بيان الوسيلة في آيات القرآن الكريمة سورة التوبة:
قال تعالى
(وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59).سورة التوبة
جمع سيف بن دورة الكعبي
———
سورة التوبة:
قال تعالى
(وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59).سورة التوبة
قال ابن كثير:
يَقُولُ تَعَالَى: {وَمِنْهمْ} أَيْ وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ {مَنْ يَلْمِزُكَ} أَيْ: يَعِيبُ عَلَيْكَ {فِي} قَسْم {الصَّدَقَاتِ} إِذَا فَرَّقْتَهَا، وَيَتَّهِمُكَ فِي ذَلِكَ … ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنَبِّها لَهُمْ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ لَهُمْ، فَقَالَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَدَبًا عَظِيمًا وَسِرًّا شَرِيفًا، حَيْثُ جَعَلَ الرِّضَا بِمَا آتَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالتَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} وَكَذَلِكَ الرَّغْبَةُ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ فِي التَّوْفِيقِ لِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ، وَتَصْدِيقِ أَخْبَارِهِ، وَالِاقْتِفَاءِ بآثاره.
قال ابن تيمية:
والرَّجاءُ مَقْرُونٌ بِالتَّوَكُّلِ فَإنَّ المُتَوَكِّلَ يَطْلُبُ ما رَجاهُ مِن حُصُولِ المَنفَعَةِ ودَفْعِ المَضَرَّةِ والتَّوَكُّلُ لا يَجُوزُ إلّا عَلى اللَّهِ كَما قالَ تَعالى: {وعَلى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقالَ: {وعَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ} وقالَ تَعالى: {إنْ
يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وإنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِن بَعْدِهِ وعَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} وقالَ تَعالى: {ولَوْ أنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ وقالُوا حَسْبُنا اللَّهُ سَيُؤْتِينا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ورَسُولُهُ إنّا إلى اللَّهِ راغِبُونَ} وقالَ تَعالى: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إيمانًا وقالُوا حَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ}. فَهَؤُلاءِ قالُوا: حَسْبُنا اللَّهُ أيْ كافِينا اللَّهُ فِي دَفْعِ البَلاءِ وأُولَئِكَ أُمِرُوا أنْ يَقُولُوا: حَسْبُنا فِي جَلْبِ النَّعْماءِ فَهُوَ سُبْحانَهُ كافٍ عَبْدَهُ فِي إزالَةِ الشَّرِّ وفِي إنالَةِ الخَيْرِ ألَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ ومَن تَوَكَّلَ عَلى غَيْرِ اللَّهِ ورَجاهُ خُذِلَ مِن جِهَتِهِ وحُرِمَ
مجموع الفتاوى 8/ 164
وراجع تفسير ابن تيمية المجموع
قال ابن القيم:
تَأمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ الإيتاءَ لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ كَما قالَ تَعالى: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}
وَجَعَلَ الحَسْبَ لَهُ وحْدَهُ، فَلَمْ يَقُلْ: وقالُوا: حَسْبُنا اللَّهُ ورَسُولُهُ، بَلْ جَعَلَهُ خالِصَ حَقِّهِ، كَما قالَ تَعالى: {إنّا إلى اللَّهِ راغِبُونَ}
وَلَمْ يَقُلْ: وإلى رَسُولِهِ، بَلْ جَعَلَ الرَّغْبَةَ إلَيْهِ وحْدَهُ، كَما قالَ تَعالى: {فَإذا فَرَغْتَ فانْصَبْ – وإلى رَبِّكَ فارْغَبْ}.
فالرَّغْبَةُ والتَّوَكُّلُ والإنابَةُ والحَسْبُ لِلَّهِ وحْدَهُ، كَما أنَّ العِبادَةَ والتَّقْوى والسُّجُودَ لِلَّهِ وحْدَهُ، والنَّذْرُ والحَلِفُ لا يَكُونُ إلّا لِلَّهِ سُبْحانَهُ.
(فائِدَة)
ما أخذ العَبْد ما حرم عَلَيْهِ إلّا من جِهَتَيْنِ:
إحْداهما سوء ظَنّه بربه وأنه لَو أطاعه وآثره لم يُعْطه خيرا مِنهُ حَلالا
والثّانيِة أن يكون عالما بذلك وأن من ترك لله شَيْئا أعاضه خيرا مِنهُ ولَكِن تغلب شَهْوَته صبره وهواه عقله فالأول من ضعف علمه، والثّانِي من ضعف عقله وبصيرته.
قالَ يحي بن معاذ من جمع الله عَلَيْهِ قلبه في الدُّعاء لم يردَّهُ.
قلت إذا اجْتمع عَلَيْهِ قلبه وصدقت ضَرُورَته وفاقته وقَوي رجاؤه فَلا يكاد يُردُّ دعاؤه.
قال أبوحيان:
وأتى أوَّلًا بِمَقامِ الرِّضا وهو فِعْلٌ قَلْبِيٌّ يَصْدُرُ عَمَّنْ عَلِمَ أنَّهُ تَعالى مُنَزَّهٌ عَنِ العَتَبِ والخَطَأِ عَلِيمٌ بِالعَواقِبِ، فَكُلُّ قَضائِهِ صَوابٌ وحَقٌّ، لا اعْتِراضَ عَلَيْهِ. ثُمَّ ثَنّى بِإظْهارِ آثارِ الوَصْفِ القَلْبِيِّ وهو الإقْرارُ بِاللِّسانِ، فَحَسْبُنا ما رَضِيَ بِهِ. ثُمَّ أتى ثالِثًا بِأنَّهُ تَعالى ما دامُوا في الحَياةِ الدُّنْيا مادٌّ لَهم بِنِعَمِهِ وإحْسانِهِ، فَهو إخْبارٌ حَسَنٌ إذْ ما مِن مُؤْمِنٍ إلّا ونِعَمُ اللَّهِ مُتَرادِفَةٌ عَلَيْهِ حالًا ومَآلًا، إمّا في الدُّنْيا، وإمّا في الآخِرَةِ. ثُمَّ أتى رابِعًا بِالجُمْلَةِ المُقْتَضِيَةِ الِالتِجاءَ إلى اللَّهِ لا إلى غَيْرِهِ، والرَّغْبَةَ إلَيْهِ، فَلا يُطْلَبُ بِالإيمانِ أخْذُ الأمْوالِ والرِّئاسَةِ في الدُّنْيا، ولَمّا كانَتِ الجُمْلَتانِ مُتَغايِرَتَيْنِ وهُما ما تَضَمَّنَ الرِّضا بِالقَلْبِ، وما تَضَمَّنَ الإقْرارَ بِاللِّسانِ، تَعاطَفَتا. ولَمّا كانَتِ الجُمْلَتانِ الأخِيرَتانِ مِن آثارِ قَوْلِهِمْ: حَسْبُنا اللَّهُ لَمْ تَتَعاطَفا، إذْ هُما كالشَّرْحِ لِقَوْلِهِمْ: حَسْبُنا اللَّهُ، فَلا تَغايُرَ بَيْنَهُما.
قال القنوجي:
(إنا إلى الله راغبون) فهاتان الجملتان كالشرح لقولهم (حسبنا الله) فلذلك لم يتعاطفا لأنهما كالشيء الواحد، فشدة الاتصال منعت العطف. قاله الكرخي.
قال السعدي:
{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أي: أعطاهم من قليل وكثير. {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} أي: كافينا اللّه، فنرضى بما قسمه لنا، وليؤملوا فضله وإحسانه إليهم بأن يقولوا: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} أي: متضرعون في جلب منافعنا، ودفع مضارنا، لسلموا من النفاق ولهدوا إلى الإيمان والأحوال العالية