ما فيه من سعادة الإنسانية في حاضرها ومستقبلها؟!.
اللهم، بَصِّرِ المصلحين بهذا الدِّين؛ ليعلموا ما فيه من العزَّةِ وَالكرامة، وما فيه من الرحمة والرأفة. [توضيح الأحكام من بلوغ المرام، (7/ 238 – 242)].
فصل:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ”
ولابد أن نعرف ما هي الأسباب التي يكون بها الإنسان – البشر- رقيقًا؛ لأنه لا يمكن أن نعرف العتق حتى نعرف الرق؟
الرق سببه شيء واحد، وهو الكفر ليس له سبب سوى ذلك ليس سببه الجوع؛ فيبيع الإنسان ولده أو ابنته، وإنما سببه الكفر، وذلك أن المسلمين إذا قاتلوا الكفار وغلبوا عليهم، واستولوا على نسائهم وذرياتهم؛ فإن هؤلاء النساء والذرية يكونون أرقاء بمجرد السبي، يعني: أنهم كانوا أحرارًا في الأول ثم صاروا الآن أرقاء مملوكين للمسلمين.
فإذا السبب الوحيد للرق هو الكفر ثم بعد ذلك يأتي الإنتاج، فإذا أنتجت الأَمَةُ إنتاجا؛ فإن ما يأتي منها يكون رقيقا، إلا إذا أتت به سيدها، فإنه يكون حُرًا وتكون هي أم ولد، أو إذا استثني حملها، فإنه يكون حرا وما عدا ذلك، فإن حملها يكون رقيقا تبعا لأمه حتى لو تزوجت رجلا حرا وأتت منه بولد فالولد رقيق لسيدها ولهذا حرم الله على عباده أن يتزوج الإنسان أمة إلا بشروط قال تعالى {ذلك لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ} [النساء: (25)]. وألا يجد طولًا أي: مهر حُر؛ ولهذا قال الإمام أحمد: إذا تزوج الحرُّ أمة رق نصفه لأن أولاده يكونون أرقاء إلا بشرط.
إذن سبب الرق: الكفر أو النتاج من امرأة رقيقة، يأتي الآن دور العتق، العتق له أسباب متعددة، وإنما كثرت أسباب العتق دون أسباب الرق؛ لأن الشارع له تطلع وتشوف إلى التحرير ولهذا جعل له أسباب كثيرة من أجل أن يقل رق الناس بعضهم بعضًا، فالعتق يحصل بأمور:
الأول: اللفظ بأن يقول السيد لرقيقه: أنت حُر إذا قال: أنت حُر صار حُرا أو أتى بلفظ يدل على ذلك بأي لغة كانت، فإنه يكون حينئذ حُرا بالقول، يكون التحرير أيضا بالفعل، وذلك بالتمثيل بالعبد، إذا مثل فإنه يعتق عليه، كيف يكون التمثيل؟ بأن يقطع طرفًا من أطرافه، أنملة من أنامله، شيئا من أذنه، وما أشبه ذلك!! [فتح ذي الجلال والإكرام، لابن عثيمين رحمه الله، (6/ 221 – 222)].
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: “وسبب الملك بالرق: هو الكفر، ومحاربة الله ورسوله، فإذا أقدر اللهُ المسلمينَ المجاهدين الباذلين مُهَجهم وأموالهم وجميع قواهم وما أعطاهم الله لتكون كلمة الله هي العليا على الكفار، جعلهم ملكاً لهم بالسبي إلا إذا اختار الإمام المنَّ أو الفداء؛ لما في ذلك من المصلحة للمسلمين” انتهى [أضواء البيان، (3/ 387)].
وقال أيضًا رحمه الله:
فإن قيل:
إذا كان الرقيق مسلماً فما وجه ملكه بالرق؟ مع أن سبب الرق الذي هو الكفر ومحاربة الله ورسله قد زال؟!
فالجواب:
أن القاعدة المعروفة عند العلماء وكافة العقلاء: أن الحق السابق لا يرفعه الحق اللاحق، والأحقية بالأسبقية ظاهرة لا خفاء بها.
فالمسلمون عندما غنموا الكفار بالسبي، ثبت لهم حق الملكية بتشريع خالق الجميع؛ وهو الحكيم الخبير، فإذا استقر هذا الحق وثبت، ثم أسلم الرقيق بعد ذلك كان حقه في الخروج من الرق بالإسلام مسبوقاً بحق المجاهد الذي سبقت له الملكية قبل الإسلام، وليس من العدل والإنصاف رفع الحق السابق بالحق المتأخر عنه كما هو معلوم عند العقلاء.
نعم، يحسن بالمالك ويجمل به أن يعتقه إذا أسلم، وقد أمر الشارع بذلك ورغَّب فيه، وفتح له الأبواب الكثيرة؛ فسبحان الحكيم الخبير {وتمَّت كلمة ربِّك صدقاً وعدلا لا مبدِّل لكلماته وهو السميع العليم} [الأنعام/115].
فقوله: {صدقاً}، أي: في الأخبار، وقوله: {عدلاً}، أي: في الأحكام.
ولا شك أن من ذلك العدل: الملك بالرق وغيره من أحكام القرآن.
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم! “. انتهى. [أضواء البيان، (3/ 389)].
(المسألة الثالثة): فضيلة العتق.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم : «أَيُّما امرئٍ مسلم أعتق امرأ مسلمًا؛ استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار». متفق عليه.
“الأحاديث والآثار الحاثَّة على فضل العتق والترغيب فيه كثيرة.
[توضيح الأحكام من بلوغ المرام، (7/ 238)].
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: قال عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أيما امرئ مسلم أعتق»، والعتق: هو تحرير الرقاب؛ يعني: أن يكون هناك إنسان مملوك فيأتي شخص فيعتقه ويحرره؛ ابتغاء وجه الله، فهذا من أفضل الأعمال؛ قال الله تعالى: {فَلَا اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ ((11)) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ((12)) فَكُّ رَقبَةٍ ((13)) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يومٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ((14)) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ((15)) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَترَبَةٍ} [البلد: (11) – (16)].
وقوله «مسلمًا»: اشتراط الإسلام في الرقبة المعتقة يدل على أن هذه الفضيلة لا تنال إلا بعتق الرقبة المسلمة، وإن كان في عتق الرقبة الكافرة فضل، ….
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: هذا الحديث يتعلق بالعتق وفضله، وإن الإعتاق من أسباب العتق من النار، وإن الإنسان إذا أعتق أمرأ مسلما أعتقه الله بكل عضو من النار حتى فرجه بفرجه، وإن المؤمن يستحب له العتق إذا تيسر له ذلك”. [فتح ذي الجلال والإكرام، (6/ 222)].
“دلَّت الأحاديث المتقدمة على أنَّ العتق من أفضل القُرَب إلى الله تعالى، والمستحب عند أهل العلم عتق من له دين وكسب ينتفع بالعتق.
فأما من يتضرر بالعتق، كمن لا كسب له؛ تسقط نفقته عن سيده بعتقه، فيصير كلًّا على الناس، ويحتاج إلى المسألة؛ فلا يُستحبُّ عتقه.
وإن كان ممن يخاف عليه المضي إلى دار الحرب، والرجوع عن دين الإسلام، أو يخاف عليه الفساد، كعبدٍ يخاف أنه إذا أُعتق واحتاج؛ سرق، وفسق، وقطع الطريق، أو جارية يخاف منها الزنى والفساد؛ كره إعتاقه، وإن غلب على الظن إفضاؤه إلى هذا؛ كان محرمًا؛ لأنَّ التوسل إلى الحرام حرام، وإن أعتقه صحَّ؛ لأنه إعتاق صدر من أهله في محله، فصح كإعتاق غيره. [انظر: «المغني» ((14) / (344) – (345)) – فتح العلام].
(المسألة الرابعة): هل يُشترط أن يكون العتق من جائز التصرف؟
قال ابن قدامة رحمه الله في «المغني» ((14) / (349)): وَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ جَائِزِ التَّصَرُّفِ، فَلَا يَصِحُّ عِتْقُ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمِمَّنْ حَفِظْنَا عَنْهُ ذَلِكَ: الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ»؛ وَلِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِالْمَالِ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُمَا، كَالْهِبَةِ.
قال: وَلَا يَصِحُّ عِتْقُ السَّفِيهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ. اهـ
ثم ذكر خلافًا لبعض الحنابلة. [فتح العلام (10/ 438 – 441)].
(ثانيًا: ما يتعلق بأحاديث الباب): العتق على الشرط
(المسألة الأولى):
سبق ذكر معنى العتق، وأما “الشرط: في اللغة: العلامة؛ ومنه قوله تعالى {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَاتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا}، أي: علامتها.
أما تعريفه عند الأصوليين: فهو ما يلزم من عدمه العدمُ، ولا يلزم من وجوده الوجود فالوضوء للصلاة مثلًا يلزم من عدمه عدم الصلاة لأنه شرط لصحة الصلاة، ولا يلزم من وجوده وجود الصلاة فقوله «تعليق العتق على شرط»، يلزم منه عند وجود الشرط وجود العتق الذي علق عليه”. [وبل الغمامة، (5/ 261)].
(المسألة الثانية): الحديث يدل على جواز تنجيز العتق مع اشتراط نفعه للمعتِق، أو اشتراط نفعه لغير المعتِق. قاله البسام. [توضيح الأحكام، (7/ 258)].
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
وهذا الحديث دليل على صحة اشتراط الخدمة على العبد المعتق، وأنه يصح تعليق العتق بشرط، فيقع بوقوع الشرط، ووجه دلالته: أنه علم أنه صلى الله عليه وسلم قرر ذلك إذ الخدمة له، ورُوي عن عُمر أنه أعتق رقيق الإمارة، وشرط عليهم أن يخدموا الخليفة بعد ثلاث سنين.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله في تعليقه: في هذا الحديث أن أم سلمة اشترطت على سفينة أن يخدم النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا يدل على أنه لا بأس بالشرط؛ فإذا قالت: أنت حُر لوجه الله بشرط أن تخدمني سنة أو سنتين، أو إلى أن تموت، أو بشرط أن تخدم فلانا فلا بأس، المسلمون على شروطهما، ولهذا أشارت رضي الله عنها على سفينة أن يخدم النبي صلى الله عليه وسلم ما عاش. [فتح ذي الجلال والإكرام، (6/ 226 – 227)].
(المسألة الثالثة):
وقال ابن رشد في بداية المجتهد ونهاية المقتصد (4/ 168):
فمن مسائلهم المشهورة في هذا الباب: إذا اشترط في الكتابة شرطا، من خدمة أو سفر أو نحوه، وقوي على أداء نجومه قبل محل أجل الكتابة، هل يعتق أم لا؟
فقال مالك وجماعة: ذلك الشرط باطل، ويعتق إذا أدى جميع المال،
وقالت طائفة: لا يعتق حتى يؤدي جميع المال، ويأتي بذلك الشرط، وهو مروي عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه أعتق رقيق الإمارة، وشرط عليهم أن يخدموا الخليفة بعد ثلاث سنين،
ولم يختلفوا أن العبد إذا أعتقه سيده على أن يخدمه سنين، أنه لا يتم عتقه إلا بخدمة تلك السنين، ولذلك القياس قول من قال: إن الشرط لازم. انتهى.
(المسألة الرابعة):
قال في شرح الإقناع: فلو قال: أعتقتك على أن تخدم زيدًا مُدَّة حياتك، صح؛ [لحديث سفينة … ]، وإنما اشترط تقدير زمن الاستثناء في البيع؛ لأنه عقد معاوضة، فيشترط فيه علم الثُّنيا وزمنها؛ لأن الثمن يختلف من حيث طولُها وقصرُها. [كشاف القناع عن متن الإقناع – ط وزارة العدل (11) / (36) — البهوتي (ت (1051))].
(المسألة الخامسة):
واستثنى منافعه، فقد أخرج الرقبة وبقيت المنفعة، لخبر «المؤمنون على شروطهم»، ولقصَّة سفينة. [الإحكام شرح أصول الأحكام لابن قاسم (3) / (469) – عبد الرحمن بن قاسم (ت (1392))، بتصرف].
(المسألة السادسة):
وجه الاستدلال من الحديث: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم علم بما أجرته به أم سلمة رضي الله عنها فأقرها، فصار جواز هذا الشرط من السنَّة، والله أعلم. قاله البسام رحمه الله. [توضيح الأحكام من بلوغ المرام، (7/ 259)].
قال الصنعاني رحمه الله في «سبل السلام»: وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ: أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَرَّرَ ذَلِكَ؛ إذْ الْخِدْمَةُ لَهُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَعْتَقَ رَقِيقَ الْإِمَارَةِ وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَخْدُمُوا الْخَلِيفَةَ بَعْدَهُ ثَلَاثَ سِنِينَ. اهـ.
(المسألة السابعة):
وقصَّة سفينة ليست من باب تعليق العتق على الشرط، وإنَّما هي من باب استثناء منافع العتق. قاله البسام رحمه الله [توضيح الأحكام من بلوغ المرام (7) / (259) — عبد الله البسام (ت (1423))].
وبينهما فرق؛ لأنه على الأول لا يقع العتق إلَّا بوقوع الشرط، وعلى الثاني يقع العتق في الحال، والله أعلم. [منحة العلام في شرح بلوغ المرام (9/ 560)].
وقال صاحب فتح العلام بعد أن أورد قول الصنعاني السابق: الذي يظهر من الحديث أنه عتق واستثناء منفعة، وليس عتقًا معلقًا بالمنفعة؛ إذًا لقالت: إذا خدمت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم – كذا وكذا؛ فأنت حرٌّ.
ويؤيد ذلك تعليقها الخدمة بمدة الحياة؛ ولذلك قال الخطابي: هذا وعد عُبِّر عنه باسم الشرط، ولا يلزم الوفاء به، وأكثر الفقهاء لا يصححون إيقاع الشرط بعد العتق؛ لأنه شرط لا يلاقي ملكًا، ومنافع الحر لا يملكها غيره إلا في إجارةٍ، أو ما في معناها. [انظر: «نيل الأوطار» «سبل السلام»].
تنبيه: أحكام العتق في تعليقه بالشرط، ووقوعه بالهزل كأحكام الطلاق في ذلك. [فتح العلام، (10/ 452 – 453)].
(المسألة الثامنة):
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَتَعْلِيقِ الْعِتْقِ؟ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ مَلَكْتُ فُلَانًا فَهُوَ حُرٌّ، صَحَّ التَّعْلِيقُ، وَعَتَقَ بِالْمِلْكِ؟.
قِيلَ: فِي تَعْلِيقِ الْعِتْقِ قَوْلَانِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أحمد، كَمَا عَنْهُ رِوَايَتَانِ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ نُصُوصِهِ، وَعَلَيْهِ أَصْحَابُهُ – صِحَّةُ تَعْلِيقِ الْعِتْقِ دُونَ الطَّلَاقِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعِتْقَ لَهُ قُوَّةٌ وَسِرَايَةٌ، وَلَا يَعْتَمِدُ نُفُوذَ الْمِلْكِ، فَإِنَّهُ يَنْفُذُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ سَبَبًا لِزَوَالِهِ بِالْعِتْقِ عَقْلًا وَشَرْعًا، كَمَا يَزُولُ مِلْكُهُ بِالْعِتْقِ عَنْ ذِي رَحِمِهِ الْمُحَرَّمِ بِشِرَائِهِ، وَكَمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا لِيُعْتِقَهُ فِي كَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ، أَوِ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْعِتْقِ، وَكُلُّ هَذَا يُشْرَعُ فِيهِ جَعْلُ الْمِلْكِ سَبَبًا لِلْعِتْقِ، فَإِنَّهُ قُرْبَةٌ مَحْبُوبَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَشَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ التَّوَسُّلَ إِلَيْهِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ مُفْضِيَةٍ إِلَى مَحْبُوبِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ، فَإِنَّهُ بَغِيضٌ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ مِلْكَ الْبُضْعِ بِالنِّكَاحِ سَبَبًا لِإِزَالَتِهِ الْبَتَّةَ، وَفَرْقٌ ثَانٍ أَنَّ تَعْلِيقَ الْعِتْقِ بِالْمِلْكِ مِنْ بَابِ نَذْرِ الْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ وَالتَّبَرُّرِ، كَقَوْلِهِ: لَئِنْ آتَانِي اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِكَذَا وَكَذَا، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ، لَزِمَهُ مَا عَلَّقَهُ بِهِ مِنَ الطَّاعَةِ الْمَقْصُودَةِ، فَهَذَا لَوْنٌ، وَتَعْلِيقُ الطَّلَاقِ عَلَى
الْمِلْكِ لَوْنٌ آخَرُ. [زاد المعاد في هدي خير العباد – ط الرسالة لا ابن القيم (ت (751)) رحمه الله ((5) / (198))].
قال ابن المنذر:
باب ذكر مال العبد المعتق والاستثناء من العتق
201 – نا أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الرَّازِيُّ، قَالَ: نا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا فَمَالُهُ لَهُ إِلا أَنْ يَشْتَرِطَ السَّيِّدُ مَالَهُ فَيَكُونُ لَهُ»
قَالَ أبو بكر: وقد روينا هذا القول عن ابن عمر، وعائشة، وبه قَالَ الحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، والزُّهْرِيّ، والشعبي، والنخعي، ومالك وأهل المدينة وبه أقول لحديث ابن عمر.
أجمع أهل العلم عَلَى أن من قَالَ لعبده: أنت حر، أو قد أعتقتك، أو أنت معتق، أو عتيق ينوي به عتقه أن عبده يعتق عليه، وَلا سبيل لَهُ إليه، وإذا قَالَ لعبده: أنت حر.
إن شاء اللَّه لم يقع عليه العتق فِي قول عطاء بن أبي رباح، وطاوس، وحماد بن أبي سُلَيْمَان، والشافعي، ويعتق فِي قول الحسن البصري، والأوزاعي، ومالك.
القول الأول أحب إلي.
وأجمع كل من يحفظ عَنْهُ من أهل العلم عَلَى أن الرجل إذا أعتق مَا فِي بطن أمته فولدت ولدا حيا مكانها، أن الولد حر دون الأم، وممن حفظنا هذا عَنْهُ مالك، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وَلا يحفظ عن غيرهم خلاف قولهم، ولم يجعلوه فِي هذا الوجه كعضو من أعضائها، وإذا أعتق الرجل الأمة، واستثنى مَا فِي بطنها فله ثنياه كذلك.
قَالَ ابن عمر: وَلا نعلم أحدا من أصحاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم خالفه، وبه قَالَ: عطاء، ومحمد بن سيرين، والشعبي، والنخعي، والحكم، وحماد، وأحمد، وإسحاق، وبه نقول.
وإذا باع الأمة دون ولدها وهي حامل فالبيع جائز، لأن البيع معلوم وَلا يضرهما أن يجهلا مَا لم يقع عليه البيع.
مسائل
202 – نا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: نا مُسَدَّدٌ، قَالَ: نا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ عَنْ سَفِينَةَ، قَالَ: كُنْتُ مَمْلُوكًا لأُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ: ” أَعْتَقْتُكَ، وَأَشْتَرِطُ عَلَيْكَ أَنْ تَخْدُمَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا عِشْتَ.
فَقُلْتُ: لَوْ لَمْ تَشْتَرِطْ عَلَيَّ مَا فَارَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا عِشْتُ “.
فَأَعْتَقَتْنِي، وَاشْتَرَطَتْ ذَلِكَ عَلَيَّ.
وَمِمَّنْ رُوِّينَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ بِمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ، عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالنَّوَوِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَبِهِ نَقُولُ
وإذا قَالَ الرجل لأمته: أول ولد تلدينه فهو حر فولدت ولدين وقع العتق عَلَى الأول منهما وهذا عَلَى مذهب مالك، والشافعي، والكوفي، وإن ولدت ولدين ولم يدر الأول منهما ففيها ثلاثة أقوال: أحدها: يستسعيان، هذا قول الثَّوْرِيّ.
والقول الثاني: أن يقرع بينهما فمن أصابته منهما، القرعة عتق، هذا قول أحمد، وإسحاق.
والقول الثالث: أن يوقف أمرهما حَتَّى يتبين الأول منهما هذا يشبه مذهب الشَّافِعِيّ وبه أقول.
وإذا قَالَ الرجل لأمته: كل ولد تلدينه فهو حر فولدت أولادا فهم أحرار، هذا قول مالك بن أنس، والأوزاعي، والليث بن سعد، وسفيان الثَّوْرِيّ، والشافعي، وَلا أحفظ عن غيرهم خلاف قولهم.
فإن باع الأمة ثم ولدت بعد زوال ملكه عنها أولادا لم يعتقوا وهم مماليك، لأنهم ولدوا بعد خروجها من ملكه.
وإذا قَالَ الرجل يعاتب عبده: مَا أنت إلا حر ولم يرد الحرية فلا شيء عليه، وهذا قول: مالك، والأوزاعي، وبه قَالَ الأكثر من أهل العلم، والحجة فِيهِ قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «الأعمال بالنية».
وهذا لم يرد عتقا، كأنه قَالَ: أنت تشبه الأحرار فِي أفعالهم وتخلق بأخلاقهم
[الإقناع لابن المنذر 2/ 594]
قال ابن رجب:
قاعدة [32]
يصحُّ عندنا استثناء منفعة العين المنتقِل ملكها من ناقلها مدَّة معلومة
ويتخرَّج على ذلك مسائل:
منها: المبيع إذا استثنى البائع منفعته مدَّة معلومة؛ صحَّ.
وحكي فيه رواية أخرى: بعدم الصِّحة.
ومنها: الوقف، يصحُّ أن يقف ويستثني منفعته مدَّة معلومة أو مدَّة حياته؛ لأنَّ جهالة المدَّة هنا لا تؤثر؛ فإنَّها لا تزيد على جهالة مدَّة كلِّ بطن بالنِّسبة إلى من بعده.
ومنها: العتق، يصحُّ أن يُعتق عبده ويستثني نفعه مدَّة معلومة، نصَّ عليه؛ لحديث سفينة
[قواعد ابن رجب 1/ 213 ط ركائز]
قال ابن القيم:
[تعليق العقود والفسوخ بالشروط]
وتعليق العقود والفسوخ والتبرعات والالتزامات وغيرها بالشروط أمر قد تدعو إليه الضرورة أو الحاجة أو المصلحة؛ فلا يستغني عنه المكلف، وقد صح تعليق النذر (2) بالشرط بالإجماع ونص الكتاب، وتعليق الضمان بالشرط بنص القرآن، وتعليق النكاح بالشرط في تزويج موسى عليه السلام بابنة صاحب مَدْين وهو من أصح نكاح على وجه الأرض، ولم يأت في شريعتنا ما ينسخه، بل أتَتْ مقررة له كقوله صلى الله عليه وسلم: “إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج” (3) فهذا صريح في أن حل الفروج (4) بالنكاح قد يعلق على شرط، ونص الإمام أحمد رحمه الله على جواز تعليق النكاح بالشرط، وهذا هو الصحيح، كما يُعَلَّق الطلاق والجعالة والنذر وغيرها من العقود، وعلق أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه عقد المزارعة بالشرط، فكان يدفع أرضه إلى مَنْ يعمل عليها على أنه إن جاء عمر بالبذر فله كذا وإن جاء العامل بالبذر فله كذا، وذكره البخاري (5)، ولم يخالفه صاحب، ونص الإمام أحمد (6) على جواز تعليق البيع بالشرط في قوله: إن بعْتَ هذه الجارية فأنا أحق بها بالثمن، واحتج بأنه قول ابن مسعود رضي الله عنه (7)، ورهن الإمام أحمد نَعْلَه وقال للمرتهن: إن جئتك بالحق إلى كذا وإلا فهو لك، وهذا (1) بيع بشرط، فقد (2) فعله وأفتى به. وكذلك تعليق الإبراء بالشرط (3)، نص على جوازه فِعْلًا منه، فقال لمن اغتابه ثم اسْتَحَله: “أنت في حل إن لم تعد” فقال له الميموني: قد اغتابك وتحلله؟ فقال: ألم ترني قد اشترطت عليه أن لا يعود؟ والمتأخرون من أصحابه يقولون.
لا يصح تعليق الإبراء بالشرط وليس ذلك موافقًا لنصوصه ولا لأصوله، وقد علق النبي صلى الله عليه وسلم ولاية الإمارة بالشرط (4)، وهذا تنبيه على تعليق الحكم في كل ولاية، وعلى تعليق الوكالة الخاصة والعامة، وقد علق أبو بكر تولية عمر رضي الله عنه بالشرط (5)، ووافقه عليه سائر الصحابة رضي الله عنهم فلم ينكره منهم رجل واحد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “مَنْ باع نخلًا قد أُبِّرَتْ فثمرتُها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع” (6) فهذا الشرط (7) خلاف مقتضى العقد المطلق، وقد جوزه الشارع، وقال: “مَنْ أعتق (8) عبدًا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع” (9) وفي “السنن” عنه: “مَنْ أعتق عبدًا وله مال فمال العبد له إلا أن يشترطه السيد” (10) وفي “المسند” و”السنن” عن سفينة قال: “كنت مملوكًا لأم سلمة، فقالت: أعتقتك، واشترطت (1) عليك أن تخدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما عِشْتَ، فقلت: إن (2) لم تشترطي عليَّ ما فَارَقْتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما عِشْتُ، فأعتقتْنِي واشترطت علي” (3)، وذكر البخاري في “صحيحه” عن عمر [بن الخطاب] (4) رضي الله عنه قال: مَقَاطعُ الحقوق عند الشروط ولك ما شرطت (5)، وقال البخاري في باب الشروط في القرض: “وقال ابن عمر وعطاء: إذا أجَّله في القرض جاز” (6) وقال في باب ما يجوز من الاشتراط والثنيا (1) في الإقرار والشروط التي يتعارفها الناس بينهم (2): “قال ابن عون (3) عن ابن سيرين قال: قال رجل لِكَرِيِّه: أدْخِل (4) ركابكَ فإن لم أرحل معك [في] (5) يوم كذا وكذا فلك مئة درهم، فلم يخرج، فقال شريح: مَنْ شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه. وقال أيوب عن ابن سيرين: إن رجلًا باع طعامًا فقال (6): إنْ لم آتِكَ الأربعاء فليس بيني وبينك بيْع، فقال للمشتري: أنتَ أخلفْتَه، فقضى عليه”.
وقال في باب الشروط في المهر [عند عُقْدَةِ النكاح] (7): وقال المسور سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذكر صهرًا له فأثْنَى عليه في مصاهرته فأحسن، فقال: “حدثني فصَدَقَني، ووعدني فوفاني” (8) ثم ذكر فيه حديث “أحَقُّ الشروط أن تُوفوا به ما استحللتم به الفروج” (9). وقال في كتاب الحَرْث [والمزارعة] (10): وعامَلَ عمرُ الناسَ على [أنه إن] (11) جاء عمرُ بالبَذْر من عنده فلهم الشَّطْر، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا (12). وهذا صريح في جواز “إن خطْتَه اليوم فَلك كذا، وإن خِطْتَه غدًا فلك كذا” (1) وفي جواز “بعتكه بعشرة نقدًا أو بعشرين نسيئة” فالصواب جواز هذا كله للنص والآثار والقياس. وقال جابر: بِعْتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم بعيرًا، واشترطت حملانه إلى أهلي (2). وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبد الرحمن بن فروخ عن نافع بن عبد الحارث عامل عمر على مكة أنه اشترى من صَفْوَان بن أمية دارًا لعمر بن الخطاب بأربعة آلاف درهم، واشترط عليه نافع إن رضي عمر فالبيع له، كان لم يَرْضَ فلصفوان أربع مئة درهم (3)، ومن هاهنا قال الإمام أحمد: لا بأس ببيع العُربون (4) لأن عمر فعله، وأجاز هذا البيع والشرطَ فيه مجاهد ومحمد ابن سيرين وزيد بن أسلم ونافع بن عبد الحارث، وقال أبو عمر (5): وكان زيد بن أسلم يقول: أجازه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم (6)، وذكر الإمام أحمد أن محمد بن مسلمة الأنصاري اشترى من نَبَطِي حزمة حطب، واشترط عليه حملَها إلى قصر سعد (1)، واشترى عبدُ اللَّه بن مسعود جاريةً من امرأته وشَرَطَتْ عليه أنه إن باعها فهي لها بالثمن (2)، وفي ذلك اتفاقهما على صحة البيع والشرط، ذكره الإمام أحمد (3) وأفتى به
[إعلام الموقعين عن رب العالمين 5/ 373 ت مشهور]
والرابع: خلاصة فقه وفوائد الحديث:
1 – (منها): أنه يقال: مملوك أم سلمة وغلام أم سلمة، ولا يقال: عبد أم سلمة؛ لرواية مسلم: «لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي، كلكم عبيد اللَّه، وكل نسائكم إماء اللَّه، ولكن ليقل: غلامي وفتاي». [مسلم ((2249))].
2 – (ومنها): استدل أبوداود رحمه الله بالحديث على جواز العتق على شرط، حتى يجوز تعليقه على الأخطار والصفات كمجيء الأمطار وهبوب الرياح.
3 – (ومنها): فضيلة سفينة في إلزامه نفسه خدمة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وإن لم يشرطه عليه، وقد روي عنه أنه ركب البحر في سفينة فانكسرت السفينة، فركب لوحًا منها فطرحه في أجمة فيها أسد، فقال له: يا أبا الحارث أنا سفينة مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فطأطأ الأسد رأسه وجعل يدفعه بجنبه أو بكتفه حتى وضعه على الطريق، ثم همهم له، كأنه يودعه [رواه البزار في «البحر الزخار» (9) / (285) ((3838))، وغيره، وصححه الحاكم في “المستدرك (2) / (618)، (3) / (606)]. [شرح سنن أبي داود لابن رسلان، (16/ 28 – 29)].
4 – (ومنها): “جواز تنجيز العتق مع اشتراط نفعه للمعتِق، أو اشتراط نفعه لغير المعتِق.
5 – (ومنها): صحة اشتراط الخدمة على العبد المعتق، وأنه يصح تعليق العتق بشرط، فيقع بوقوع الشرط.
6 – (ومنها): فيه جواز اشتراط الخدمة على المعتَق مدة معلومة بعد العتق أو قبله”.