285 جامع الأجوبة الفقهية ص 326
مجموعة ناصر الريسي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف الشيخ د. سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
بلوغ المرام
116 – … وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: «إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب». رواه أبو داود, وصححه ابن خزيمة.
مسألة: حكم لبث الحائض والجنب في المسجد وحكم المرور فيه.
?- جواب ناصر الريسي:
اختلف أهل العلم في حكم لبث الحائض والجنب في المسجد وحكم المرور فيه، على أربعة أقوال كالتالي:
الأول: تحريمُ المكثِ في المسجد جالساً أو قائماً أو متردداً على أي حالٍ كان متوضئاً أو غيره ويجوزُ له العبور من غيرِ لُبثٍ كانَ له حاجةً أم لا: وهذا مذهبُ الشافعيةِ.
الثاني: كالقولِ الأول إلا أنَّهم يُبيحُون العبورَ للحاجة فقط، مِنْ أخذِ شيءً أو تركه أو كونِ الطريقِ منه، فأما لغيرِ حاجةٍ فلا يجوزُ بحالٍ إلاّ إذا توضأ الجنبُ فله اللبثُ في المسجد. وهذا مذهب الحنابلةِ وهو قول اسحق بن راهوية وشيخ الإسلام.
الثالث: تحريمُ المكثِ والعبورِ بأي حالٍ وبأي شكلٍ مطلقاً: وهو مذهب الحنفية ومذهب المالكية.
الرابع: إباحةُ المكثِ في المسجد للجنب والحائضِ والنفساءِ، مطلقاً دون قيدٍ ولا شرط: وهو مذهبُ الظاهرية داود وابن حزم، وذهب إليه ابنُ المنذر وأحمد والمزني من الشافعية، وذكره الخطابي في معالم السنن أنه قول أحمد بن حنبل والظاهرية، ورجحه الألباني.
?- انظر: المجموع (2/ 173)، المغني (1/ 200)، فتح القدير (1/ 114)، المدونة 1/ 32)، المحلى (2/ 185)، تمام المنّة (صـ119).
?- ادلة القول الأول:
1 – قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُوا … } النساء (43)
قالوا: معناها: لا تقربوا موضع الصلاة وأنتمُ جنباً إلا عابري سبيل يعني إلا مجتازين فيه للخروج منه.
2 – واحتجُّوا أيضاً بحديث جسرةَ بنتِ دجاجة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم” وجِّهُوا هذه البيوتِ عن المسجدِ فإنِّي لا أُحلُّ المسجدَ لحائضٍ ولا لجنُب) رواه أبو داود.
?- أدلة القول الثاني:
واحتجُّوا بالآيةِ السابقةِ وحديثِ جسرة بنتِ دجاجة. والتي هي نفسها أدلة القول الأول.
كذلك حديثِ عائشة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال لها (ناوليني الخُمرةَ من المسجدِ، فقالت أني حائضٌ، قال: إنّ حيضَتَكِ ليست في يدِك) مسلم والأربعة
وكذلك أيضاً حديث عطاء بن يسارٍ قال (رأيتُ رجالاً من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوءَ الصلاة) رواه سعيد بن منصور والبخاري في التاريخ الكبير بإسناد حسن ونقله الشوكانيُّ في نيل الأوطار (1/ 251).
?- أدلة القول الثالث:
1 – استدلوا بنفس قوله الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُوا … }.
قالوا: المراد بالصلاة: مواضع الصلاة وهي المساجد، ففي الآية منع الجنب من دخولها إلا في حالة كونه مسافرًا، ثم قاسوا الحائض والنفساء على الجنب.
واجيب: بأن هذا أحد تأويلي السلف لمعنى الآية، والتأويل الآخر أن المراد الصلاة ذاتها لا المسجد فيكون المعنى: ولا تقربوا الصلاة جنبًا إلا بعد أن تغتسلوا إلا في حال السفر فصلُّوا بالتيمم ولذا قال بعدها: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}.
ثم في قياس الحائض على الجنب نظر، لأن الحائض معذورة ولا يمكن أن تغتسل قبل أن تطهر ولا تملك رفع حيضتها، بخلاف الجنب فيمكنه الاغتسال.
2 – كذلك استدلوا بنفس حديث جسرة بنت دجاجة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني لا أُحِلُّ المسجد لحائض ولا جنب».
واجيب عنه: بأن الحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج به، فإن مداره على جسرة وهي لا تحتمل التفرد.
3 – حديث أم عطية: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج العواتق وذوات الخدور، والحيض في صلاة العيد ليشهدن الخير، ودعوة المسلمين، ويعتزل الحيض المصُلَّى» أخرجه البخاري (324)، ومسلم (890). قالوا: فإذا كان هذا في شأن مصلى العيد فالمسجد أولى بالمنع.
واجيب: بأن المراد بالمصلى في الحديث: الصلاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون العيد في الفضاء لا في المسجد، والأرض كلها مسجد ولا يجوز أن يخص المنع بعض المساجد دون البعض. ثم قد رُوى الحديث نفسه بلفظ «فأما الحيض فيعتزلن الصلاة» وهي في صحيح مسلم وغيره.
4 – حديث عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصغى إليَّ رأسه وهو مجاور في المسجد فأرجِّله وأنا حائض» أخرجه البخاري (2029). قالوا: فامتنعت من ترجيله في المسجد لأنها حائض.
واجيب: بأنه ليس صريحًا فيما استدلوا به، فقد يكون عدم دخولها لعلة أخرى غير الحيض كأن يكون بالمسجد رجال ونحو ذلك.
?- أدلة القول الرابع:
1 – البراءة الأصلية، فحيث لم يصح النهي فالأصل الإباحة وقد أبيح للمسلم أن يصلي في أي مكان أدركته فيه الصلاة.
2 – أنه قد ثبت أن المشركين دخلوا المسجد وقد حبسهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} سورة التوبة، الآية: 28.
وأما المسلم فهو طاهر على كل حال لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن المسلم لا ينجس» فكيف يمنع المسلم دخوله ويباح للكافر؟!
3 – حديث عائشة: «أن وليدة سوداء كانت لحي من العرب، فأعتقوها، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، فكان لها خباء في المسجد» أخرجه البخاري (439).
قالوا: فهذه امرأة ساكنة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمعهود من النساء الحيض، فلم يمنعها صلى الله عليه وسلم من ذلك ولا أمرها أن تعتزله في حيضتها.
4 – حديث أبي هريرة «في المرأة التي كانت تَقُمُّ المسجد وماتت فسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم …. » أخرجه البخاري (458)، ومسلم (956).
فهذه امرأة غير مضطرة تقم المسجد في كل وقت ولم ينهها النبي صلى الله عليه وسلم عن اعتزال المسجد في الحيض.
5 – حديث أبي هريرة في مبيت أهل الصفة في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري (6452)، والترمذي (479).
6 – ثبت في الصحيح «أن ابن عمر كان ينام في المسجد وهو شاب عزب لا أهل له». أخرجه البخاري (3530)، ومسلم (2479). والشاب يعتريه الاحتلام كثيرًا ولم يُنه عن المكث في المسجد حال الجنابة.
7 – أن عائشة رضي الله عنها لما حاضت في الحج فأجاز لها ما يفعل الحاج ولم ينهها إلا عن الطواف بالبيت، أخرجه البخاري (1650). فدلَّ على جواز دخولها المسجد، لأن الحاج له ذلك.
8 – حديث عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ناوليني الخمرة من المسجد» فقلت: إني حائض، قال: «إن حيضتك ليست في يدك» أخرجه مسلم (298)، وأبو داود (261)، وهذا مشعر أن الخمرة كانت في المسجد فأصرَّ على دخولها المسجد لمناولته الخمرة.
9 – أثر عطاء بن يسار قال: «رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد، وهم مجنبون، إذا توضأوا وضوء الصلاة». أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (4/ 1275).
?- قال ابن رجب: “وقد استدل البخاري بهذا الحديث على أن من ذكر في المسجد أنه جنب؛ فإنه يخرج منه ليغتسل، ولا يلزمه التيمم لمشيه للخروج.
ومثله من كانَ نائماً فاحتلم في المسجد، فإنه يخرج منه ليغتسل، ولا يلزمه أن يتيمم للخروج. وقد نص على هذه الصور أحمد في رواية حرب.
واستدل طائفة بأن الصحابة كانوا ينامون في المسجد – يعني: أنه لم يكن يخلو من احتلام بعضهم فيهِ -، ولم ينقل عن أحد منهم أنه تيمم، ولا أمر النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أحداً منهم بذلك، مع علمه بنومهم، وأنه لا يكاد يخلو من محتلم منهم فيهِ.
وقد كانَ ابن عمر شاباً عزباً، ينام في المسجد على عهد رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأصل هذه المسألة: أن الجنب: هل يباح لهُ المرور في المسجد من غير تيمم، أم لا؟ وفي المسألة قولان:
أحدهما – وهو قول الأكثرين -: إنه يباح لهُ ذَلِكَ، وهو قول أكثر السلف ومالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وغيرهم.
وقد تأول طائفة من الصحابة قول الله – عز وجل -: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَاّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]، بأن المراد: النهي عن قربان موضع الصَّلاة – وهو المسجد – في حال الجنابة، إلا أن يكون عابر سبيل، وهو المجتاز به من غير لبث فيهِ، وقد روي ذَلِكَ عن ابن مسعود وابن عباس وأنس – رضي الله عنهم -.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده، عن العوام، أن علياً كانَ يمر في المسجد، وهو جنب.
وبإسناده، عن جابر، قالَ: كانَ أحدنا يمشي في المسجد وهو جنب مجتازاً.
وخرجه – أيضاً – سعيد بن منصور وابن خزيمة في ((صحيحه)).
وعن زيد بن أسلم، قالَ: كانَ أصحاب رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يمشون في المسجد، وهم جنب. خرجه ابن المنذر وغيره.
ولا يجوز العبور إلا لحاجة، في أصح الوجهين لأصحابنا، وهو قول أكثر
السلف، منهم: عكرمة ومسروق والنخعي.
وقرب الطريق حاجة، في أحد الوجهين لأصحابنا، وهو قول الحسن.
وفي الآخر: ليس بحاجة، وهو وجه للشافعية، والصحيح – عندهم -:
أنه يجوز المرور لحاجة وغيرها.
والقول الثاني: لا يجوز للجنب المرور في المسجد، فإن اضطر إليه تيمم، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وإسحاق ورواية عن مالك.
وقد روي، عن النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قالَ: (لا أحل المسجد لحائض ولا جنب).
خرجه أبو داود من حديث عائشة، وابن ماجه من حديث أم سلمة وفي إسنادهما
ضعف.
وعلى تقدير صحة ذَلِكَ، فهوَ محمول على اللبث في المسجد؛ جمعاً بين
الدليلين.
وأهل هذه المقالة؛ منهم من قالَ: إذا ذكر في المسجد أنه جنب أو احتلم في المسجد، فإنه يتيمم لخروجه، كما قاله بعض الحنفية.
وحديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري هنا حجة عليهِ.
[فتح الباري لابن رجب (1/ 319)].
وإليك هذه الآثار:
عن أبي عبيدة بن عبد الله، عن ابن مسعود، أنه كان يرخص للجنب أن يمر في المسجد مجتازا، ولا أعلمه إلا قال: {ولا جنبا إلا عابري سبيل}. أخرجه عبد الرزاق في المصنف 1613 – ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط- عن معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة بن عبد الله به أبو عبيدة لم يسمع من أبيه.
– عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار قال: «يمر الجنب في المسجد»، قلت لعمرو: من أين تأخذ ذلك؟ قال: من قول: {ولا جنبا إلا عابري سبيل} [النساء: 43] مسافرين لا يجدون ماءا. أخرجه عبد الرزاق في المصنف 1614.
– عن مجاهد مثله. في قوله: {ولا جنبا إلا عابري سبيل} [النساء: 43] قال: «مسافرين لا يجدون ماء» أخرجه عبد الرزاق في المصنف 1615 عن معمر عن مجاهد به.
– لا نعلم حجة تمنع الجنب من دخول المسجد. قاله ابن المنذر في الأوسط.
?- قال الإمام الألباني رحمه الله في تعقباته على الشيخ سيد سابق في تمام المنة ص (118):
قوله: «يحرم على الجنب أن يمكث في المسجد لحديث عائشة قالت: جاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال: «وجهوا هذه البيوت عن المسجد … فإني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب». رواه أبو داود. وعن أم سلمة قالت: دخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صرحة هذا المسجد فنادى بأعلى صوته: «إن المسجد لا يحل لحائض ولا لجنب». رواه ابن ماجه والطبراني».
قلت: سوق الحديث على هذه الصورة يوهم القارئ أنهما حديثان بإسنادين متغايرين أحدهما عن عائشة والآخر عن أم سلمة وليس كذلك بل هما حديث واحد بإسناد واحد مداره على جسرة بنت دجاجة اضطربت في روايته فمرة قالت: «عن عائشة» ومرة: «عن أم سلمة» والاضطراب مما يوهن به الحديث كما هو معروف عند المحدثين لأنه يدل على عدم ضبط الراوي وحفظه. يضاف إلى ذلك أن جسرة هذه لم يوثقها من يعتمد على توثيقه بل قال البخاري:
«عندها عجائب» ولذلك ضعف جماعة هذا الحديث كما قال الخطابي. وقال البيهقي: «ليس بالقوي» وقال عبد الحق: «لا يثبت» وبالغ ابن حزم فقال: «إنه باطل».
وللحديث شاهدان لا ينهضان لتقويته ودعمه لأن في أحدهما متروكا وفي الآخر كذابا وقد خرجتهما وفصلت القول فيهما في «ضعيف سنن أبي داود رقم 32».
والقول عندنا في هذه المسألة من الناحية الفقهية كالقول في مس القرآن من الجنب للبراءة الأصلية وعدم وجود ما ينهض على التحريم وبه قال الإمام أحمد وغيره
قال البغوي في «شرح السنة 2/ 46»: «وجوز أحمد والمزني المكث فيه وضعف أحمد الحديث لأن راويه أفلت مجهول وتأول الآية على أن عابري السبيل هم المسافرون تصيبهم الجنابة فيتيممون ويصلون وقد روي ذلك عن ابن عباس». انظر: جامع تراث العلامة الألباني في الفقه (1/ 531)
والله أعلم …