2798 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك أبو هزاع أحمد البلوشي، وعبدالله المشجري، وعبدالله كديم، وطارق أبي تيسير، وعبدالحميد البلوشي، محمد البلوشي.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله في كتاب صِفَةِ القِيامَةِ والجَنَّةِ والنّارِ، (5) – (7) – بابُ الدُّخانِ
(39) – ((2798)) حَدَّثَنا إسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ، أخْبَرَنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنصُورٍ، عَنْ أبِي الضُّحى، عَنْ مَسْرُوقٍ، قالَ: كُنّا عِنْدَ عَبْدِ اللهِ جُلُوسًا، وهُوَ مُضْطَجِعٌ بَيْنَنا، فَأتاهُ رَجُلٌ فَقالَ: يا أبا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنَّ قاصًّا عِنْدَ أبْوابِ كِنْدَةَ يَقُصُّ ويَزْعُمُ، أنَّ آيَةَ الدُّخانِ تَجِيءُ فَتَاخُذُ بِأنْفاسِ الكُفّارِ، ويَاخُذُ المُؤْمِنِينَ مِنهُ كَهَيْئَةِ الزُّكامِ، فَقالَ عَبْدُ اللهِ: وجَلَسَ وهُوَ غَضْبانُ: يا أيَّها النّاسُ اتَّقُوا اللهَ، مَن عَلِمَ مِنكُمْ شَيْئًا، فَلْيَقُلْ بِما يَعْلَمُ، ومَن لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ: اللهُ أعْلَمُ، فَإنَّهُ أعْلَمُ لِأحَدِكُمْ أنْ يَقُولَ: لِما لا يَعْلَمُ: اللهُ أعْلَمُ، فَإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ قالَ لِنَبِيِّهِ ?: {قُلْ ما أسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِن أجْرٍ وما أنا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ} [ص (86)] إنَّ رَسُولَ اللهِ ? لَمّا رَأى مِنَ النّاسِ إدْبارًا، فَقالَ: «اللهُمَّ سَبْعٌ كَسَبْعِ يُوسُفَ» قالَ: فَأخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ، حَتّى أكَلُوا الجُلُودَ والمَيْتَةَ مِنَ الجُوعِ، ويَنْظُرُ إلى السَّماءِ أحَدُهُمْ فَيَرى كَهَيْئَةِ الدُّخانِ، فَأتاهُ أبُو سُفْيانَ فَقالَ: يا مُحَمَّدُ إنَّكَ جِئْتَ تَامُرُ بِطاعَةِ اللهِ، وبِصِلَةِ الرَّحِمِ، وإنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا، فادْعُ اللهَ لَهُمْ، قالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: {فارْتَقِبْ يَوْمَ تَاتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ، يَغْشى النّاسَ هَذا عَذابٌ ألِيمٌ} [الدخان (11)] إلى قَوْلِهِ: {إنَّكُمْ عائِدُونَ} [الدخان (15)]، قالَ: أفَيُكْشَفُ عَذابُ الآخِرَةِ؟ {يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرى إنّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان (16)] فالبَطْشَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، وقَدْ مَضَتْ آيَةُ الدُّخانِ، والبَطْشَةُ واللِّزامُ، وآيَةُ الرُّومِ.
(40) – ((2798)) حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا أبُو مُعاوِيَةَ، ووَكِيعٌ، ح وحَدَّثَنِي أبُو سَعِيدٍ الأشَجُّ، أخْبَرَنا وكِيعٌ، ح وحَدَّثَنا عُثْمانُ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا جَرِيرٌ، كُلُّهُمْ عَنِ الأعْمَشِ، ح وحَدَّثَنا يَحْيى بْنُ يَحْيى، وأبُو كُرَيْبٍ – واللَّفْظُ لِيَحْيى – قالا: حَدَّثَنا أبُو مُعاوِيَةَ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قالَ: جاءَ إلى عَبْدِ اللهِ رَجُلٌ فَقالَ: تَرَكْتُ فِي المَسْجِدِ رَجُلًا يُفَسِّرُ القُرْآنَ بِرَايِهِ يُفَسِّرُ هَذِهِ الآيَةَ: {يَوْمَ تَاتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ} [الدخان (10)] قالَ: يَاتِي النّاسَ يَوْمَ القِيامَةِ دُخانٌ، فَيَاخُذُ بِأنْفاسِهِمْ حَتّى يَاخُذَهُمْ مِنهُ كَهَيْئَةِ الزُّكامِ، فَقالَ عَبْدُ اللهِ: مَن عَلِمَ عِلْمًا فَلْيَقُلْ بِهِ، ومَن لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ: اللهُ أعْلَمُ، فَإنَّ مِن فِقْهِ الرَّجُلِ أنْ يَقُولَ لِما لا عِلْمَ لَهُ بِهِ: اللهُ أعْلَمُ، إنَّما كانَ هَذا، أنَّ قُرَيْشًا لَمّا اسْتَعْصَتْ عَلى النَّبِيِّ ?، «دَعا عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ»، فَأصابَهُمْ قَحْطٌ وجَهْدٌ، حَتّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إلى السَّماءِ فَيَرى بَيْنَهُ وبَيْنَها كَهَيْئَةِ الدُّخانِ مِنَ الجَهْدِ، وحَتّى أكَلُوا العِظامَ، فَأتى النَّبِيَّ ? رَجُلٌ فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ اسْتَغْفِرِ اللهَ لِمُضَرَ، فَإنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا، فَقالَ: «لِمُضَرَ إنَّكَ لَجَرِيءٌ» قالَ: فَدَعا اللهَ لَهُمْ، فَأنْزَلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: {إنّا كاشِفُو العَذابِ قَلِيلًا إنَّكُمْ عائِدُونَ} [الدخان (15)] قالَ: فَمُطِرُوا، فَلَمّا أصابَتْهُمُ الرَّفاهِيَةُ، قالَ: عادُوا إلى ما كانُوا عَلَيْهِ، قالَ: فَأنْزَلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: {فارْتَقِبْ يَوْمَ تَاتِي السَّماءُ
بِدُخانٍ مُبِينٍ، يَغْشى النّاسَ هَذا عَذابٌ ألِيمٌ} [الدخان (11)] {يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرى إنّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان (16)] قالَ: يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ.
(41) – ((2798)) حَدَّثَنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنا جَرِيرٌ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أبِي الضُّحى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قالَ: «خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ الدُّخانُ، واللِّزامُ، والرُّومُ، والبَطْشَةُ، والقَمَرُ»،
(41) – حَدَّثَنا أبُو سَعِيدٍ الأشَجُّ، حَدَّثَنا وكِيعٌ، حَدَّثَنا الأعْمَشُ، بِهَذا الإسْنادِ مِثْلَهُ (42) – ((2799)) حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنّى، ومُحَمَّدُ بْنُ بَشّارٍ، قالا: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، ح وحَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ – واللَّفْظُ لَهُ – حَدَّثَنا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتادَةَ، عَنْ عَزْرَةَ، عَنِ الحَسَنِ العُرَنِيِّ، عَنْ يَحْيى بْنِ الجَزّارِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي لَيْلى، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فِي قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: {ولَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذابِ الأدْنى دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ} [السجدة (21)] قالَ: «مَصائِبُ الدُّنْيا، والرُّومُ، والبَطْشَةُ، أوِ الدُّخانُ» شُعْبَةُ الشّاكُّ فِي البَطْشَةِ أوِ الدُّخانِ.
==========
التمهيد:
“أنّ ما جاء في القرآن الكريم وفي سنة النبي ? من ذِكْرِ أمورٍ غيبية تكون قريبًا مِن السّاعة، أو تكون من أشراطها فإنها داخلةٌ في الإيمان في أركان الإيمان، ويجب الإيمان بها.
ودخولها في أركان الإيمان من جهتين:
الجهة الأولى: أنّها غيب، والإيمان كُلُّهُ إيمانٌ بالغيب الذي أخبر به الله ? أو أخبر به نبيُّه الله ?.
الجهة الثانية: أنّه من أركان الإيمان: الإيمان باليوم الآخر، ومُقَدِّمات اليوم الآخر وأشراط الساعة التي ثبتت في كتاب الله وفي سنة محمد الله ?، فإنّ الإيمان بها واجب إذا بلغ المسلم الخبر في ذلك فيجب عليه التصديق بالغيب والإيمان به.
وقد خَصَّ الله – عز وجل – أهل الإيمان بصفة الإيمان بالغيب، فهي أوْل وأُولى صفات المؤمنين؛ كما قال ?: {الم ((1)) ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ((2)) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [البقرة: (1) – (2)]، فالإيمان بالغيب يدخل فيه جميع أركان الإيمان؛ لأنّ الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشرّه، هذا كله إيمانٌ بالغيب”. [شرح الطحاوية لصالح آل الشيخ ص (688)].
ومن مقاصد إيراد أهل العلم لهذه الأشراط أيضًا: “مخالفة عددٍ من الطوائف الضّالة الذين لا يؤمنون بما يخالف ما دَلَّهُمْ عليه عقلُهُم، فإنّ طوائف أنكرت وجود الدجال، وطوائف أنكرت نزول عيسى بن مريم عليه السلام، وطوائف أنكرت طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة ونحو ذلك مما ليس مألوفًا لهم ولا يدخل في السُّنَنْ؛ فَنَفَوهُ لأجل ذلك.
وأهل السنة باب الغيب عندهم بابٌ واحد، فما صح عن رسول الله ? فإنه يجب الإيمان به”. [شرح الطحاوية لصالح آل الشيخ ص (688)].
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله: (” [(10)]- (بابُ الدُخانِ) “). يحسن الإشارة إلى جملة من المسائل قبل الولوج في بيان الباب، وتوضيح الحديث، كتالي:
[المسألة الأولى]:
الأشراط جمع شرط، والشّرط هو العلامة التي تُفَرِّقُ الشيء وتُمَيِّزُهُ عن غيره.
وأشراط الساعة المقصود به: الآيات والعلامات التي تدل على قرب قيام الساعة، إما دُنُواًّ فتكون أشراطًا كبرى، وإما دِلالَةً على القُرْبْ فتكون من جملة الأشراط الصغرى.
وقد جاء ذكر كلمة الأشراط في القرآن الكريم في سورة محمد، قال – عز وجل -: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إلّا السّاعَةَ أنّ تَاتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أشْراطُها} [محمد: (18)]، وأفادت الآية فائدتين:
– الفائدة الأولى: أنّ الساعَةَ لها أشراط وعلامات.
– الفائدة الثانية: أنّ أشراط الساعة قد وقعت في وقت تَنَزُّلِ القرآن على محمد ?.
وهذا يعني: أنّ مِنَ الأشراط ما يكون بعيدًا عن وقوع الساعة، ومنها ما يكون قريبًا من وقوع الساعة.
ومن الأحاديث في ذلك: أنّ النبي ? لما تَذاكَرُوا عنده الساعة قال: «إنها لن تكون حتى تروا قبلها عشر آيات» [مسلم ((7467))]، فدلَّ ذلك على أنّ ثمَّتَ أشراط سَمّاها النبي ? آيات.
والآيات جمع آية وهي: ما يَدُلُّ دِلالَةً واضحةً ظاهرة على المراد وعلى الشيء حيث لا يكون فيه لَبْسْ.
[المسألة الثانية]:
أشراط الساعة قَسَمَها العلماء إلى قسمين:
– إلى أشراطٍ كبرى.
– وإلى أشراطٍ صغرى.
ومن أهل العلم من قَسَمَها إلى ثلاثة أقسام:
– أشراط صغرى.
– ووسطى.
– وكبرى.
والأول هو المعتمد، والثاني اصطلاح تفسيري، ولكن ليس ثَمَّ ما يدل عليه من وجود الوسطى وإن كانت موجودةً وداخلة في الصغرى.
أما تعريف الأشراط الصغرى:
فهي: “ما دلَّ الدليل على أنّهُ مِن علامات قُرْبْ الساعة وليس من العشر آيات التي جاءت في الحديث أنها تكون بين يدي الساعة”.
فحصلت الأشراط الصغرى في زمن النبي ?، ولا تزال تحصل، وتحصل إلى بَدْءِ الأشراط الكبرى.
فمن أهل العلم من جعل الأشراط الصغرى كما ذكرت لك:
– ما قَرُبَ من عهد النبي ? فهي صغرى.
– وما بَعُد من عهده فهي وسطى إلى حدوث الأشراط الكبرى.
والأول هو المعتمد في ذلك.
[المسألة الثالثة]:
الأشراط الصغرى كثيرة جدًا ومتنوعة، – ولا يدلُّ كون الحَدَثْ من أشراط الساعة على مدحه أو ذمه -، بل هي آيات ودلائل على القرب:
– فتارةً تكون ممدوحةً غاية المدح، منها بعثة محمد ?، وانشقاق القمر – باعتباره آية لمحمد ?-، ومنها فتح بيت المقدس.
– وقد تكون مذمومةً مُحَرَّمَةً أو مكروهة، أو تكون واقِعَةً كونِيَّةً فيها ابتلاء أو عقوبة للعباد.
والمقصود من ذلك: أنّ ما جاء في الدليل أنّهُ من آيات أو أشراط الساعة فلا يدلُّ كونه من أشراط الساعة على أنّهُ ممدوحٌ أو مذموم إلا بدليلٍ آخر أو بحقيقة الأمر.
وأشراط الساعة الصغرى كثيرةٌ جدًا جدًا، فمما يشار إليه فيها ما جاء في الحديث الذي رواه البخاري وغيره، حديث عوف بن مالك أنّ النبي ? قال: «أُعْدُدْ سِتَّا بين يدي الساعة، موتي ثم فتح بيت المقدس، ثم مُوتانٌ يَاخُذُ فيكم كقٌعاصِ الغنم، ثم استفاضة المال». [البخاري ((3176)) / ابن ماجه ((4042))] … إلخ الحديث.
ومنها: مما حَدَثَ وهذه حدثت قريبًا من عهده ?.
ومنها: مما حَدَثَ بعيدًا عن عهده ?، النار التي خرجت من المدينة في القرن السابع الهجرى، في نحو سنة أربع وخمسين وستمائة، وقال ?: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من الحجاز» أو «من المدينة تُضيئ لها أعناق الإبل ببُصرى» [البخاري ((7118)) / مسلم ((7473))].
منها: ما يكون قريبًا من الأشراط الكبرى.
[تنويه]: وأشراط الساعة الصغرى والكبرى أُلِّفَتْ فيها مؤلفات كثيرة في جمعها، وجمع الأحاديث التي جاءت في ذِكْرِ أشراط الساعة، وهي من العلم النافع الذي يدلُّ على صدق النبي ? فيما أخبر به؛ لأنّهُ ولا شك أخبر عن أمرٍ غيبيٍ لم يحدث، وكان خبره صِدْقًا ويقينًا.
فهذه الأخبار التي فيها أنّهُ بين يدي الساعة يكون كذا، أو لا تقوم الساعة حتى يكون كذا، أو من أشراط الساعة كذا، أو أُعْدُدْ بين يدي الساعة كذا، هذه كلها تدلّ:
– على صدقه ?.
– ثُمَّ أيضًا تدلّ على أنّ الساعة آتية لا ريب فيها؛ لأنّ النبي ? أخبر بحدوث هذه الأمور وحدوثها حَصَلَ وكان حقًا كما أخبر به ?.
لهذا كان التّحديث بأشراط الساعة الصغرى والكبرى، وذِكْرُها مما يُقَوِّي اليقين، ويُقَوِّي الإيمان، وهو من دلائل نبوة محمد ?.
[المسألة الرابعة]:
الأشراط الكبرى يُعْنى بها: “العلامات والآيات التي تكون قريبةً من الساعة، بحيث إذا حدثت فإنّ يوم القيامة قريبٌ جدًا جدًا”.
وسُمِّيَتْ كبرى؛ لأنها آيات عظيمة تحدث ليس في حُسْبانْ العِبادْ أنْ تحدُثْ، ولم يكن لها دليلٌ قبلها أو لها ما يشابهها.
وهذه الأشراط الكبرى عشر كما جاءت في الأحاديث؛ ولكنها جاء في عدة أحاديث غير مرتبة، يعني من جهة الوقوع.
وهذه العشرة وهي مرتبة في الحدوث كما أسوقها:
– أول ما يحدث خروج الدجال.
– ثم نزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء.
– ثم خروج يأجوج ومأجوج.
– ثم ثلاثة خسوف: خسفٌ بالمشرق وخسفٌ بالمغرب وخسفٌ بجزيرة العرب.
– ثم طلوع الشمس من مغربها.
– ثم خروج الدابة على الناس ضحى.
– ثم الدُّخان.
– ثم خروج النار التي تحشر الناس إلى أرض المحشر.
وفي ترتيب الدخان هل هو قبل طلوع الشمس من مغربها أو هو بعد طلوع الشمس فيه خلاف بين أهل العلم، والأظهر هو ما ذكرت لك مِنَ الترتيب.
والدخان:
ثم يكون الدخان، والدخان حَصَلَ مَرَّةً كما في سورة الدخان؛ ولكنه ليس بالآية العظيمة كالدخان الذي يحصل قرب قيام الساعة، فذاك دخان يغشى الناس من أولهم إلى آخرهم في الأرض كلها ويشتد معه الخطب والأمر.
ومن أهل العلم من قال: إنّ الآية في سورة الدخان المقصود بها ما هو في قرب قيام الساعة، وفي الأحاديث والسنة أنّ الدخان حَصَلَ في المسلمين، يعني قد رآه المسلمون والمشركون في مكة، وهذا غير هذا.
[المسألة الخامسة]:
الناس في ما كتبوا من أهل العلم في أشراط الساعة ما بين مُصِيبٍ مُدَقِّقْ وما بين متساهل.
ولهذا المؤلفات في هذا الباب كثيرة جِدَّا، يعني وما بين كُتُبٍ مُؤَلَّفَة مستقلة وما بين شروحٍ في كتبٍ مطولة.
لكن ينبغي لطالب العلم أنْ يتحَرَّزْ في هذا الأمر وذلك؛ لأنّ أشراط الساعة أمرٌ غيبي، والأمور الغيبية يجب أنْ يُسَلَّمَ لها إذا صح فيها دليل، إذا كان الدليل من كتاب الله ? أو كانَ الدّليل مما صح من كلام النبي ?.
وفيها ما في جنس أخبار الغيب، بأنه لا يُتَعَرَضُ لها بمجاز، ولا بما يَنْفِي حقيقتها، ولا بالتأويل الذي يصرفها عن ظواهرها.
فباب التأويل والمجاز مرفوضٌ في مسائل الغيب جميعهًا، أو رَدْ هذه الآيات بالعقلانيات وأنّ العقل يُحيلُ مثل هذا، هذا كله مردود.
ولهذا تجد في الكتب المؤلفة والشروح، ربما ما يصرف الأحاديث عن ظاهرها، والواجب هو التسليم لها.
وهذا يَدْخُلْ في مقتضى الشهادة بالنبي ?؛ لأنه من مقتضى الشهادة معناها تصديقه ? فيما أخبر، فكل ما أخبر به من أمور الغيب ومن قصص السالفين ومما لم تُدْرِكْهُ فيجب التصديق به والإيمان بذلك؛ لأنه ? يُبَلِّغُ عن ربه ? وتقدست أسماؤه.
والناس في مسائل أشراط الساعة كما ذكرت لك في أول الكلام:
– منهم من يتأولها وينفي ما لا يدل عليه العقل، ويأخذ بما دلَّ عليه العقل.
– ومنهم من يتأول بعضًا.
– ومنهم من يؤمن بها على ظاهرها كما جاءت؛ لأنها أمورٌ غيبية وهذا هو الذي ينبغي.
لهذا تجد مثلًا أنّ في نزول عيسى عليه السلام والمهدي إذا جاء أنّهُ يكون مثلًا بالسيف وبالخيل، والسيف والخيل قال فيها ?: «إني لأعرف -أو لأعْلَمُ- أسماء خيولهم وألوانها» [مسلم ((7463))]، أو كما جاء عنه ?، وهذا تأكيد للحقيقة.
وكذلك أشراط الساعة الأخرى مثل خروج الدجال وأن يسمع به الناس:
فمِنَ الناس من قال أنّ الدجال مثلًا يركب الطائرة، مما أُلِّفْ في هذا الباب، يركب الطائرة وأنه يَسْمَعْ الناس بخبره عن طريق كذا وكذا من الآلات التي هي موجودة الآن، وهذا مما لا يصلح أنْ يُثْبَتْ ولا أنْ يُنْفى.
بل الواجب في مثل هذا التسليم للخبر؛ لأنه إثباته فيه إثبات أنّ هذه الأشياء ستبقى إلى خروجه، وهذا ما ليس لنا به علم، والنفي أيضًا نفيٌ بما لم نُدْرِكْ علما.
والواجب في هذا التسليم، وأن لا يخوض الناس في عقليات تنفي ظاهر الأدلة.
فنؤمن بها كما جاءت ولا ندخل فيها كما ذكرت بتأويلٍ أو بمجازٍ يصرفها عن ظواهرها.
[المسألة السادسة]: عيسى ابن مريم عليه السلام إذا نزل فإنّهُ ينزِلُ تابِعَا لشريعة محمد ?؛ لأنّهُ ببعثة محمد ? وجَبَ على من يكون حَيَّا أنْ يؤمن به.
ولهذا عيسى عليه السلام إذا نَزَلْ وكان الإمام يُصَلِّي بالناس أو يريد الصلاة، فيأتي يَتَأخَّرْ ليتقدم عيسى عليه السلام، فيقول عيسى عليه السلام (لا، إمامكم منكم تَكْرِمَةُ الله لهذه الأمة) [مسلم ((412))].
وهذا فيه الدِّلالة من أول وهلة، ومن أول لحظة على أنّهُ تابعٌ لمحمد ?، وليس رسولًا مُتَجَدِّدَا يعني كما كان قبل بعثة محمد ?.
ولهذا إذا نزل عليه السلام فإنه يكون حاكمًا بكتاب الله – عز وجل – وبسنة رسوله ?
[المسألة السابعة]:
أشراط الساعة ربما حَلاَ لبعض الناس أنْ يُنَزِّلَها على الواقع الذي يعيش فيه، دون تحقيقٍ في انطباقها على ما ذكر.
ولهذا ألَّفَ مَن ألَّفْ من المعاصرين في أنّ هذه العلامة أو هذا الشرط هو كذا بعينه.
وهذا مما لا يتجاسر العلماء عليه بل يتحرون فيه أتَمْ التَّحَرِّي، فإنّ تطبيق الواقع على أنّهُ هو ما أخبر به النبي ? هذا يحتاج إلى علم؛ لأنّهُ إخبارٌ بما تؤول إليه أحاديثه ?، وهذا يحتاج إلى علم، والله – عز وجل – يقول: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلّا تَاوِيلَهُ} [الأعراف: (53)]، يعني: ما تؤول إليه حقائق أخباره، وهذا ربما لم يظهر لكل أحد، -يعني الآية في يوم القيامة لكن انتظار التأويل يعني ما تؤول إليه حقائق الأخبار-.
بعضها ظاهر مثل بعثة النبي ?، انشقاق القمر، موت النبي ?، الموتان يعني الطاعون الذي حصل، طاعون عمواس في سنة (18) من الهجرة ونحو ذلك، مثل النار التي خرجت من المدينة.
لكن في بعضها يكون ثَمَّ اشتباه، هل هو منطبق أو ليس بمنطبق، هل هو تمت، يعني: هل الصفات منطبقة أو ليست كذلك.
ولهذا كما ذكرت لك في أول الكلام أنّ أشراط الساعة إيرادُها من الشارع إنما هو لأمرين:
(1) – لأجل الإيمان بها.
(2) – ثُمَّ لتكون دِلالَةْ من دلائل نبوة محمد ?.
فوجود الأحاديث أو ذِكْرِ الشيء من أشراط الساعة لا يقتضي مدحًا ولا ذمَّا، ولا نستفيد منه حكمًا شرعيًا.
مثلًا حديث: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد» [أبو داود ((449)) / النسائي ((689)) / ابن ماجه ((739))]، وكما في حديث عمر المشهور في قصة جبريل، قال: أخبرني عن السّاعة، قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل»، قال: فأخبرني عن أشراطها، قال: «أنْ تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان».
منهم من طَبَّقْ (أنْ تلِدَ الأمَةُ رَبَّتَها) على عصرٍ من العصور أو على وضعٍ من الأوضاع.
ومنهم من طَبَّقَ (الحفاة العراة العالة رعاء الشاء) على وقتٍ من الأوقات.
ومثل ما جاء من نُطْقْ الحديد، مثل (وأنْ تُحَدِّثَ المرأة عَذَبَةُ سوطه) [الترمذي ((2181))].
هل هذا يقتضي ذمّ هذا الفعل أو لا يقتضي ذمَّا ولا مدحَا؟ يعني هل يُحكم عليه بالكراهة لأجل هذا الحديث؟
المعتمد عند أهل العلم أنّ مثل هذه الأحاديث لم تَرِدْ للأحكام الشرعية، وإنما وردت للإخْبارِ بها؛ لتكون دليلًا على نبوته ?، ولابتلاء الناس بالإيمان بخبره ?؛ حتى يظهر المُسَلِّمْ له ? من غير المُسَلِّمْ.
و مباحث أشراط الساعة كثيرة وأُلِّفَ فيها عدة مؤلفات يمكن أنْ ترجعوا إليها للمزيد.
من أفضلها كتاب «النهاية» للحافظ ابن كثير لأنه مُحَرر، ومن الكتب المعاصرة كتاب أشراط الساعة ليوسف الوابل، وكذلك كتاب: «إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة» للشيخ العلامة حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله، ونحو هذه الكتب. [شرح الطحاوية لصالح آل الشيخ ص (689 – 697)].
وقد ألف في أشراط الساعة الشيخ محمد غيث.
قال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7040)] ((2798)) –
شرح الحديث:
(إنَّ قاصًّا)؛ أي: واعظًا، يعظ الناس، ويقصّ عليهم القصص (عِنْدَ أبْوابِ كنْدَةَ) وفي رواية للبخاريّ: «بينما رجل يحدّث في كندة»، وباب كندة هو باب الكوفة، و «كندة» بكسر الكاف، وسكون النون: اسم قبيلة مشهورة، وأضيف إليهم الباب، لكونه في مكانهم.
(وًيزْعُمُ)؛ أي: يدّعي (أنَّ آيَةَ الدُّخانِ)،.
وفي رواية للبخاريّ في تفسير «سورة الروم»: «بينما رجل يحدّث في كندة، فقال: يجيء دخان يوم القيامة، فيأخذ بأسماع المنافقين، وأبصارهم، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام».
وفي ذكر ابن مسعود – رضي الله عنه – الآية تعريض بالرجل القائل: يجيء دخان إلخ بأنه من المتكلّفين،
وجاء في رواية: «لمّا دعا قريشًا كذّبوه، واستعصوا عليه، فقال: اللَّهُمَّ أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف».
(حَتى أكَلُوا الجُلُودَ، والمَيْتَةَ) زاد في رواية البخاريّ: «والجِيَف» بكسر الجيم، (ويَنْظُرُ إلى السَّماءِ أحَدُهُمْ، فيَرى كَهَيْئَةِ الدُّخانِ)؛ أي: مثل صفة الدخان، وذلك لضَعْف بصره بسبب الجوع، فيُخيّل إليه أنه رأى دخانًا، وليس بدخان، وإنما هو خيال فقط
وقال في «الفتح»: قوله: «فجاءه أبو سفيان»؛ يعني: الأمويّ والد معاوية، والظاهر أن مجيئه كان قبل الهجرة؛ لقول ابن مسعود: «ثم عادوا، فذلك قوله: يوم نبطش البطشة الكبرى، يوم بدر «، ولم يُنقل أن أبا سفيان قَدِم المدينة قبل بدر، وعلى هذا فيَحْتَمِل أن يكون أبو طالب كان حاضرًا ذلك، فلذلك قال:
وأبْيَضَ يُسْتَسْقى الغَمامُ بِوَجْهِهِ … ثِمالُ اليَتامى عِصْمَةٌ لِلأرامِلِ
لكن سيأتي بعد هذا بقليل ما يدلّ على أن القصة المذكورة وقعت بالمدينة، فإن لم يُحمل على التعدد، وإلا فهو مشكل جدًا، والله المستعان. انتهى [«الفتح» (2) / (511)].
قال الإتيوبي عفا الله عنه معلقًا: ما ذكره من حضور أبي طالب لهذه القصّة بعيد جدًا، فتأمل.
وسبب ذكر أن هذا الدعاء وقع في المدينة ما
أخرجه البخاري ومسلم وهذا لفظ مسلم:
(295) – ((675)) حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرانَ الرّازِيُّ، حَدَّثَنا الوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنا الأوْزاعِيُّ، عَنْ يَحْيى بْنِ أبِي كَثِيرٍ، عَنْ أبِي سَلَمَةَ، أنَّ أبا هُرَيْرَةَ، حَدَّثَهُمْ أنَّ النَّبِيَّ ? قَنَتَ بَعْدَ الرَّكْعَةِ فِي صَلاةٍ شَهْرًا، إذا قالَ: «سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَهُ»، يَقُولُ فِي قُنُوتِهِ: «اللهُمَّ أنْجِ الوَلِيدَ بْنَ الوَلِيدَ، اللهُمَّ نَجِّ سَلَمَةَ بْنَ هِشامٍ، اللهُمَّ نَجِّ عَيّاشَ بْنَ أبِي رَبِيعَةَ، اللهُمَّ نَجِّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، اللهُمَّ اشْدُدْ وطْأتَكَ عَلى مُضَرَ، اللهُمَّ اجْعَلْها عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» قالَ أبُو هُرَيْرَةَ: «ثُمَّ رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ ? تَرَكَ الدُّعاءَ بَعْدُ، فَقُلْتُ: أُرى رَسُولَ اللهِ ? قَدْ تَرَكَ الدُّعاءَ لَهُمْ، قالَ: فَقِيلَ: وما تُراهُمْ قَدْ قَدِمُوا»
قوله تعالى: {رَبَّنا اكْشِفْ عَنّا العَذابَ إنّا مُؤْمِنُونَ ((12))}؛ أي: يقولون ذلك، وقد روي أنهم أتوا النبيّ ?، وقالوا: إن كشف الله عنا هذا العذاب أسلمنا، والمراد بالعذاب: الجوع الذي كان بسببه ما يرونه من الدخان، أو يقولونه إذا رأوا الدخان الذي هو من آيات الساعة، أو إذا رأوه يوم فتح مكة على اختلاف الأقوال. والراجح منها: أنه الدخان الذي كانوا يتخيلونه مما نزل بهم من الجهد، وشدّة الجوع، ولا ينافي ترجيحُ هذا ما ورد أن الدخان من آيات الساعة، فإن ذلك دخان آخر، ولا ينافيه أيضًا ما قيل: إنه الذي كان يوم فتح مكة، فإنه دخان آخر على تقدير صحة وقوعه.
وقوله: {أنّى لَهُمُ الذِّكْرى}؛ فكيف يتذكر هؤلاء، وأنى لهم الذكرى؟
ثم لمّا دعوا الله بأن يكشف عنهم العذاب، وأنه إذا كشفه عنهم آمنوا أجاب سبحانه عليهم بقوله: {إنّا كاشِفُو العَذابِ قَلِيلًا}؛ أي: إنا نكشفه عنهم كشفًا قليلًا، أو زمانًا قليلًا، ثم أخبر الله سبحانه عنهم أنهم لا ينزجرون عما كانوا عليه من الشرك، ولا يفون بما وعدوا به من الإيمان، فقال: {إنَّكُمْ عائِدُونَ}؛ أي: إلى ما كنتم عليه من الشرك، وقد كان الأمر هكذا، فإن الله سبحانه لمّا كشف عنهم ذلك العذاب رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، والعناد، وقيل؛ المعنى: إنكم عائدون إلينا بالبعث، والنشور، والأوّل أولى. [«فتح القدير» (6) / (424)].
ثم بيّن – رضي الله عنه – المعنى المراد هنا {يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرى}؛ أي: الأخذة العظمى، {إنّا مُنْتَقِمُونَ} منهم. قال ابن مسعود: (فالبَطْشَةُ يَوْمَ بَدْرٍ)
بالقتل والأسر، (وقَدْ مَضَتْ آيَةُ الدُّخانِ)؛ أي: بما كانوا يرونه في السماء حال
الجوع، قال: (و) مضت (البَطْشَةُ، و) مضى أيضًا (اللِّزامُ) الذي ذكره الله -عَزَّ وجَلَّ-
في قوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزامًا} [الفرقان (77)]؛ أي: يكون عذابهم لازمًا لهم،
قالوا: وهو ما جرى عليهم يوم بدر من القتل والأسر، وهي البطشة الكبرى … .
(وآيَةُ الرُّوم)؛ أي: ومضى أيضًا ما دلّت عليه آية الروم، وهي قوله تعالى:
{غُلِبَتِ الرُّومُ ((2)) فِي أدْنى الأرْضِ وهُمْ مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ((3))}.
وقال الشوكانيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: قوله: {يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرى}
والبطشة الكبرى: هي: يوم بدر، قاله الأكثر. والمعنى: أنهم لما عادوا إلى التكذيب، والكفر بعد رفع العذاب عنهم انتقم الله منهم بوقعة بدر.
وقال الحسن، وعكرمة: المراد بها: عذاب النار، واختار هذا الزجاج، والأوّل
أولى.
قال: فقد مضى البطشة، والدخان، واللزام. وقد روي عن ابن مسعود، نحو هذا من غير وجه، وروي نحوه عن جماعة من التابعين.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم عن ابن أبي مليكة قال: دخلت على ابن عباس فقال: لم أنم هذه الليلة، فقلت: لم؟ قال: طلع الكوكب، فخشيت أن يطرق الدخان. قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح، وكذا صححه السيوطيّ، ولكن ليس فيه أنه سبب نزول الآية، وقد عرّفناك أنه لا منافاة بين كون هذه الآية نازلة في الدخان الذي كان يتراءى لقريش من الجوع، وبين كون الدّخان من آيات الساعة، وعلاماتها، وأشراطها، فقد وردت أحاديث صحاح، وحسان، وضعاف بذلك، وليس فيها أنه سبب نزول الآية، فلا حاجة بنا إلى التطويل بذكرها، والواجب التمسك بما ثبت في «الصحيحين»، وغيرهما: أن دخان قريش عند الجهد، والجوع هو سبب النزول، وبهذا تعرف اندفاع ترجيح من رجح أنه الدخان الذي هو من أشراط الساعة كابن كثير في «تفسيره»، وغيره، وهكذا يندفع قول من قال: إنه الدخان الكائن يوم فتح مكة متمسكًا بما أخرجه ابن سعد عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: كان يوم فتح مكة دخان، وهو قول الله: {فارْتَقِبْ يَوْمَ تَاتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ ((10))}، فإن هذا لا يعارض ما في «الصحيحين» على تقدير صحة إسناده، مع احتمال أن يكون أبو هريرة – رضي الله عنه – ظنّ من وقوع ذلك الدخان يوم الفتح أنه المراد بالآية، ولهذا لم يصرّح بأنه سبب نزولها.
وأخرج ابن جرير، عن عكرمة قال: قال ابن عباس: قال ابن مسعود: البطشة الكبرى: يوم بدر، وأنا أقول: هي يوم القيامة. قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح. وقال ابن كثير قبل هذا: فسَّر ذلك ابن مسعود بيوم بدر، وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود على تفسيره الدّخان بما تقدّم، وروي أيضًا عن ابن عباس من رواية العوفي عنه، وعن أُبيّ بن كعب، وجماعة، وهو مُحْتَمِل، والظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإن كان يوم بدر يوم بطشة كبرى أيضًا. انتهى.
قال الشوكانيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: بل الظاهر أنه يوم بدر، وإن كان يوم القيامة يوم بطشة أكبر من كل بطشة، فإن السياق مع قريش، فتفسيره بالبطشة الخاصة بهم أولى من تفسيره بالبطشة التي تكون يوم القيامة لكل عاصٍ من الإنس والجنّ. انتهى.
قال الإتيوبي عفا الله عنه: قد أجاد الشوكانيّ -رَحِمَهُ اللهُ- حيث رجّح أن المراد بالبطشة في الآية هو يوم بدر، كما يدلّ عليه سياق الآية، وكما فهمه ابن مسعود – رضي الله عنه -، وكذا الدخان هو ما حصل لقريش بسبب الجوع، كما مرّ، ولا ينافي ذلك أن يكون هناك دخان آخر سيأتي، كما هو في «صحيح مسلم»، والله
تعالى أعلم.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “أما آية الدخان فقد اختلف العلماء فيها: هل هي آية مضت أو هي آية مقبلة؟
والأقرب للصواب: أنه دخان يرسله الله عز وجل عند قيام الساعة، فيغشى الناس كلهم، والله أعلم بكيفية هذا الدخان، فنحن إنما نعرف انه دخان، لكن لا نعرف كيف يأتي الناس ولا من أين يأتي، فهذا أمره إلى الله عز وجل.
والمقصود من هذه الأشراط هو إنذار الناس بقرب قيام الساعة، حتى يستعدوا لها ويعملوا لها”. انتهى. [شرح العقيدة السفارينية (1/ 465 وما بعدها)].
وحديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – هذا متّفقٌ عليه.
فوائد وفقه الحديث:
(1) – (منها): بيان سبب نزول الآية الكريمة.
(2) – (ومنها): إنكار أهل العلم بعضهم على بعض، إذا ظنّ المنكر أنه على الحقّ.
(3) – (ومنها): بيان فضل ابن مسعود – رضي الله عنه – حيث يغضب على من أخطأ في كتاب الله تعالى، ويفسّر القرآن برأيه، ويردّ عليه أبلغ ردّ.
(4) – (ومنها): النهي عن التكلّف، ودعوى ما لا علم له به، كما حذّر الله -عَزَّ وجَلَّ- منه، بقوله: {وأنْ تَقُولُوا عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ} [البقرة (169)]، وقال: {ولا تَقُولُوا لِما تَصِفُ ألْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذا حَلالٌ وهَذا حَرامٌ} [النحل (116)].
(5) – (ومنها)؛ بيان ما كان عليه مشركو قريش من العناد والاستكبار حيث لا يخضعون لآيات الله الكبرى، بل يستمرون على غيّهم وضلالهم، مع علمهم بحقيقة الأمر، وأنهم على ضلال، فقد أخبر الله تعالى بذلك عنهم وعن غيرهم فقال: {فَلَمّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هَذا سِحْرٌ مُبِينٌ ((13)) وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وعُلُوًّا} الآية [النمل (13)، (14)].
وقال: {قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ولَكِنَّ الظّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ((33))} [الأنعام (33)].
(6) – (ومنها): ما قاله في «الفتح»: هذا الذي أنكره ابن مسعود – رضي الله عنه – قد
جاء عن عليّ – رضي الله عنه -، فأخرج عبد الرزاق، وابن أبي حاتم، من طريق الحارث، عن عليّ قال: آية الدخان لم تمض بعدُ، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام، وينفخ الكافر، حتى ينفد، ثم أخرج عبد الرزاق من طريق ابن أبي مليكة، قال: دخلت على ابن عباس يومًا، فقال لي: لم أنم البارحة، حتى أصبحت، قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب، فخشينا الدخان قد خرج.
قال الحافظ: وهذا أخشى أن يكون تصحيفًا، وإنما هو الدجال بالجيم الثقيلة، واللام، ويؤيد كون آية الدخان لم تمض ما أخرجه مسلم، من حديث أبي شَرِيحة رفعه: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة … » الحديث.
وروى الطبريّ من حديث رِبْعيّ، عن حذيفة مرفوعًا في خروج الآيات، والدخان، قال حذيفة: يا رسول الله ? وما الدخان؟ فتلا هذه الآية، قال: «أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزُّكمة، وأما الكافر فيخرج من منخريه، وأذنيه، ودبره»، وإسناده ضعيف.
وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي سعيد نحوه، وإسناده ضعيف أيضًا، وأخرجه مرفوعًا بإسناد أصلح منه، وللطبريّ من حديث أبي مالك الأشعريّ رفعه: «إن ربكم أنذركم ثلاثًا: الدخان، يأخذ المؤمن كالزُّكمة … » الحديث، ومن حديث ابن عمر نحوه، وإسنادهما ضعيف أيضًا، لكن تضافر هذه الأحاديث يدلّ على أن لذلك أصلًا، ولو ثبت طريق حديث حذيفة لاحتمل أن يكون هو القاصّ المراد في حديث ابن مسعود. انتهى ما قاله الحافظ -رَحِمَهُ اللهُ-، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
قال الطحاوي بعد أن ذكر أحاديث الباب:
فَكَيْفَ تَقْبَلُونَ هَذَا وَقَدْ رَوَيْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَدْ ذَكَرْتُمُوهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا الْبَابِ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ مِنْ مَا يُوجِبُ أَنَّ الدُّخَانَ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ وَأَنَّهُ كَائِنٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟، وَمَا قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ مَا يُحَقِّقُ ذَلِكَ 965 – حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ غُلَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفُ بِالْبَيْطَرِيِّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، أَوِ الدُّخَانَ، أَوِ الدَّجَّالَ، أَوِ الدَّابَّةَ، أَوِ الْقِيَامَةَ ”
وَلَمْ يَذْكُرْ لَنَا فِي الْحَدِيثِ غَيْرَ هَذَا فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ أَنَّ الدُّخَانَ الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ غَيْرُ الدُّخَانِ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثَيِ حُذَيْفَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} [الدخان: 9]، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَاتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] أَيْ عُقُوبَةٍ لَهُمْ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشَّكِّ وَاللَّعِبِ، وَمُحَالٌ أَنْ تَكُونَ هَاتَانِ الْعُقُوبَتَانِ لِغَيْرِهِمْ، أَوْ يُؤْتَى بِهِمَا بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الدُّنْيَا وَسَلَامَتِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الدُّخَانِ.
فَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ: قَدْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَاتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] وَالَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي حَدِيثِهِ لَيْسَ هُوَ دُخَانًا حَقِيقِيًّا، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَتَوَهَّمُهُ أَنَّهُ دُخَانٌ وَلَيْسَ بِدُخَانٍ، وَفِيهَا أَنَّ إتْيَانَهُ يَكُونُ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الَّذِي فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ مِنَ الْجُوعِ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ وَأَصَابَهُمْ فِي الْأَرْضِ أَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ دُخَانًا فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ سُمِّيَ دُخَانًا عَلَى الْمَجَازِ؛ لِتَوَهُّمِ قُرَيْشٍ أَنَّهُ دُخَانٌ فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الْجَهْدِ الَّذِي بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ كَمِثْلِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ الدَّجَّالِ ” أَنَّهُ يَامُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَيَامُرُ الْأَرْضَ فَتُنْبِتُ ” فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ مُطْلَقًا هَكَذَا، وَفِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ وَفِيهِ ” وَمَعَهُ نَهْرَانِ أَنَا أَعْلَمُ بِهِمَا مِنْهُ ” وَفِيهِ: ” وَيَامُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ ” فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ إنَّمَا هُوَ مِنْ سِحْرِ الدَّجَّالِ لَا مِنْ حَقِيقَةٍ لَهُ وَسَنَذْكُرُ هَذَا فِيمَا بَعْدُ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا فِيمَا رُوِيَ فِي الدَّجَّالِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ شَاءَ اللهُ
فَيَحْتَمِلُ ذَلِكَ مَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَرَاهُ مِمَّا تَرَاهُ دُخَانًا جَازَ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ دُخَانٌ عَلَى الْمَجَازِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ تَاتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] فَهُوَ مَا رُوِيَ فِيهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِمَّا قَدْ ذُكِرَ فِي أَحَادِيثِهِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا عَنْهُ، وَوُجِّهَ بِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى السَّمَاءِ إنَّمَا كَانَتْ وَاللهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تَحِلُّ بِالنَّاسِ مِنْ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ تُضَافُ إلَى السَّمَاءِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ} [السجدة: 5]، فَأَخْبَرَ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي تَكُونُ فِي الْأَرْضِ مُدَبَّرَةٌ مِنَ السَّمَاءِ إلَيْهَا فَمِثْلُ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ تَدْبِيرِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي السَّبَبِ الَّذِي عَاقَبَ بِهِ قُرَيْشًا لِكُفْرِهَا وَعُتُوِّهَا عَاقَبَهَا بِهِ حَتَّى رَأَتْ مِنْ تِلْكَ الْعُقُوبَةِ دُخَانًا وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ، فَأَمَّا مَا فِي حَدِيثَيْ حُذَيْفَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ ذِكْرِ الدُّخَانِ فَهُوَ عَلَى دُخَانٍ حَقِيقِيٍّ مِمَّا يَكُونُ بِقُرْبِ الْقِيَامَةِ، وَنَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى خَيْرَ عَوَاقِبِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ
شرح مشكل الآثار (2/ 423)
قال الراجحي:
وهذا الذي قاله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صحيح، إلا أنه خفي عليه ما دلت عليه نصوصٌ أُخَرُ، من أن هناك دخانًا آخر يأتي في آخر الزمان، وهو من أشراط الساعة الكبرى، وهو دخان يأخذ بأنفاس الكفار ويصيب المؤمنَ منه كهيئة الزكام.
وفي هذا الحديث: دليل على أن العالم قد تخفى عليه بعض مسائل العلم مهما كان علمه واسعًا
توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (8/ 133)
تنبيه: لفظة (فيأمر السماء فتمطر فيما يرى الناس)
هي في مسند أحمد قال أحمد:
14954 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” يَخْرُجُ الدَّجَّالُ … قَالَ: ” وَيَبْعَثُ اللَّهُ مَعَهُ شَيَاطِينَ تُكَلِّمُ النَّاسَ، وَمَعَهُ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ، *يَامُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، فِيمَا يَرَى النَّاسُ، وَيَقْتُلُ نَفْسًا، ثُمَّ يُحْيِيهَا، فِيمَا يَرَى النَّاسُ، لَا يُسَلَّطُ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ النَّاسِ،* وَيَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، هَلْ يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا إِلَّا الرَّبُّ؟ ” قَالَ: ” فَيَفِرُّ الْمُسْلِمُونَ إِلَى جَبَلِ الدُّخَانِ بِالشَّامِ، فَيَاتِيهِمْ فَيُحَاصِرُهُمْ، فَيَشْتَدُّ حِصَارُهُمْ، وَيُجْهِدُهُمْ جَهْدًا شَدِيدًا، ثُمَّ يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، فَيُنَادِي مِنَ السَّحَرِ، فَيَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى الْكَذَّابِ الْخَبِيثِ؟ فَيَقُولُونَ: هَذَا رَجُلٌ جِنِّيٌّ. فَيَنْطَلِقُونَ، فَإِذَا هُمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَتُقَامُ الصَّلَاةُ، فَيُقَالُ لَهُ: تَقَدَّمْ يَا رُوحَ اللَّهِ. فَيَقُولُ: لِيَتَقَدَّمْ إِمَامُكُمْ فَلْيُصَلِّ بِكُمْ. فَإِذَا صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ خَرَجُوا إِلَيْهِ “. قَالَ: ” فَحِينَ يَرَى الْكَذَّابُ يَنْمَاثُ، كَمَا يَنْمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، فَيَمْشِي إِلَيْهِ، فَيَقْتُلُهُ، حَتَّى إِنَّ الشَّجَرَةَ وَالْحَجَرَ يُنَادِي: يَغ (4) ق (5) ا رُوحَ اللَّهِ، هَذَا يَهُودِيٌّ.
فَلَا يَتْرُكُ مِمَّنْ كَانَ يَتْبَعُهُ أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ “.
حكم الحديث: إسناده على شرط مسلم
وذكره الألباني وقال: قلت: وهذا إسناد رجاله ثقات رجال (الصحيح) إلا أن أبا الزبير مدلس وقد عنعنه ومع ذلك قال الحاكم:
(صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي
راجع (كتاب قصة المسيح الدجال للألباني)
قال جامع قول الترمذي وفي الباب:
أما رواية أبي الزبير عنه:
ففي أحمد (3) / (333) وابن خزيمة في التوحيد ص (31) والطحاوى في المشكل (14) / (381) و (382) والحاكم (4) / (530):
من طريق ابن جريج وغيره أخبرنى أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد اللَّه يقول: قال النبي ?: «الدجال أعور وهو أشد الكذابين».
وسنده على شرط الصحيح، وقد تابع ابن جريج ابن طهمان عند الطحاوى وقد ساقه ابن طهمان مطولًا وابن جريج أولى وتكلم أهل العلم على الزيادة لا على النقصان وذكر ابن كثير في النهاية (1) / (73) أن أحمد رواه من طريق إبراهيم بن طهمان مطولًا كذلك وعقب ذلك بقوله: «وقد رواه غير واحد عن إبراهيم بن طهمان وهو ثقة». اهـ.
وقال الدارقُطني في حديث آخر: وقالَ: إبْراهِيمُ بْنُ طَهْمانَ أثْنى عَلَيْهِ ابْنُ المُبارَكِ، وهَذا حَدِيثُهُ.
وصرح ابن الزبير في رواية ابن جريج بالتحديث فهذه الزيادة (على الشرط قسم الزيادات على الصحيحين)
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7041)] ( … ) –
شرح الحديث:
وقوله: (مِنهُ كَهَيْئَةِ الزُّكامِ) بالضمّ، مرض معروف، وكذا الزُّكمة بالضمّ أيضًا، وأزكمه الله بالألف، فزُكم بالبناء للمفعول، على غير قياس، فهو مزكوم. [«المصباح» (1) / (254)].
وقوله: (فَإنَّ مِن فِقْهِ الرَّجُلِ أنْ يَقُولَ … إلخ) إنما كان فقهًا؛ لأنه علم جهل نفسه، وطلب العلم كي يزيل جهله، ففيه خير عظيم.
وقوله: (فَيَرى بَيْنَهُ وبَيْنَها كهَيْئَةِ الدُّخانِ، مِنَ الجَهْدِ) قال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: لا شكّ في أن تسمية هذا دخانًا تجوّز، وحقيقة الدخان ما ذُكر في حديث أبي سعيد، والذي حَمَل عبد الله بن مسعود على هذا الإنكار قوله: {رَبَّنا اكْشِفْ عَنّا العَذابَ إنّا مُؤْمِنُونَ ((12))} [الدخان (12)]، وقوله: {إنّا كاشِفُو العَذابِ قَلِيلًا إنَّكُمْ عائِدُونَ ((15))}، ولذلك قال: أفيكشف عذاب الآخرة؟ وهذا لا دليل فيه على نفي ما قاله ذلك القائل؛ لأنّ حديث أبي سعيد إنما دلّ على أن ذلك الدخان يكون من أشراط الساعة قبل أن تقوم القيامة، فيجوز انكشافه كما تنكشف فتن الدجّال، ويأجوج وماجوج، وأما الذي لا ينكشف فعذاب الكافر بعد الموت، فلا معارضة بين الآية والحديث، والشأن في صحة الحديث. انتهى [«المفهم» (7) / (396)].
وقوله: (فَأتى النَّبِيَّ ? رَجُلٌ) هو أبو سفيان كما بُيّن في الرواية الماضي، لكن في «المعرفة» لابن منده في ترجمة كعب بن مرّة قال: دعا رسول الله ? على مضر، فأتيته، فقلت: يا رسول الله ? قد نصرك الله، وأعطاك، واستجاب لك، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم، فهذا أولى أن يفسّر به القائل بقوله: يا رسول الله، بخلاف أبي سفيان، فإنه وإن جاء أيضًا مستشفعًا، لكنه لم يكن أسلم حينئذ [«الكوكب الوهّاج» (25) / (410)].
حديث كعب بن مرة ذكره الشيخ مقبل في أحاديث معلة:
(380) – قال الإمام أبو بكر بن أبي شيبة (ج (10) ص (219)): حَدَّثَنا أبُو مُعاوِيَةَ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَن سالِمِ بْنِ أبِي الجَعْدِ، عَن شُرَحْبِيلَ بْنِ السَّمْطِ قالَ: قلْنا لِكَعْبِ بْنِ مُرَّةَ يا كَعْبُ، حَدِّثْنا، عَن رَسُولِ اللهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلىَ آلِهِ وسَلَّمَ فقالَ: كُنّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلىَ آلِهِ وسَلَّمَ وجاءَهُ رَجُلٌ فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ، اسْتَسْقِ اللَّهَ لِمُضَرَ، قالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلىَ آلِهِ وسَلَّمَ يَدَيْهِ فَقالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنا غَيْثًا مَرِيعًا مَرِيًّا عاجِلًا غَيْرَ رائِثٍ نافِعًا غَيْرَ ضارٍّ، قالَ: فَما جَمَّعُوا حَتّى أُحيوا فَأتَوْهُ فَشَكَوْا إلَيْهِ المَطَرَ، فَقالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، تَهَدَّمَتِ البُيُوتُ فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلىَ آلِهِ وسَلَّمَ بِيَدِهِ: اللَّهُمَّ حَوالَيْنا، ولا عَلَيْنا، قالَ: فَجَعَلَ السَّحابُ يَتَقَطَّعُ يَمِينًا وشِمالًا).
هذا الحديث إذا نظرت إلى سنده وجدتهم رجال الصحيح، ولكن سالم بن أبي الجعد لم يسمع من شرحبيل بن السمط، قاله أبو داود كما في «جامع التحصيل»
قال ابوداود: سالم لم يسمع من شرحبيل مات شرحبيل بصفين. اهـ
وفي علل ابن أبي حاتم:
(558) – وسألتُ أبِي عَنْ حديثٍ رَواهُ محمَّد بْنُ الحَسَن الأسَدي، عَنْ شَريكٍ، عَنْ مَنصُورٍ، عَنْ سالِمِ بْنِ أبِي الجَعْد، عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ؛ قال: اسْتَسْقى رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) فَقالَ: اللَّهُمَّ، اسْقِنا غَيْثًا مَريعًا طَبَقًا، عاجِلًا غَيْرَ رائِثٍ، نافِعًا غَيْرَ ضارٍّ. قالَ: فَما بَرِحْنا حَتّى طَبَّقَتْ عَلَيْنا سَبعًا، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ قَدْ حَبَسَ، فَقالَ: اللَّهُمَّ، حَوالَيْنا ولاَ عَلَيْنا؛ فَتَفَرَّجَتْ؟
فسمعتُ أبِي يَقُولُ: إنَّما هُوَ: سالِمِ بْنِ أبِي الجَعْد، عَنِ شُرَحبيل بْنِ السِّمْط، عَنْ كَعْبِ ابن مُرَّة، عن النبيِّ (صلى الله عليه وسلم).
قال محقق طبعة الجريسي:
الحديث على هذا الوجه أخرجه الطبراني في» الكبير «((20) / (319) رقم (756)) من طريق بدل بن المحبر، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مرة، ومنصور بن المعتمر، وقتادة، عَنْ سالِمِ بْنِ أبِي الجَعْدِ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمط، عَنْ كعب بن مرة أو مرة بن كعب – شك شعبة -، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) به.
وأخرجه الطيالسي في» مسنده «((1294))، والإمام أحمد في» المسند «((4) / (235) رقم (18062))، وعبد بن حميد ((372) /المنتخب)، والطحاوي في» شرح معاني الآثار «((1) / (323))، وابن قانع في» معجم الصحابة «((2) / (380))، والطبراني في» الكبير «((20) / (318) و (319) رقم (755) و (756))، والبيهقي في» السنن الكبرى «((3) / (355)) من طرق عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مرة وحده، عن سالم، به.
وقد رواه البخاري في» صحيحه” ((1013) و (1014))، ومسلم ((897)) من طريق شَرِيكِ بْنِ أبِي نَمِرٍ، عَنْ أنس به، نحوه. انتهى
يقصدون بحديث أنس ما في الصحيحين ولفظ مسلم: ((897)) وحَدَّثَنا يَحْيى بْنُ يَحْيى، ويَحْيى بْنُ أيُّوبَ، وقُتَيْبَةُ، وابْنُ حُجْرٍ، قالَ يَحْيى: أخْبَرَنا، وقالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ أبِي نَمِرٍ، عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ، أنَّ رَجُلًا دَخَلَ المَسْجِدَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، مِن بابٍ كانَ نَحْوَ دارِ القَضاءِ، ورَسُولُ اللهِ ? قائِمٌ يَخْطُبُ، فاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللهِ ? قائِمًا، ثُمَّ قالَ: يا رَسُولَ اللهِ هَلَكَتِ الأمْوالُ، وانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فادْعُ اللهَ يُغِثْنا …..
فأبوحاتم يقصد ترجيح الخلاف على سالم بن أبي الجعد
والحديث كما قالوا عند أحمد من طريق سالم بن أبي الجعد عن شرحبيل عن كعب بن مرةأو مرة بن كعب: (18062) – قالَ: ودَعا رَسُولُ اللهِ ? عَلى مُضَرَ، قالَ: فَأتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّ اللهَ قَدْ نَصَرَكَ وأعْطاكَ، واسْتَجابَ لَكَ، وإنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا، فادْعُ اللهَ لَهُمْ، فَأعْرَضَ عَنْهُ، قالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّ اللهَ قَدْ نَصَرَكَ وأعْطاكَ واسْتَجابَ لَكَ، وإنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا، فادْعُ اللهَ لَهُمْ، فَقالَ: «اللهُمَّ اسْقِنا غَيْثًا مُغِيثًا، مَرِيعًا طَبَقًا غَدَقًا غَيْرَ رائِثٍ، نافِعًا غَيْرَ ضارٍّ» فَما كانَتْ …..
وقوله: (اسْتَغْفِرِ اللهَ لِمُضَرَ) هكذا وقع في جميع نُسخ مسلم: «استغفر الله لمضر»، وفي البخاريّ: «استسق الله لمضر»، قال القاضي: قال بعضهم: «استسق» هو الصواب اللائق بالحال؛ لأنهم كفار، لا يُدعى لهم بالمغفرة.
قال النوويّ: كلاهما صحيح، فمعنى استسق: اطلب لهم المطر والسُّقْيا، ومعنى استغفر: ادع لهم بالهداية التي يترتب عليها الاستغفار. انتهى [«شرح النوويّ» (17) / (142)].
وقال في «الفتح»: قوله: فقيل: «يا رسول الله استسق الله لمضر فإنها قد هلكت» إنما قال: لمضر؛ لأن غالبهم كان بالقرب من مياه الحجاز، وكان الدعاء بالقحط على قريش، وهم سكان مكة، فسرى القحط إلى من حولهم، فحَسُن أن يطلب الدعاء لهم، ولعل السائل عدل عن التعبير بقريش، لئلا يذكرهم، فيذكر بجرمهم، فقال: لمضر، ليندرجوا فيهم، ويشير أيضًا إلى أن غير المدعو عليهم قد هلكوا بجريرتهم، وقد وقع في الرواية الأخرى: «وإن قومك هلكوا»، ولا منافاة بينهما، لأن مضر أيضًا قومه، وقد تقدم في المناقب أنه ? كان من مضر. انتهى [«الفتح» (10) / (581)].
وقال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «اسْتَغْفِرِ اللهَ لِمُضَرَ» كذا صحّ في كتاب مسلم من الاستغفار، ووقع في كتاب البخاريّ: «استسق الله لمضر»، من الاستسقاء، وهو مناسب للحال التي كانوا عليها من القحط، غير أن الذي يُبعده إنكار النبيّ ? على القائل بقوله: «لمضر؟»، فإنّ طلب السُّقيا لهم لا يُنكر، وإنما الذي يُنكر طلب الاستغفار لهم.
وقوله: (إنَّكَ لَجَرِيءٌ»)؛ أي: صاحب جراءة، والإقدام على ما لا ينبغي لك، قال الأبيّ: هذا على وجه التقرير، والتعريف بكفرهم، واستعظام ما سأل لهم؛ أي: فكيف يُستغفر، أو يُستسقى لهم، وهم عدوّ الدين؟ قال: ويصحّ هذا عندي على ما ذكر مسلم من لفظ «استغفِرْ»؛ لأن الإنكار إنما للاستغفار الذي سأل لهم، بدليل أنه عدل عنه إلى الدعاء بالسقي، ولو كان استعظامه إنما هو لطلب السُّقْيا لم يستسق لهم. انتهى [«شرح الأبيّ» (7) / (199)].
والحديث متّفقٌ عليه، كما مضى تحقيقه، والله تعالى أعلم.
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7042)] ( … ) –
شرح الحديث:
(عَنْ أُبَيِّ بْنِ كعْب) – رضي الله عنه – (فِي) تفسير (قَوْلِهِ -عَزَّ وجَلَّ-: {ولَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذابِ الأدْنى دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ}، قالَ) أُبيّ – رضي الله عنه -: (مَصائِبُ الدُّنيا) أي: هو مصائب الدنيا في النفس، والمال، والأولاد، (والرُّومُ)؛ يعني: التي
في قوله تعالى: {الم ((1)) غُلِبَتِ الرُّومُ ((2))} الآيتين. (والبَطْشَةُ) الكبرى، يوم بدر، (أوِ الدُّخانُ) «أو» للشكّ، كما قال: (شُعْبَةُ الشّاكُّ فِي البَطْشَةِ، أوِ الدُّخانِ)؛ أي: أيهما قال قتادة؛.
وقال الشوكانيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: {ولَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذابِ الأدْنى} وهو عذاب الدنيا.
قال الحسن، وأبو العالية، والضحاك، والنخعي: هو مصائب الدنيا، وأسقامها. وقيل: الحدود. وقيل: القتل بالسيف يوم بدر. وقيل: سنين الجوع بمكة. وقيل: عذاب القبر، ولا مانع من الحمل على الجميع. {دُونَ العَذابِ الأكْبَر} وهو عذاب الآخرة، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} مما هم فيه من الشرك والمعاصي بسبب ما ينزل بهم من العذاب إلى الإيمان والطاعة، ويتوبون عما كانوا فيه.
وفي هذا التعليل دليل على ضعف قول من قال: إن العذاب الأدنى هو عذاب القبر. انتهى [«فتح القدير» للشوكانيّ (6) / (9)].
وقال إمام المفسّرين ابن جرير الطبريّ -رَحِمَهُ اللهُ-: اختَلَف أهل التأويل في معنى العذاب الأدنى الذي وعد الله أن يذيقه هؤلاء الفسقة، فقال بعضهم:
ذلك مصائب الدنيا في الأنفس والأموال، ثم ذكر الأقوال.
ثم قال: وأولى الأقوال في ذلك أن يقال: إن الله وعد هؤلاء الفسقة المكذّبين بوعيده في الدنيا العذاب الأدنى، أن يذيقهموه دون العذاب الأكبر، والعذاب: هو ما كان في الدنيا من بلاء أصابهم، إما شدّة من مجاعة، أو قتل، أو مصائب يصابون بها، فكل ذلك من العذاب الأدنى، ولم يخصص الله تعالى ذكرُهُ، إذ وعدهم ذلك أن يعذّبهم بنوع من ذلك دون نوع، وقد عذّبهم بكل ذلك في الدنيا بالقتل، والجوع، والشدائد، والمصائب في الأموال، فأوفى لهم بما وعدهم.
وقوله: {دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ} يقول: قبل العذاب الأكبر، وذلك عذاب يوم القيامة. انتهى كلام ابن جرير -رَحِمَهُ اللهُ-[«تفسير الطبريّ» (20) / (188) – (191)]، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وحديث أُبيّ بن كعب – رضي الله عنه – هذا من أفراد المصنّف -رَحِمَهُ اللهُ-. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف].