1176 فتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الوادعي رحمه الله في الصحيح المسند (ج2/ رقم 1176):
قال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم في «السنة» (ج (2) ص (456)): حدثنا هارون بن محمد، حدثنا أبي، عن سعيد، عن قتادة، عن نصر بن عاصم، عن أبي بكرة: عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن في أمتي قومًا يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، فإذا خرجوا فاقتلوهم، فإذا خرجوا فاقتلوهم».
حدثنا أبو بكر، ثنا وكيع، عن عثمان الشحام، حدثني مسلم بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «سيخرج من أمتي ناس ذلقة ألسنتهم بالقرآن لا يجاوز تراقيهم، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإنه يؤجر قاتلهم».
هذا حديث صحيحٌ.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
الأول: شرح الحديث:
قال صلى الله عليه وسلم: ((إن في أمتي قومًا يقرءون القرآن))، جاء في مسلم بلفظ: (قَوْمًا يقرأون القُرْآنَ) و (يتلون كتاب الله رَطْبًا)، و (يتلون كتاب الله لَيِّنًا رَطْبًا).
((لا يجاوز حناجرهم))، بالفتح: جمع حَنْجَر: رأس الغَلْصَمة حيث تراه ناتئًا من خارج الحلق [» النهاية «(1) / (449)].
وقوله صلى الله عليه وسلم (لا يُجاوِزُ حَناجِرَهُمْ) أي: حلقهم بالصعود إلى محل القبول، أو بالنزول إلى القلوب؛ ليفقهوه.
قال القاضي عياض رحمه الله: فيه تأويلان:
[أحدهما]: معناه لا تَفْقَهه قلوبهم، ولا ينتفعون بما تلوا منه، ولا لهم حظّ سوى تلاوة الفم، والحنجرةِ، والحلقِ؛ إذ بهما تقطيع الحروف.
[والثاني]: معناه لا يصعد لهم عمل، ولا تلاوة، ولا يُتَقَبَّل. انتهى [» إكمال المعلم «(3) / (609)].
وفي لفظ مسلم: (يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ رَطْبًا) قال القرطبيّ رحمه الله: فيه ثلاثة أقوال:
[أحدها]: أنه الحِذْق بالتلاوة، والمعنى أنهم يأتون به على أحسن أحواله.
[والثاني]: يواظبون على تلاوته، فلا تزال ألسنتهم رطبة به.
[والثالث]: أن يكون من حسن الصوت بالقراءة. انتهى [انظر: «المفهم» (3) / (114)].
قوله ((فإذا خرجوا فاقتلوهم، فإذا خرجوا فاقتلوهم)). هذا تصريح بوجوب قتال الخوارج.
قال في «العمدة»: وإنما كان الأجر في قتلهم؛ لأنهم يَشْغَلون عن الجهاد، ويسعون بالفساد لافتراق كلمة المسلمين. انتهى.
وفي رواية زيد بن وهب الآتية: «لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قُضِي لهم على لسان نبيهم، لَنَكَلُوا عن العمل»، وفي رواية عبيدة بن عمرو: «لولا أن تَبْطَروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال عبيدة: قلت لعليّ: أنت سمعته؟ قال: إي ورب الكعبة ثلاثًا». والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
والحديث قريب من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي أخرجه البخاري: “إذا حَدَّثْتُكُمْ عن رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حَدِيثًا، فَواللَّهِ لَأَنْ أخِرَّ مِنَ السَّماءِ، أحَبُّ إلَيَّ مِن أنْ أكْذِبَ عليه، وإذا حَدَّثْتُكُمْ فِيما بَيْنِي وبيْنَكُمْ، فإنَّ الحَرْبَ خِدْعَةٌ، وإنِّي سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: ((سَيَخْرُجُ قَوْمٌ في آخِرِ الزَّمانِ، أحْداثُ الأسْنانِ، سُفَهاءُ الأحْلامِ، يقولونَ مِن خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، لا يُجاوِزُ إيمانُهُمْ حَناجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فأيْنَما لَقِيتُمُوهُمْ فاقْتُلُوهُمْ، فإنَّ في قَتْلِهِمْ أجْرًا لِمَن قَتَلَهُمْ يَومَ القِيامَةِ”.
يَحْكي رضي الله عنه أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلَّم يَقولُ: يَاتي في آخِرِ الزَّمانِ قَوم “حُدَثاءُ الأَسْنانِ”، أي: صِغارُها، “سُفَهاء الأَحْلامِ”، أي: ضُعَفاءُ العُقولِ، يَقولونَ مِن خَيرِ قَولِ البَريَّةِ، وهو القُرآنُ، لا يُجاوِز إيمانُهم حَناجِرَهم، وهو مُنتَهى الحُلقومِ، حَيثُ تَراه بارِزًا مِن خارِجِ الحَلْقِ. يَمرُقونَ مِن الدِّينِ كَما يَمرُق السَّهمُ مِن الرَّمِيَّة إذا رَماه رامٍ قَويُّ السَّاعِدِ فَأصابَه فَنَفَذَ مِنه بِسُرعة بِحَيثُ لا يَعلَق بالسَّهمِ ولا بِشَيءِ مِنه مِن المَرميِّ شَيء، كَذَلِكَ هَؤلاءِ لَم يَتعَلَّقوا بِشَيءٍ مِن الإسلامِ، فَأَيْنَما لَقيتُموهم فاقْتُلوهم، فَإنَّ قَتلَهم أجْر لِمَن قَتَلَهم يَومَ القيامةِ؛ لِسَعيِهم في الأَرضِ بالفَسادِ. [الموسوعة الحديثية]
“وحاصل معنى الحديث أنهم يخرجون من الإسلام بغتةً كخروج السهم إذا رماه رامٍ قويُّ الساعد”. [البحر المحيط الثجاج]
فوائد أحاديث وصف الخوارج:
1 – ” (ومنها): أنَّ قِراءةَ القُرآنِ مَعَ اخْتِلالِ العَقيدةِ غَيرُ زاكيةٍ ولا حاميةٍ صاحِبَها مِن سَخَطِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ”.
2 – ” (ومنها): أنّ ملازمة قراءة القرآن لا يدلّ على صدق إيمان الشخص حتى يقوم بالعمل به كما ينبغي.
3 – (ومنها): أن فيه بيانَ صفات الخوارج التي يتميّزون بها عن المسلمين، فهم كثيرو العبادة، وعداوتهم للمسلمين أكثر من عداوة غيرهم.
وسيأتي تفصي صفاتهم في آخر البحث
4 – (ومنها): مشروعيّة قتال الخوارج، سواء قلنا: إنهم مرتدّون عن الإسلام، أو قلنا: إنهم بُغاة، خرجوا على أهل العدل”.
5 – (ومنها): دَليلٌ عَلى أنَّ قَتْلَهم فيهِ أجْر لِمَن قَتَلَهم.
7 – ” (ومنها): أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوّة، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا منه -صلى الله عليه وسلم- إخبار عن أمرٍ غيبٍ، وقع نحوَ ما أخبر عنه، فكان دليلًا من أدلّة نبوّته -صلى الله عليه وسلم-، وذلك أنهم لَمّا حَكَموا بكفر مَن خَرَجُوا عليه من المسلمين، استباحوا دماءهم، وتركوا أهل الذّمّة، وقالوا: نفي بذمّتهم، وعَدَلُوا عن قتال المشركين، واشتغلوا بقتال المسلمين عن قتال المشركين.
وهذا كلّه من آثار عبادات الجهّال الذين لم يشرح الله صدورهم بنور العلم، ولم يتمسّكوا بحبل وثيق، ولا صَحِبهم في حالهم ذلك توفيق، وكفى بذلك أن مُقَدَّمهم ردّ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره، ونَسَبَه إلى الجَوْر، ولو تبصّر لأبصر عن قرب أنه لا يُتَصَوَّر الظلم والجَوْر في حقّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما لا يُتصوّر في حقّ الله تعالى؛ إذ الموجودات كلّها ملكٌ لله تعالى، ولا يستحقّ أحد عليه حقًّا، فلا يُتصوّر في حقّه شيءٌ من ذلك، والرسول مُبلّغٌ حكمَ الله تعالى، فلا يُتصوّر في حقّه من ذلك ما لا يتصوّر في حقّ مُرْسِلِه.
ويكفيك من جهلهم، وغُلُوّهم في بدعتهم حكمُهُم بتكفير مَن شهد له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصحّة إيمانه، وبأنه من أهل الجنّة، كعليّ، وغيره، من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مع ما وقَعَ في الشريعة، وعُلم على القطع والثبات من شهادات الله، ورسوله لهم، وثنائه على عليّ، والصحابة عمومًا وخصوصًا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله [انظر: «المفهم» (3) / (114) – (115)]، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
8 – (ومنها): ما قال ابن هُبيرة: إن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين، والحكمة فيه أن في قتلهم حفظ رأس مال الإسلام، وفي قتال أهل الشرك طلب الربح، وحفظُ رأس المال أولى.
8 – (ومنها): التحذير من الغلوّ في الديانة، والتنطّع في العبادة، وقد وصَف الشارع الشريعة بأنها سهلة سمحة، وإنما ندب إلى الشدّة على الكفّار، والرأفة بالمؤمنين، فعكس ذلك الخوارج، فقتلوا المؤمنين، وتركوا الكفّار.
9 – (ومنها): أن فِيهِ الزَّجْرَ عَنْ الأخْذ بِظَواهِر جَمِيع الآيات القابِلَة لِلتَّاوِيلِ، الَّتِي يُفْضِي القَوْل بِظَواهِرِها، إلى مُخالَفَة إجْماع السَّلَف؛ لأن هؤلاء الخوارج ما خرجوا عن جادّة الإسلام إلا عن هذا الطريق.
10 – (ومنها): جواز قتال من خرج عن طاعة الإمام العادل، ونَصَبَ الحرب، فقاتل على اعتقاد فاسد.
11 – (ومنها): بيان أن من المسلمين مَن يخرج من الدِّين من غير أن يقصد الخروج منه، ومن غير أن يختار دينًا على دين الإسلام.
12 – (ومنها): أنه لا يُكتَفى في التعديل بظاهر الحال، ولو بلغ الشهود بتعديله الغاية في العبادة، والتقشّف، والورع حتى يُختَبَرَ باطن حاله.
13 – (ومنها): ما قيل: إن فيه ذَمَّ اسْتِئْصال شَعْر الرَّأس، قال الحافظ رحمه الله: وفِيهِ نَظَرٌ؛ لاحْتِمالِ أنْ يَكُون المُراد بَيان صِفَتهمْ الواقِعَة، لا لإرادَةِ ذَمّها، وتَرْجَمَ أبُو عَوانَة فِي «صَحِيحه» لِهَذِهِ الأحادِيث: «بَيان أنَّ سَبَب خُرُوج الخَوارِج، كانَ بِسَبَبِ الأثَرَة فِي القِسْمَة، مَعَ كَوْنها كانَتْ صَوابًا، فَخَفِيَ عَنْهُمْ ذَلِكَ».
14 – (ومنها): أن فيه إباحَةَ قِتال الخَوارِج بِالشُّرُوطِ المُتَقَدِّمَة، وقَتْلهمْ فِي الحَرْب، وثُبُوت الأجْر لِمَن قَتَلَهُمْ.
15 – (ومنها): ما قيل: إنّ الخَوارِج شَرّ الفِرَق المُبْتَدِعَة، مِن الأُمَّة المُحَمَّدِيَّة، ومِن اليَهُود والنَّصارى.
قال الحافظ: والأخِير مَبْنِيّ عَلى القَوْل بِتَكْفِيرِهِمْ مُطْلَقًا.
16 – (ومنها): في تكفير الخوارج، يميل الإمام البخاريّ رحمه الله في «صحيحه»، حيث قرنهم بالملحدين، وبذلك صرّح ابن العربيّ في شرح الترمذيّ، فقال: الصحيح أنهم كفّار؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «يمرقون من الإسلام»، ولقوله: «لأقتلنّهم قتل عاد»، وفي لفظ: «ثمود»، وكلّ منهما إنما هلك بالكفر، وبقوله: «هم شرّ الخلق»، ولا يوصف بذلك إلا الكفّار، ولقوله: «إنهم أبغض الخلق إلى الله تعالى».
وذهب كثير من أهل العلم إلى أن الخوارج فُسّاق، وأنهم يُجرى عليهم حكم الإسلام؛ لتلفّظهم بالشهادتين، ومواظبتهم على أركان الإسلام.
قال القرطبيّ رحمه الله في «المفهم»: والقول بتكفيرهم أظهر في الحديث، قال: وباب التكفير باب خطر، ولا نعدل بالسلامة شيئًا. انتهى.
وسيأتي تحقيق الخلاف في هذه المسألة، وبيان حجة كلّ قول، وترجيح الراجح بدليله إن شاء الله تعالى”.
17 – (ومنها): أن الحديث صريح في وجوب قتال الخوارج والبغاة، قال النوويّ – -: وهو إجماع العلماء، قال القاضي عياض -: أجمع العلماء على أن الخوارج وأشباههم من أهل البدع والبغي متى خرجوا على الإمام، وخالفوا رأي الجماعة، وشَقُّوا العصا وجب قتالهم بعد إنذارهم، والاعتذار إليهم، قال الله تعالى: {فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللَّهِ} الآية [الحجرات (9)]، لكن لا يُجَهَّز على جريحهم، ولا يُتَّبَع منهزمهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا تباح أموالهم، وما لم يخرجوا عن الطاعة، وينتصبوا للحرب لا يقاتلون، بل يوعظون، ويستتابون من بدعتهم وباطلهم، وهذا كله ما لم يُكَفَّروا ببدعتهم، فإن كانت بدعة مما يُكَفَّرون به جرت عليهم أحكام المرتدين.
وأما البغاة الذين لا يُكَفَّرون، فيرثون، ويورثون، ودمهم في حال القتال هَدَرٌ، وكذا أموالهم التي تَتْلَف في القتال، والأصح أنهم لا يُضَمَّنُون أيضًا ما أتلفوه على أهل العدل في حال القتال، من نفس، ومال، وما أتلفوه في غير حال القتال من نفس ومال ضَمِنُوه، ولا يحل الانتفاع بشيء من دوابهم وسلاحهم في حال الحرب عندنا، وعند الجمهور، وجوَّزه أبو حنيفة، والله أعلم. انتهى [«شرح النوويّ» (7) / (169) – (170)]. [البحر المحيط الثجاج، والموسوعة الحديثية]
الثاني: تتمات:
(المسألة الأولى): الأحاديث الواردة في الباب:
قال الوادعي رحمه الله في الجامع الصحيح من “1 – كتاب العلم، باب: (125) – جرح أصحاب البدع”:
(253) – قال أبو داود (ج (12) ص (358)): وذكر حديث العرباض وفيه: فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ تَمَسَّكُوا بِها وعَضُّوا عَلَيْها بِالنَّواجِذِ وإيّاكُمْ ومُحْدَثاتِ الأُمُورِ فَإنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ».
(254) – قال الإمام أحمد (ج (5) ص (253)): حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر قال سمعت أبا غالب يقول: لما أتي برءوس الأزارقة فنصبت على درج دمشق جاء أبو أمامة فلما رآهم دمعت عيناه فقال: «كلاب النار -ثلاث مرات- …. فذكره
(256) – حديث أبي بكرة
(256) – قال الإمام أحمد رحمه الله (ج (4) ص (382)): حدثنا أبو النضر، حدثنا الحشرج بن نباته العبسي كوفي، حدثني سعيد بن جمهان، قال: أتيت عبد الله بن أبي أوفى وهو محجوب البصر فسلمت عليه، قال لي: من أنت؟ فقلت: أنا سعيد بن جمهان. قال: فما فعل والدك؟ قال: قلت: قتلته الأزارقة. قال: لعن الله الأزارقة، لعن الله الأزارقة، حدثنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنهم كلاب النار. قال: قلت: الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها؟ قال: بلى، الخوارج كلها. قال: قلت: فإن السلطان يظلم الناس ويفعل بهم. قال: فتناول يدي فغمزها بيده غمزة شديدة، ثم قال: ويحك يا ابن جمهان، عليك بالسواد الأعظم، عليك بالسواد الأعظم، إن كان السلطان يسمع منك فأته في بيته فأخبره بما تعلم، فإن قبل منك وإلا فدعه، فإنك لست بأعلم منه.
هذا حديث حسنٌ.
(257) – روى الإمام الترمذي (ج (6) ص (424)): عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يقولون من قول خير البرية يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية».
هذا حديث حسن صحيح.
قال أبو عبد الرحمن: هو حديث حسنٌ.
وقد رواه ابن ماجه (ج (1) ص (59))، والإمام أحمد (ج (5) ص (319))، وزادا: «فَمَن أدْرَكَهُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ، فَإنَّ فِي قَتْلِهِمْ أجْرًا عَظِيمًا عِنْدَ اللهِ لِمَن قَتَلَهُمْ».
ولفظ الزيادة لأحمد”. انتهى المقصود.
(المسألة الثانية):
في معنى الخوارج، ومتى خرجوا؟، وبيان سبب خروجهم:
(اعلم): أن الخوارج جمع خارجة؛ أي طائفة، وهم قوم مبتدعون، سُمُّوا بذلك لخروجهم عن الدين، وخروجهم على خيار المسلمين، وأصل بدعتهم فيما حكاه الرافعيّ في «الشرح الكبير» أنهم خرجوا على علي – رضي الله عنه حيث اعتقدوا أنه يَعْرِف قَتَلَة عثمان -رضي الله عنه- ويَقْدِر عليهم، ولا يَقْتَصّ منهم لرضاه بقتله، أو مواطأته إياهم، كذا قال، وهو خلاف ما أطبق عليه أهل الأخبار، فإنه لا نزاع عندهم أن الخوارج لم يطلبوا بدم عثمان، بل كانوا ينكرون عليه أشياء، ويتبرءون منه، وأصل ذلك أن بعض أهل العراق أنكروا سِيرة بعض أقارب عثمان، فطَعَنوا على عثمان بذلك، وكان يقال لهم: القرّاء؛ لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة، إلا أنهم كانوا يتأوّلون القرآن المراد منه، ويستبدون برأيهم، ويتنطعون في الزهد والخشوع، وغير ذلك، فلما قُتِل عثمان قاتلوا مع عليّ، واعتقدوا كُفْرَ عثمان ومن تابعه، واعتقدوا إمامة عليّ وكفر من قاتله من أهل الجمل الذين كان رئيسهم طلحة والزبير، فإنهما خرجا إلى مكة بعد أن بايعا عليًا، فلقيا عائشة وكانت حجّت تلك السنة، فاتفقوا.
على طلب قَتَلَة عثمان، وخرجوا إلى البصرة يدعون الناس إلى ذلك، فبلغ عليًا، فخرج إليهم، فوقعت بينهم وقعة الجمل المشهورة، وانتصر عليٌّ، وقتل طلحة في المعركة، وقُتل الزبير بعد أن انصرف من الوقعة، فهذه الطائفة هي التي كانت تطلب بدم عثمان بالاتفاق، ثم قام معاوية بالشام في مثل ذلك، وكان أمير الشام إذ ذاك، وكان عليٌّ أرسل إليه لأن يبايع له أهل الشام، فاعتَلَّ بأن عثمان قُتل مظلومًا، وتجب المبادرة إلى الاقتصاص من قَتَلته، وأنه أقوى الناس على الطلب بذلك، ويلتمس من علي أن يُمَكِّنه منهم، ثم يبايع له بعد ذلك، وعلي يقول: ادخل فيما دخل فيه الناس، وحاكمهم إليّ أحكم فيهم بالحق، فلما طال الأمر خرج علي في أهل العراق طالبًا قتال أهل الشام، فخرج معاوية في أهل الشام قاصدًا إلى قتاله، فالتقيا بصِفِّين، فدامت الحرب بينهما أشهرًا، وكاد أهل الشام أن ينكسروا، فرفعوا المصاحف على الرماح، ونادَوْا: ندعوكم إلى كتاب الله تعالى، وكان ذلك باشارة عمرو بن العاص، وهو مع معاوية، فترك جمع كثير ممن كان مع علي، وخُصُوصًا القراءُ القتالَ بسبب ذلك تديُّنًا، واحتجوا بقوله تعالى: {ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ يُدْعَوْنَ إلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الآية [آل عمران (23)]، فراسلوا أهل الشام في ذلك، فقالوا: ابعثوا حَكَمًا منكم، وحَكَمًا مِنّا، ويحضر معهما من لم يباشر القتال، فمن رأوا الحق معه أطاعوه، فأجاب عليّ ومن معه إلى ذلك، وأنكرت ذلك تلك الطائفة التي صاروا خوارج، وكتب علي بينه وبين معاوية كتاب الحكومة بين أهل العراق والشام: هذا ما قاضى عليه أمير المؤمنين عليّ معاوية، فامتنع أهل الشام من ذلك، وقالوا: اكتبوا اسمه واسم أبيه، فأجاب علي إلى ذلك، فأنكره عليه الخوارج أيضًا، ثم انفصل الفريقان على أن يحضر الحكمان، ومن معهما بعد مدة عيّنوها في مكان وسط بين الشام والعراق، ويرجع
العسكران إلى بلادهم إلى أن يقع الحكم، فرجع معاوية إلى الشام، ورجع علي إلى الكوفة، ففارقه الخوارج، وهم ثمانية آلاف، وقيل: كانوا أكثر من عشرة آلاف، وقيل: ستة آلاف، ونزلوا مكانًا، يقال له: حَرُوراء -بفتح المهملة، وراءين الأولى مضمومة- ومن ثَمَّ قيل لهم: الحرورية، وكان كبيرهم عبد الله بن الكَوّاء -بفتح الكاف، وتشديد الواو، مع المد -اليشكريّ، وشَبَث- بفتح المعجمة، والموحدة، بعدها مثلثة- التميميّ، فأرسل إليهم عليٌّ ابنَ عباس، فناظرهم فرجع كثير منهم معه، ثم خرج إليهم عليّ فأطاعوه، ودخلوا معه الكوفة، معهم رئيساهم المذكوران، ثم أشاعوا أن عليًا تاب من الحكومة، ولذلك رجعوا معه، فبلغ ذلك عليًّا، فخطب وأنكر ذلك، فتنادوا من جوانب المسجد: لا حكم إلا لله، فقال: كلمة حق يراد بها باطل، فقال لهم: لكم علينا ثلاث، أن لا نَمنعكم من المساجد، ولا من رزقكم من الفيء، ولا نبدؤكم بقتال ما لم تُحْدِثوا فسادًا، وخرجوا شيئًا بعد شيء إلى أن اجتمعوا بالمدائن، فراسلهم في الرجوع، فأصروا على الامتناع حتى يُشْهِد على نفسه بالكفر؛ لرضاه بالتحكيم، ويتوب، ثم راسلهم أيضًا فاستعرضوا الناس، فقتلوا من اجتاز بهم من المسلمين، ومرَّ بهم عبد الله بن خباب بن الأرت، وكان واليًا لعلي على بعض تلك البلاد، ومعه سُرِّيَّة وهي حامل، فقتلوه وبَقَروا بطن سُرِّيته عن ولد، فبلغ عليًا فخرج إليهم في الجيش الذي كان هيأه للخروج إلى الشام، فأوقع بهم بالنَّهْرَوان، ولم ينج منهم إلا دون العشرة، ولا قُتل ممن معه إلا نحو العشرة، فهذا ملخص أول أمرهم.
ثم انضم إلى من بقي منهم مَن مال إلى رأيهم، فكانوا مختفين في خلافة علي، حتى كان منهم عبد الرحمن بن مُلْجِم الذي قَتَل عليًا بعد أن دخل علي في صلاة الصبح، ثم لَمّا وقع صلح الحسن ومعاوية ثارت منهم طائفة، فأوقع بهم عسكر الشام بمكان يقال له: النجيلة، ثم كانوا منقمعين في إمارة زياد وابنه عبيد الله على العراق، طول مدة معاوية وولده يزيد، وظفر زياد وابنه منهم بجماعة فأبادهم بين قتل وحبس طويل، فلما مات يزيد ووقع الافتراق، وولي الخلافة عبد الله بن الزبير، وأطاعه أهل الأمصار إلا بعض أهل الشام ثار مروان، فادَّعى الخلافة، وغلب على جميع الشام إلى مصر، فظهر الخوارج حينئذ بالعراق مع نافع بن الأزرق، وباليمامة مع نَجْدَة بن عامر، وزاد نَجْدة على مُعتَقَد الخوارج أن من لم يخرج ويحارب المسلمين فهو كافر، ولو اعتقد معتقدهم، وعَظُم البلاء بهم، وتوسعوا في معتقدهم الفاسد، فأبطلوا رجم المحصن، وقطعوا يد السارق من الإبط، وأوجبوا الصلاة على الحائض في حال حيضها، وكَفَّروا من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان قادرًا، وإن لم يكن قادرًا فقد ارتكب كبيرة، وحُكْمُ مرتكب الكبيرة عندهم حكم الكافر، وكَفُّوا عن أموال أهل الذمة، وعن التعرض لهم مطلقًا، وفَتَكُوا فيمن ينسب إلى الإسلام بالقتل والسبي والنَّهْب، فمنهم من يفعل ذلك مطلقًا بغير دعوة منهم، ومنهم من يدعو أولًا ثم يَفتِك، ولم يزل البلاء بهم يزيد إلى أن أمر المُهَلَّب بن أبي صُفْرة على قتالهم فطاولهم حتى ظفر بهم، وتقلل جمعهم، ثم لم يزل منهم بقايا في طول الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية، ودخلت طائفة منهم المغرب.
وقد صنّف في أخبارهم أبو مِخْنَف -بكسر الميم، وسكون المعجمة، وفتح النون، بعدها فاء- واسمه لوط بن يحيى كتابًا لخصه الطبري في «تاريخه»، وصنّف في أخبارهم أيضًا الهيثم بن عديّ كتابًا، ومحمد بن قدامة الجوهري أحد شيوخ البخاري خارج «الصحيح» كتابًا كبيرًا، وجَمَعَ أخبارهم أبو العباس المبرد في كتابه «الكامل» لكن بغير أسانيد بخلاف المذكورين قبله.
قال القاضي أبو بكر ابن العربي: الخوارج صنفان: أحدهما يزعم أن عثمان وعليًا وأصحاب الجَمَل وصِفِّين وكلُّ من رَضِي بالتحكيم كفار، والآخر يزعم أن كل من أتى كبيرة فهو كافر مخلد في النار أبدًا.
وقال غيره: بل المصنف الأول مُفَرَّع عن المصنف الثاني؛ لأن الحامل لهم على تكفير أولئك كونهم أذنبوا فيما فعلوه بزعمهم.
وقال ابن حزم: ذهب نَجْدة بن عامر من الخوارج إلى أن من أتى صغيرة عُذِّب بغير النار، ومن أدْمَن على صغيرة فهو كمرتكب الكبيرة في التخليد في النار، وذكر أن منهم من غلا في معتقدهم الفاسد، فأنكر الصلوات الخمس، وقال: الواجب صلاة بالغداة، وصلاة بالعشي، ومنهم من جوّز نكاح بنت الابن، وبنت الأخ والأخت، ومنهم من أنكر أن تكون «سورة يوسف» من القرآن، وأن من قال: لا إله إلا الله فهو مؤمن عند الله ولو اعتقد الكفر بقلبه.
وقال أبو منصور البغدادي في «المقالات»: عِدَّة فِرَق الخوارج عشرون فرقة.
وقال ابن حزم: أسوؤهم حالًا الغلاة المذكورون، وأقربهم إلى قول أهل الحق الإباضية، منهم بقية بالمغرب.
وقد وردت بما ذُكِر من أصل حال الخوارج أخبار جياد، منها ما أخرجه عبد الرزاق، عن معمر، وأخرجه الطبري من طريق يونس كلاهما عن الزهري، قال: لَمّا نشر أهل الشام المصاحف بمشورة عمرو بن العاص، حين كاد أهل العراق أن يغلبوهم، هاب أهل الشام ذلك إلى أن آل الأمر إلى التحكيم، ورجع كل إلى بلده إلى أن اجتمع الحكمان في العام المقبل بدُومَة الجندل، وافترقا عن غير شيء، فلمّا رجعوا خالفت الحرورية عليًا، وقالوا: لا حكم إلا لله.
وأخرج ابن أبي شيبة من طريق أبي رَزِين قال: لَمّا وقع الرضا بالتحكيم، ورجع علي إلى الكوفة اعتزلت الخوارج بحروراء، فبعث لهم عبدَ الله بنَ عباس فناظرهم، فلما رجعوا جاء رجل إلى علي، فقال: إنهم يتحدثون أنك أقررت لهم بالكفر؛ لرضاك بالتحكيم، فخطب وأنكر ذلك، فتنادوا من جوانب المسجد: لا حكم إلا لله.
ومن وجه آخر أن رءوسهم حينئذ الذين اجتمعوا بالنهروان: عبدُ الله بن وهب الراسي، وزيد بن حِصْن الطائي، وحُرْقُوص بن زهير السعدي، فاتفقوا على تأمير عبد الله بن وهب، ذكر هذا كلّه في «الفتح» [«الفتح» (12) / (354) – (357) «كتاب استتابة المرتدين» رقم الحديث ((6930) – (6932))]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
فرع:
“وأما صفة قتالهم وقتلهم، فوقعت عند مسلم في رواية زيد بن وهب الجهنيّ الآتية: «أنه كان في الجيش الذين كانوا مع عليّ حين ساروا إلى الخوارج، فقال عليّ بعد أن حدّث بصفتهم، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس، قال: فلما التقينا وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب الراسبيّ، فقال لهم: ألقوا الرِّماح، وسُلُّوا سيوفكم من جفونها، فأني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء، قال: فشجرهم الناس برماحهم، قال: فقُتل بعضهم على بعض، وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان».
وأخرج يعقوب بن سفيان، من طريق عمران بن جرير، عن أبي مِجْلَز قال: كان أهل النهر أربعة آلاف، فقتلهم المسلمون، ولم يُقْتَل من المسلمين سوى تسعة، فإن شئت فاذهب إلى أبي برزة، فاسأله، فإنه شهد ذلك.
وأخرج إسحاق ابن راهويه في «مسنده» من طريق حبيب بن أبي ثابت، قال: أتيت أبا وائل، فقلت: أخبرني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم عليّ، فيم فارقوه؟، وفيم استحلّ قتالهم؟ قال: لَمّا كنا بصِفِّين استحرّ القتلُ في أهل الشام، فرفعوا المصاحف، فذكر قصة التحكيم، فقال الخوارج ما قالوا، ونزلوا حَرُوراء، فأرسل إليهم عليّ، فرجعوا، ثم قالوا: نكون في ناحيته، فإن قبل القضية قاتلناه، وإن نقضها قاتلنا معه، ثم افترقت منهم فرقة، يقتلون الناس، فحَدَّث عليّ عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بأمرهم.
وعند أحمد، والطبرانيّ والحاكم، من طريق عبد الله بن شداد، أنه دخل على عائشة مرجعه من العراق، ليالي قتل عليّ، فقالت له عائشة: تُحَدِّثني بأمر هؤلاء القوم الذين قتلهم عليّ، قال: إن عليا لَمّا كاتب معاوية، وحَكَّما الحكمين، خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس، فنزلوا بأرض، يقال لها حَرُوراء، من جانب الكوفة، وعَتَبُوا عليه، فقالوا: انسلختَ من قميص ألبسكه الله، ومن اسم سماك الله به، ثم حَكمت الرجال في دين الله، ولا حكم إلا لله، فبلغ ذلك عليًّا، فجمع الناس، فدعا بمصحف عظيم، فجعل يضربه بيده، ويقول: أيها المصحف حَدِّث الناس، فقالوا: ماذا إنسان؟ إنما هو مداد وورق، ونحن نتكلم بما روينا منه، فقال: كتاب الله بيني وبين هؤلاء، يقول الله في امرأة رجل: {وإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما} الآية [النساء (35)]، وأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أعظم من امرأة رجل، ونَقَمُوا عليّ أن كاتبتُ معاوية، وقد كاتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سهيل بن عمرو، {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب (21)]، ثم بعث إليهم ابن عباس -رضي الله عنهما-، فناظرهم، فرجع منهم أربعة آلاف، فيهم عبد الله بن الكواء، فبعث عليّ إلى الآخرين أن يرجعوا، فأبَوْا، فأرسل إليهم: كونوا حيث شئتم، وبيننا وبينكم أن لا تَسفكوا دمًا حرامًا، ولا تقطعوا سبيلًا، ولا تظلموا أحدًا، فإن فعلتم نبذت إليكم الحرب، قال عبد الله بن شداد: فوالله ما قتلهم حتى قطعوا السبيل، وسفكوا الدم الحرام … الحديث.
وأخرج النسائيّ في «الخصائص» صفة مناظرة ابن عباس لهم بطولها [في “ذكر مناظرة عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- الحرورية، واحتجاجه فيما أنكروه على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب – رضي الله عنهم-.]. وهي في الصحيح المسند
وفي «الأوسط» للطبراني من طريق أبي السائغة، عن جندب بن عبد الله البجليّ قال: لما فارقت الخوارج عليًّا خرج في طلبهم، فانتهينا إلى عسكرهم، فإذا لهم دَوِيّ كدويّ النحل من قراءة القرآن، وإذا فيهم أصحاب البرانس؛ أي الذين كانوا معروفين بالزهد والعبادة، قال: فدخلني من ذلك شدّة، فنزلت عن فرسي، وقمت أُصلي، فقلت: اللهم إن كان في قتال هؤلاء القوم لك طاعة، فائذن لي فيه، فمَرّ بي عليٌّ، فقال لما حاذاني: تعوّذ بالله من الشكّ يا جندب، فلما جئته أقبل رجل على بِرْذَون يقول: إن كان لك بالقوم حاجة، فإنهم قد قطعوا النهر، قال: ما قطعوه، ثم جاء آخر كذلك، ثم جاء آخر كذلك، قال: لا، ما قطعوه، ولا يقطعونه، ولَيُقْتَلُنّ من دونه، عهدُ من الله ورسوله، قلت: الله أكبر، ثم ركبنا، فسايرته، فقال لي: سأبعث إليهم رجلًا يقرأ المصحف، يدعوهم إلى كتاب الله، وسنة نبيهم، فلا يُقبِل علينا بوجهه حتى يَرشقوه بالنبل، ولا يُقْتَل منا عشرة، ولا ينجو منهم عشرة، قال: فانتهينا إلى القوم، فارسل إليهم رجلًا، فرماه إنسان، فأقبل علينا بوجهه، فقعد، وقال عليّ: دونكم القوم، فما قُتِل منا عشرة، ولا نجا منهم عشرة.
وأخرج يعقوب بن سفيان بسند صحيح، عن حميد بن هلال، قال: حدّثنا رجل من عبد القيس، قال: لحقت بأهل النهر، فإني مع طائفة منهم أسير؛ إذ أتينا على قرية، بيننا نهر، فخرج رجل من القرية مُرَوَّعًا، فقالوا له: لا رَوْع عليك، وقطعوا إليه النهر، فقالوا له: أنت ابن خَبّاب صاحب النبيّ -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم، قالوا: فحَدِّثنا عن أبيك، فحَدَّثهم بحديث: «يكون فتنة، فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فكن»، قال: فقدَّموه فضربوا عنقه، ثم دَعَوا سُرّيّته، وهي حبلى، فبقروا عما في بطنها.
ولابن أبي شيبة، من طريق أبي مِجْلَز لاحق بن حميد، قال: قال علي لأصحابه: لا تبدءوهم بقتال حتى يحدثوا حَدَثًا، قال: فمز بهم عبد الله بن خَبّاب، فذكر قصة قتلهم له، وبجاريته، وأنهم بَقَروا بطنها، وكانوا مَرّوا على ساقته، فأخذ واحد منهم تمرة، فوضعها في فيه، فقالوا له: تمرة معاهد، فيم استحللتها؟ فقال لهم عبد الله بن خباب: أنا أعظم حرمة من هذه التمرة، فأخذوه، فذبحوه، فبلغ عليًّا، فأرسل إليهم: أقيدونا بقاتل عبد الله بن خباب، فقالوا: كلنا قتله، فأذِنَ حينئذ في قتالهم.
وعند الطبري من طريق أبي مريم قال: أخبرني أخي أبو عبد الله، أن عليًّا سار إليهم، حتى إذا كان حذاءهم على شط النهروان، أرسل يناشدهم، فلم تزل رسله تختلف إليهم، حتى قتلوا رسوله، فلما رأى ذلك نهض إليهم، فقاتلهم حتى فرغ منهم كلِّهم [«الفتح» (16) / (185) – (187) كتاب «استتابة المرتدّين» رقم ((6933))].
(المسألة الثالثة):
في اختلاف أهل العلم في تكفير الخوارج:
قال النوويّ رحمه الله: قوله -صلى الله عليه وسلم-: «يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية»، وفي الرواية الأخرى: «يمرقون من الإسلام»، وفي الرواية الأخرى: «يمرقون من الدين»، قال القاضي عياض: معناه يخرجون منه خروج السهم إذا نَفَذ الصيد من جهة أخرى، ولم يتعلق به شيء منه.
قال: والدين هنا هو الإسلام، كما قال تعالى: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ} [آل عمران (19)]، وقال الخطابيّ: هو هنا الطاعة؛ أي من طاعة الإمام.
وقال النوويّ رحمه الله: وفِي هَذِهِ الأحادِيث دَلِيل لِمَن يُكَفِّرُ الخَوارِجَ، قالَ القاضِي عِياض: قالَ المازِرِيّ: اخْتَلَفَ العُلَماء فِي تَكْفِير الخَوارِجِ، قالَ: وقَدْ كادَتْ هَذِهِ المَسْألَة تَكُون أشَدّ إشْكالًا مِن سائِر المَسائِل، ولَقَدْ رَأيْت أبا المَعالِي، وقَدْ رَغِبَ إلَيْهِ الفَقِيه عَبْد الحَقّ رَحِمَهُما الله تَعالى فِي الكَلام عَلَيْها، فَرَهبَ لَهُ مِن ذَلِكَ، واعْتَذَرَ بِأنَّ الغَلَط فِيها يَصْعُبُ مَوْقِعُهُ؛ لأنَّ إدْخال كافِر فِي المِلَّة، وإخْراج مُسْلِم مِنها عَظِيم فِي الدِّين، وقَدْ اضْطَرَبَ فِيها قَوْل القاضِي أبِي بَكْر الباقِلّانِيّ، وناهِيك بِهِ فِي عِلْم الأُصُول، وأشارَ ابْن الباقِلّانِيّ إلى أنَّها مِن المُعَوِّصات؛ لأنَّ القَوْم لَمْ يُصَرِّحُوا بِالكُفْرِ، وإنَّما قالُوا أقْوالًا تُؤَدِّي إلَيْهِ، وأنا أكْشِف لَك نُكْتَة الخِلاف، وسَبَب الإشْكال، وذَلِكَ أنَّ المُعْتَزِلِيَّ مَثَلًا يَقُول: إنَّ الله تَعالى عالِم، ولَكِنْ لا عِلْمَ لَهُ، وحَيٌّ ولا حَياةَ لَهُ، يُوقِع الالتِباس فِي تَكْفِيره؛ لأنّا عَلِمْنا مِن دَيْن الأُمَّة ضَرُورَةً، أنَّ مَن قالَ: إنَّ الله تَعالى لَيْسَ بِحَيٍّ، ولا عالِم كانَ كافِرًا، وقامَتْ الحُجَّة عَلى اسْتِحالَة كَوْن العالَم، لا عِلْم لَهُ، فَهَلْ نَقُول: إنَّ المُعْتَزِلِيَّ، إذا نَفى العِلْم، نَفى أنْ يَكُون الله تَعالى عالِمًا، وذَلِكَ كُفْر بِالإجْماعِ، ولا يَنْفَعُهُ اعْتِرافُهُ بِأنَّهُ عالِم، مَعَ نَفْيِهِ أصْل العِلْم، أوْ نَقُول: قَدْ اعْتَرَفَ بِأنَّ الله تَعالى عالِم، وإنْكاره العِلْم لا يُكَفِّرهُ، وإنْ كانَ يُؤَدِّي إلى أنَّهُ لَيْسَ بِعالِم، فَهَذا مَوْضِع الإشْكال. هَذا كَلام المازِرِيّ.
ومَذْهَب الشّافِعِيّ، وجَماهِير أصْحابه العُلَماء، أنَّ الخَوارج لا يَكْفُرُونَ، وكَذَلِكَ القَدَرِيَّة، وجَماهِير المُعْتَزِلَة، وسائِر أهْل الأهْواء. قالَ الشَّافِعِيّ رحمه الله تَعالى: أقْبَلُ شَهادَة أهْل الأهْواء إلا الخَطّابِيَّة، وهُمْ طائِفَة مِنَ الرّافِضَة، يَشْهَدُونَ لِمُوافِقِيهِمْ فِي المَذْهَب بِمُجَرَّدِ قَوْلهمْ، فَرَدَّ شَهادَتَهُمْ لِهَذا، لا لِبِدْعَتِهِمْ. انتهى كلام النوويّ رحمه الله [«شرح مسلم» (7) / (160) «كتاب الزكاة»].
وقال في «الفتح»: استُدِلّ بحديث أبي سعيد -رضي الله عنه- هذا لمن قال بتكفير الخوارج، وهو مقتضى صنيع البخاريّ، حيث قَرَنهم بالملحدين، وأفرد عنهم المتاولين بترجمة، وبذلك صَرّح القاضي أبو بكر ابن العربي في «شرح الترمذي»، فقال: الصحيح أنهم كُفّار؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «يَمْرُقون من الإسلام»، ولقوله: «لأقتُلَنَّهم قتل عاد»، وفي لفظ: «ثمود» وكل منهما إنما هلك بالكفر، وبقوله: «هم شر الخلق»، ولا يوصف بذلك إلا الكفار، ولقوله: «إنهم أبغض الخلق إلى الله تعالى»، ولحكمهم على كل من خالف مُعتَقَدَهم بالكفر، والتخليدِ في النار، فكانوا هم أحقَّ بالاسم منهم.
وممن جنح إلى ذلك من أئمة المتأخرين الشيخ تقي الدين السبكي، فقال في «فتاويه»: احتَجَّ من كَفَّر الخوارج، وغُلاة الروافض بتكفيرهم أعلامَ الصحابة؛ لتضمنه تكذيب النبي -صلى الله عليه وسلم- في شهادته لهم بالجنة، قال: وهو عندي احتجاجٌ صحيحٌ، قال: واحتَجَّ من لم يكفرهم بأن الحكم بتكفيرهم يَستَدْعِي تقدُّم علمهم بالشهادة المذكورة علمًا قطعيًّا، وفيه نظر؛ لأنا نعلم تزكية من كفَروه علمًا قطعيًا إلى حين موته، وذلك كاف في اعتقادنا تكفير من كفَّرهم، ويؤيده حديث: «مَن قال لأخيه كافر، فقد باء به أحدهما»، وفي لفظ مسلم: «مَن رَمى مسلمًا بالكفر، أو قال: عدو الله إلا حاد عليه»، قال: وهؤلاء قد تحقق منهم أنهم يرمون جماعة بالكفر، ممن حصل عندنا القطع بإيمانهم، فيجب أن يُحكَم بكفرهم بمقتضى خبر الشارع، وهو نحو ما قالوه فيمن سَجَدَ للصنم ونحوه، ممن لا تصريح بالجحود فيه بعد أن فَسَّروا الكفر بالجحود، فإن احتجوا بقيام الإجماع على تكفير فاعل ذلك، قلنا: وهذه الأخبار الواردة في حق هؤلاء تقتضي كفرهم، ولو لم يعتقدوا تزكية من كَفَروه علمًا قطعيًّا، ولا يُنجيهم اعتقاد الإسلام إجمالًا، والعملُ بالواجبات عن الحكم بكفرهم، كما لا يُنجي الساجد للصنم ذلك.
وممن جَنَحَ إلى بعض هذا المحبّ الطبري في «تهذيبه»، فقال بعد أن سرد أحاديث الباب: فيه الرذُ على قول من قال: لا يَخرُج أحد من الإسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إلا بقصد الخروج منه عالمًا فإنه مبطل؛ لقوله في الحديث: «يقولون الحقّ، ويقرءون القرآن، ويمرُقون من الإسلام، ولا يتعلقون منه بشيء»، ومن المعلوم أنهم لم يرتكبوا استحلالَ دماء المسلمين وأموالهم إلا بخطإ منهم فيما تأولوه من آي القرآن المرادَ منه، ثم أخرج بسند صحيح عن ابن عباس، وذَكَرَ عنده الخوارج، وما يَلْقَون عند قراءة القرآن، فقال: يؤمنون بمحكمه، ويهْلِكون عند متشابهه.
ويؤيد القول المذكور الأمرُ بقتلهم مع ما تقدم من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-: «لا يحل قتل امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث»، وفيه: «التارك لدينه المفارقُ للجماعة».
قال القرطبي في «المفهم»: يؤيد القول بتكفيرهم التمثيل المذكور في حديث أبي سعيد -رضي الله عنه -يعني الآتي بعد حديث، فإن ظاهر مقصوده أنهم خَرَجُوا من الإسلام، ولم يتعلقوا منه بشيء، كما خرج السهم من الرَّمِيَّة؛ لسرعته، وقُوَّة راميه، بحيث لم يتعلق من الرَّمِيَّة بشيء، وقد أشار إلى ذلك بقوله: «سَبَقَ الفَرْثَ والدمَ».
وقال صاحب «الشفاء» فيه: وكذا نقطع بكفر كُلِّ من قال قولًا يتوصل به إلى تضليل الأمة، أو تكفير الصحابة، وحكاه صاحب «الروضة» في «كتاب الردة» عنه، وأقرّه. وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فُسّاق، وأن حكم الإسلام يجري عليهم؛ لتلفظهم بالشهادتين، ومواظبتهم على أركان الإسلام، وإنما فَسَقُوا بتكفيرهم المسلمين، مُستندين إلى تأويل فاسد، وجَرَّهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم، وأموالهم، والشهادة عليهم بالكفر والشرك.
وقال الخطابي: أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم فرقة من فِرَق المسلمين، وأجازوا مناكحتهم، وأكل ذبائحهم، وأنهم لا يُكَفَّرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام.
وقال الغزالي في «كتاب التفرقة بين الإيمان والزندقة»: والذي ينبغي الاحترازُ عن التكفير ما وجَدَ إليه سبيلًا، فإن استباحة دماء المصلين المقرين بالتوحيد خطا، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد.
ومما احتج به من لم يُكَفِّرهم قوله في حديث أبي سعيد أيضًا بعد وصفهم بالمروق من الدين كمروق السهم: «فينظر الرامي إلى سهمه … » إلى أن قال: «فيتمارى في الفُوقة هل عَلِقَ بها شيء».
قال ابن بطال: ذهب جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين عن جملة المسلمين؛ لقوله: «يتمارى في الفُوق»؛ لأن التماري من الشك، وإذا وقع الشك في ذلك لم يُقطَع عليهم بالخروج من الإسلام؛ لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين، لم يَخرُج منه إلا بيقين، قال: وقد سئل علي -رضي الله عنه- عن أهل النَّهْرِ، هل كفروا؟ فقال: مِنَ الكفر فَرُّوا.
قال الحافظ: وهذا إن ثبت عن علي -رض الله عنه- حُمِل على أنه لم يكن يتحقق على معتقدهم الذي أوجب تكفيرهم عند من كَفَّرهم، وفي احتجاجه بقوله: «يتمارى في الفوق» نظر؛ فإن في بعض طرق الحديث المذكور: «لم يَعلَق منه بشيء»، وفي بعضها: «سبق الفرث والدم».
وطريق الجمع بينهما أنه تردد هل في الفوق شيء أو لا؟ ثم تحقق أثه لم يَعلَق بالسهم ولا بشيء منه من الرمي بشيء.
ويمكن أن يُحمَل الاختلاف فيه على اختلاف أشخاص منهم، ويكون في قوله: «يتمارى» إشارة إلى أن بعضهم قد يبقى معه من الإسلام شيء.
قال القرطبي في «المفهم»: والقول بتكفيرهم أظهر في الحديث، قال: فعلى القول بتكفيرهم يُقاتَلون، ويُقتلون، وتُسبى أموالهم، وهو قول طائفة من أهل الحديث في أموال الخوارج، وعلى القول بعدم تكفيرهم يُسلَك بهم مسلك أهل البغي إذا شَقُّوا العصا، ونَصَبُوا الحرب، فأما من استسرّ منهم ببدعة، فإذا ظهر عليه هل يُقتَل بعد الاستتابة، أو لا يُقتَل بل يُجتَهد في رد بدعته، اختُلِف فيه بحسب الاختلاف في تكفيرهم، قال: وباب التكفير باب خطر، ولا نَعْدِل بالسلامة شيئًا. انتهى.
قال الأتيوبي رحمه الله: لا يخفى رُجحان قول من قال بتكفير الخوارج؛ لقوّة أدلّته، ووُضوحها، لكن السلامة لا يعادلها شيءٌ -كما قال القرطبيّ – فالتوقّف في مثل هذا أولى للحريص على دينه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. [البحر المحيط]
———-
(المسألة الرابعة): معنى قول الله تعالى: {ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللَّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأمْرِ مِنكُمْ} [النساء (59)]
حقيقة الطاعة: امتثال الأمر، كما أن المعصية ضدّها، وهي مخالفة الأمر، والطاعة مأخوذة من أطاع: إذا انقاد، والمعصية مأخوذة من عَصى: إذا اشتد، «وأولو» واحدهم «ذُو» على غير قياس، كالنساء، والإبل، والخيل، كلُّ واحد اسم جمع، ولا واحد له من لفظه، وقد قيل في واحد الخيل: خائل، قاله القرطبيّ المفسّر – رحمه الله -[«الجامع لأحكام القرآن» (5) / (261)].
[تنبيه]: قال في «الفتح»: والنكتة في إعادة العامل في الرسول، دون أولي الأمر، مع أن المطاع في الحقيقة هو الله تعالى، كون الذي يُعرَف به ما يقع به التكليف هما القرآن والسُّنَّة، فكأن التقدير: أطيعوا الله فيما نَصَّ عليكم في القرآن، وأطيعوا الرسول فيما بَيَّن لكم من القرآن، وما ينصه عليكم من السُّنَّة، أو المعنى: أطيعوا الله فيما يأمركم به من الوحي المتعبَّد بتلاوته، وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به من الوحي الذي ليس بقرآن، ومن بديع الجواب قول بعض التابعين لبعض الأمراء من بني أمية لَمّا قال له: أليس الله أمركم أن تطيعونا في قوله: {وأُولِي الأمْرِ مِنكُمْ} فقال له: أليس قد نُزِعَت عنكم – يعني: الطاعة – إذا خالفتم الحقّ بقوله: {فَإنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ والرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآية [النساء (59)].
وقال الطيبيّ -: قوله: {وأطِيعُوا الرَّسُولَ} عطفٌ على {أطِيعُوا اللَّهَ}، وكرّر الفعل في قوله: {وأطِيعُوا الرَّسُولَ} إشارة إلى استقلال الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالطاعة، ولم يُعِدْه في قوله: {وأُولِي الأمْرِ مِنكُمْ} إشارةً إلى عدم استقلالهم بالطاعة، بل إنما يطاعون إذا أطاعوا الله تعالى، ورسوله – صلى الله عليه وسلم -، فطاعتهم تابعة لطاعتهما، كما أوضح ذلك بعده بقوله: {فَإنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ والرَّسُولِ} كأنه قيل: إذا لَمْ يكن أولو الأمر مستقيمين، وشاهدتم منهم خلاف الحقّ، فردّوه إلى الحقّ، وهو الكتاب والسُّنّة، ولا يأخذكم في الله لومة لائم. انتهى بتصرّف [راجع: «الكاشف عن حقائق السنن» (8) / (2576)].
المسألة الخامسة: شبهة ان الحسين بن علي رضي الله عنهما من الخوارج:
شيخ الإسلام: ….. وقاتِلُ عُثْمانَ أعْظَمُ إثْمًا مِن قاتِلِ الحُسَيْنِ. فَهَذا الغُلُوُّ الزّائِدُ يُقابَلُ بِغُلُوِّ النّاصِبَةِ
الذين يزعمون أن الحسين كان خارجيا وأنه كان يجوز قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم من أتاكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان رواه مسلم:
وأهل السنة والجماعة يردون غلو هؤلاء وهؤلاء ويقولون إن الحسين قتل مظلوما شهيدا وإن الذين قتلوه كانوا ظالمين معتدين وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي يأمر فيها بقتال المفارق للجماعة لم تتناوله فإنه لم يفرق الجماعة ولم يقتل إلا وهو طالب للرجوع إلى بلده أو إلى الثغر إو إلى يزيد داخلا في الجماعة معرضا عن تفريق الأمة ولو كان طالب ذلك أقل الناس لوجب إجابته إلى ذلك فكيف لا تجب إجابة الحسين إلى ذلك ولو كان الطالب لهذه الأمور من هو دون الحسين لم يجز حبسه ولا إمساكه فضلا عن أسره وقتله وكذلك قول اشتد غضب الله وغضبي على من أراق دم أهلي واذاني في عترتي كلام لا ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينسبه إليه إلا جاهل فإن العاصم لدم الحسن والحسين وغيرهما من الإيمان والتقوى أعظم من مجرد القرابة ولو كان الرجل من أهل البيت النبي صلى الله عليه وسلم وأتى بما يبيح قتله أو قطعه كان ذلك جائزا بإجماع المسلمين (منهاج السنة (4) / (585) و (586))
المسألة السادسة:
الخوارج موجودون في كل عصر:
وأن هذه البدعة مستمرة إلى قيام الساعة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن استمرار وجودهم،
جاء عند أحمد بسند جيد من حديث أنس: هم شر الخلق والخليقة طوب لمن قتلهم وقتلوه، فمن قتلوه يكون شهيداً عند الله، ومن قتلهم يكون له أجر قتل هذه المارقة الخبيثة التي تخرج في المسلمين [رواه أحمد: 13362، وحسنه الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة: 906].
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: “وهؤلاء الخوارج ليسوا ذلك المعسكر المخصوص المعروف بالتاريخ بل يخرجون إلى زمن الدجال بل يخرجون إلى زمن الدجال”. [مجموع الفتاوى: 28/ 496].
وقوله في الحديث: يأتي في آخر الزمان قوم [رواه البخاري: 5057]، هل المقصود آخر الزمان يعني زمن الأمة؟ لأن الحديث فيه أن فيهم آية وقد عرفها علي رضي الله عنه وظهرت.
فقال بعض العلماء: إن المقصود بقول: آخر الزمان عن هؤلاء الخوارج المخصوصين وليسوا الخوارج العام
يعني آخر زمن الصحابة، يعني الخلاف الراشدة.
المسألة السابعة:
وقوله: الخلق والخليقةالخلق: البشر. والخليقة: البهائم، وقيل: هم هما بمعنى واحد، ويراد بهم جميع الخلائق يعني هم شر من الدواب.
قال ابن حجر: “وفيه أن الخوارج شر الفرق المبتدعة من الأمة المحمدية”. [فتح الباري: 12/ 302].
وضررهم بين على المسلمين؛ لأنهم يشغلون أهل الإسلام عن قتال أهل الشرك، ولأنهم يفرقون أهل الإسلام، ولأنهم يعيثون في دماء الأمة فساداً، ولأنهم يستبيحون أموالها، ويستبيحون دمائها، وفسادهم عظيم، وشرهم مستطير للغاية، وهم ينتسبون إلى الإسلام وكلامهم وخطبهم وتصريحاتهم بالآيات والأحاديث.
قال علي رضي اللَّه عنه لمن معه من الجيش: “فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم، والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم -يعني الذين حدث عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس، فسيروا على اسم الله”.
طبعاً السرح البهائم التي تذهب في الصباح مع الرعاة، فهؤلاء يغيرون على ممتلكات الناس وأموال الناس وغنم الناس وإبلهم.
المسألة الثامنة:
صفات الخوارج
ما هي صفات هؤلاء الخوارج؟
قال ابن كثير رحمه الله: “يعني أنهم هذا صنف غريب من بني آدم ما لهم نظير ما لهم نظير” [البداية والنهاية: 7/ 285 – 290].
الصفة الأولى: أنهم مجتهدون جداً في العبادة:
قال شيخ الإسلام: “ولهذا يحتاج المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه في الدين، وإلا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه كما فعله الكفار وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم” فتاوى شيخ الإسلام [مجموع الفتاوى: 20/ 142].
الصفة الثانية: الفهم الخاطئ للقرآن: فهم يكثرون قراءة القرآن دون فقه ولا علم، بل يضعون آياته في غير موضعها، ولذلك جاء وصفهم في الأحاديث الصحيحة: يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم [رواه مسلم: 1066].
يحسبون أنه لهم وهم عليهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم.
ولذلك لما اعترضواعلى علي وكفروه كفروه بآية: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام: 57]،
قال الإمام النووي رحمه الله: “معناه ليس حظهم من القرآن إلا مروره على اللسان، فلا يجاوز تراقيهم ليصل قلوبهم، وليس ذلك هو المطلوب بل المطلوب تعلقه، وتدبره بوقوعه في القلب”. [شرح صحيح مسلم: 15/ 209].
قال شيخ الإسلام: “وكانت البدع الأولى مثل بدعة الخوارج إنما هي من سوء فهم القرآن لم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه”. [مجموع الفتاوى: 13/ 30] انتهى.
قال ابن حجر رحمه الله: “كان يقال لهم: القراء لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة إلا أنهم كانوا يتأولون القرآن على غير المراد منه، ويستبدون برأيهم، ويتنطعون في الزهد والخشوع، وغير ذلك”. [فتح الباري: 12/ 283] انتهى.
قال ابن عمر رضي الله عنهما”انطلقوا إلى آيات في الكفار فجعلوها على المسلمين”، هذه واحدة من أهم صفاتهم.
هم يحتجون بالقرآن لكن يأتون إلى آيات في الكفار فيجعلونها على المسلمين، قال فجعلوها على المؤمنين” رواه البخاري تعليقاً. [البخاري: 6/ 2539].
الصفة الثالثة: حدثاء الأسنان: حدثاء الأسنان، يعني في مجملهم صغار في السن.
قال الحافظ رحمه الله: “والحدث هو صغير السن قال في المطالع: معناه شباب”. [فتح الباري: 12/ 287].
قال ابن الأثير: “حداثة السن كناية عن الشباب وأول العمر”. [النهاية في غريب الأثر: 1/ 320].
فعامة الخوارج أكثرهم من هذا الصنف صغار شباب صغار؛ لأنهم يمكن أن يستغفلوا ويسيروا، وفيهم استعجال وحماس، وقلة علم، وهذه الصفات مهمة جداً لقادة الخوارج كي يستميلوا هؤلاء.
وابن عباس رضي الله عنهما ناقشهم ذمهم في هذه، فقال لهم: “أتيتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار، ومن عند ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وصهره، يعني علي وعليهم نزل القرآن، يعني على المهاجرين والأنصار، وعلى علي وعلى أمثاله، وهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحد.
ما فيكم لا مهاجري ولا أنصاري، ولا من أهل ما قبل الفتح، ولا من أهل الفتح ما أنتم؟ متى طلعتم؟ ما هو مبلغكم من العلم؟ من أئمتكم؟ من علمائكم؟ “. [مصنف عبد الرزاق: 18678].
الدليل على غرورهم واغترارهم بأنفسهم حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن فيكم قوم يعبدون ويدأبون حتى يعجب بهم الناس، وتعجبهم نفوسهم وهذا الدليل على أنهم يغترون بأنفسهم- قال: يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية رواه أحمد بسند صحيح [أحمد: 12909، وصححه محققو المسند].
الصفة الرابعة في الأحاديث: أنهم سفهاء الأحلام: سفهاء الأحلام ضعاف العقول، قاصروا النظر، عديمو الإدراك.
قال النووي: “صغار العقول”. [شرح صحيح مسلم: 13/ 185].
قال الحافظ ابن حجر [فتح الباري: 6/ 619]، والسندي [حاشية السندي على النسائي: 7/ 119]، والسيوطي [الديباج للسيوطي: 4/ 44]: “ضعاف العقول”.
وقال ابن الأثير في سفهاء الأحلام: “الأحلام الألباب والعقول. والسفه: الخفة والطيش” [النهاية في غريب الأثر:2/ 272].
وقال النووي: “يستفاد منه أن التثبت وقوة البصيرة تكون عند كمال السن، وكثرة التجارب، وقوة العقل” [تحفة الأحوذي:11/ 403].
فالخوارج جمعوا بين حداثة السن، وسفاهة العقل، فإذا اجتمع إلى ذلك قلة العلم ماذا ستكون النتيجة؟
الصفة الخامسة: أن كلامهم منمق: كلامهم جميل؛ لأنه قال في الحديث: يقولون من قول خير البرية [رواه البخاري: 3415].
وقال: يتكلمون بكلمة الحق [سنن النسائي الكبرى: 8566]، يعني في كلامهم حق، وفي لفظ: يحسنون القيل، ويسيئون الفعل [أبو داود: 4767، وصححه الألباني صحيح الجامع الصغير: 3668].
قال السندي -رحمه الله-: “يتكلمون ببعض الأقوال التي هي من خيار أقوال الناس”. [حاشية السندي على النسائي: 7/ 100].
الصفة السادسة والمهمة لهؤلاء الكاشفة لهم وهي من أميز الصفات التي تبينهم: التكفير واستباحة دماء المسلمين: طبعاً التكفير فيه حق حتى يعني، بعض الناس يقول: ما نبغى تكفير أبداً هذا ضال؛ لأن الله كفر في كتابه قال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة: 73].
ففي كفر في تكفير بحق لكن نتكلم الآن عن التكفير بالباطل أن هؤلاء يكفرون بالباطل، وبناء على ذلك يستبيحون الدم.
فجاء في صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن ذي الخويصرة -أبوهم-: إن من ضئضئ هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان [رواه البخاري: 3166، ومسلم: 1064].
وقال عنهم علي: “فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس”.
وهذا من أعظم ما ذم به النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قوله فيهم: يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان.
قال القرطبي رحمه الله: “وذلك أنهم لما حكموا بكفر من خرجوا عليه من المسلمين استباحوا دمائهم، وتركوا أهل الذمة وقالوا: نفي لهم بذمتهم، وعدلوا عن قتال المشركين”. [المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: 9/ 84].
قال القرطبي: “وذلك أنهم لما حكموا بكفر من خرجوا عليه من المسلمين استباحوا دمائهم، وتركوا أهل الذمة وقالوا: نفي لهم بذمتهم، وعدلوا عن قتال المشركين واشتغلوا بقتال المسلمين عن قتال المشركين”. [المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: 9/ 84].
وقال ابن الجوزي رحمه الله: “هذا من تسويل الشيطان للقوم، وتزيينه لهم فإنهم لما أحس بقلة عقولهم ملكها “كشف المشكل من حديث الصحيحين لابن الجوزي. [كشف المشكل: 1/ 757].
قال شيخ الإسلام: “وهذا نعت سائر الخارجين كالرافضة ونحوهم، فإنهم يستحلون دماء أهل القبلة باعتقادهم أنهم مرتدون أكثر مما يستحلون من دماء الكفار الذين ليسوا مرتدين. قالوا: لأن المرتد شر من غيره، قال: لأن المرتد شر من غيره” [مجموع الفتاوى: 28/ 497]. انتهى.
المسألة التاسعة:
صور التكفير عند الخوارج
ومن صور التكفير عند الخوارج، طبعاً الآن نتكلم يعني عموماً على مر العصور:
أولاً: تكفير أعيان المسلمين بالذنوب والمعاصي التي هي دون الشرك ودون الكفر، والحكم عليهم بالخلود في النار.
قال شيخ الإسلام: “وهؤلاء الخوارج لهم أسماء، يقال لهم: الحرورية؛ لأنهم خرجوا بمكان يقال له: حروراء. ويقال لهم: أهل النهروان؛ لأن علياً قاتلهم هناك، ومن أصنافهم: …… الأزارقة أتباع نافع بن الأزرق. والنجدات أصحاب نجدة الحروري.
فهم فرق الخوارج نفسهم فرق وينتسبون أحياناً إلى كبير من كبرائهم، أو إلى مكان خرجوا فيه وغلبوا عليه أو غلبوا عليه.
وهم أول من كفر أهل القبلة بالذنوب واستحلوا دمائهم، ولذلك نعتهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، وكفروا علياً وعثمان ومن ولاهما
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وقتلوا علي بن أبي طالب مستحلين لقتله قتله عبد الرحمن بن ملجم المرادي منهم، وكان هو وغيره من الخوارج مجتهدين في العبادة لكنهم كانوا جهالاً فارقوا السنة والجماعة”. [مجموع الفتاوى: 7/ 482].
وقال أيضاً: “والخوارج هم أول من كفروا المسلمين يكفرون بالذنوب ويكفرون من خالفهم في بدعتهم – ويستحلون دمه وماله”.
قال: “يكفرون بالذنوب ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، ويستحلون دمه وماله، وهذا حال أهل البدع يقول شيخ الإسلام يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم فيها” انتهى [مجموعة الرسائل والمسائل: 5/ 199].
ثانياً: التكفير بما ليس بذنب أصلاً، فيقولون: من جلس مع كافر كافر،
نقموا على علي أنه كاتب معاوية، وهم يكافرون معاوية
قال علي: ونقموا علي أني كاتبت معاوية، وقد جاءنا سهيل بن عمرو الكافر معاوية مسلم جاءنا سهيل بن عمرو الكافر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين صالح قومه قريشاً، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم.
فقال سهيل: لا نكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: كيف نكتب؟ قال: أكتب باسمك اللهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاكتب محمد رسول الله، قال: لو أعلم أنك رسول الله لم أخالفك، فكتب هذا ما صالح محمد بن عبد الله قريشاً”. [رواه أحمد: 656، حسنه محققو المسند].
ثالثاً: التكفير بالظن والشبهات والأمور المحتملة: الإمام أحمد سئل عن رجل سمع مؤذن يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، فقال: كذبت هل يكفر؟
فقال الإمام أحمد رحمه الله: ” لا يكفر لجواز أن يكون قصده تكذيب القائل فيما قال لا في أصل الكلمة”.
رابعاً: التكفير بالأمور التي يسوغ فيها الخلاف والاجتهاد:
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “فصل الخطاب في هذا الباب أن المجتهد المستدل من إمام، وحاكم، وعالم، وناظر، ومفتٍ وغير ذلك إذا اجتهد واستدل، فاتقى الله ما استطاع، كان هذا هو الذي كلّفه الله إياه، وهو مطيع لله مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع، ولا يعاقبه الله ألبته، وهو مصيب بمعنى أنه مطيع لله، لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر، وقد لا يعلمه”. [مجموع الفتاوى: 19/ 216].
وقال: “إن المتأول الذي قصد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفر، بل ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العلمية، يعني العملية أقصد الفقه مثلاً الحلال والحرام.
وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفر المخطئين فيها، وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة المسلمين وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع”. [منهاج السنة: 5/ 123].
خامساً: تكفير الأعيان دون التحقق من توفر الشروط وانتفاء الموانع:
قال الشيخ بن عثيمين رحمه الله: “وليعلم أنه يجب على الإنسان أن يتقي ربه في جميع الأحكام، فلا يتسرع في البت بها خصوصاً في التكفير الذي صار بعض أهل الغيرة والعاطفة يطلقونه بدون تفكير ولا روية” انتهى [القول المفيد: 3/ 178].
سادساً: عند الخوارج أيضاً التكفير باللازم والمآل: تكفير بلازم القول، يعني بما يلزم من القول،
يأتي هؤلاء مثلاً يكفر حكومة ثم يقول: كل موظفي الحكومة كفار
قال ابن حزم: “وأما من كفر الناس بما تأول إليه أقوالهم فخطأ؛ لأنه كذب على الخصم، وقوله ما لم يقل به، فلا يكفر إلا بنفس القول، ونص نص المعتقد”