564 , 565 , 566 , 567 تحضير سنن الترمذي
جمع أحمد بن علي وسلطان الحمادي وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد
=======
بَابُ مَا جَاءَ فِي صَلَاةِ الخَوْفِ
(564) – حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةَ الخَوْفِ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً، وَالطَّائِفَةُ الأُخْرَى مُوَاجِهَةُ العَدُوِّ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَقَامُوا فِي مَقَامِ أُولَئِكَ، وَجَاءَ أُولَئِكَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً أُخْرَى، ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَامَ هَؤُلَاءِ فَقَضَوْا رَكْعَتَهُمْ، وَقَامَ هَؤُلَاءِ فَقَضَوْا رَكْعَتَهُمْ»: صلى الله عليه وسلم (454) صلى الله عليه وسلم «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»، وَقَدْ رَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، مِثْلَ هَذَا، وَفِي البَابِ عَنْ جَابِرٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَأَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ صَامِتٍ، وَأَبِي بَكْرَةَ،: «وَقَدْ ذَهَبَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي صَلَاةِ الخَوْفِ إِلَى حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ»، وقَالَ أَحْمَدُ: «قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةُ الخَوْفِ عَلَى أَوْجُهٍ، وَمَا أَعْلَمُ فِي هَذَا البَابِ إِلَّا حَدِيثًا صَحِيحًا، وَأَخْتَارُ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ» وَهَكَذَا قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: «ثَبَتَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (455) صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الخَوْفِ، وَرَأَى أَنَّ كُلَّ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الخَوْفِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَهَذَا عَلَى قَدْرِ الخَوْفِ» قَالَ إِسْحَاقُ: «وَلَسْنَا نَخْتَارُ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الرِّوَايَاتِ»
[حكم الألباني]: صحيح
(565) – حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ القَطَّانُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، أَنَّهُ قَالَ فِي صَلَاةِ الخَوْفِ، قَالَ: «يَقُومُ الإِمَامُ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، وَتَقُومُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ مِنْ قِبَلِ العَدُوِّ، وَوُجُوهُهُمْ إِلَى العَدُوِّ، فَيَرْكَعُ بِهِمْ رَكْعَةً، وَيَرْكَعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَسْجُدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ سَجْدَتَيْنِ فِي مَكَانِهِمْ، ثُمَّ يَذْهَبُونَ إِلَى مَقَامِ أُولَئِكَ، وَيَجِيءُ أُولَئِكَ، فَيَرْكَعُ بِهِمْ رَكْعَةً وَيَسْجُدُ بِهِمْ سَجْدَتَيْنِ، فَهِيَ لَهُ ثِنْتَانِ وَلَهُمْ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ يَرْكَعُونَ رَكْعَةً وَيَسْجُدُونَ سَجْدَتَيْنِ»:
[حكم الألباني]: صحيح
(566) – قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ: سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ عَنْ هَذَا الحَدِيثِ؟ فَحَدَّثَنِي عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ القَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، وقَالَ لِي يَحْيَى: «اكْتُبْهُ إِلَى جَنْبِهِ، وَلَسْتُ أَحْفَظُ الحَدِيثَ، وَلَكِنَّهُ مِثْلُ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ»: «وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ لَمْ يَرْفَعْهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَهَكَذَا رَوَى أَصْحَابُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ مَوْقُوفًا، وَرَفَعَهُ شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ»،
(567) – وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ صَالِحِ صلى الله عليه وسلم (457) صلى الله عليه وسلم بْنِ خَوَّاتٍ، عَنْ مَنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الخَوْفِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ،: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ» وَرُوِي عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «صَلَّى بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً رَكْعَةً»، فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَانِ، وَلَهُمْ رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ: «أَبُو عَيَّاشٍ الزُّرَقِيُّ اسْمُهُ زَيْدُ بْنُ صَامِتٍ»
====
{وَإِذا كُنتَ فيهِم فَأَقَمتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلتَقُم طائِفَةٌ مِنهُم مَعَكَ وَليَأخُذوا أَسلِحَتَهُم فَإِذا سَجَدوا فَليَكونوا مِن وَرائِكُم وَلتَأتِ طائِفَةٌ أُخرى لَم يُصَلّوا فَليُصَلّوا مَعَكَ وَليَأخُذوا حِذرَهُم وَأَسلِحَتَهُم وَدَّ الَّذينَ كَفَروا لَو تَغفُلونَ عَن أَسلِحَتِكُم وَأَمتِعَتِكُم فَيَميلونَ عَلَيكُم مَيلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيكُم إِن كانَ بِكُم أَذًى مِن مَطَرٍ أَو كُنتُم مَرضى أَن تَضَعوا أَسلِحَتَكُم وَخُذوا حِذرَكُم إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلكافِرينَ عَذابًا مُهينًا} [النساء: 102]
قال ابن جزي:
{وإذا كنت فيهم} الآية في صلاة الخوف، وظاهرها يقتضي أنها لا تصلى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه شرط كونه فيهم، وبذلك قال أبو يوسف، وأجازها الجمهور بعده صلى الله عليه وسلم، لأنهم رأوا أن الخطاب له يتناول أمته، وقد فعلها الصحابة بعده صلى الله عليه وسلم، واختلف الناس في صلاة الخوف على عشرة أقوال، لاختلاف الأحاديث فيها، ولسنا نضطر إلى ذكرها فإن تفسيرها لا يتوقف على ذلك، وكانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع.
{فلتقم طائفة منهم معك} يقسم الإمام المسلمين على طائفتين فيصلي بالأولى نصف الصلاة، وتقف الأخرى تحرس ثم يصلى بالثانية بقية الصلاة وتقف الأولى تحرس، واختلف هل تتم كل طائفة صلاتها وهو مذهب الجمهور، أم لا؟ وعلى القول بالإتمام: اختلف هل يتمونها في أثر صلاتهم مع الإمام أو بعد ذلك.
{وليأخذوا أسلحتهم} اختلفوا في المأمور بأخذ الأسلحة، فقيل: الطائفة المصلية وقيل: الحارسة والأول أرجح، لأنه قد قال بعد ذلك في الطائفة الأخرى: وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم، ويدل ذلك على أنهم إن قوتلوا وهم في الصلاة: جاز لهم أن يقاتلوا من قاتلهم، وإلا لم يكن لأخذ الأسلحة معنى إذا لم يدفعوا بها من قاتلهم.
{فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم} الضمير في قوله: {فإذا سجدوا} للمصلين، والمعنى إذا سجدوا معك في الركعة الأولى، وقيل: إذا سجدوا في ركعة القضاء، والضمير في قوله: {فليكونوا من ورائكم}: يحتمل أن يكون للذين سجدوا: أي إذا سجدوا فليقوموا وليرجعوا وراءكم، وعلى هذا إن كان السجود في الركعة الأولى فيقتضي ذلك أنهم يقومون للحرابة بعد انقضاء الركعة الأولى، ثم يحتمل بعد ذلك أن يقضوا بقية صلاتهم أو لا يقضونها، وإن كان السجود في ركعة القضاء، فيقتضي ذلك أنهم لا يقومون للحراسة إلا بعد القضاء، وهو مذهب مالك والشافعي، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: {فليكونوا} للطائفة الأخرى أن يقفوا وراء المصلين يحرسونهم.
{ولتأت طائفة أخرى} يعني الطائفة الحارسة {ود الذين كفروا} الآية: إخبار عما جرى في غزوة ذات الرقاع، من عزم الكفار على الإيقاع بالمسلمين إذا اشتغلوا بصلاتهم، فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بذلك، وشرعت صلاة الخوف حذرا من الكفار، وفي قوله: {ميلة واحدة}: مبالغة أي مفاضلة لا يحتاج منها إلى ثانية.
{ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر} الآية: نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف، كان مريضا فوضع سلاحه فعنفه بعض الناس، فرخص الله في وضع السلاح في حال المرض والمطر، ويقاس عليهما كل عذر يحدث في ذلك الوقت.
{إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا} إن قيل: كيف طابق الأمر بالحذر للعذاب المهين؟ فالجواب أن الأمر بالحذر من العدو: يقتضي توهم قوتهم وعزتهم، فنفى ذلك الوهم بالإخبار أن الله يهينهم ولا ينصرهم لتقوى قلوب المؤمنين، قال ذلك الزمخشري وإنما يصح ذلك إذا كان العذاب المهين في الدنيا، والأظهر أنه في الآخرة.
– التسهيل لعلوم التنزيل
قال السعدي:
ولذلك أتى بصفة صلاة الخوف بعدها بقوله: {وإذا كنتَ فيهم فأقمتَ لهمُ الصَّلاة}؛ أي: صَلَّيْتَ بهم صلاةً تُقيمها وتُتِمُّ ما يجبُ فيها ويلزم فعلُهم ما ينبغي لك ولهم فعلُه، ثم فسَّر ذلك بقوله: {فَلْتَقُمْ طائفةٌ منهم معك}؛ أي: وطائفةٌ قائمةٌ بإزاء العدوِّ؛ كما يدلُّ على ذلك ما يأتي. {فإذا سجدوا}؛ أي: الذين معك؛ أي: أكملوا صلاتهم، وعبَّر عن الصلاة بالسُّجود؛ ليدلَّ على فضل السجود وأنَّه ركنٌ من أركانها، بل هو أعظمُ أركانها، {فليكونوا من ورائِكُم ولتأتِ طائفةٌ أخرى لم يصلُّوا}: وهم الطائفةُ الذين قاموا إزاءَ العدوِّ، {فَلْيُصَلُّوا معك}: ودلَّ ذلك على أنَّ الإمام يبقى بعد انصراف الطائفةِ الأولى منتظراً للطائفة الثانية؛ فإذا حضروا صلَّى بهم ما بقي من صلاته، ثم جلس ينتظِرُهم حتى يُكْمِلوا صلاتَهم، ثم يسلِّم بهم. وهذا أحد الوجوه في صلاة الخوف؛ فإنَّها صحَّت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة كلها جائزة.
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ صلاة الجماعة فرض عين من وجهين:
أحدهما: أنَّ الله تعالى أمر بها في هذه الحالة الشديدة وقت اشتداد الخوف من الأعداء وحذر مهاجمتهم؛ فإذا أوجبها في هذه الحالة الشديدة، فإيجابُها في حالة الطمأنينة والأمن من باب أولى وأحرى.
والثاني: أنَّ المصلِّين صلاة الخوف يترُكون فيها كثيراً من الشُّروط واللوازم، ويُعفى فيها عن كثيرٍ من الأفعال المبطلة في غيرها، وما ذاك إلا لتأكُّد وجوب الجماعة؛ لأنَّه لا تعارض بين واجبٍ ومستحبٍّ؛ فلولا وجوب الجماعة؛ لم تتركْ هذه الأمور اللازمة لأجلها.
وتدلُّ الآية الكريمة على أنَّ الأَوْلَى والأفضل أن يصلُّوا بإمام واحد ولو تضمَّن ذلك الإخلال بشيءٍ لا يخلُّ به لو صلَّوها بعدة أئمة، وذلك لأجل اجتماع كلمة المسلمين واتِّفاقهم وعدم تفرُّق كلمتِهِم، وليكونَ ذلك أوقع هيبةً في قلوب أعدائِهِم.
وأمر تعالى بأخذ السلاح والحذر في صلاة الخوف، وهذا وإن كان فيه حركةٌ واشتغالٌ عن بعض أحوال الصلاة؛ فإنَّ فيه مصلحةً راجحةً، وهو الجمع بين الصلاة والجهاد والحَذَر من الأعداء الحريصين غايةَ الحرص على الإيقاع بالمسلمين والميل عليهم وعلى أمتعتهم، ولهذا قال تعالى: {ودَّ الذين كفروا لو تغفُلون عن أسلحتكِم وأمتعتِكم فيمليونَ عليكم ميلةً واحدةً}.
ثم إنَّ الله عَذَرَ من له عُذْرٌ من مرض أو مطرٍ أن يَضَعَ سلاحَه، ولكن مع أخذ الحذرِ، فقال: {ولا جُناح عليكم إن كان بكم أذىً من مطرٍ أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حِذْركم إن الله أعدَّ للكافرين عذاباً مهيناً}، ومن العذابِ المهين ما أمر الله به حزبَهُ المؤمنين وأنصار دينِهِ الموحِّدين مِن قتلهم وقتالهم حيثما ثَقفوهم، ويأخذوهم، ويحصُروهم، ويقعدوا لهم كلَّ مرصدٍ، ويحذروهم في جميع الأحوال، ولا يغفلوا عنهم خشية أن ينال الكفار بعض مطلوبهم فيهم؛ فللهِ أعظم حمدٍ وثناءٍ على ما منَّ به على المؤمنين وأيَّدهم بمعونتِهِ وتعاليمه التي لو سَلَكوها على وجه الكمال؛ لم تهزمْ لهم رايةٌ، ولم يظهرْ عليهم عدوٌّ في وقتٍ من الأوقات.
وقوله: {فإذا سَجَدوا فليكونوا من ورائكم}: يدلُّ على أنَّ هذه الطائفة تُكْمِلُ جميع صلاتها قبل ذهابهم إلى موضع الحارسين، وأنَّ الرسول – صلى الله عليه وسلم – يثبت منتظراً للطائفة الأخرى قبل السلام؛ لأنه أولاً ذكر أنَّ الطائفة تقوم معه، فأخبر عن مصاحبتهم له، ثم أضاف الفعل بعد إليهم دون الرسول، فدل ذلك على ما ذكرناه.
وفي قوله {فلتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك}: دليلٌ على أنَّ الطائفة الأولى قد صلوا، وأنَّ جميع صلاة الطائفة الثانية تكون مع الإمام حقيقةً في ركعتهم الأولى وحكماً في ركعتهم الأخيرة، فيستلزمُ ذلك انتظارَ الإمام إيَّاهم حتَّى يُكْمِلوا صلاتهم، ثم يُسَلِّم بهم. وهذا ظاهرٌ للمتأمِّل.
قال ابن كثير:
{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَاءِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ((102))}.
صلاة الخوف أنواع كثيرة، فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة، وتارة يكون في غير صوبها، والصلاة تارة تكون رباعية، وتارة تكون ثلاثية كالمغرب، وتارة تكون ثنائية كالصبح وصلاة السفر، ثم تارة يصلون جماعة، وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ورجالًا وركبانًا، ولهم أن يمشوا والحالة هذه ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة. ومن العلماء من قال: يصلون والحالة هذه ركعة واحدة لحديث ابن عباس المتقدم، وبه قال أحمد بن حنبل. قال المنذري في الحواشي. وبه قال عطاء وجابر والحسن ومجاهد والحكم وقتادة وحماد، وإليه ذهب طاوس والضحاك.
وقد حكى أبو عاصم العبادي عن محمد بن نصر المروزي: أنه يرى رد الصبح إلى ركعة في الخوف، وإليه ذهب ابن حزم أيضًا. وقال إسحاق بن راهويه: أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدة تومئ بها إيماء، فإن لم تقدر فسجدة واحدة لأنها ذكر الله، وقال آخرون: تكفي تكبيرة واحدة، فلعله أراد ركعة واحدة. كما قاله الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه، وبه قال جابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وكعب وغير واحد من الصحابة والسدي، ورواه ابن جرير، ولكن الذي حكوه إنما حكوه على ظاهره في الاجتزاء بتكبيرة واحدة، كما هو مذهب إسحاق بن راهويه وإليه ذهب الأمير عبد الوهاب [بن] [(1)] بخت المكي، حتَّى قال: فإن لم يقدر على التكبير فلا يتركها في نفسه؛ يعني بالنية. رواه سعيد بن منصور في سننه عن إسماعيل بن عياش، عن شعيب بن دينار عنه، فالله أعلم.
ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة، كما أخر النَّبِيّ – صلى الله عليه وسلم – يوم الأحزاب الظهر والعصر فصلاهما بعد الغروب [(2)]، ثم صلى بعدهما المغرب، ثم العشاء، وكما قال بعدها يوم بني قريظة حين جهز إليهم الجيش: “لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة”، فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق، فقال منهم قائلون: لم يرد منا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا تعجيل المسير، ولم يرد منا تأخير الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها في الطريق، وأخر آخرون منهم صلاة العصر فصلوها في بني قريظة بعد الغروب، ولم يعنف رسول الله أحدًا من الفريقين [(3)].
وقد تكلمنا على هذا في كتاب “السيرة”، وبيّنا أن الذين صلوا العصر لوقتها أقرب إلى إصابة الحق في نفس الأمر، وإن كان الآخرون معذورين أيضًا، والحجة ههنا في عذرهم في تأخير الصلاة لأجل الجهاد والمبادرة إلى حصار الناكثين للعهد من الطائفة الملعونة اليهود.
وأما الجمهور فقالوا: هذا كله منسوخ بصلاة الخوف، فإنها لم تكن نزلت بعد، فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك، وهذا بينٌ في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه الشافعي رحمهُ الله وأهل السنن [(4)]. ولكن يشكل عليه ما حكاه البخاري في صحيحه حيث قال:
(باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو) قال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرئ لنفسه، فإن لم يقدروا على الإيماء، أخروا الصلاة حتَّى ينكشف القتال، أو يأمنوا فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا فلا يجزئهم التكبير ويؤخرونها حتَّى يأمنوا، وبه قال مكحول:
وقال أنس بن مالك: حضرت مناهضة حصن تُستَر [(5)] عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال، فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى، ففتح لنا، قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها [(6)]. انتهى ما ذكره، ثم أتبعه بحديث تأخير الصلاة يوم الأحزاب، ثم بحديث أمره إياهم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة [(7)]، وكأنه كالمختار لذلك، واللّه أعلم.
ولمن جنح إلى ذلك له أن يحتج بصنيع أبي موسى وأصحابه يوم فتح تُستَر فإنه يشتهر غالبًا، ولكن كان ذلك في إمارة عمر [(8)] بن الخطاب، ولم ينقل أنه أنكر عليهم ولا أحد من الصحابة، واللّه أعلم.
قال هؤلاء: وقد كانت صلاة الخوف مشروعة في الخندق لأن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق في قول الجمهور، علماء السير والمغازي، وممن نص على ذلك محمد بن إسحاق وموسى بن عقبة والواقدي ومحمد بن سعد كاتبه وخليفة بن الخياط وغيرهم [(9)].
وقال البخاري وغيره: كانت ذات الرقاع بعد الخندق لحديث أبي موسى وما قدم إلا في خيبر [(10)]، والله أعلم.
والعجب كل العجب أن المزني وأبا يوسف القاضي وإبراهيم بن إسماعيل بن علية، ذهبوا إلى أن صلاة الخوف منسوخة بتأخيره عليه الصلاة والسلام، الصلاة يوم الخندق وهذا غريب جدًّا، وقد ثبتت الأحاديث بعد الخندق بصلاة الخوف، [والحمل على] [(11)] تأخير الصلاة يومئذٍ على ما قاله مكحول والأوزاعي أقوى وأقرب، والله أعلم.
فقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} أي: إذا صليت بهم إمامًا في صلاة الخوف، وهذه حالة غير الأولى، فإن تلك قصرها إلى ركعة كما دل عليه الحديث – فرادى ورجالًا وركبانًا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، ثم ذكر حال الاجتماع والائتمام بإمام واحد، وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة، فلولا أنها واجبة لما ساغ ذلك، وأما من استدل بهذه الآية على أن صلاة الخوف منسوخة بعد النَّبِيّ – صلى الله عليه وسلم – لقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} فبعده تفوت هذه الصفة، فإنه استدلال ضعيف، ويرد عليه مثل قول مانعي الزكاة الذين احتجوا بقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: (103)] قالوا: فنحن لا ندفع زكاتنا بعده – صلى الله عليه وسلم – إلى أحد، بل نخرجها نحن بأيدينا على من نراه، وندفعها إلى من صلاته؛ أي: دعاؤه سكن لنا، ومع هذا رد عليهم الصحابة، وأبوا عليهم هذا الاستدلال، وأجبروهم على أداء الزكاة وقتلوا من منعها منهم.
ولنذكر سبب نزول هذه الآية الكريمة أولًا قبل ذكر صفتها، قال ابن جرير: حدثني ابن المثنى، حدثني إسحاق، حَدَّثَنَا عبد الله بن هاشم، أنبأنا سيف عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي له، قال: سأل قوم من بني النجار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: يا رسول الله، إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله عز وجل: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} ثم انقطع الوحي، فلما كان بعد ذلك [بحول] [(12)] [غزا] [(13)] النَّبِيّ – صلى الله عليه وسلم – فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في أثرها، قال: فأنزل الله عز وجل بين الصلاتين {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ((101)) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}، فنزلت صلاة الخوف [(14)]، وهذا سياق غريب جدًّا، ولكن لبعضه شاهد من رواية أبي عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت – رضي الله عنه – عند الإمام أحمد وأهل السنن، فقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا عبد الرزاق، حَدَّثَنَا الثوري عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقي، قال: كنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعسفان، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد، وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الظهر، فقالوا: لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا: تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، قال: فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} قال: فحضرت، فأمرهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
فأخذوا السلاح، قال: فصففنا خلفه صفين، قال: ثم ركع فركعنا جميعًا، ثم رفع فرفعنا جميعًا، ثم سجد النَّبِيّ – صلى الله عليه وسلم – بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا، جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، [وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء] [(15)]، ثم ركع فركعوا جميعًا، ثم رفع فرفعوا جميعًا، ثم سجد النَّبِيّ – صلى الله عليه وسلم – والصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم، ثم انصرف، قال: فصلاها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مرتين: مرة بعسفان، ومرة بأرض بني سليم [(16)].
ثم رواه أحمد عن غندر، عن شعبة، عن منصور به نحوه، وهكذا رواه أبو داود عن سعيد بن منصور، عن جرير بن عبد الحميد، والنسائي من حديث شعبة، وعبد العزيز بن عبد الصمد، كلهم عن منصور به، وهذا إسناد صحيح وله شواهد كثيرة [(17)]، فمن ذلك ما رواه البخاري حيث قال: حَدَّثَنَا حيوة بن شريح، حَدَّثَنَا محمد بن حرب، عن الزبيدي، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس – رضي الله عنهما -، قال: قام النَّبِيّ – صلى الله عليه وسلم – وقام الناس معه، فكبر وكبروا معه، وركع وركع ناس منهم، ثم سجد وسجدوا معه، ثم قام للثانية فقام الذين سجدوا وحرسوا إخوانهم، وأتت الطائفة الأخرى فركعوا وسجدوا معه والناس كلهم في الصلاة، ولكن يحرس بعضهم بعضًا [(18)].
وقال ابن جرير: حَدَّثَنَا ابن بشار، حَدَّثَنَا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن سليمان اليشكري أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة؛ أي: يوم أنزل أو أي يوم هو، فقال جابر: انطلقنا نتلقى عير قريش آتية من الشام حتَّى إذا كنا بنخل، جاء رجل من القوم إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا محمد، قال: نعم. قال: هل تخافني؟ قال: “لا” قال: فمن يمنعك مني؟ قال: “الله يمنعني منك” قال: فسل السيف، ثم تهدده وأوعده، ثم نادى بالرجل وأخذ السلاح، ثم نودي بالصلاة فصلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بطائفة من القوم وطائفة أخرى تحرسهم، فصلى بالذين يلونه ركعتين، ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم، فقاموا في مصاف أصحابهم، ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين، والآخرون يحرسونهم، ثم سلم فكانت للنبي – صلى الله عليه وسلم – أربع ركعات، وللقوم ركعتين ركعتين، فيومئذٍ أنزل الله في إقصار الصلاة وأمر المؤمنين بأخذ السلاح [(19)].
ورواه الإمام أحمد فقال: حَدَّثَنَا سريج، حَدَّثَنَا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سليمان بن قيس هو اليشكري، عن جابر بن عبد الله، قال: قاتل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – محارب خصفة، فجاء رجل منهم يقال له: غورث بن الحارث حتَّى قام على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالسيف، فقال: من يمنعك مني؟ [قال: “الله”، فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال: “ومن يمنعك مني؟ “] [(20)]، قال: كن خير آخذ. قال: “أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ ” قال: لا، ولكن أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله، [فأتى قومه] [(21)] فقال: جئتكم من عند خير الناس، فلما حضرت الصلاة، صلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صلاة الخوف، فكان الناس طائفتين: طائفة بإزاء العدو، وطائفة صلوا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فصلى بالطائفة الذين معه ركعتين وانصرفوا، فكانوا مكان الطائفة الذين كانوا بإزاء العدو، ثم انصرف الذين كانوا بإزاء العدو فصلوا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ركعتين، فكان لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – أربع ركعات، وللقوم ركعتين ركعتين [(22)]. تفرد به من هذا الوجه.
وقال ابن أبي حاتم: حَدَّثَنَا أحمد بن سنان، حَدَّثَنَا أبو قطن عمرو بن الهيثم، حَدَّثَنَا المسعودي، عن يزيد الفقير، قال: سألت جابر بن عبد الله عن الركعتين في السفر أقصرهما؟ فقال: الركعتان في السفر تمام، إنما القصر واحدة عند القتال، بينما نحن مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في قتال، إذ أقيمت الصلاة، فقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فصف طائفة، وطائفة وجهها قبل العدو، فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين، ثم الذين خلفوا انطلقوا إلى أولئك فقاموا مقامهم ومكانهم نحو ذا، وجاء أولئك فقاموا خلف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين، ثم إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جلس فسلم، [وسلم] [(23)] الذين خلفه، وسلم أولئك، فكانت لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ركعتين، وللقوم ركعة ركعة، ثم قرأ {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ … } الآية [(24)].
وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا محمد بن جعفر، حَدَّثَنَا شعبة، عن الحكم، عن يزيد الفقير، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، صلى بهم صلاة الخوف، فقام صف بين يديه وصف خلفه، فصلى بالذين خلفه ركعة وسجدتين، ثم تقدم هؤلاء حتَّى قاموا في مقام أصحابهم، وجاء أولئك حتَّى قاموا في مقام هؤلاء، فصلى بهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ركعة وسجدتين ثم سلم، فكانت للنبي – صلى الله عليه وسلم – ركعتين، ولهم ركعة [(25)]، ورواه النسائي من حديث شعبة، ولهذا الحديث طرق عن جابر، وهو في صحيح مسلم من وجه آخر بلفظ آخر [(26)]، وقد رواه عن جابر جماعة كثيرون في الصحيح والسنن والمسانيد.
وقال ابن أبي حاتم: حَدَّثَنَا أبي، حَدَّثَنَا نعيم بن حماد، حَدَّثَنَا عبد الله بن المبارك، أنبأنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} قال: هي صلاة الخوف، صلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مقبلة على العدو، وأقبلت الطائفة الأخرى التي كانت مقبلة على العدو فصلى بهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -[ركعة أخرى ثم سلم بهم، ثم قامت كل طائفة منهم فصلت] [(27)] ركعة ركعة [(28)]، وقد روى هذا الحديث الجماعة في كتبهم من طريق معمر به [(29)]، ولهذا الحديث طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة، وقد أجاد الحافظ أبو بكر بن مردويه في سرد طرقه وألفاظه، وكذا ابن جرير، ولنحرره في كتاب الأحكام الكبير، إن شاء الله وبه الثقة.
وأما الأمر بحمل السلاح في صلاة الخوف فمحمول عند طائفة من العلماء على الوجوب لظاهر الآية، وهو أحد قولي الشافعي، ويدل عليه قول الله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} أي: بحيث تكونون على أهبة إذا احتجتم إليها لبستموها بلا كلفة {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}.
– تفسير القرآن العظيم
قال ابن تيمية:
وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ قَوْلِهِ: إنِّي لَأُجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ. فَذَاكَ لِأَنَّ عُمَرَ كَانَ مَامُورًا بِالْجِهَادِ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ أَمِيرُ الْجِهَادِ. فَصَارَ بِذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُصَلِّي الَّذِي يُصَلِّي صَلَاةَ الْخَوْفِ حَالَ مُعَايَنَةِ الْعَدُوِّ إمَّا حَالَ الْقِتَالِ وَإِمَّا غَيْرَ حَالِ الْقِتَالِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ وَمَامُورٌ بِالْجِهَادِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَيْنِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. وَمَعْلُومٌ أَنَّ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ حَالَ الْجِهَادِ لَا تَكُونُ كَطُمَانِينَتِهِ حَالَ الْأَمْنِ فَإِذَا قَدَّرَ أَنَّهُ نَقَصَ مِنْ الصَّلَاةِ شَيْءٌ لِأَجْلِ الْجِهَادِ لَمْ يَقْدَحْ هَذَا فِي كَمَال إيمَانِ الْعَبْدِ وَطَاعَتِهِ وَلِهَذَا تُخَفَّفُ صَلَاةُ الْخَوْفِ عَنْ صَلَاةِ الْأَمْنِ. وَلَمَّا ذَكَرَ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ قَالَ: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} فَالْإِقَامَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا حَالَ الطُّمَأْنِينَةِ لَا يُؤْمَرُ بِهَا حَالَ الْخَوْفِ.
وَمَعَ هَذَا: فَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ فَإِذَا قَوِيَ إيمَانُ الْعَبْدِ كَانَ حَاضِرَ الْقَلْبِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ تَدَبُّرِهِ لِلْأُمُورِ بِهَا وَعُمَرُ قَدْ ضَرَبَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ وَهُوَ الْمُحَدِّثُ الْمُلْهَمُ فَلَا يُنْكَرُ لِمَثَلِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعَ تَدْبِيرِهِ جَيْشَهُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْحُضُورِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ لَكِنْ لَا رَيْبَ أَنَّ حُضُورَهُ مَعَ عَدَمِ ذَلِكَ يَكُونُ أَقْوَى وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَالَ أَمْنِهِ كَانَتْ أَكْمَلَ مِنْ صَلَاتِهِ حَالَ الْخَوْفِ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ عَفَا حَالَ الْخَوْفِ عَنْ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ فَكَيْفَ بِالْبَاطِنَةِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَتَفَكُّرُ الْمُصَلِّي فِي الصَّلَاةِ فِي أَمْرٍ يَجِبُ عَلَيْهِ قَدْ يُضَيِّقُ وَقْتَهُ لَيْسَ كَتَفَكُّرِهِ فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ أَوْ فِيمَا لَمْ يَضِقْ وَقْتُهُ وَقَدْ يَكُونُ عُمَرُ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّفَكُّرُ فِي تَدْبِيرِ الْجَيْشِ إلَّا فِي تِلْكَ الْحَالِ وَهُوَ إمَامُ الْأُمَّةِ وَالْوَارِدَاتُ عَلَيْهِ كَثِيرَةٌ. وَمِثْلُ هَذَا يَعْرِضُ لِكُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِ مَرْتَبَتِهِ وَالْإِنْسَانُ دَائِمًا يَذْكُرُ فِي الصَّلَاةِ مَا لَا يَذْكُرُهُ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَكُونُ مِنْ الشَّيْطَانِ كَمَا يَذْكُرُ أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ ذَكَرَ لَهُ رَجُلٌ أَنَّهُ دَفَنَ مَالًا وَقَدْ نَسِيَ مَوْضِعَهُ فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّ فَقَامَ فَصَلَّى فَذَكَرَهُ فَقِيلَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ عَلِمْت ذَلِكَ؟ قَالَ: عَلِمْت أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَدَعُهُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يُذَكِّرَهُ بِمَا يَشْغَلُهُ وَلَا أَهَمَّ عِنْدَهُ مِنْ ذِكْرِ مَوْضِعِ الدَّفْنِ.
لَكِنَّ الْعَبْدَ الْكَيِّسَ يَجْتَهِدُ فِي كَمَالِ الْحُضُورِ مَعَ كَمَالِ فِعْلِ بَقِيَّةِ الْمَأْمُورِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
مجموع الفتاوى (22) / (609) – (610)
ولهذا لمَّا صلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر بعُسْفان قال المشركون: قد كانوا على حالة لو أصبنا غِرَّتَهم! قالوا: يأتي عليهم الآن صلاة هي أحبُّ إليهم من أبنائهم وأنفسهم. فأنزل الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ((1)).
فكانت صلاة العصر هي السبب في نزول صلاة الخوف الشديد لمَّا شُغِلوا عنها، وهي السبب في صلاة الخوف اليسير لما خافوا من تفويتها في الجماعة.
ولأنَّ في تفويتها من الوعيد ما ليس في غيرها. فروى ابن عمر أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «الذي تفوته صلاةُ العصر كأنما وُتِرَ أهلَه ومالَه» رواه الجماعة ((2)). وعن بريدة ((3)) أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك صلاةَ العصر حبِط عملُه» رواه أحمد والبخاري ((4)).
ولأنَّ أول الصلوات هي الفجر كما تقدَّم، فتكون العصر هي الوسطى. وكذلك قال بعض السلف، وأمسك أصابعه الخمس، فوضع يده على الخنصر، فقال: هذه هي الفجر. ثم وضعها على البنصر، وقال: هذه الظهر.
شرح عمدة الفقه – ابن تيمية – ط عطاءات العلم (2) / (162)
====
باب صلاة الخوف
(169) – بيان صلاة الخوف
س: هل يشرع لبعض الجنود الذين يعملون على بعض الأسلحة في الجبهة أن يصلوا صلاة الخوف، وكيف يكون ذلك رغم عدم قيام الحرب؟ ((1))
ج: ليس لهم صلاة الخوف إلا إذا كانوا مصافي العدو أو يخافون هجومه؛ لقول الله سبحانه: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة} ((2)).
((1)) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج (2) ص (260).
((2)) سورة النساء الآية (102)
وفي الصحيحين عن صالح بن خوات عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف «أن طائفة من أصحابه صلى الله عليه وسلم صفت معه وطائفة وجاه العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم ((1))» .. وهذا لفظ مسلم.
وفي الصحيحين أيضا عن ابن عمر قال: «غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فوازينا العدو فصاففناهم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا، فقامت طائفة معه وأقبلت طائفة على العدو، وركع بمن معه وسجد سجدتين ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل فجاءوا فركع بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين ((2))» … وهذا اللفظ للبخاري.
((1)) صحيح البخاري المغازي ((4130))، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها ((842))، سنن النسائي صلاة الخوف ((1537))، سنن أبي داود الصلاة ((1238))، مسند أحمد ((5) / (370))، موطأ مالك النداء للصلاة ((440)).
((2)) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب وقوله (وإذا ضربتم في الأرض) برقم (942)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الخوف، برقم (839).
وعن جابر قال: «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فصففنا صفين، صف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعا، ثم ركع وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود، وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعا ((1))» رواه مسلم في صحيحه، والله ولي التوفيق.
((1)) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الخوف، برقم (840).
مجموع فتاوى ابن باز — ابن باز (ت (1420))
(1) – صلاة الخوف
وقول الله عزوجل: {وَإذا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا – وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَاءِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَأبا مُهِينًا} [النساء: (101) – (102)] قوله تعالى: {وَإذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}.
قد ذكر طائفة من السلف أنها نزلت في صلاة في السفر، لا في صلاة السفر بمجرده؛ ولهذا ذكر عقبيها قوله تعالى: {وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ}، ثم ذكر صفة صلاة الخوف، فكان ذلك تفسيرا للقصر المذكور في الآية الأولى. وهذا هو الذي يشير إليه البخاري، وهو مروي عن مجاهد والسدي والضحاك وغيريهم، واختاره ابن جرير وغيره.
وتقدير هذا من وجهين:
أحدهما: أن المراد بقصر الصلاة قصر أركانها بالإيماء ونحوه، وقصر عدد الصلاة إلى ركعة. فأما صلاة السفر، فإنها ركعتان، وهي تمام غير قصر، كما قاله عمر رضي الله عنه.
وروى سماك الحنفي، قال: سمعت ابن عمر يقول: الركعتان في السفر تمام غير قصر، إنما القصر صلاة المخافة.
خرجه ابن جرير وغيره.
وروى ابن المبارك عن المسعودي، عن يزيد الفقير، قال: سمعت جابر بن عبد الله يسأل عن الركعتين في السفر: أقصرٌهما؟ قالَ: إنما القصر ركعةٌ عندَ القتال، وإن الركعتين في السفر ليستا بقصرٍ.
وخرج الجوزجاني من طريق زائدة بن عمير الطائي، أنه سأل ابن عباس عن تقصير الصلاة في السفر؟ قال: إنها ليست بتقصير، هما ركعتان من حين تخرج من أهلك إلى أن ترجع إليهم.
وخرج الإمام أحمد بإسناد منقطع، عن ابن عباس، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ركعتين، وحين أقام أربعا أربعا.
وقال ابن عباس: فمن صلى في السفر أربعا كمن صلى في الحضر ركعتين.
وقال ابن عباس: لم تقصر الصلاة إلاّ مرة واحدة حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، وصلى الناس ركعة واحدة. يعني: في الخوف.
وروى وكيع، عن سفيان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ركعة ركعة. قال سعيد: كيف تكون مقصورة وهما ركعتان.
والوجه الثاني: أن القصر المذكور في هذه الآية مطلق، يدخل فيه قصر العدد، وقصر الأركان ومجموع ذلك يختص بحالة الخوف في السفر، فأما إذا انفرد أحد الأمرين – وهو السفر أو الخوف – فإنه يختص بأحد نوعي القصر، فانفراد السفر يختص بقصر العدد، وانفراد الخوف يختص بقصر الأركان. لكن هذا ممالم يفهم من ظاهر القرآن، وإنما بين دلالةٌ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والآية لا تنافيه. وإن كان ظاهرها لا يدل عليه. والله
أعلم.
وقيل: إن قوله: {وَإذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} نزلت بسبب القصر في السفر من غير خوف، وإن بقية الآية مع الآيتين بعدها نزلت بسبب صلاة الخوف (0)
روي ذلك عن عَلِيّ رضي الله عنه.
خرجه ابن جرير، عنه بإسناد ضعيف جدًا، لايصح. والله أعلم.
وقد روي ما يدل على أن الآية الأولى المذكور فيها قصر الصلاة إنما نزلت في صلاة الخوف.
فروى منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقي، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسفان – وعلى المشركين خالد بن الوليد – فصلينا الظهر، فقال المشركونَ: لقد أصبنا غرةً، لقدأصبنا غفلةً، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر، فلما حضرت العصر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة والمشركون
أمامه، فصف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم صف، وصف بعد ذلك الصف صف آخر، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعًا، ثم سجدوا وسجد الصف الذين يلونه، وقام الآخرون يحرسونهم، فلما صلى هؤلاء سجدتين وقاموا، سجد الآخرون الذين كانوا خلفه، ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين، وتقدم الصف
الآخر إلى مقام الصف الأول، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعًا، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الاخرون يحرسونهم، فلما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه سجد الآخرون، ثم جلسوا جميعًا فسلم عليهم جميعًا، فصلاها بعسفان، وصلاها يوم بني سليم.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود – وهذا لفظه – والنسائي وابن حبان في «صحيحه» والحاكم.
وقال: على شرطهما.
وفي رواية للنسائي وابن حبان، عن مجاهد: نا أبو عياش الزرقي،
قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم – فذكره.
ورد ابن حبان بذلك على من زعم: أن مجاهدًا لم يسمعه من أبي عياش، وأن أبا عياش لا صحبة له.
كأنه يشير إلى ما نقله الترمذي في «علله» عن البخاري، أنه قال: كل الروايات عندي صحيحٌ في صلاة الخوف، إلاحديث مجاهد، عن أبي عياش الزرقي، فأني أراه مرسلًا.
وابن حبان لم يفهم ما أراده البخاري، فإن البخاري لم ينكر أن يكون أبو عياش له صحبةٌ، وقد عدَة في «تاريخه» من الصحابة، ولا أنكر سماع مجاهد من أبي عياش، وإنما مراده: أن هذا الحديث الصواب: عن مجاهد إرساله عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر أبي عياش؛ كذلك رواه أصحاب مجاهد، عنه بخلاف رواية منصور، عنه، فرواه عكرمة بن خالد وعمر بن ذر وأيوب بن موسى ثلاثتهم، عن مجاهد، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا من غير ذكر أبي عياش.
وهذا أصح عند البخاري، وكذلك صحح إرساله عبد العزيز النخشبي وغيره من الحفاظ.
وأما أبو حاتم الرازي، فإنه قال – في حديث منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش -: إنه صحيح. قيل له: فهذه الزيادة «فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر» محفوظةٌ هي؟ قال: نعم.
وقال الإمام أحمد: كل حديث روي في صلاة الخوف فهو صحيح.
وقد جاء في رواية: فنزلت {وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} وهذا لاينافي رواية: «فنزلت آية القصر» بل تبين أنه لم تنزل آية القصر بانفرادها في هذا اليوم، بل نزل معها الآيتان بعدها في صلاة الخوف. وهذا كله مما يشهد لان آية القصر أريد بها قصر الخوف في السفر، وإن دلت على قصر السفر بغير خوف بوجه من الدلالة. والله أعلم.
قال البخاري:
(942) – نا أبو اليمان: ثنا شعيب، عن الزهري، قال: سألته: هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ فقالَ أخبرني سالم، أن عبد الله بن عمر قالَ: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فوازينا العدو، فصاففنا لهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا، فقامت طائفة معه وأقبلت طائفة على العدو، وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه وسجد سجدتين، ثُمَّ انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل، فجاءوا فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ركعة وسجد سجدتين، «ثُمَّ سلم، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين».
وخرجه في موضع آخر من رواية معمر.
وخرجه مسلم من رواية معمر وفليح كلاهما، عن الزهري، به – بمعناه. وقد روي عن حذيفة نحو رواية ابن عمر – أيضا.
وخرجه الطبراني من رواية حكام بن سلم، عن أبي جعفر الرازي، عن قتادة، عن أبي العالية، قال: صلى بنا أبو موسى الأشعري بأصبهان صلاة الخوف.
وما كان كبير خوفٍ؛ ليرينا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام فكبر، وكبر معه طائفة من القوم، وطائفة بإزاءالعدو، فصلى بهم ركعة
فانصرفوا، وقاموا مقام اخوانهم، فجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعة أخرى، ثُمَّ سلم، فصلى كل واحد منهم الركعة الثانية وحدانا.
ورواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي العالية، أن أبا موسى كان بالدار من أرض اصبهان، وما بها كبير خوف، ولكن أحب أن يعلمهم دينهم وسنة نبيهم، فجعلهم صفين: طائفة معها السلاح مقبلة على عدوها، وطائفة من ورائها، فصلى بالذين بإزائه ركعة، ثم نكصوا على أدبارهم حتى قاموا مقام الأخرى، وجاءوا يتخللونهم حتى قاموا وراءه فصلى بهم ركعة أخرى، ثم سلم، فقام الذين يلونه والآخرون فصلوا ركعة ركعة، ثم سلم بعضهم على بعض، فتمت للإمام ركعتان في جماعة، وللناس ركعة ركعة. يعني في جماعة.
خرجه ابن أبي شيبة، وعنه بقي بن مخلد في مسنده.
وهو إسناد جيد. وهو في حكم المرفوع؛ لما ذكر فيه من تعليمهم بسنة نبيهم.
ورواه أبو داود الطيالسي، عن أبي حرة، عن الحسن، عن أبي موسى، أن رسول الله؟ صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه –فذكر نحوه، وفيه زيادة على حديث ابن عمر: أن الطائفة الأولى لما صلت ركعة وذهبت لم تستدبر
القبلة، بل نكصت على أدبارها.
وروي – أيضا – عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك، من رواية خصيف، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فقاموا صفين، فقام صف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف مستقبل العدو، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصف الذين يلونه ركعة، ثم قاموا فذهبوا، فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو، وجاءوا أولئك فقاموا مقامهم، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة، ثم سلم، ثم قاموا فصلوا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا ثم ذهبوا، فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو، ورجع أولئك إلى مقامهم، فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا.
خرجه الإمام أحمد –وهذا لفظه – وأبو داود – بمعناه.
وخصيف، مختلف في أمره. وأبو عبيدة، لم يسمع من أبيه، لكن رواياته عنه أخذها عن أهل بيته، فهي صحيحة عندهم. وهذه الصفة توافق حديث ابن عمر وحذيفة، إلاّ في تقدم الطائفة
الثانية بقضاء ركعة.
وذهابهم إلى مقام أولئك مستقبلي العدو، ثُمَّ مجيء الطائفة الأولى إلى مقامهم فقضوا ركعة.
وحديث ابن عمر وحذيفة فيهما: قيام الطائفتين يقضون لأنفسهم، وظاهره: أنهم قاموا جملة وقضوا ركعة ركعة واحدانا.
وقد رواه جماعة، عن خصيف، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود، وزادوا فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر وكبرالصفان معه جميعًا. وقد خرجه كذلك الإمام أحمد وأبو داود.
وزاد الإمام أحمد: «وهم في صلاة كلهم» واختلف العلماء في صلاة الخوف على الصفة المذكورة في حديث ابن عمر، وما وافقه: فذهب الأكثرون إلى أنها جائزة وحسنة، وإن كان غيرها أفضل منها، هذا قول الشافعي –في أصح قوليه – وأحمد وإسحاق وغيرهم.
وقالت طائفة: هي غير جائزة على هذه الصفة؛ لكثرة ما فيها من الأعمال المباينة للصلاة من استدبار القبلة والمشي الكثير، والتخلف عن الإمام، وادعوا أنها منسوخة، وهو أحد القولين للشافعي.
ودعوى النسخ هاهنا لا دليل عليها.
وقالت طائفة: هي جائزة كغيرها من أنواع صلاة الخوف الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لا فضل لبعضها على بعض، وهو قول إسحاق: نقله عن ابن منصور ونقل حرب، عن إسحاق، أن حديث ابن عمر وابن مسعود يعمل به إذا كان العدو في غير جهة القبلة.
وكذلك حكى بعض أصحاب سفيان كلام سفيان في العمل بحديث ابن عمر على ذلك.
وقالت طائفة: هي افضل انواع صلاة الخوف، هذا قول النخعي، واهل الكوفة وأبي حنيفة وأصحابه، ورواية عن سفيان، وحكي عن الأوزاعي واشهب المالكي.
وروى نافع، ان ابن عمر كان يعلم الناس صلاة الخوف على هذا الوجه. وحكي عن الحسن بن صالح، أنه ذهب إلى حديث ابن مسعود، وفيه: أن الطائفة الثانية تصلي مع الإمام الركعة الثانية، ثم إذا سلم قضت ركعة، ثم ذهبت إلى مكان الطائفة الأولى، ثم قضت الطائفة الأولى ركعة، ثم تسلم وقد قيل: إن هذا هو قول أشهب.
وحكى ابن عبد البر، عن أحمد، أنه ذهب إلى هذا –أيضا.
وقال بعض أصحابنا: هو أحسن من الصلاة على حديث ابن عمر؛
لأن صلاة الطائفة الثانية خلت عن مفسد بالكلية.
وحكي عن أبي يوسف ومحمد والحسن بن زياد والمزني: أن صلاة الخوف لا تجوز بعد النبي صلى الله عليه وسلم لظاهر قول الله تعالى: {وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: (102)] الآية. قالوا: وإنما يصلي الناس صلاة الخوف بعده بإمامين، كل إمام يصلي بطائفة صلاة تامة، ويسلم بهم.
وهذا مردود باجتماع الصحابة على صلاتها في حروبهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد صلاها بعده: علي بن أبي طالب، وحذيفة بن اليمان، وأبو موسى الاشعري، مع حضور غيرهم من الصحابة، ولم ينكره أحد منهم.
وكان ابن عمر وغيره يعلمون الناس صلاة الخوف، وجابر، وابن عباس وغيرهما يروونها للناس تعليما لهم، ولم يقل أحد منهم: أن ذلك من خصائص النبي؟ صلى الله عليه وسلم .
وخطابه صلى الله عليه وسلم ؟ لا يمنع مشاركة أمته له في الأحكام، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: (1)] وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِم} [التوبة: (103)]
وحكي عن مالك، أنها تجوز في السفر دون الحضر، وهو قول
عبد الملك بن الماجشون من أصحابه.
ويحتج له بحمل اية القصر على صلاة الخوف، وقد شرط لها شرطان: السفر والخوف، كما سبق؛ ولأن النَّبيّ؟ صلى الله عليه وسلم إنما كانَ يصلي صلاة الخوف في أسفاره، ولم يصلها في الحضر مع أنه حوصر بالمدينة عام الخندق، وطالت مدة الحصار، واشتد الخوف، ولم يصل فيها صلاة الخوف. وقد قيل: إن صلاة الخوف إنما شرعت بعد غزوة الأحزاب في السنة السابعة.
وقد ذكر البخاري في «المغازي» من كتابه هذا – تعليقا – من حديث عمران القطان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه في الخوف في غزوة السابعة: غزوة ذات الرقاع.
وخرجه الإمام أحمد من رواية ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ست مرار قبل صلاة الخوف، وكانت صلاة الخوف في السابعة.
وقد تقدم في حديث أبي عياش، أن أول صلاة الخوف كانت بعسفان وعلى المشركين خالد.
وقد روى الواقدي بإسناد له، عن خالد بن الوليد، أن ذلك كان في مخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمرة الحديبية.
وقد تقدم أن أبا موسى صلى بأصبهان هذه الصلاة، ولم يكن هناك كبير خوف، وإنما صلى بهم ليعلمهم سنة صلاة الخوف.
وهذا قد يحمل على أنه كان ثم خوف يبيح هذه الصلاة، ولم يكن وجد خوف شديد يبيح بالإيماء.
وقد قال أصحابنا وأصحاب الشافعي: لو صلى صلاة الخوف على ما في حديث ابن عمر في غير خوف لم تصح صلاة المأمومين كلهم؛ لإتيانهم بما لا تصح معه الصلاة في غير حالة الخوف من المشي والتخلف عن الإمام.
فأما الإمام، فلأصحابنا في صلاته وجهان، بناء على أن الإمام إذا بطلت صلاة من خلفه، فهل تبطل صلاته لنيته الإمامة وهو منفرد، أو يتمها منفردا وتصح؟ وفيه وجهان للأصحاب.
فتح الباري لابن رجب (8) / (354)
ومن باب صلاة الخوف
أخبرنا أبو الفضل عبد الله بن أحمد بن محمد الطوسي، أخبرنا أبو بكر عبد الغفار بن محمد النيسابوري، أخبرنا أحمد بن الحسن القاضي، أخبرنا محمد بن يعقوب، حدثنا إبراهيم بن مرزوق، حدثنا أبو عامر العقدي، عن محمد بن طلحة، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله، قال: شغل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى اصفرت الشمس، أو احمرت، فقال: شغلونا عن صلاة الوسطى، ملأ الله قبورهم وأجوافهم نارا أو قال: حشا الله قبورهم وأجوافهم نارا.
هذا حديث صحيح أخرجه مسلم في الصحيح، عن عون بن سلام، عن محمد بن طلحة.
أخبرني أبو موسى الحافظ، أخبرنا أبو علي، أخبرنا أبو نعيم، حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي، حدثنا الحارث بن أسد، حدثنا محمد بن كثير الكوفي، عن ليث بن أبي سليم، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود، قال: شغل النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من أمر المشركين فلم يصل الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فلما فرغ صلاهن الأول فالأول، وذلك قبل أن تنزل صلاة الخوف.
أخبرنا عبد المنعم بن عبد الله بن محمد، أخبرنا عبد الغفار بن محمد الجنابذي، أخبرنا أبو بكر الحرشي، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا ابن أبي فديك، أخبرنا ابن أبي ذئب،
عن المقبري، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، قال: حبسنا يوم الخندق عن الصلاة، حتى كان بعد المغرب بهوي من الليل، حتى كفينا وذلك قول الله عز وجل: (وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا) فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأمره فأقام الظهر، فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها، ثم أقام العصر فصلاها كذلك، ثم أقام العشاء فصلاها كذلك أيضا، قال: وذلك قبل أن ينزل الله في صلاة الخوف: (فرجالا أو ركبانا).
قال الشافعي – رضي الله عنه -: فبين أبو سعيد أن ذلك قبل أن ينزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم الآية التي ذكر الله فيها صلاة الخوف؛ قول الله – عز وجل -: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) الآية. (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) الآية.
ولما حكى أبو سعيد أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عام الخندق كانت قبل أن تنزل صلاة الخوف (فرجالا أو ركبانا) استدللنا على أنه لم يصل صلاة الخوف إلا بعدها؛ إذ حضرها أبو سعيد، وحكى تأخير الصلوات حين خرج من وقت عامتها، وحكى أن ذلك قبل نزول صلاة الخوف.
قال الشافعي: ولا تؤخر صلاة الخوف بحال أبدا عن الوقت إن كانت في
حضر، أو عن وقت الجمع في السفر لخوف ولا لغيره، ولكن يصلي كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والذي أخذنا به في صلاة الخوف أن مالكا أخبرنا عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع: أن طائفة صلت معه، وطائفة صفت وجاه العدو، فصلى بالذين معه ركعة ثم ثبت قائما، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا، وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم.
قال الشافعي: وأخبرني من سمع عبد الله بن عمر بن حفص يذكر عن أخيه عبيد الله بن عمر، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن أبيه خوات بن جبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث يزيد بن رومان.
قال الشافعي: وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف على غير ما حكى مالك، وإنما أخذنا بهذا دونه؛ لأنه كان أشبه بالقرآن وأقوى في مكايدة العدو، وقال الشافعي أيضا: وفي هذا دلالة على ما وصفت قبل هذا الكتاب من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سن سنة فأحدث الله إليه في تلك السنة نسخها أو مخرجا إلى سعة منها، فسن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تقوم بها الحجة على الناس، حتى يكونوا إنما صاروا من سنته إلى سنته التي بعدها. وقال أيضا فنسخ الله تعالى تأخير الصلاة عن وقتها في الخوف إلى أن يصلوها كما أنزل الله، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقتها، ونسخ رسول الله صلى الله عليه وسلم سنته في تأخيرها بفرض الله في كتابه ثم بسنته، فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقتها كما وصفت.
الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار — الحازمي (ت (584))
: باب: صلاة الخوف
(625) – مشروعية صلاة الخوف
قال إسحاق بن منصور: قلت: صلاة الخوف؟
قال: صلاة الخوف كلها جائزة، ولا أعلم فيها إلا إسنادا جيدا.
قلت: فالذي يقول: إنما صلى مرة واحدة.
قال: وما علم من يقول هذا؟
قال: وأختار قول سهل ابن أبي حثمة ((1)).
قال إسحاق: كما قال في كلها أنها على أوجه خمسة أو أكثر فأيتها أخذت بها أجزأك، وقول سهل بن أبي حثمة يجزئ، ولسنا نختاره على غيره من الوجوه.
«مسائل الكوسج» ((358))
قال إسحاق بن منصور: سئل الإمام أحمد عن صلاة الخوف، فقال فيها بتكثير، ويختلف عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- ((2)).
قال: وكان مالك بن أنس يذهب إلى حديث سهل بن أبي حثمة وهو
أشبه بالآية يصل {ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا}.
«مسائل الكوسج» ((406))
قال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن صلاة الخوف؟
فقال: أوجه، يروى فيه أو سبعة ((3)).
((1)) رواه الإمام أحمد (3) / (448)، والبخاري ((4131))، ومسلم ((841)).
((2)) رواه الإمام أحمد (3) / (298)، (319)، ومسلم ((840)).
((3)) هكذا بالمطبوع والمعنى بذلك لا يستقيم ولعل هناك كلمة محذوفة بالأصل.
قيل له: تختار منه؟ قال: من الناس من يختار حديث ابن أبي حثمة.
فقلت: إن فلانا قال: إن لها مخارج أن يكون العدو بينه وبين القبلة، أي: وجه منه، وأن يكون الخوف أشد، أي: وجه آخر، ونحو هذا؟ فلم يعجبه هذا التفسير، وقال: جابر يروى عنه وحده وجوه.
«مسائل أبي داود» ((539))
قال أبو داود: وسمعت أحمد سئل عن القوم يخافون أن تفوتهم الغارة فيؤخرون الصلاة حتى تطلع الشمس أو يصلون على دوابهم؟
قال: كل أرجو.
«مسائل أبي دود» ((540))
قال عباس المستملي: سئل أبو عبد الله عن الرجل يسمع النفير وتقام الصلاة؟ قال: يصلى ويخفف.
فقال له الرجل: يخفف الركوع والسجود؟
قال: لا ولكن يقرأ سورا صغارا، ويتم الركوع والسجود.
«طبقات الحنابلة» (2) / (152)
(626) – صفة صلاة الخوف
قال إسحاق بن منصور: قلت: سئل سفيان عن صلاة المغرب إذا كان خوف كيف تصلى؟ قال: ركعتين وركعة.
قال أحمد: جيد ولا يقصر. قال إسحاق: كما قال.
«مسائل الكوسج» ((373))
قال ابن هانئ: وسئل أبو عبد الله عن صلاة الهارب من العدو. فكيف يصلي؟ قال: إذا كان يخاف، قال: يصلي إيماء، ويجعل السجود أخفض من الركوع.
«مسائل ابن هانئ» ((540))
قال ابن هانئ: سمعت أبا عبد الله وسئل عن صلاة الخوف؟
قال: يصلي بهم الإمام ركعة، ثم يقوم الإمام قائما، ثم يقومون هم. فيقضون لأنفسهم ركعة أخرى وهو قائم ثم يسلمون ثم يمضون إلى أصحابهم فيصفون مكانهم، ثم يجيء الآخرون فيصلي بهم ركعة أخرى، ثم يقعد الإمام، ويقومون فيقضون هم لأنفسهم ركعة أخرى، والإمام قاعد للتشهد، فذا صلوا ركعة بعد ركعة الإمام، يجلسون بقدر التشهد، ثم يسلم الإمام عليهم، فصارت للإمام ركعتين ولهم ركعتين. إلى هذا أذهب.
«مسائل ابن هانئ» ((541))
قال ابن هانئ: وسئل عن صلاة الطالب والمطلوب؟
قال: إذا كنت الطالب، وكان موضع لا تقصر فيه الصلاة؛ نزلت فصليت أربعا، وإذا كنت أنت المطلوب فأومئ إيماء على دابتك.
«مسائل ابن هانئ» ((542))
قال ابن هانئ: سألته عن صلاة المطلوب؟
قال: يصلي على دابته يومئ، فإذا كان هو الطالب نزل فصلى.
«مسائل ابن هانئ» ((543))
قال عبد الله: سألت أبي عن الرجل يطلبه العدو، كيف يصلي؟
قال: كيفما قدر، يجعل السجود أخفض من الركوع.
قلت: إن كان هو الطالب؟
قال: ينزل يصلي.
قلت لأبي: فإن خاف أن يعود عليه إن نزل؟
قال: يصلي على ظهر الدابة لقوله: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا} [البقرة (239)].
«مسائل عبد الله» ((489))
قال عبدالله: سألت أبي عن الرجل إذا كان خائفا من الطلب وقد حضر وقت الصلاة، فنزل وتوضأ؟
قال: إن كان خائفا يؤخر إلى آخر وقت، فإن خاف أيضا إن نزل عادوا عليه، أخر وضوءه حتى يمكنه الوضوء. وقد أخر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق حتى صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ((1)).
قال أبو سعيد: ذلك قبل نزول هذه الآية: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا}.
«مسائل عبد الله» ((490))
قال عبد الله: قرأت على أبي قلت: إذا طلب العدو، كيف يصلي؟
قال: قال الأوزاعي: ما دام يطلب، فلا بأس أن يصلي على ظهر. وقال الحسن: يترك إذا كان هو الطالب.
قلت: فإن لم يكن طاهرا، وهو يجد الماء؟
قال: ينزل.
قلت: فإن كان مطلوبا؟
قال: هذا يغرر بنفسه.
قال: وإن أخر الصلاة رجوت أن لا يكون عليه شيء. وقد أخر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق حتى مضى الظهر ((2))، والعصر، والمغرب، والعشاء.
((1)) رواه الإمام أحمد (1) / (375)، والترمذي ((179)) عن عبد الله بن مسعود قال: وفي الباب عن أبي سعيد وجابر. حديث عبد الله ليس بإسناده بأس إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله.
والنسائي (2) / (17). والحديث ضعفه الألباني في «ضعيف النسائي» ((621) – (622)).
((2)) سبق تخريجه.
قال أبي: إلا أن بعض الناس يقول: هذا قبل نزول هذه الآية: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا}.
«مسائل عبد الله» ((491))
قال عبد الله: سألت أبي عن الصلاة تجوز على الدابة صبيحة المغار وهم في الطلب؟
قال: ما علمت أحدا رخص في ذلك إلا ((1)) وكأنه كرهه.
قلت لأبي: فإن خاف أن ينقطع به إن نزل إلى الصلاة، ينقطع من الخيل ويبقى وحده؟
قال: يلحق بأصحابه ولا يتخلف.
«مسائل عبد الله» ((917))
قال المروذي: قلت له: يصلي بقوم الفرض ثم يأتي بآخرين يصلي بهم على حديث معاذ؟
قال: قد كنت أذهب إليه، فقد ضعف عندي.
«تهذيب الأجوبة» ص (894)
قال الأثرم: قلت له: حديث سهل بن أبي حثمة تستعمله والعدو مستقبل القبلة وغير مستقبلها؟
قال: نعم هذا أنكى لهم؛ لأنه يصلي بطائفة ثم يذهبون، ثم يصلي بأخرى ثم يذهبون.
«الاستذكار» (7) / (70)
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: تقول بالأحاديث كلها كل حديث في موضعه، أو تختار واحدا منها؟
((1)) كذا في المطبوع ويبدو أن هناك نقص.
قال: أنا أقول: من ذهب إليها كلها فحسن، وأما حديث سهل فأنا أختاره.
«زاد المعاد» (1) / (531) – (532)، «معونة أولي النهى» (2) / (449)
ونقل أبو الحارث عنه: إذا كان طالبا وهو لا يخاف العدو، فما علمت أحدا رخص له في الصلاة على ظهر الدابة، فإن خاف إن نزل أن ينقطع من الناس، ولا يأمن العدو، فليصل على ظهر دابته ويلحق بالناس، فإنه في هذه الحال مثل المطلوب.
«فتح الباري» لابن رجب (8) / (361)
ونقل حرب عنه: كل حديث روي في صلاة الخوف فهو صحيح الإسناد وكل ما فعلت منه فهو جائز.
«فتح الباري» لابن رجب (8) / (366)
الجامع لعلوم الإمام أحمد – الفقه — أحمد بن حنبل (ت (241))
السؤال الثالث من الفتوى رقم ((3370))
س (3): كيف تكون صلاة الخوف لجماعة المقاتلين، ولمن أرسل من الجنود بمفرده ليؤدي مهمة قتالية ويخشى من العدو؟
ج (3): صلاة الخوف لها أنواع تختلف باختلاف حال المقاتلين وموقفهم من عدوهم، وقد ذكر الله منها في القرآن نوعين: الأول في سورة البقرة في قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} ((1)) {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون} ((2)) والثاني: قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة} ((3)) من سورة النساء. ووردت أحاديث صحيحة في كيفية أنواع أخرى منها. فعليك ما دمت متعلما أن تقرأ تفسير ما ذكر من الآيات، وتقرأ الأحاديث الواردة في صفة صلاةالخوف، وكلام الفقهاء في ذلك لتعرف أنواعها وكيفياتها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو … عضو … نائب رئيس اللجنة … الرئيس
عبد الله بن قعود … عبد الله بن غديان … عبد الرزاق عفيفي … عبد العزيز بن عبد الله بن باز
فتاوى اللجنة الدائمة – 1 — اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء