435 – فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: أحمد بن علي وسلطان الحمادي وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد ومحمد سيفي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
الصحيح المسند
قال الشيخ مقبل رحمه الله:
435 – قال أبو داود رحمه الله (ج 13 ص 222): حدثنا محمد بن عوف أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب حدثنا عبد الله بن أبي حسين أخبرنا نوفل بن مساحق عن سعيد بن زيد: عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال «إن من أربى الربا ا صلى الله عليه وسلم ستطالة في عرض المسلم بغير حق».
هـذا حديث صحيح.
وعبد الله بن أبي حسين هـو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين.
———-
قال ابن رسلان:
(عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من أربى الربى) ولابن أبي الدنيا والبيهقي: «أشد الربا»، و «أربى الربا»، و «أخبث الربا» (الاستطالة في عرض المسلم) قال في «النهاية»: أي: استحقاره والترفع والوقيعة فيه، يقال: استطال في عرضه إذا رفع كلامه عليه وأطاله فيه بما ينتقصه (بغير حق).
وروى أبو يعلى: «إن أربى الربا عند اللَّه استحلال عرض مسلم»
ثم قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا}؛ أي: يقولون على الناس، ويكذبون عليهم بما لم يقولوه، وليس فيهم، أما إذا كان الكلام في عرض الآدمي بحق كما إذا مطله حقه وهو قادر على وفائه؛ فإن له أن يتكلم في عرضه بأن يقول: مطلني حقي وهو قادر عليه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «مطل الغني ظلم»، وفي البخاري: «لي الواجد يحل عرضه وعقوبته» أي: مطل الواجد القادر يحل الماطل للممطول بأن يباح له الكلام في عرضه، ويباح له عقوبته بالحاكم، وهو حبسه، وذكر العلماء أن الكلام في عرض الآدمي يباح في ستة تقدمت، وبلغها العماد إلى سبعة عشر في قصيدة له، فمن الزائد على الستة قوله:
ومظهر البدعة اذكرها لمنكرها … ومخفي البدعة اذكرها لمن جهلا مساوئ الخصم إن يذكره لحاكمه … حين السؤال أو الدعوى فلا تهلا
وغيبة الكافر الحربي قد سهلت … وعكسه غيبة الذمي قد عقلا
وتارك الدين لا فرض للصلاة فلا … أخشى عليك إذا ما اغتبته خللا ((1))
شرح سنن أبي داود لابن رسلان (18) / (604) — ابن رسلان (ت (844))
قال الصنعاني:
(2456) – «إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق». (حم د) عن سعيد بن زيد.
(إن من أربى الربا) أي أكبره وبالًا وأشد تحريمًا (الاستطالة في عرض المسلم) أي احتقاره فقد فسره حديث: «السبة بالسبتين» أي يسبك سبة فتسبه اثنتين، قال البيضاوي: الاستطالة في عرض المسلم أن تتناول أكثر مما تستحقه وأكثر مما قاله؛ ولذلك مثله بالربا وقيده بقوله: (بغير حق) لأنه لا حق له في الزيادة على ما يستحقه وفيه جواز الجواب عن الساب بمثل ما قال. (حم د) عن سعيد بن زيد) سكت عليه أبو داود ورواه الحاكم، وقال: صحيح، وفي الباب عن أبي هريرة بإسنادين قوّى أحدهما المنذري.
التنوير شرح الجامع الصغير (4) / (117) — الصنعاني (ت (1182))
قال العباد:
شرح حديث (من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق)
قوله: (بغير حق) أي: أنه إذا كان بحق فإن ذلك سائغ، كما جاء في الحديث: (لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته) فإن هذا بحق، أي: كونه يتكلم في عرضه، والمقصود بالعرض أنه يسبه، ويقول: إنه ظلمني، ويغتابه؛ لأن هذا من الغيبة المباحة المستثناة من المنع، وهذا يدل على خطورة الغيبة وأكل لحوم الناس، والولوغ في أعراضهم؛ لأن هذا من أخطر الأمور، ومن أشد الأمور على الناس، والإنسان لا يعجبه أن يعامل هو نفس هذه المعاملة، وإذا كان لا يحب أن يعامل هذه المعاملة فعليه أن يعامل الناس نفس المعاملة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح عن عبد الله بن عمرو: (فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله وباليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه) أي: يعامل الناس كما يحب أن يعاملوه به، وإذا كان هو لا يرضى ولا يحب أن يغتاب، فأيضًا عليه ألا يغتاب الناس.
شرح سنن أبي داود للعباد (555) / (8) — عبد المحسن العباد (معاصر)
قالا الإتيوبي:
(المسألة الأولى): في حدّ الغيبة لغةً، وشرعًا:
قال في «المصباح»: اغتابه اغتيابًا: إذا ذكره بما يَكرَه من العيوب، وهو حقّ، والاسم الغيبة، فإن كان باطلًا، فهو الغيبة في بُهْتٍ. انتهى.
وشرعًا: هو ما عرّفه به النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم، وأحمد، وأبو داود، والترمذيّ عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «ذكرك أخاك بما يكره»، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته». فكلام أهل اللغة مأخوذ من هذا، كما أشار إليه صاحب «اللسان» آنفًا.
وعرّفه النوويّ رحمه اللهُ تعالى في «أذكاره»، تعريفًا مفصّلًا، فقال: فأما الغيبة: فهي ذكرك الإنسان بما فيه، مما يَكرَه، سواء كان في بدنه، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خَلْقه، أو خُلُقه …. سواء ذكرته بلفظك، أو كتابك، أو رمزت، أو أشرت إليه بعينك، أو يدك، أو رأسك، أو نحو ذلك.
أما البدن، فكقولك: أعمى، أعرج، أعمش، أقرع، قصير، طويل، أسود، أصفر. وأما الدين فكقولك: فاسق، سارق، خائن، ظالم، متهاون بالصلاة، متساهل في النجاسات، ليس بارّا بوالديه، لا يضع الزكاة مواضعها، لا يجتنب الغيبة. وأما الدنيا، فكقولك: قليل الأدب، يتهاون بالناس، لا يرى لأحد عليه حقّا، كثير الكلام، كئير الأكل، أو النوم، ينام في غير وقته، يجلس في غير موضعه. وأما المتعلّق بوالده، فكقولك: أبوه فاسق، أو زنجيّ، أو حدّاد، أو حائك. وأما الخُلُق فكقولك: سياء الخلق، متكبر، مراء، ونحوه. وأما الثوب، فكواسع الكم، طويل الذيل، وسخ الثوب، ونحو ذلك، ويقاس الباقي بما ذُكر. وقد نقل الغزاليّ إجماع المسلمين على أن الغيبة ذكرك غيرك بما يكره، وقد تقدّم الحديث الصحيح المصرّح بذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): في حكم الغيبة:
اعلم: أن الغيبة محرّمة بإجماع المسلمين، وقد تظافرت الدلائل الصريحة من الكتاب والسنة على ذلك، قال الله عزوجل: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} الآية [الحجرات: (12)]. وقد تقدّم حديث أبي بكرة رضي الله عنه في خطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وقد ذكر فيه الأعراض في جملة المحرمات. وقد أخرج مسلم في «صحيحه» عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذُله، ولا يَحقِره، التقوى ههنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يَحقِر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه».
وأخرج أبو داود، والترمذيّ، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : حسبك من صفية كذا وكذا -تعني قصيرة- فقال: «لقد قلت كلمة لو مُزِجت بماء البحر لمزجته»، قالت: وحكيت له إنسانا، فقال: «ما أُحب أني حكيت إنسانا، وأن لي كذا وكذا». قال الترمذيّ: حسنٌ صحيح.
وأخرج أبو داود أيضًا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَمّا عُرِج بي مررت بقوم، لهم أظفار من نحاس، يَخْمُشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هولاء يا جبريل؟ قال: هولاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم». حديث صحيح.
وأخرج أبو داود أيضًا عن سعيد بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أربى الربا الاستطالةَ في عرض المسلم بغير حق». حديث صحيح.
وأخرج أبو داود أيضًا عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته». حديث صحيح.
وأخرج أيضًا عن المستورد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من أُكل برجل مسلم أكلة، فإن الله يطعمه مثلها من جهنم، ومن كُسي ثوبا برجل مسلم، فإن الله يكسوه مثله من جهنم، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء، فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة». حديث صحيح.
فهذه النصوص صريحة في تحريم الغيبة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): أنه كما يحرم على المغتاب ذكر الغيبة، كذلك يحرم على السامع استماعها، وإقرارها، بل يجب عليه النهي عنها، إن لم يَخَف ضررًا ظاهرًا، وإلا وجب عليه الإنكار بقلبه، ومفارقة ذلك المجلس، إن أمكن، وإلا أنكر بقلبه، ويحرم عليه الاستماع، بل يشتغل بنحو ذكر الله تعالى، ولا يضرّه بعد ذلك السماع من غير استماع وإصغاء. قال الله عزوجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: (68)]. أفاده النووي رحمه الله تعالى ((1)). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قد وردت أحاديث في فضل من ردّ عن عرض أخيه:
فقد أخرج الإمام أحمد، والترمذيّ عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رَدّ عن عِرْض أخيه، رد الله عن وجهه النار يوم القيامة». قال الترمذيّ: هذا حديث حسن.
وأخرج أبو داود أيضًا عن سهل بن معاذ بن أنس الجهنيّ، عن أبيه رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حَمَى مؤمنا من منافق»، أُراه قال: «بعث الله ملكا يَحمِي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رَمَى مسلما بشيء يريد شينه به، حبسه الله على جسر جهنم، حتى يخرج مما قال». حديث حسن. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في المواضع التي تباح فيها الغيبة:
(اعلم): أن الغيبة، وإن كانت محرّمة، إلا أنها تباح للمصلحة في أحوال، وذلك إذا حدث غرض صحيح شرعيّ لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهو أحد ستة أسباب:
(الأول): التظلّم، فيجوز للمظلوم أن يتظلّم إلى السلطان، والقاضي، وغيرهما ممن له ولاية، أو له قدرة على إنصافه من ظالمه، فيذكر أن فلانًا ظلمني، وفعل بي كذا وكذا، وأخذ لي كذا وكذا، ونحو ذلك.
(الثاني): الاستعانة على تغيير المنكر، وردّ العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يفعل كذا، فازجره عنه، ونحو ذلك، ويكون مقصوده التوسّل إلى إزالة المنكر، فإن لم يقصد ذلك كان حرامًا.
(الثالث): الاستفتاء بأن يقول للمفتي: ظلمني أبي، أو أخي، أو فلان بكذا، فهل له ذلك، أو لا؟، وما طريقي في الخلاص منه، وتحصيل حقي، ودفع الظلم عني؟، ونحو ذلك. وكذلك قوله: زوجتي تفعل معي كذا، أو زوجي يفعل كذا، ونحو ذلك، فهذا جائز للحاجة، ولكن الأحوط أن يقول: ما تقول في رجل كان من أمره كذا، أو في زوج، أو زوجة تفعل كذا، ونحو ذلك، فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين، ومع ذلك فالتعيين جائز؛ لحديث هند زوج أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما، قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أبا سفيان رجل شحيح … ” ولم ينهها النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
(الرابع): تحذير المسلمين من الشرّ، ونصيحتهم، وذلك من وجوه:
منها: جرح المجروحين من الرواة للحديث والشهود، وذلك جائز بإجماع المسلمين، بل واجب للحاجة.
ومنها: إذا استشارك إنسان في مصاهرته، أو مشاركته، أو إيداعه، أو الإيداع عنده، أو معاملته بغير ذلك وجب عليك أن تذكر له ما تعلمه منه على جهة النصيحة، فإن حصل الغرض بمجرّد قولك: لا تصلح لك معاملته، أو مصاهرته، أو لا تفعل هذا، أو نحو ذلك لم تجز الزيادة بذكر المساوي، وإن لم يحصل الغرض إلا بالتصريح بعيبه، فاذكره بصريحه.
ومنها: إذا رأيت من يشتري عبدًا معروفًا بالسرقة، أو الزنا، أو الشرب، أو غيرها، فعليك أن تبيّن ذلك للمشتري إن لم يكن عالمًا به، ولا يختصّ بذلك، بل كل من علم بالسلعة المبيعة عيبًا وجب عليه بيانه للمشتري إذا لم يعلمه.
ومنها: إذا رأيت متفقّهًا يتردّد إلى مبتدع، أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخفت أن يتضرّر المتفقّه بذلك، فعليك نصيحته ببيان حاله، ويشترك أن يقصد النصيحة، وهذا مما يَغْلَط فيه كثير من الناس، فقد يحمل المتكلّم بذلك الحسد، أو يُلبّس الشيطان عليه ذلك، ويُخيّل إليه أنه نصيحة وشفقة، فليُتفطّن لذلك.
ومنها: أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها، إما بأن لا يكون صالحًا لها، وإما بأن يكون فاسقًا، أو مُغَفّلا، ونحو ذلك، فيجب ذكر ذلك لمن له عليه ولاية عامّة؛ ليُزيله، ويولّي من يصلح، أو يعلم ذلك منه ليعامله بمقتضى حاله، ولا يغترّ به، وأن يسعى في أن يحثّه على الاستقامة، أو يستبدل به.
(الخامس): أن يكون مجاهرًا بفسقه، أو بدعته، كالمجاهر بشرب الخمر، أو مصادرة الناس، وأخذ المكس، وجباية الأموال ظلمًا، وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يُجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب، إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكرناه.
(السادس): التعريف، فإذا كان الإنسان معروفًا بلقب، كالأعمش، والأعرج، والأصمّ، والأعمى، والأحول، والأفطس، ونحو ذلك، جاز تعريفه بذلك بنية التعريف، ويحرم إطلاقه على جهة النقص، ولو أمكن التعريف بغيره كان أولى.
فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء مما تباح بها الغيبة على ما ذكرناه، وأكثر هذه
الأسباب مُجمَع على جواز الغيبة بها. وقد نظمت هذه الستة بقولي:
يَا طَالِبًا فَائِدَةً جَلِيلَهْ … اعْلَمْ هَدَاكَ اللهُ لِلْفَضِيلَهْ
أَنَّ اغْتِيَابَ الشَّخْصِ حَيًّا أَوْ لَا … مُحَرَّمٌ قَطْعًا بِنَصٍّ يُتْلَى
لَكِنَّهُ لِغَرَضٍ صَحِيحِ … أُبِيحَ عَدَّهَا ذَوُو التَّرْجِيحِ
فَذَكَرُوهَا سِتَّةً تَظلَّمِ … وَاسْتَفْتِ وَاسْتَعِنْ لِرَدِّ مُجْرِمِ
وَعِبْ مُجَاهِرًا بِفِسْقٍ أَوْ بِدَعْ … بِمَا بِهِ جَاهَرَ لا بِمَا امْتَنَعْ
وَعَرِّفَنْ بِلَقَبٍ مَنْ عُرِفَا … بِهِ كَقَوْلِكَ رَأَيْتُ الأَحْنَفَا
وَحَذِّرَنْ مَنْ شَرِّ ذِي الشَّرِّ إِذَا … تَخَافُ أَنْ يُلْحِقَ بِالنَّاسِ الأَذَى
وَفِي سِوَى هَذَا احْذَرَنْ لَا تَغْتَبِ … تَكُنْ مُوَفَّقًا لِنَيلِ الأَرَبِ
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في بيان أدلّة جواز الغيبة في المواضع الستة المذكورة:
(اعلم): أنه قد وردت نصوص كثيرة تدلّ على جواز الغيبة في هذه الأمور:
(فمنها): ما أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلا استأذن على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلما رآه قال: «بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة»، …
وقد استدلّ به البخاريّ رحمه الله تعالى على جواز غيبة أهل الفساد والرِّيَب، فقال في «صحيحه»: «باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والرِّيَب»، ثم أورد الحديث المذكور.
(ومنها): ما أخرجاه أيضًا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة، فقال رجل من الأنصار: والله ما أراد محمد بهذا وجه الله، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فتمعر وجهه، وقال: «رحم الله موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر». وفي بعض الروايات: قال ابن مسعود رضي الله عنه: فقلت: لا أرفع إليه بعد هذا حديثًا. وقد احتجّ البخاريّ رحمه اللهُ تعالى بهذا في إخبار الرجل أخاه بما يقال فيه.
(ومنها): ما أخرجه البخاريّ عن عائشة، قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئا». قال الليث: كانا رجلين من المنافقين.
(ومنها): ما أخرجه الشيخان عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كنت في غَزَاة، فسمعت عبد الله بن أُبَيّ يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينفضوا من حوله، ولئن رجعنا من عنده ليُخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي، أو لعمر، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم ، فدعاني، فحدثته، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصدقه، فأصابني هَمٌ لم يصبني مثله قط، فجلست في البيت، فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومقتك، فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} الآية [المنافقون: (1)]، فبعث إلي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقرأ، فقال: «إن الله قد صدقك يا زيد».
(ومنها): ما أخرجه مسلم عن فاطمة بنت قيس في قصّة طلاقها، وفيه: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان، وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك، لا مال له … » الحديث.
وقد سبق حديث قصّة هند مع زوجها أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما.
فهذه النصوص ونحوها تدلّ على جواز الغيبة لغرض شرعيّ، كما تبيّن إيضاحه في المسائل الست. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): في إجماع أهل العلم على جواز جرح الرواة:
قال الإمام الترمذيّ رحمه الله تعالى في «العلل الصغير»: ما نصّه: وقد عاب بعض من لا يَفهَم على أهل الحديث الكلام في الرجال، وقد وجدنا غير واحد من الأئمة من التابعين، قد تكلموا في الرجال، منهم الحسن البصري، وطاووس، تكلما في معبد الجهني، وتكلم سعيد بن جبير في طلق بن حبيب، وتكلم إبراهيم النخعي، وعامر الشعبي في الحارث الأعور، وهكذا رُوي عن أيوب السختياني، وعبد الله بن عون، وسليمان التيمي، وشعبة بن الحجاج، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، ويحيى بن سعيد القطان، ووكيع بن الجراح، وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم من أهل العلم، أنهم تكلموا في الرجال، وضعفوا، وإنما حملهم على ذلك عندنا -والله أعلم- النصيحة للمسلمين، لا نظن بهم أنهم أرادوا الطعن على الناس، أو الغيبة، إنما أرادوا عندنا أن يبينوا ضعف هؤلاء؛ لكي يُعرفوا؛ لأن بعضهم من الذين ضُعِّفوا كان صاحب بدعة، وبعضهم كان متهما في الحديث، وبعضهم كانوا أصحاب غفلة، وكثرة خطإ، فأراد هؤلاء الأئمة أن يبينوا أحوالهم، شفقة على الدين، وتثبّتًا؛ لأن الشهادة في الدين أحق أن يُتَثَبَّت فيها من الشهادة في الحقوق والأموال. انتهى. كلام الترمذيّ رحمه الله تعالى.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في «شرحه»: مقصود الترمذيّ رحمه الله تعالى أن يبيّن أن الكلام في الجرح والتعديل جائز، قد أجمع عليه سلف الأمة، وأئمتها؛ لما فيه من تمييز ما يجب قبوله من السنن مما لا يجوز قبوله. وقد ظنّ بعض من لا علم عنده أن ذلك من باب الغيبة، وليس كذلك، فإن ذكر عيب الرجل إذا كان فيه مصلحة، ولو كانت خاصّة، كالقدح في شهادة شاهد الزور جائز بغير نزاع، فما كان فيه مصلحة عامّة للمسلمين أولى. وذكر ابن أبي حاتم بسنده عن بهز بن أسد قال: لو أن لرجل على رجل عشرة دراهم، ثم جحدها، لم يستطع أخذها إلا بشاهدين عدلين، فَدِينُ الله أحقّ أن يؤخذ فيه بالعدول. انتهى.
وقد ذكر الإمام أبو بكر الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في كتابه النفيس «الكفاية في علم الرواية» بابًا نفيسًا أحببت إيراد ملخّصه؛ لنفاسته، قال رحمه الله تعالى:
«باب وجوب تعريف المزكي ما عنده من حال المسؤول عنه»
ثم أخرج بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من سُئل عن علم يعلمه، فكتمه، أُلجم يوم القيامة بلجام من نار»
قال: وقد أنكر قوم، لم يتبحروا في العلم، قولَ الحفاظ من أئمتنا، وأُولي المعرفة من أسلافنا أن فلانا الراوي ضعيف، وفلانًا غير ثقة، وما أشبه هذا من الكلام، ورأوا ذلك غيبة لمن قيل فيه، إن كان الأمر على ما ذكره القائل، وإن كان الأمر على خلافه فهو بهتان، واحتجوا بما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما الغيبة؟ … » الحديث. وقد تقدّم ذكره. قال: وقال قائلهم في ذلك شعرًا، أنشده بكر بن حماد الشاعر المغربي لنفسه [من الطويل]:
أَرَى الْخَيْرَ فِي الدُّنْيَا يَقِلُّ كَثِيرُهُ … وَيَنْقُصُ نَقْصًا وَالْحَدِيثُ يَزِيدُ
فَلَوْ كَانَ خَيْرًا كَانَ كَالْخَيْرِ كُلِّهِ … وَلَكِنَّ شَيْطَانَ الْحَدِيثِ مَرِيدُ
وَلابْنِ مَعِينٍ فِي الرّجَالِ مَقَالَةٌ … سَيُسْأَلُ عَنْهَا وَالْمَلِيكُ شَهِيدُ
فَإِنْ تَكُ حَقَّا فَهْيَ فِي الْحُكْمِ غِيبَةٌ … وَإِنْ تَكُ زُورًا فَالْقِصَاصُ شَدِيدُ
ثم أخرج بسنده عن محمد بن الفضل العباسي، قال: كنا عند عبد الرحمن بن أبي حاتم، وهو يقرأ علينا «كتاب الجرح والتعديل»، فدخل عليه يوسف بن الحسين الرازي، فقال له: يا أبا محمد، ما هذا الذي تقرؤه على الناس؟ قال: كتاب صنفته في الجرح والتعديل، قال: وما الجرح والتعديل؟ قال: أُظهر أحوال أهل العلم، من كان منهم ثقة، أو غير ثقة، فقال له يوسف بن الحسين: أما استحييت من الله يا أبا محمد، كم من هؤلاء القوم حَطّوا رواحلهم في الجنة، منذ مائة سنة، ومائتي سنة، وأنت تذكرهم، وتغتابهم على أديم الأرض، فبكى عبد الرحمن، وقال: يا أبا يعقوب لو سمعت هذه الكلمة قبل تصنيفى هذا الكتاب، لما صنفته.
قال الخطيب رحمه الله تعالى: وليس الأمر على ما ذهبوا إليه؛ لأن أهل العلم أجمعوا على أن الخبر لا يجب قبوله إلا من العاقل الصدوق المأمون على ما يخبر به، وفي ذلك دليل على جواز الجرح لمن لم يكن صدوقا في روايته، مع أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وردت مصرحة بتصديق ما ذكرنا، وبضد قول من خالفنا، ثم أخرج بسنده عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: «ائذنوا له فبئس رجل العشيرة … » الحديث، وقد تقدّم.
ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: «بئس رجل العشيرة» دليل على أن إخبار المخبر بما يكون في الرجل من العيب على ما يوجب العلم والدين من النصيحة للسائل ليس بغيبة، إذ لو كان ذلك غيبة لَمَا أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما أراد صلى الله عليه وسلم بما ذَكر فيه -والله أعلم- أن يُبَيِّنَ للناس الحالة المذمومة منه، وهي الفحش، فيجتنبوها، لا أنه أراد الطعن عليه، والثَّلْب له، وكذلك أئمتنا في العلم بهذه الصناعة، إنما أطلقوا الجرح فيمن ليس بعدل؛ لئلا يَتَغطّى أمره على من لا يَخبُره، فيظنه من أهل العدالة، فيحتج بخبره، والإخبار عن حقيقة الأمر، إذا كان على الوجه الذي ذكرناه لا يكون غيبة. ومما يؤيد ذلك حديث فاطمة بنت قيس، ثم أخرجه، وقد تقدّم ذكره.
ثم قال: في هذا الخبر: دلالة على إجازة الجرح للضعفاء، من جهة النصيحة؛ لتُجتَنَب الرواية عنهم، وليُعدَل عن الاحتجاج بأخبارهم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا ذكر في أبي جهم أنه لا يضع عصاه عن عاتقه، وأخبر عن معاوية أنه صعلوك، لا مال له عند مشورة، استُشير فيها، لا تتعدى المستشير، كان ذكر العيوب الكامنة في بعض نَقَلَة السنن التي يؤدي السكوت عن إظهارها عنهم، وكشفها عليهم، إلى تحريم الحلال، وتحليل الحرام، وإلى الفساد في شريعة الإسلام، أولى بالجواز، وأحق بالإظهار.
وأما الغيبة التي نهى الله تعالى عنها بقوله عزوجل: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} الآية [الحجرات: (12)]، وزجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها بقوله: «يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم … » الحديث فهي ذكر الرجل عيوب أخيه، يقصد بها الوضع منه، والتنقيص له، والإزراء به، فيما لا يعود إلى حكم النصيحة، وإيجاب الديانة، من التحذير عن ائتمان الخائن، وقبول خبر الفاسق، واستماع شهادة الكاذب، وقد تكون الكلمة الواحدة لها معنيان مختلفان، على حسب اختلاف حال قائلها، في بعض الأحوال يأثم قائلها، وفي حالة أخرى لا يأثم.
ثم أخرج حديث عائشة رضي الله عنها في الإفك، ثم قال: وفي استشارة النبي صلى الله عليه وسلم عليا وأسامة، وسؤاله بريرة عما عندهم من العلم بأهله بيان واضح أنه لم يكن ليسألهم إلا وواجب عليهم إخباره بما يعلمون من ذلك، فكذلك يجب على جميع من عنده علم من ناقل خبر، أو حامل أثر، ممن لا يبلغ محله في الدين محل عائشة أم المؤمنين، ولا منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلتها منه بخصلة تكون منه يضعف خبره عند إظهارها عليه، وبجرحة تثبت فيه، يسقط حديثه عند ذكرها عنه أن يبديها لمن لا علم له به؛ ليكون بتحذير الناس إياه من الناصرين لدين الله، الذابين الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيا لها منزلةً ما أعظمها، أو مرتبة ما أشرفها، وإن جهلها جاهل، وأنكرها منكر.
ثم أخرج عن الصَّلْت بن طَريف قال: قلت للحسن: الرجل الفاجر المعلن بفجوره، ذكري له بما فيه غيبة له؟ قال: لا ولا كرامة. وعن الحسن أيضًا كان يقول: ليس لأهل البدعة غيبة. وعن يحيى بن سعيد قال: سألت شعبة، وسفيان، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، عن الرجل يُتَّهَم في الحديث، أو لا يحفظه؟ قالوا: بَيّن أمره للناس. وروى محمد بن أبي خلف قال: كنا عند ابن عُلَيّة، فجاءه رجل، فسأله عن حديث الليث بن أبي سليم، فقال بعض من حضره: وما تصنع بليث بن أبي سليم، وهو ضعيف الحديث؟ لم لا تسأله عن حديث لأيوب؟ قال: فقال سبحان الله، أتغتاب رجلا من العلماء؟ قال: فقال ابن علية يا جاهل نصحك، إن هذا أمانة، ليس بغيبة. وعن عبد الرحمن بن مهديّ قال: مررت مع شعبة برجل -يعني يحدث- فقال: كذب، والله لولا أنه لا يحل لي أن أسكت عنه لسكت، أو كلمة نحوها. وعن عليّ بن المديني قال: سمعت عبد الرحمن بن مهديّ يقول: ثنا حماد بن زيد، قال: كلَّمنا شعبة بن الحجاج أنا وعباد بن عباد، وجرير بن حازم في رجل، قلنا: لو كففت عن ذكره، فكأنه لان وأجابنا، ثم مضيت يوما أريد الجمعة، فإذا شعبة ينادي من خلفي، فقال: ذاك الذي قلت لكم فيه، لا أراه يسعني. وأخرج عن عثمان بن حميد الدبوسيّ قال: قيل لشعبة بن الحجاج: يا أبا بسطام كيف تركت علم رجال، وفضحتهم، فلو كففت؟ فقال: أجلوني حتى أنظر الليلة فيما بيني وبين خالقي، هل يسعني ذلك؟ قال: فلما كان من الغد خرج علينا، على حمير له، فقال: قد نظرت فيما بيني وبين خالقي، فلا يسعني دون أن أُبَيّن أمورهم للناس، والسلام. وعن أبي بكر بن خلاد قال: قلت ليحيى بن سعيد القطان: أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله تعالى؟ قال: قال لأن يكون هؤلاء خصمائي، أحب إليّ من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لِمَ حدثت عني حديثا ترى أنه كذب».
وعن عاصم الأحول قال: كان قتادة يقصر بعمرو بن عبيد، فجثوت على ركبتي، فقلت: يا أبا الخطاب، هذه الفقهاء ينال بعضها من بعض؟ فقال: يا أحول رجل ابتدع بدعة، فيذكر خير من أن يُكَفّ عنه. وعن أحمد بن محمد المكيّ قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: كان شعبة يقول: تعالَوا حتى نغتاب في الله عزوجل. وعن أبي زيد الأنصاري النحوي قال: أتينا شعبة يوم مطر، فقال: ليس هذا يوم حديث، اليومُ يومُ غيبة، تعالوا حتى نغتاب الكذابين. وعن مكي بن إبراهيم قال: كان شعبة يأتي عمران بن حُدَير يقول: يا عمران تعال حتى نغتاب ساعة في الله عزوجل، يذكرون مساوي أصحاب الحديث. وعن الحسن بن الربيع قال: قال ابن المبارك: الْمُعَلّى بن هلال هو، إلا أنه إذا جاء الحديث يكذب، قال: فقال له بعض الصوفية: يا أبا عبد الرحمن تغتاب؟ فقال: اسكت إذا لم نُبَيّن كيف يُعرَف الحق من الباطل، أو نحو هذا من الكلام. وعن أبي زرعة عبد الرحمن بن عمرو قال: سمعت أبا مسهر يُسأل عن الرجل يَغلَط، ويَهِم، ويُصَحِّف، فقال: بَيّن أمره، فقلت لأبي مسهر: أترى ذلك من الغيبة؟ قال: لا. وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: جاء أبو تراب النَّخْشَبيّ إلى أبي، فجعل أبي يقول: فلان ضعيف، فلان ثقة، فقال أبو تراب: يا شيخ لا تَغتَب العلماء، فالتفت أبي إليه، فقال له: ويحك هذا نصيحة، ليس هذا غيبة. وعن محمد بن بندار السبّاك الجرجاني قال: قلت لأحمد بن حنبل: إنه ليشتد عليّ أن أقول: فلان ضعيف، فلان كذاب، فقال أحمد: إذا سكتَّ أنت، وسكتُّ أنا، فمتى يَعرِف الجاهل الصحيح من السقيم؟. وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي: ما تقول في أصحاب الحديث، يأتون الشيخ، لعله أن يكون مرجئا، أو شيعيا، أو فيه شيء من خلاف السنة، أيسعني أن أسكت عنه، أم أحذر عنه؟ فقال أبي: إن كان يدعو إلى بدعة، وهو إمام فيها، ويدعو إليها، قال: نعم تُحَذِّر عنه.
انتهى كلام الحافظ أبي بكر الخطيب رحمه الله تعالى، ملخصًا
قصة ندم ابن أبي حاتم على تأليفه الجرح والتعديل لما قيل له أنك جرحت أناس حطوا رحالهم في الجنة:
قال ابن الجوزي: ” عفا اللَّه عَنْ أبي حاتم فإنه لو كان فقيها لرد عَلَيْهِ كَمَا رد الإمام أَحْمَد عَلَى أبي تراب ولولا الجرح والتعديل من أين كان يعرف الصحيح من الباطل ثم كون القوم فِي الْجَنَّة لا يمنع أن نذكرهم بما فيهم وتسمية ذلك غيبة حديث سوء ثم من لا يدري الجرح والتعديل كيف هو يزكي كلامه وينبغي ليوسف أن يشتغل بالعجائب التي تحكي عَنْ مثل هَذَا”
تلبيس إبليس لابن الجوزي
وذكَرَ الذَّهَبي هذه الحكايةَ من طريقِ أبي سعيد عبد الله بن محمد بن عبد الوَهَّاب الرازي، ثم قال مُبَيِّنًا: «قلتُ: أصابَهُ على طريق الوَجَلِ وخَوْفِ العاقبة، وإلا فكلامُ الناقدِ الوَرِعِ في الضعفاءِ مِنَ النُّصْحِ لِدِينِ الله، والذَّبِّ عن السُّنَّة».
في «سير أعلام النبلاء» ((13) / (268)).
ذهب الاتيوبي إلى ضعفها في شرحه لصحيح مسلم. وذكر أن سبب ضعفها أنه ما زال يحدث بالكتاب ولو كانت صحيحة لتوقف عن التحديث بالكتاب
تنبيه: قصة ندم ابن ابي حاتم على كتابة الجرح والتعديل بين صاحب بلوغ الأماني أن لها طريقا صحيحا
قال الخطِيْب في كتابه «الجامع»: أنا أبو عَلي عَبْد الرَّحمن بن مُحَمَّد بن أَحْمَد ابن فَضالة النَّيْسابُوْرِي، قال: سمعت أبا الرَّبِيعْ مُحَمَّد بن الفَضل البَلْخِي يقول: سمعت أبا بَكْر مُحَمَّد بن مَهْرَويه بن سِنان الرَّازي يقول: سمعت عَلي بن الحُسَيْن بن الجُنيَد يقول: سمعت يحيى بن مَعِيْن يقول: إنا لنطعن على أقوامٍ لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة منذ أكثر من مائتي سنة.
قال ابن مهرويه: فدخلت على عَبْد الرَّحمن بن أبي حاتم وهو يقرأ على الناس كتاب «الجرح والتعَدِيل»، فحدثته بهذه الحكاية، فبكى وارتعدت يداه حتى سقط الكتاب من يده، وجعل يبكي ويستعيدني الحكاية، ولم يقرأ في ذلك المجلد شيئًا، أو كما قال.
وقد أخرج هذه القصة من طريق الخَطِيْب ابن عساكر في «تارِيْخه»، وفيها علتان
الأولى: ابن فَضَالة شيخ الخَطِيْب، قال الذهَبِي في «الميزان»: «حافظ لكنه رافضي».
والثانية: ابن مهرويه، ترجمه الحافظ في «اللسان»، وقال: اتهمه ابن عساكر «. وقد جاءت هذه القِصّة من وجَهْين آخرين
الوجه الأولى: أخرجها الخَطِيْب في» الكفاية «، ومن طريقه ابن عساكر في» تارِيْخه «: أخبرنا أبو القاسم رُضْوَان بن مُحَمَّد بن الحسَن الدَّيْنوَرِي، قال: سمعت أَحْمَد بن مُحَمَّد بن عَبْد الله النَّيْسابُوْرِي، يقول: سمعت أبا الحسَن عِلي بن مُحَمَّد البُخارِي، يقول: سمعت مُحَمَّد بن الفَضْل العَبَّاسي يقول: كنا عند عَبْد الرَّحمن بن أبي حاتم، وهو إذ يقرأ عَلِينا كتاب» الجرح والتعَدِيل « …..
وهذه الطريق فيه عَلي بن مُحَمَّد البُخارِي مجهول الحال، انظر كتابنا «الروض الباسم»، ومُحَمَّد بن الفَضْل العَبَّاسي لم أقف على ترجمته الآن.
وأما الوجه الثاني: فقد أخرجه ابن نُقْطَة في «التقييد»؛ فقال: أخبرتنا عَفِيْفَة
بنت أَحْمَد إجازة عن كتاب عُبَيْد اللّه بن أبي عَلي الحَدَّاد، أنبأ سُلَيْمان بن إِبْراهِيم بن مُحَمَّد بن سُلَيْمان الحافظ، ثنا أَحْمَد بن مُحَمَّد بن عَبْد الله الهَرَوِي الحافظ -سنة ثمان وأربعمائة- قال: سمعت أبا سَعِيْد عَبْد الله بن مُحَمَّد بن عَبْد الوهاب الرَّازي يقول: دخل يُوسُف بن الحُسَيْن الرَّازي … فذكرها.
وهذا إسناد رجاله ثقات.
عَبْد اللّه بن مُحَمَّد بن عَبْد الوهاب الزَّاهد ترجمه الذَّهَبِي في «النُّبلاء» وقال: الشَّيْخ المُعَمَّر الزاهد شيخ الصَوَّافية، حديثه مستقيم.
وأَحْمَد بن مُحَمَّد بن عَبْد اللّه الهَرَوِي هو أبو سَعْد الماليني -أحد شيوخ البيهقي- ترجمه الخَطِيْب في «تارِيْخه» وقال: كان ثقة صدوقًا متقنًا خيرًا صالحًا.
وسُلَيْمان بن إِبْراهِيم هو أبو مَسْعُوْد الأَصْبَهاني ترجمه الذَّهَبِي في «النُّبَلاء» وقال: «الحافظ العالم المُحَدِّث المفيد».
وعُبَيْد الله بن أبي عَلي الحداد هو عُبَيْد اللّه بن الحسَن بن أَحْمَد الأَصْبَهاني قال فيه الذهَبِي ترجمه الذَّهَبِي في «النُّبلاء» وقال: «الإمام الحافظ المُتقِن الثقة العابد الخير».
وعَفِيْفَة بنت أحْمَد هي أم هانئ الأَصْبَهانية مسندة أَصْبَهان، لها ترجمة في «التقييد» لابن نُقْطَة، و «النُّبلاء» للذَّهَبِي.
بلوغ الأماني بتراجم شيوخ أبي الشيخ الأصبهاني (1) / (526) — أبو الطيب المنصوري (معاصر)
تنبيه: قول ابن معين: إنا لنطعن على أقوامٍ لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة منذ أكثر من مائتي سنة.
قال الذهبي لعل الصواب مائة سنة. لأن الزمن لا يبلغ مائتي سنة بينه وبين الرواة. انتهى بمعناه
توفي ابن معين
في الثالث والعشرين من ذي القعدة لعام 233، توفي في المدينة المنورة في طريقه إلى الحج، عن 75 عاماً
فيمكن أنه يقصد قبل مائتي سنة بدأ تلقي التابعين العلم من الصحابة فبدأ التعديل والتوثيق للتابعين.
تنبيه: سنذكر بإذن الله في آخر المبحث قصيدة في الدفاع عن يحيى بن معين
(المسألة الثامنة): في شروط من يتصدّى للجرح والتعديل:
(اعلم): أن أهل العلم قد ذكروا شروطًا لمن يتصدّى لجرح الرواة وتعديلهم:
فمنها: العلم، والتقوى، والورع، والصدق، والأمانة، والابتعاد عن التعصّب، ومعرفة أسباب الجرح والتعديل، وأن يكون مستيقظًا، مستحضرًا، متحريا لأقوال العلماء، ضابطا لما يصدر منه؛ لئلا يقع في التناقض، عالما بتصاريف الكلام؛ لئلا يُغيّر كلام الناس إلى عكس ما يريدونه، وأن لا تحمله العداوة الشخصية في الجرح، وأن يكون حليمًا صبورًا، فلا يغضب في كلام الناس فيه، فيرميهم بما لا يستحقّونه، وأن لا تحمله القرابة على العدول عن قول الحقّ في الراوي، وقد ضرب العلماء في هذا أورع مثل، فقد قال ابن المدينيّ عن أبيه: إنه ضعيف، وقال محمد بن أبي السريّ، عن أخيه الحسين بن أبي السريّ: لا تكتبوا عن أخي فإنه كذّاب، وقال عنه أبو عروبة الحرانيّ: هو خال أمي، وهو كذّاب.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
قرة عين المحتاج في شرح مقدمة صحيح مسلم بن الحجاج (2) / (310) — محمد بن علي بن آدم الأثيوبي (ت (1442))
قصيدة في الذب عن الإمام يحيى بن معين في الجرح والتعديل
اجترأ رجل على الإمام يحيى بن معين لكونه يتكلم في الجرح والتعديل وهو بكر بن حماد التاهرتي
فقال:
ولابن معين في الرجال مقالة … سيسأل عنها والمليك شهيد
فإن يَكُ حقًا ما يقول فغيبة … وإن يك زورًا فالقصاص شديد
فكم من حديث للرسول أماته … .. وشيطان أصحاب الحديث مريد
فأجابه ابن شَقِّ اللَّيل أبو عبد الله محمد بن إبراهيم
فقال:
أرى كل ذي جهل يحدث نفسه … . بأني مصيب في المقال مُجيد
وقد خاض فيما ليس يفهم ويحه … .. فبالجهل محضًا يبتدي ويعيد
كبَكر بن حمادٍ ترنَّمَ وحده … . فقلت مجيبًا: ويكَ أين تريد؟!
جهلتَ طريق الجرح والفرقَ بينه … . وبين اغتيابِ الناسِ وهو بعيد
فغِيبتهم ذكرُ العيوب تنَقُّصًا … . على غير دينٍ شامتٌ وحسود
وأما إذا أخبرتُ عنهم نصيحةً … . وتحصينَ دينٍ والإلهَ أريد
فتجريحُ أهلِ الجرحِ لا شكَّ جائزٌ … . شبيهًا بقاضٍ قد أتاهُ شهيد
ففتش عن تعديلِه ليُجيزَه … فقال ثقاتٌ: إنه لفنيد (1)
ومسخوطُ أحوال وغيرُ معدَّلٍ … ولا مُرتضًا فاردده وهو شرِيد (2)
فلو كان هذا غيبةً ما أجازه … . جميع الورى والعالمون شهود
ولا قال خير الخلق هذا وصحبُه: … من الدين مراق، وذاك فقيد
من المال صعلوكٌ، وليس بواضعٍ .. عصاه، وبئس ابنُ العشير مريد
وتبيين أحوال الرواة وغيرُهم … . فحِصن حصين للعلوم مَشيدُ
وحِرزٌ وحِفظ واحتياط وملجأ … . وسيف لداء الملحدين حديد
فهل يستوي علم وحفظ وفطنة … . ووهم وسهو والفؤاد بليد
ومن كان بدعيًّا وكان مدلسًا … . وصحَّف ما يروي وظل يزيد
على ما روى الأعلام طُرًا وقد أتي … . بكل شذوذ للأنام يكيد
وأورد إسنادًا على غير متنه … . وقال بُرَيدًا والصواب يزيد (3)
ولم يدر من فِهرٌ وفَهدٌ ونحوَهم … .. وقال عُبَيدًا، والصواب عَبِيدُ
وقال سُلَيمًا في سَلِيمِ بنِ صالحٍ … وقال أُسَيْدًا، والصواب أَسِيدُ
وجُرِّبَ منه الوهمُ في كل مَوطنٍ … . وكان كذوبًا والأنامُ شُهود
فما كشفُ هذا غيبة بل ديانة … .. وما هو إلا في الظلام وَقِيدُ
يثابُ عليه الأجر من كان ناصِحًا … .. وحارسَ علمٍ والإله يُرِيد
وقد أجمع الماضون طُرًا وجرحوا … . كما عدلوا قِدمًا وأنت فقيد
ولم يَجمع الرحمنُ أمة أحمد … على ضد حق للصواب عنيد
وقد طالبَ الرحمن في نص وحيه … .. بتعديلِ من يأتيكَ وهو شهيد
وتعديلُهم لا شك تجريجُ ضدهم … . فيا بكرُ، قل لي: أين أين تُريد
فما ينكر التجريحَ إلا مُجرح … ويحيى فيزهو فضله ويزيد
وقد سلم الراوونَ طرًا لقوله … .. وأمثالُه في العالمين عديد
فقد جرحوا قِدمًا بحق تَدَيُّنًا … . وأُخزيَ فيهم مارقٌ ومريد
وقد قال يحيى وهْو يظهر عذره … إلهي أجبني أنت أنت ودود
فإن كان قولي حسبة وديانة … .. فجُد بمماتي ربِّ أنت مَجيد
بأفضل أرض في البلاد وخيرها … فيعلمَ صدقي شانئ وحسود
فجاء إلى قبر النبي يزوره … . فمات بها والعالمون شهود
وغُلِّقتِ الأسواقُ من أجل موته … .. وجاءت جموعٌ ما لهن عديد
وجُهِّزَ في نعش النبي مكرمًا … . إلى لَحده إذ بان وهو حميد
ونادوا ألا هذا نفى عن نبينا … .. حديث كذوب في العلوم يزيد
وشاهد بعد الدفن منه رفيقُه … عَيانًا رسولاً قد رآه يعود
إلى قبره فارتاع إذا غاص داخلاً … . فآب وقال: الخير ويك أريد
أنا مَلَكٌ أُرسلت في أمر لَحده … .. فوسعته فاعلمه فهو مهيد
فمن كان سنيا وكان جماعِيَا … تُوَسعُ منهم في القبور لحود
فناهيك فضلاً واستُجيبَ دعاؤه … .. ومات غريبًا والغريب شهيد
وأيقن أهل العلم طرًا بفضله … وما زال يحيى يَعتلِي ويسود
ويحيى إمام في العلوم مبرز … جليل عظيم فضله ومديد
(1) «الفَند بالتحريك: الكذب. وقد أفْنَدَ إفْناداً، إذا كذب. والفَنَدُ: ضُعفُ الرأي من هَرَمٍ». الصحاح في اللغة والعلوم
(2) «شريد، أي: طريد». العين (6/ 241)
(3) قرأ بعضهم (بَرِيد) وليس أجد محدثا اسمه بَريد، إلا هَاشم بْن البَرِيد، من الرواة عن أَبي إِسحاق السَّبِيعي.
قلت سيف بن دورة: خطر في بالي أنها (بريد) المسافة