: [1ج/ رقم (243)] فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ومحمد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الإمام الوادعي رحمه الله في الصحيح المسند [1ج/ رقم (243)]:
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج (3) ص (330)): حدثنا روح حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أفضل الصدقة عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى».
هذا حديث حسنٌ على شرط مسلم.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
الأول:
أورد الحديث الإمام أحمد، مُسْنَدُ المُكْثِرِينَ مِنَ الصَّحابَةِ، مُسْنَدُ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ((14531)).
والوادعي رحمه الله جعله في جامعه:
(6) – كتاب الصدقات، (9) – ابدأ بمن تعول، ((1280)).
(21) – كتاب الأموال، (17) – تصرف الرجل الصالح في ماله، ((2972)).
وفي غاية المقصد في زوائد المسند (1) / (419)، نور الدين الهيثمي (ت (807))، كتاب الزكاة، باب: الصدقة أفضل، ((1387)).
وقال شعَيب الأرنؤوط وأخر ط: الرسالة: “إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي الزبير -وهو محمد بن مسلم بن تَدْرُس-، فمن رجال مسلم، وروى له البخاري تعليقًا. روح: هو ابن عُبادة، وابن جريج: هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج.
وأخرجه ابن حبان ((3345)) من طريق أبي عاصم الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج، بهذا الإسناد.
وسيأتي برقم ((14728)) من طريق ابن لهيعة، عن أبي الزبير.
وانظر الحديث السالف برقم ((14273)).
وفي الباب عن ابن عمر، سلف برقم ((4474)).
وعن أبي هريرة، سلف أيضًا برقم ((7155)). وانظر تتمة شواهده وشرحه هناك”. انتهى.
والثاني: شرح وبيان الحديث
(أفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى) أي: إن أفضل صدقة المرء ما وقع من غير حاجة إلى ما يتصدّق به لنفسه، أو لمن تلزمه نفقته.
وقد جاء ما يوضّح المراد بقوله: «أفضل الصدقة عن ظهر غنى إلخ» -كما قال النسائيّ رحمه الله- فيما أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائيّ، وصححه ابن حبّان والحاكم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ?: «تصدَّقُوا»، فقال رجل: يا رسول الله عندي دينارٌ، قال: «تصدق به على نفسك»، قال: عندي آخر، قال: «تصدق به على زوجتك»، قال: عندي آخر، قال: «تصدق به على ولدك»، قال: عندي آخر، قال: «تصدق به على خادمك»، قالى: عندي آخر، قال: «أنت أبصر».
وقال النوويّ رحمه الله: معناه: أفضل الصدقة ما بقي صاحبُها بعدها مستغنيًا بما بقي معه، وتقديره أفضل الصدقة ما أبقت بعدها غنى يَعتمده صاحبها، ويَستظهر به على مصالحه وحوائجه، وإنما كانت هذه أفضل الصدقة بالنسبة إلى من تصدق بجميع ماله؛ لأن من تصدق بالجميع يَندَم غالبًا، أو قد يندم إذا احتاج، ويوَدّ أنه لم يتصدق، بخلاف من بقي بعدها مستغنيًا، فإنه لا يندم عليها، بل يُسَرّ بها.
قال: وقد اختلف العلماء في الصدقة بجميع ماله، فمذهبنا أنه مستحبٌّ لمن لا دَينَ عليه، ولا له عيال لا يصبرون، ويكون هو ممن يصبر على الإضاقة والفقر، فإن لم يَجْمَع هذه الشروط فهو مكروه.
وقال القاضي عياض رحمه الله: جَوّز جمهور العلماء، وأئمة الأمصار الصدقة بجميع ماله، وقيل: يُرَدُّ جميعها، وهو مرويّ عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وقيل: يُنَفَّذ في الثلث، هو مذهب أهل الشام، وقيل: إن زاد على النصف رُدّت الزيادة، وهو محكيّ عن مكحول، قال أبو جعفر الطبريّ: ومع جوازه فالمستحب أن لا يفعله، وأن يقتصر على الثلث. انتهى [«شرح النوويّ» (7) / (125)].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: سيأتي تمام البحث في هذه المسألة -إن شاء الله تعالى-.
(وابْدَا) في العطاء (بِمَن تَعُولُ») أي: بمن تجب عليك نفقته، يقال: عال الرجلُ أهلَه عَوْلًا، من باب قال: إذا مانَهُم؛ أي قام بما يحتاجون إليه، من قوت، وكسوة، وفيه تقديم نفقة نفسه وعياله؛ لأنها منحصرة فيه، بخلاف نفقة غيرهم.
وقد جاء تفسير من يعولهم فيما أخرجه النسائيّ من حديث طارق بن عبد الله المحاربيّ -رضي الله عنه- بإسناد حسن، عنه قال: قَدِمنا المدينة، فإذا رسول الله ? قائم على المنبر، يخطب الناس، وهو يقول: «يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول، أمَّك، وأباك وأختك، وأخاك، ثم أدناك أدناك». هكذا أورده النسائيّ مختصرًا.
وقد أخرجه الدارقطنيّ في «سننه» ((3) / (44) – (45)) مطوّلًا، فقال:
حدّثنا أبو عبيد القاسم بن إسماعيل، نا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطّان، نا ابن نُمير، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد، نا أبو صخرة، جامع بن شدّاد، عن طارق بن عبد الله المحاربيّ، قال: رأيت رسول الله ? مرّتين، مرّة بسوق ذي المجاز، وأنا في تباعة لي هكذا، قال: أبيعها، فمرّ، وعليه حلّة حمراء، وهو ينادي بأعلى صوته: «يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا»، ورجلٌ يتبعه بالحجارة، وقد أدمى كعبيه، وعرقوبيه، وهو يقول: يا أيها الناس لا تطيعوه، فإنه كذّابٌ، قلت: من هذا؟ فقالوا: هذا غلام بني عبد المطّلب، قلت: من هذا الذي يتبعه، يرميه؟ قالوا: هذا عمها عمر عبد العزّى، وهو أبو لهب، فلما ظهر الإسلام، وقدم المدينة أقبلنا في ركبٍ من الرَّبَذَة، وجنوب الربذة، حتى نزلنا قريبًا من المدينة، ومعنا ظَعِينة لنا، قال: فبينا نحن قُعُودٌ؛ إذ أتانا رجلٌ عليه ثوبان أبيضان، فسلّم علينا، فرددنا عليه، فقال: «من أين أقبل القوم؟»، قلنا: من الرَّبَذَة، وجنوب الربذة، قال: ومعنا جمل أحمر، قال: «تبيعوني جملكم؟»، قلنا: نعم، قال: «بكم؟»، قلنا: بكذا وكذا صاعًا من تمر، قال: فما استوضعنا شيئًا، وقال: «قد أخذته»، ثم أخذ برأس الجمل حتى دخل المدينة، فتوارى عنّا، فتلاومنا بيننا، وقلنا: أعطيتم جملكم من لا تعرفونه، فقالت الظعينة: لا تَلاوَمُوا، فقد رأيت وجه رجل ما كان ليَحقِركم، ما رأيت وجه رجل أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه، فلما كان العشاء أتانا رجلٌ، فقال: السلام عليكم، أنا رسول رسول الله ? إليكم، وأنه أمركم أن تأكلوا من هذا حتى تشبعوا، وتكتالوا، حتى تستوفوا، قال: فأكلنا حتى شبعنا، واكتلنا حتى استوفينا، فلما كان من الغد دخلنا المدينة، فإذا رسول الله ? قائم على المنبر، يخطب الناس، وهو يقول: «يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول، أمّك، وأباك، وأختك، وأخاك، وأدناك، أدناك»، فقام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، هؤلاء
بنو ثعلبة بن يربوع الذين قتلوا فلانًا في الجاهليّة، فخذ لنا بثأرنا، فرفع يديه حتى رأينا بياض إبطيه، فقال: «ألا لا يجني والد على ولده» انتهى [«سنن الدارقطنيّ» (3) / (44) – (45)].
[تنبيه]: قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختُلِف في نفقة من بلغ من الأولاد، ولا مال له، ولا كسب، فأوجبت طائفة النفقة لجميع الأولاد أطفالًا كانوا، أو بالغين، إناثًا وذكرانًا إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها، وذهب الجمهور إلى أن الواجب أن ينفق عليهم حتى يبلغ الذكر، أو تتزوج الأنثى، ثم لا نفقة على الأب إلا إن كانوا زمنى، فإن كانت لهم أموال فلا وجوب على الأب، وألحق الشافعيّ ولد الولد، وإن سفل بالولد في ذلك. انتهى.
قوله: (اليدُ العليا خير من اليد السفلى)،
فسّر معنى كلامه هذا بقوله: (واليَدُ العُلْيا المُنْفِقَةُ، والسُّفْلى السّائِلَةُ») قال أبو داود رحمه الله: قال الأكثر عن حماد بن زيد: «المنفقة»، وقال واحد عنه: «المتعفّفة»، وكذا قال عبد الوارث، عن أيوب. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: فأما الذي قال عن حماد: «المتعفّفة» -بالعين، وفاءين- فهو مسدّدٌ، كذلك رويناه في «مسنده»، رواية معاذ بن المثنّى عنه، ومن طريقه أخرجه ابن عبد البرّ في «التمهيد»، وقد تابعه على ذلك أبو الرَّبِيع الزَّهْرانيّ، كما رويناه في «كتاب الزكاة» ليوسف بن يعقوب القاضي، حدثنا أبو الربيع.
وأما رواية عبد الوارث، فلم أقف عليها موصولة، وقد أخرجه أبو نُعيم في «المستخرج» من طريق سليمان بن حرب، عن حماد بلفظ: «واليد العليا يد المعطي»، وهذا يدلّ على أن من رواه عن نافع بلفظ «المتعفّفة» فقد صحّف.
قال ابن عبد البرّ: ورواه موسى بن عقبة، عن نافع، فاختُلِف عليه أيضًا، فقال حفص بن ميسرة، عنه: «المنفقة»، كما قال مالك، قال الحافظ: وكذا قال فضيل بن سليمان، عنه، أخرجه ابن حبّان من طريقه، قال: ورواه إبراهيم بن طهمان، عن موسى، فقال: «المنفقة».
قال ابن عبد البرّ: رواية مالك أولى، وأشبه بالأصول، ويؤيّده حديث طارق المحاربيّ، عند النسائيّ، قال: قدمنا المدينة، فإذا النبيّ ? قائم على المنبر، يخطب الناس، وهو يقول: «يد المعطي العليا». انتهى.
ولابن أبي شيبة، والبزّار، من طريق ثعلبة بن زَهْدَم مثله، وللطبرانيّ بإسناد صحيح، عن حكيم بن حِزام، مرفوعًا: «يد الله فوق يد المعطي، ويد المعطي فوق يد المُعْطَى، ويد المعُطَى أسفل الأيدي»، وللطبرانيّ من حديث الجذاميّ، مرفوعًا مثله، ولأبي داود، وابن خزيمة، من حديث أبي الأحوص عوف بن مالك، عن أبيه، مرفوعًا: «الأيدي ثلاثة: فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى»، ولأحمد، والبزّار، من حديث عطيّة السعديّ: «اليد المعطية هي العليا، والسائلة هي السفلى».
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: «واليد العليا المنفقة»، هكذا وقع في صحيح البخاريّ ومسلم: «العليا المنفقة»، من الإنفاق، وكذا ذكره أبو داود عن أكثر الرواة، قال: ورواه عبد الوارث، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: «العليا المتعفِّفة» بالعين، من العِفّة، ورجح الخطابيّ هذه الرواية، قال: لأن السياق في ذكر المسألة والتعفف عنها، والصحيح الرواية الأولى، ويحْتَمِل صحة الروايتين، فالمنفقة أعلى من السائلة، والمتعففة أعلى من السائلة، وفي هذا الحديث الحثّ على الإنفاق في وجوه الطاعات، وفيه دليل لمذهب الجمهور أن اليد العليا هي المنفقة، وقال الخطابيّ: المتعففة كما سبق، وقال غيره: العليا الآخذة، والسفلى المانعة، حكاه القاضي، والمراد بالعلو علوّ الفضل والمجد، ونيل الثواب. انتهى [«شرح النوويّ» (7) / (124) – (125)].
وقال الطيبيّ رحمه الله بعد نقل كلام النووي المذكور: أقول: تحرير ترجيح الخطّابيّ رواية «اليد العليا هي المتعفّفة» أن يقال: إن قوله: «وهو يذكر الصدقة، والتعفّف عن المسألة» كلام مجملٌ في معنى العفّة عن السؤال، وقوله: «اليد العليا خير من اليد السفلى» بيان له، وهو أيضًا مبهم، فينبغي أن يفسّر بالعفّ؛ ليناسب المجمل، وتفسيره باليد المنفقة غير مناسب للمجمل.
وتحقيق الجواب: هذا إنما يتمّ إذا اقتصر على قوله: «اليد العليا هي المنفقة»، ولم يعقبه بقوله: «واليد السفلى هي السائلة»؛ لدلالتهما على علوّ المنفقة، وسفالة السائلة ورذالتها، وهي مما يُستنكف منها، ويُتعفّف عن الاتصاف بها، فظهر من هذا أن رواية الشيخين أرجح من إحدى روايتي أبي داود نقلًا ودرايةً؛ لأنها حينئذ من باب الكناية، وهي أبلغ من التصريح، فيكون أرجح. انتهى [«الكاشف عن حقائق السنن» (5) / (1514) – (1515)].
السلام
(تنبيه): هذه الأحاديث كلها واضحة في أن التفسير المذكور مرفوع، قال القرطبيّ رحمه الله: وقع تفسير اليد العليا والسفلى في حديث ابن عمر هذا، وهو نصّ يرفع الخلاف، ويدفع تعسّف من تعسّف في تأويله. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: لكن ادعى أبو العبّاس الدانيّ في «أطراف الموطأ» أن التفسير المذكور مدرجٌ في الحديث، ولم يذكر مستنده لذلك، ثم وجدت في «كتاب العسكريّ في الصحابة» بإسناد له، فيه انقطاعٌ، عن ابن عمر أنه كتب إلى بشر بن مروان: إني سمعت النبيّ ? يقول: «اليد العليا خير من اليد السفلى، ولا أحسب اليد السفلى إلا السائلة، ولا العليا إلا المعطية»، فهذا يشعر بأن التفسير من كلام ابن عمر، ويؤيّده ما رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: «كنا نتحدّث أن العليا هي المنفقة». انتهى [«الفتح» (4) / (49)].
قال الإتيوبي عفا الله تعالى عنه: عندي أن دعوى الإدراج المذكور غير صحيحة؛ لأن الحديث اتَّفَقَ عليه الشيخان، مرفوعًا، وما ذكره الحافظ مما يؤيّد الدعوى المذكورة، فغير مقبول؛ لأن ما نقله من كتاب العسكري منقطع، كما اعترف هو به، وكذا ما نقله عن ابن أبي شيبة، ففي سنده سفيان الثوريّ، وهو وإن كان إمامًا، إلا أنه مدلّسٌ، وقد رواه بالعنعنة [انظر: «مصنّف ابن أبي شيبة» (3) / (211)]، فكيف يُعارَض بمثل هذا ما اتَّفَقَ الشيخان على صحته مرفوعًا؟، فتبصّر بالإنصاف، ولا تسلك سبيل الاعتساف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف].
قلت سيف: سفيان الثوري ليس من المكثرين في التدليس. ويمكن الجمع بأنه تارة يرفعه وتارة يقوله من قوله
والثالث: مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى):
أورد الوادعي رحمه الله جملة من الأحاديث في كتاب ((6) – كتاب الصدقات) من جامعه، وهذه بعض الأبواب والأحاديث منها:
(1) – فضل الصدقة
(1261) – قال الإمام أحمد رحمه الله (ج (5) ص (72)): حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة حدثنا الأزرق بن قيس عن يحيى بن يعمر عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن أتمها كتبت له تامة وإن لم يكن أتمها قال انظروا تجدون لعبدي من تطوع فأكملوا ما ضيع من فريضته ثم الزكاة ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك». هذا حديث صحيحٌ.
(3) – الحث على الصدقة
(1271) – قال أبو داود رحمه الله (ج (9) ص (173)): حدثنا مسدد أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي وائل عن قيس بن أبي غرزة قال: كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نسمى السماسرة فمر بنا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسمانا باسم هو أحسن منه فقال «يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة».
(5) – فضل صدقة السر
(1275) – قال الإمام النسائي رحمه الله (ج (5) ص (80)): أخبرنا محمد بن سلمة، قال: حدثنا ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن بحير بن سعد ((1))، عن خالد بن معدان، عن كثير بن مرة، عن عقبة بن عامر: أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة». هذا حديث حسنٌ.
(8) – من تصدق بجميع ماله إذا كان واثقا بالله
(1278) – قال أبو داود رحمه الله (ج (5) ص (94)): حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ صالِحٍ وعُثْمانُ بْنُ أبِي شَيْبَةَ -وهَذا حَدِيثُهُ- قالا أخبرَنا الفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ أخبرَنا هِشامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ عَنْ أبِيهِ قالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: أمَرَنا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ يَوْمًا أنْ نَتَصَدَّقَ فَوافَقَ ذَلِكَ مالًا عِنْدِي فَقُلْتُ اليَوْمَ أسْبِقُ أبا بَكْرٍ إنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا فَجِئْتُ بِنِصْفِ مالِي فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ «ما أبْقَيْتَ لِأهْلِكَ؟» قُلْتُ مِثْلَهُ قالَ وأتى أبُو بَكْرٍ بِكُلِّ ما عِنْدَهُ فَقالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ «ما أبْقَيْتَ لِأهْلِكَ؟» قالَ أبْقَيْتُ لَهُمْ اللهَ ورَسُولَهُ قُلْتُ لا أُسابِقُكَ إلى شَيْءٍ أبَدًا. هذا حديث حسنٌ.
(9) – ابدأ بمن تعول
(1279) – قال الإمام النسائي رحمه الله (ج (5) ص (61)): أخْبَرَنا يُوسُفُ بْنُ عِيسى قالَ أنْبَأنا الفَضْلُ بْنُ مُوسى قالَ حَدَّثَنا يَزِيدُ وهُوَ ابْنُ زِيادِ بْنِ أبِي الجَعْدِ عَنْ جامِعِ بْنِ شَدّادٍ عَنْ طارِقٍ المُحارِبِيِّ قالَ: قَدِمْنا المَدِينَةَ فَإذا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ قائِمٌ عَلى المِنبَرِ يَخْطُبُ النّاسَ وهُوَ يَقُولُ «يَدُ المُعْطِي العُلْيا وابْدَا بِمَن تَعُولُ أُمَّكَ وأباكَ وأُخْتَكَ وأخاكَ ثُمَّ أدْناكَ أدْناكَ»، مختصر. هذا حديث صحيحٌ.
(10) – الصدقة عن ظهر غنى
(1281) – قال أبو داود رحمه الله (ج (5) ص (92)): حَدَّثَنا إسْحاقُ بْنُ إسْماعِيلَ أخبرنا سُفْيانُ عَنْ ابْنِ عَجْلانَ عَنْ عِياضِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدٍ سَمِعَ أبا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ يَقُولُ: دَخَلَ رَجُلٌ المَسْجِدَ فَأمَرَ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ أنْ يَطْرَحُوا ثِيابًا فَطَرَحُوا فَأمَرَ لَهُ مِنها بِثَوْبَيْنِ ثُمَّ حَثَّ عَلى الصَّدَقَةِ فَجاءَ فَطَرَحَ أحَدَ الثَّوْبَيْنِ فَصاحَ بِهِ وقالَ «خُذْ ثَوْبَكَ». هذا حديث حسنٌ.
(11) – صدقة المرأة على زوجها وعلى بني أخيها الأيتام
(1282) – قال الإمام أبو عبد الله بن ماجه رحمه الله (ج (1) ص (587)): حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن آدم حدثنا حفص بن غياث عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالصدقة فقالت زينب امرأة عبد الله أيجزيني من الصدقة أن أتصدق على زوجي وهو فقير وبني أخ لي أيتام وأنا أنفق عليهم هكذا وهكذا وعلى كل حال قال «نعم» قال وكانت صَناعَ اليدين. هذا حديث صحيحٌ على شرط الشَّيخين.
(13) – تحريم السؤال لغير حاجة
(1285) – قال الإمام أحمد رحمه الله (ج (3) ص (4)): حَدَّثَنا أسْوَدُ بْنُ عامِرٍ حَدَّثَنا أبُو بَكْرٍ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ أبِي صالِحٍ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: قالَ عُمَرُ يا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ سَمِعْتُ فُلانًا وفُلانًا يُحْسِنانِ الثَّناءَ يَذْكُرانِ أنَّكَ أعْطَيْتَهُما دِينارَيْنِ قالَ فَقالَ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ «لَكِنَّ واللهِ فُلانًا ما هُوَ كَذَلِكَ لَقَدْ أعْطَيْتُهُ مِن عَشَرَةٍ إلى مِائَةٍ فَما يَقُولُ ذاكَ أما واللهِ إنَّ أحَدَكُمْ لَيُخْرِجُ مَسْألَتَهُ مِن عِنْدِي يَتَأبَّطُها» يَعْنِي تَكُونُ تَحْتَ إبْطِهِ يَعْنِي نارًا قالَ قالَ عُمَرُ يا رَسُولَ اللهِ لِمَ تُعْطِيها إيّاهُمْ قالَ «فَما أصْنَعُ يَابَوْنَ إلّا ذاكَ ويَابى اللهُ لِي البُخْلَ». هذا حديث صحيحٌ، رجاله رجال الصحيح.
(18) – من أتاه مال من غير مسألة ولا إشراف نفس
(1296) – قال الإمام أحمد رحمه الله (ج (4) ص (220)): حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، وحيوة، حدثني أبو الأسود، عن بكير بن عبد الله، عن بشير بن سعيد، عن خالد بن عدي الجهني، قال: سمعت رسول الله ? يقول: «من بلغه معروف عن أخيه من غير مسألة ولا إشراف نفسٍ فليقبله ولا يرده، فإنما هو رزق ساقه الله عز وجل إليه». هذا حديث صحيح، وأبو الأسود هو محمد بن عبد الرحمن الملقب بيتيم عروة.
(19) – ما جاء في ذم البخل والتحذير منه
(1297) – قال الإمام البخاري رحمه الله في «الأدب المفرد» (ص (111)): حدثنا عبد الله بن أبي الأسود قال حدثنا حميد بن الأسود عن الحجاج الصواف قال حدثني أبو الزبير قال حدثنا جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «من سيدكم يا بني سلمة؟» قلنا جد بن قيس على أنا نبخله قال «وأي داء أدوى من البخل بل سيدكم عمرو بن الجموح» وكان عمرو على أصنامهم في الجاهلية وكان يولم عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا تزوج. هذا حديث حسنٌ. انتهى المراد.
(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في معنى قوله ?: «عن ظهر غنى»: قال في «الفتح»: معنى الحديث: أفضل الصدقة ما وقع من غير محتاج إلى ما يتصدق به لنفسه، أو لمن تلزمه نفقته.
قال الخطابيّ: لفظ الظهر يَرِدُ في مثل هذا إشباعًا للكلام، والمعنى: أفضل الصدقة ما أخرجه الإنسان من ماله بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية، ولذلك قال بعده: «وابدأ بمن تعول».
وقال البغويّ: المراد غِنًى يَستَظهِر به على النوائب التي تنوبه، ونحوه قولُهُم: رَكِبَ متن السلامة، والتنكير في قوله: «غِنًى» للتعظيم، هذا هو المعتمد في معنى الحديث. وقيل: المراد خير الصدقة ما أغنيت به من أعطيته عن المسألة.
وقيل: «عن» للسببية، والظهر زائد؛ أي خير الصدقة ما كان سببها غِنًى في المتصدق [«الفتح» (4) / (255) – (256)].
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى»: أي ما كان من الصدقة بعد القيام بحقوق النفس، وحقوق العيال. وقال الخطّابيّ: أي متبرّعًا، أو عن غئًى يعتمده، ويستظهر به على النوائب. والتأويل الأول أولى، غير أنه يبقى علينا النظر في درجة الإيثار التي أثنى الله بها على الأنصار؛ إذ قال: {ويُؤْثِرُونَ عَلى أنْفُسِهِمْ ولَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ} الآية [الحشر (9)]، وقد روي أن هذه الآية نزلت بسبب رجل من الأنصار ضافه ضيفٌ، فنَوّمَ صبيانه، وأطفأ السّراج، وآثر الضيف بقوْتهم [أخرجه البخاريّ في «صحيحه» في تفسير سورة الحشر]، وكذلك قوله تعالى: {ويُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ} الآية [الإنسان (8)]. أي على شدّة الحاجة إليه، والشهوة له، ولا شكّ أن صدقةَ مَن هذه حاله أفضل. وفي حديث أبي ذرّ -رضي الله عنه-: «أفضل الصدقة جهد مقلّ» [حديث صحيح أخرجه النسائيّ، بلفظ «فأيّ الصدقة أفضل؟ قال» جهد المقلّ”]، وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «سبق درهم مائة ألف … » [حديث صحيح، أخرجه النسائيّ وغيره].
فقد أفاد مجموع ما ذكرنا: أن صدقة المؤثر، والمقلّ أفضل، وحينئذ يثبت التعارض بين هذا المعنى، وبين قوله: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» على تأويل الخطّابيّ، فأما على ما أوّلنا به الغنى، فيرتفع التعارض. وبيانه أن الغِنى يُعنى به في الحديث حصول ما تُدفع به الحاجة الضروريّة، كالأكل عند الجوع المشوّش، الذي لا صبر عليه، وستر العورة، والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى، وما هذا سبيله، فهذا ونحوه مما لا يجوز الإيثار به، ولا التصدّق، بل يحرم، وذلك أنه إذا آثر غيره بذلك أدّى إلى هلاك نفسه، أو الإضرار بها، أو كشف عورته، فمراعاة حقّه أولى على كلّ حال، فإذا سقطت هذه الواجبات صحّ الإيثار، وكانت صدقته هي الأفضلَ؛ لأجل ما يتحمّل من مضض الفقر، وشدّة مشقّته. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله [«المفهم» (3) / (80) – (81)].
وأيد هذا التوجيه الاتيوبي
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم التصدّق مع الحاجة إلى المال:
قال الإمام البخاريّ رحمه الله في «صحيحه»: ومن تصدّق، وهو محتاجٌ، أو أهله محتاجٌ، أو عليه دين، فالدين أحقّ أن يُقضى من الصدقة، والعتق، والهبة، وهو ردّ عليه، ليس له أن يُتلِفَ أموال الناس، قال النبيّ ?: «من أخذ أموال الناس يُريد إتلافها أتلفه الله»، إلا أن يكون معروفًا بالصبر، فيؤثر على نفسه، ولو كان به خصاصةٌ، كفعل أبي بكر -رضي الله عنه- حين تصدّق بماله. وكذلك آثر الأنصار المهاجرين. ونهى النبيّ ? عن إضاعة المال، فليس له أن يضيّع أموال الناس بعلّة الصدقة. وقال كعب بن مالك -رضي الله عنه-: قلت: يا رسول الله، إن من تمام توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله، وإلى رسوله ?، قال: «أمسك عليك بعض مالك، فهو خيرٌ لك»، قلت: أُمسِك سهمي الذي بخيبر. انتهى كلام البخاريّ رحمه الله [راجع: «صحيح البخاريّ» (4) / (45) بنسخة «الفتح»].
وقال النوويّ رحمه الله: قد اختلف العلماء في الصدقة بجميع ماله، فمذهبنا أنه مستحبٌّ لمن لا دَينَ عليه، ولا له عيال لا يصبرون، ويكون هو ممن يصبر على الإضاقة والفقر، فإن لم يَجْمَع هذه الشروط فهو مكروه.
وقال القاضي عياض رحمه الله: جَوّز جمهور العلماء، وأئمة الأمصار الصدقة بجميع ماله، وقيل: يُرَدُّ جميعها، وهو مرويّ عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وقيل: يُنَفَّذ في الثلث، هو مذهب أهل الشام، وقيل: إن زاد على النصف رُدّت الزيادة، وهو محكيّ عن مكحول، قال أبو جعفر الطبريّ: ومع جوازه فالمستحب أن لا يفعله، وأن يقتصر على الثلث. انتهى [«شرح النوويّ» (7) / (125)].
وقال في «الفتح»: قال الطبريّ وغيره: قال الجمهور: من تصدّق بماله كلّه في صحّة بدنه وعقله، حيث لا دينَ عليه، وكان صبورًا على الإضاقة، ولا عيال له، أو له عيالٌ يصبرون أيضًا، فهو جائزٌ، فإن فُقد شيء من هذه الشروط كُرِه، وقال بعضهم: هو مردودٌ. ورُوي عن عمر -رضي الله عنه-، حيث رَدّ على غيلان الثقفيّ قسمة ماله.
ويمكن أن يُحتجّ له بقصّة المدبّر، الذي أخرجه الشيخان، عن جابر -رضي الله عنه-، قال: أعتق رجل من بني عُذْرَة، عبدًا له، عن دبر، فبلغ ذلك رسول الله ?، فقال: «ألك مال غيره؟»، فقال: لا، فقال رسول الله ?: «من يشتريه مني؟»، فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوي، بثمان مائة درهم، فجاء بها رسول الله ?، فدفعها إليه، ثم قال: «ابدأ بنفسك، فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك، فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء، فهكذا، وهكذا، يقول: بين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك». وفي لفظ للبخاريّ: «أن رجلًا أعتق غلامًا له عن دبر، فاحتاج … » الحديث.
فهذا الحديث يدلّ على أن من تصدّق، وهو محتاج يردّ عليه، ولا تنفذ صدقته.
وقال آخرون: يجوز من الثلث، ويُردّ عليه الثلثان، وهو قول الأوزاعيّ، ومكحول. وعن مكحول أيضًا يُردّ ما زاد على النصف.
قال الطبريّ رحمه الله: والصواب عندنا الأول، من حيث الجواز، والمختار من حيث الاستحباب أن يجعل ذلك من الثلث، جمعًا بين قصّة أبي بكر، وحديث كعب. انتهى [راجع «الفتح» (4) / (45) – (47)].
قال الإتيوبي عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قال الإمام البخاريّ رحمه الله هو الأرجح، وحاصله أن من تصدّق بماله، وهو محتاجٌ، أو أهله، أو عليه دينٌ، بطلت صدقته، إلا أن يكون معروفًا بالصبر، كفعل أبي بكر -رضي الله عنه-، وبهذا تجتمع الأدلّة، من غير تعارض، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير].
(المسألة الربعة): دلّت الأحاديث المتقدّمة المتضافرةُ على أن اليد العليا هي المنفقة المعطية، وأن السفلى هي السائلة، وهذا هو المعتمد، وهو قول الجمهور.
وقيل: اليد السفلى الآخذة، سواء كان بسؤال، أم بغير سؤال، وهذا أباه قومٌ، واستندوا إلى أن الصدقة تقع في يد الله قبل يد المتصَدَّق عليه، قال ابن العربيّ: التحقيق أن السفلى يد السائل، وأما يد الآخذ فلا؛ لأن يد الله هي المعطية، ويد الله هي الآخذة، وكلتاهما يمين. انتهى.
قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن البحث إنما هو في أيدي الآدميين، وأما يد الله تعالى، فباعتبار كونه مالك كلّ شيء نسبت يده إلى الإعطاء، وباعتبار قبوله للصدقة، ورضاه بها نسبت يده إلى الأخذ، ويده العليا على كلّ حال، وأما يد الآدميّ، فهي أربعة:
(أحدها): يد المعطي، وقد تضافرت الأخبار بأنها عليا.
(ثانيها): يد السائل، وقد تضافرت الأخبار أيضًا بأنها سفلى، سواء أخذت، أم لا، وهذا موافق لكيفيّة الإعطاء والأخذ غالبًا، وللمقابلة بين العلو والسفل المشتقّ منهما.
(ثالثها): يد المتعفّف عن الأخذ، ولو بعد أن تَمُدّ إليه يد المعطي مثلًا، وهذه توصف بكونها عُلْيا علوًا معنويًّا.
(رابعها): يد الآخذ بغير سؤال، وهذه قد اختُلِف فيها، فذهب جمع إلى أنها سفلى، وهذا بالنظر إلى الأمر المحسوس، وأما المعنويّ فلا يطّرد، فقد تكون عليا في بعض الصور، وعليه يُحمل كلام من أطلق كونها عليا.
قال ابن حبّان رحمه الله في «صحيحه»: عندي أن اليد المتصدّقة أفضل من السائلة، لا الآخذة دون السؤال؛ إذ محالٌ أن تكون اليد التي أبيح لها استعمال فعل باستعماله، دون [عبارة ابن حبان «أحسن» وما هنا من «الفتح»، وهو الظاهر] من فُرض عليه إتيان شيء، فأتى به، أو تقرّب إلى بارئه متنفّلًا فيه، وربما كان المعطي في إتيانه ذلك أقلّ تحصيلًا في الأسباب من الذي أتى بما أبيح له، وربما كان هذا الآخذ لِما أُبيح له أفضل، وأورع من الذي يعطي، فلما استحال هذا على الإطلاق دون التحصيل بالتفضيل، صحّ أن معناه أن المتصدّق أفضل من الذي يسألها. انتهى [صحيح ابن حبّان (8) / (150) – (151) بتحقيق شعيب الأرنؤوط].
وعن الحسن البصريّ: اليد العليا المعطية، والسفلى المانعة، ولم يوافَق عليه.
وأطلق آخرون من المتصوّفة أن اليد الآخذة أفضل من المعطية مطلقًا، ونقل ابن قتيبة في «غريب الحديث» ذلك عن قوم، ثم قال: وما أرى هؤلاء إلا قومًا استطابوا السؤال، فهم يحتجّون للدناءة، ولو جاز هذا لكان المولى مِن فوقُ هو الذي كان رقيقًا، فأُعتق، والمولى من أسفلُ هو السيّد الذي أعتقه. انتهى.
قال الحافظ: وقرأت في «مطلع الفوائد» للعلّامة جمال الدين ابن نُباتة في تأويل الحديث المذكور معنى آخر، فقال: اليد هنا هي النعمة، وكأنّ المعنى أن العطيّة الجزيلة خيرٌ من العطيّة القليلة، قال: وهذا حثّ على المكارم بأوجز لفظٍ، ويشهد له أحد التأويلين في قوله: «ما أبقت غنى»؛ أي ما حصل به للسائل غنى عن سؤاله، كمن أراد أن يتصدّق بألف، فلو أعطاها لمائة إنسان لم يظهر عليهم الغنى، بخلاف ما لوأعطاها لرجل واحد، قال: وهو أولى من حمل اليد على الجارحة؛ لأن ذلك لا يستمرّ؛ إذ فيمن يأخذ من هو خيرٌ عند الله ممن يعطي.
قال الحافظ: التفاضل هنا يرجع إلى الإعطاء والأخذ، ولا يلزم منه أن يكون المعطي أفضل من الآخذ على الإطلاق.
وقد روى إسحاق في «مسنده» من طريق عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير: أن حكيم بن حزام، قال: يا رسول الله، ما اليد العليا؟ قال: «التي تعطي، ولا تأخذ».
فقوله: «ولا تأخذ» صريحٌ في أن الآخذة ليست بعليا، والله أعلم.
قال: وكلّ هذه التأويلات المتعسّفة تَضمَحِلّ عند الأحاديث المتقدّمة المصرّحة بالمراد، فأولى ما فُسّر الحديث بالحديث.
ومُحصّل ما في الآثار المتقدّمة أن أعلى الأيدي المنفقة، ثم المتعفّفة عن الأخذ، ثم الآخذة بغير سؤال، وأسفل الأيدي السائلة، والمانعة، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله [فتح (4) / (49) – (50)]
قال الإتيوبي عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الحافظ رحمه الله أخيرًا تحقيقٌ حسنٌ جدًّا.
والحاصل أن المذهب الحقّ في المسألة هو ما ذهب إليه الجمهور من أن اليد العليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة؛ لوضوح دليله، وأما العكس فلا يؤيّده النقل، بل يدفعه، ويبطله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. [البحر المحيط الثجاج].
(المسألة الخامسة): فقه الحديث وفوائده:
(1) – (منها): بيان كون أفضل الصدقة إذا حصلت بعد كفاية النفس ومن تجب نفقته.
(2) – (ومنها): بيان كون اليد العليا -وهي المنفقة- خيرًا من اليد السفلى -وهي السائلة-.
(3) – (ومنها): أن فيه تقديم نفقة نفسه وعياله؛ لأنها منحصرة بخلاف نفقة غيرهم.
(4) – (ومنها): بيان الابتداء بالأهمّ، فالأهمّ في الأمور الشرعيّة.
(5) – (ومنها): أن فيه الأمر بتقديم ما يجب على ما لا يجب.
(6) – (ومنها): الحثّ على الإنفاق في وجوه الطاعة.
(7) – (ومنها): تفضيل الغِنى مع القيام بحقوقه على الفقر؛ لأن العطاء إنما يكون مع الغنى.
(8) – (ومنها): كراهة السؤال، والتنفير عنه، ومحلّه إذا لم تدع إليه ضرورةٌ، من خوف هلاك ونحوه، وقد روى الطبرانيّ من حديث ابن عمر بإسناد فيه مقالٌ، مرفوعًا: «ما المعطي من سَعَة بأفضل من الآخذ إذا كان محتاجًا»، قاله في «الفتح» [«الفتح» (4) / (51)]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [البحر المحيط الثجاج، من مواضع متفرقة].
انظر: التعليق على الصحيح المسند (ج (2) / رقم (1097)) تم الإشارة إلى بعض المسائل السابقة.