15 – نفح الطيب في شرح أحاديث صحيح الترغيب والترهيب
نورس الهاشمي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
صحيح الترغيب
15. وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا ينظر إلى اجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأشار بأصبعه إلى صدره وأعمالكم. رواه مسلم
————
الشرح:
قال العلامة ابن دقيق العيد: أن الأعمال الظاهرة لا تُحصّل التقوى وإنما تقع التقوى بما في القلب من عظمة الله تعالى وخشيته ومراقبته ونظر الله تعالى – أي رؤيته محيطة بكل شيء. ومعنى الحديث – والله أعلم: مجازاته ومحاسبته وأن الاعتبار في هذا كله بالقلب. [شرح الأربعين النووية ((1) / (118))].
وقال العلامة الألباني رحمه الله: قلت: وزاد مسلم وغيره في رواية: «وأعمالكم»، وهو مخرج في «غاية المرام في تخريج الحلال والحرام» ((410)).وهذه الزيادة هامة جدًّا؛ لأن كثيرًا من الناس يفهمون الحديث بدونها فهمًا خاطئًا، فإذا أنت أمرتهم بما أمرهم به الشرع الحكيم من مثل إعفاء اللحية، وترك التشبه بالكفار، ونحو ذلك من التكاليف الشرعية، أجابوك بأن العمدة على ما في القلب، واحتجوا على زعمهم بهذا الحديث، دون أن يعلموا بهذه الزيادة الصحيحة الدالة على أن الله تبارك وتعالى ينظر أيضًا إلى أعمالهم، فإن كانت صالحة قبلها وإلا ردها عليهم كما تدل على ذلك عديد من النصوص كقوله صلى الله عليه وسلم:» من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد «
والحقيقة أنه لا يمكن تصور صلاح القلوب إلا بصلاح الأعمال، ولا صلاح الأعمال إلا بصلاح القلوب. وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمل بيان في حديث النعمان بن بشير:» … . ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، إذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب «(الحديث (593)). وحديثه الآخر:» لتسوُّنَّ صفوفكم أوليخالفن الله بين وجوهكم «.أي قلوبكم (الحديث (1096)). وقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحب الجمال». وهو وارد في الجمال المادي المشروع خلافا لظن الكثيرين ..
وإذا عرفت هذا، فمن أفحش الخطأ الذي رأيته في هذا الكتاب: «الرياض» في جميع نسخه المخطوطة والمطبوعة التي وقفت عليها، أن الزيادة المذكورة قد استدركها المصنف – تعالى- في الحديث ((1578)) لكن قلمه أو قلم كاتبه انحرف بها فوضعها في مكان مفسد للمعنى. فوقعت فيه هكذا: « … . ولا إلى صوركم وأعمالكم، ولكن ينظر … » وانطلى ذلك على جميع الطابعين والمصححين والمعلقين، ولا أستثنى من ذلك مصححي الطبعة المنيرية ولا غيرها. بل لقد انطلى أمرها على الشارح ابن علان نفسه، فشرح الحديث على القلب! فقال: ((4) / (406)): «أي أنه تعالى لا يرتب الثواب على كبر الجسم، وحسن الصورة، وكثرة العمل»! وهذا الشرح مما لايخفى بطلانه لأنه مع منافاته للحديث في نصه الصحيح، معارض للنصوص الكثيرة من الكتاب والسنة الدالة على أن تفاضل العباد في الدرجات في الجنة إنما هو بالنسبة للأعمال الصالحة كثرة وقلة. من ذلك قوله تعالى: [ولِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا] {الأنعام: (132)}.وقوله في الحديث القدسي: « … .. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله … .. » الحديث ((133)).
وكيف يعقل أن لا ينظر الله إلى العمل كالأجساد والصور، وهو الأساس في دخول الجنة بعد الإيمان كما قال تعالى: [ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ((32))]. {النحل الآية: (32))}. فتأمل كم يبعد التقليد أهله عن الصواب، ويلقى بهم في وادٍ من الخطأ سحيق. وما ذلك إلا لإعراضهم عن دراسة السنة في أمهات كتبها المعتمدة المصححة، والله المستعان. «تحقيق رياض الصالحين» (ص (21) – (23)).
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله:
قال فمن كان لله أتقي كان من الله أقرب، وكان عند الله أكرم؛ إذا لا تفتخر بمالك، ولا بجمالك، ولا ببدنك، ولا بأولادك، ولا بقصورك، ولا سياراتك، ولا بشيء من هذه الدنيا أبدا إنما إذا وفقك الله للتقوى فهذا من فضل الله عليك فأحمد الله عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «ولكن ينظر إلي قلوبكم» فالقلوب هي التي عليها المدار، وهذا يؤيد الحديث الذي صدر المؤلف به الكتاب؛ «إنما الأعمال بالنيات».
القلوب هي التي عليها المدار، كم من إنسان ظاهر عمله أنه صحيح وجيد وصالح، لكن لما بني على خراب صار خرابًا، فالنية هي الأصل، تجد رجلين يصليان في صف واحد، مقتدين بإمام واحد، يكون بين صلاتيهما كما بين المشرق والمغرب؛ لأن القلب مختلف، أحدهما قلبه غافل، بل ربما يكون مرائيا في صلاته- والعياذ بالله – يريد بها الدنيا.
والآخر قلبه حاضر يريد بصلاته وجه الله واتباع سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم.
فبينهما فرق عظيم، فالعمل على ما في القلب، وعلى ما في القلب يكون الجزاء يوم القيامة؛ كما قال الله تعالي:) إنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) (الطارق: (8)) (يَوْمَ تُبْلى السَّرائِرُ) (الطارق: (8) / (9)) أي: تختبر السرائر لا الظواهر. في الدنيا الحكم بين الناس على الظاهر؛ لقول النبي صلي الله عليه وسلم: ((إنما أنا بشر وإنكم تختصمون، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وأقضي له على نحو مما أسمع لكن في الآخرة على ما في السرائر، نسأل الله أن يطهر سرائرنا جميعًا.
العلم على ما في السرائر: فإذا كانت السريرة جيدة صحيحة فأبشر بالخير، وإن كانت الأخرى فقدت الخير كله، وقال الله عزوجل: (أفَلا يَعْلَمُ إذا بُعْثِرَ ما فِي القُبُورِ) (وحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) (العاديات (9) / (10)) فالعلم على ما في القلب. وإذا كان الله تعالي في كتابه، وكان رسوله صلي الله عليه وسلم في سنته يؤكدان على إصلاح النية؛ فالواجب على الإنسان أن يصلح نيته، يصلح قلبه، ينظر ما في قلبه من الشك فيزيل هذا الشك إلي اليقين. كيف؟ وذلك بنظره في الآيات: (إنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الألْبابِ) (آل عمران: (190))
(وفِي خَلْقِكُمْ وما يَبُثُّ مِن دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (الجاثية: (4)) إذا ألقي الشيطان في قلبك الشك فانظر في آيات الله. انظر إلى هذا الكون من يدبره انظر كيف تتغير الأحوال، كيف يداول الله الأيام بين الناس، حتى تعلم أن لهذا الكون مدبرًا حكيمًا.
الشرك؛ طهر قلبك منه. كيف أطهر قلبي من الشرك؟
أطهر قلبي؛ بأن أقول لنفسي: إن الناس لا ينفعوني إن عصيت الله ولا ينقذونني من العقاب، وإن أطعت الله لم يجلبوا إليَّ الثواب.
فالذي يجلب الثواب ويدفع العقاب هو الله. إذا كان الأمر كذلك فلماذا تشرك بالله- عزوجل- لماذا تنوي بعبادتك أن تتقرب إلى الخلق.
ولهذا من تقرب إلى الخلق بما يتقرب به إلى الله ابتعد عنه، وابتعد عنه الخلق.
يعني لا يزيده تقربه إلى الخلق بما يقربه إلى الله؛ إلا بعدًا من الله ومن الخلق؛ لأن الله إذا رضي عنك أرضى عنك الناس، وإذا سخط عليك أسخط عليك الناس، نعوذ بالله من سخطه وعقابه.
المهم يا أخي: عالج القلب دائمًا، كن دائمًا في غسيل للقلب حتى يطهر؛ كما قال الله – عز وجل -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُم) (المائدة: من الآية (41)) فتطهير القلب أمر مهم جدًا، أسال الله أن يطهر قلبي وقلوبكم، وأن يجعلنا له مخلصين ولرسوله متبعين. [شرح رياض الصالحين ((1) / (61) – (63))].
تنبيهات:
قال العلامة الأتيوبي رحمه الله:
فلا مجال في هذا الحديث لمن ادّعى أن المطلوب من الإنسان تزكيته للقلب فقط، ولا عبرة بأفعاله الظاهرة، فيفعل في ظاهره ما يشاء، كما تفوّه بذلك بعض الملاحدة، وجهلة المتصوّفة؛ لأن نصوص الكتاب والسُّنَّة مُطبِقة
على كون الإنسان مكلّفًا بتصحيح أعماله الظاهرة، والواقع أن الأعمال الظاهرة لا تفسد إلا بفساد القلب، فهي علامة على فساد باطنه، وقد بيّن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- هذا المعنى أتمّ بيان حيث قال: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب»، ففساد الأعمال الظاهرة
دليل على فساد القلب؛ لأنهما متلازمان، لا ينفكّ أحدهما عن الآخر.
فلو لم يكن للأعمال الظاهرة قيمة واعتبار في الشرع لَما ذَكَر النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: «وأعمالكم» عَقِب قوله: «إلى قلوبكم»، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- قَرَن بينهما، فدلّ على المطلوب من المكلّف إصلاح الباطن والظاهر جميعًا.
وكذلك لا يخفى بطلان قول من يستدلّ بهذا الحديث على أن الأجساد والصور لا يتعلّق بها حكم شرعيّ، فيجوز للمرء أن يختار لتزيين جسده، وتحسين صورته ما شاء من طريق؛ كحلق اللحية، وإسبال الشارب، ونحو ذلك، مع أنه -صلى الله عليه وسلم- أمَر بإعفاء اللحية، وإحفاء الشارب، وتقليم الأظفار، ونهى عن إسبال الثوب، ولَعَن الواشمات، والمستوشمات، والنامصات، والمتنمّصات، والمتفلجات، فكل هذا ونحوه من الأعمال التي هي محلّ
نَظَر الله تعالى؛ كنَظَره للقلب بلا فرق.
وإنما المراد من نفي النظر إلى الأجساد والصُّوَر، أن حُسْن الصورة وقُبْحها، لا مدخل له في رضا الله تعالى، وسَخَطه، وإنما العبرة بالقلب، والأعمال.
وبالجملة فالحديث واضح المعنى، وإنما الشيطان سوَّل لبعض الناس أن يفهموه على غير وجهه، فزيّن لهم الاستدلال به على انحرافهم عن سلوك سبل الهدى والرشاد، إلى طريق الضلال والغواية، والفساد، {رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا وهَبْ لَنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ أنْتَ الوَهّابُ ((8))} [آل عمران (8)]، اللَّهُمَّ أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين.
[تنبيه]: قال بعض العلماء: قد أبان هذا الحديث أن محل القلب موضع نَظَر الرب، فيا عجبًا ممن يَهْتَمّ بوجهه الذي هو نَظَر الخلق، فيغسله، وينظفه من القَذَر والدَّنَس، ويزيّنه بما أمكن؛ لئلا يَطَّلع فيه مخلوق على عيب، ولا
يهتمّ بقلبه الذي هو محل نَظَر الخالق، فيطهّره، ويزيّنه؛ لئلا يَطَّلع ربه على دَنَس، أو غيره فيه. انتهى ((1)).
[البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج ((40) / (385) – (386))].
قال العلامة الأتيوبي رحمه الله: (المسألة الثالثة): في فوائده:
(1) – (منها): بيان عظمة القلب؛ لأنه محلّ نظر الله عزوجل، فينبغي العناية بتطهيره، وتنظيفه من الصفات الدنيّة، والأخلاق الرديّة.
(2) – (ومنها): بيان أن الأعمال هي أيضًا محلّ نَظَر الله تعالى، فعلى العبد أن يجاهد حتى تكون أعماله مرضيّة عند الله تعالى، وذلك بأمرين: الأول أن تكون خالصة لوجهه الكريم، والثاني أن تكون موافقة لِما في الكتاب والسُّنَّة،
فإذا اختلّ أحد هذين الشرطين فإنها لا تكون محلّ رضا الله عزوجل، قال الله تعالى: {إنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ} [المائدة (27)].
(3) – (ومنها): أن فيه إثبات صفة النظر لله عزوجل على ما يليق بجلاله وعَظَمته، وقد أسلفت الردّ قريبًا على من تأوله، فلا تغفل.
(4) – (ومنها): أن فيه بيان أن جمال الصورة، وكثرة الأموال لا عبرة به عند الله تعالى، قال تعالى: {وما أمْوالُكُمْ ولا أوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إلّا مَن آمَنَ وعَمِلَ صالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وهُمْ فِي الغُرُفاتِ آمِنُونَ ((37))} [سبأ (37)]، وإنما العبرة بطهارة القلب عن رذائل الأخلاق، وخلوص
الأعمال من شائبة الشرك، والله تعالى أعلم.
{إنْ أُرِيدُ إلّا الإصْلاحَ ما اسْتَطَعْتُ وما تَوْفِيقِي إلّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ أُنِيبُ}. [البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج ((40) / (388)).