2797 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي وعبدالله المشجري … وعبدالله كديم وطارق أبي تيسير وعبدالحميد البلوشي وأحمد بن علي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله في كتاب صِفَةِ القِيامَةِ والجَنَّةِ والنّارِ، (5) – (6) – بابُ قَوْلِهِ: {إنَّ الإنْسانَ لَيَطْغى أنْ رَأَىهُ اسْتَغْنى} [العلق (7)]
(38) – ((2797)) حَدَّثَنا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعاذٍ، ومُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأعْلى القَيْسِيُّ، قالا: حَدَّثَنا المُعْتَمِرُ، عَنْ أبِيهِ، حَدَّثَنِي نُعَيْمُ بْنُ أبِي هِنْدٍ، عَنْ أبِي حازِمٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ أبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وجْهَهُ بَيْنَ أظْهُرِكُمْ؟ قالَ فَقِيلَ: نَعَمْ، فَقالَ: واللّاتِ والعُزّى لَئِنْ رَأيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأطَأنَّ عَلى رَقَبَتِهِ، أوْ لَأُعَفِّرَنَّ وجْهَهُ فِي التُّرابِ، قالَ: فَأتى رَسُولَ اللهِ ? وهُوَ يُصَلِّي، زَعَمَ لِيَطَأ عَلى رَقَبَتِهِ، قالَ: فَما فَجِئَهُمْ مِنهُ إلّا وهُوَ يَنْكُصُ عَلى عَقِبَيْهِ ويَتَّقِي بِيَدَيْهِ، قالَ: فَقِيلَ لَهُ: ما لَكَ؟ فَقالَ: إنَّ بَيْنِي وبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِن نارٍ وهَوْلًا وأجْنِحَةً، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ?: «لَوْ دَنا مِنِّي لاخْتَطَفَتْهُ المَلائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا» قالَ: فَأنْزَلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ – لا نَدْرِي فِي حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ، أوْ شَيْءٌ بَلَغَهُ -: {كَلّا إنَّ الإنْسانَ لَيَطْغى، أنْ رَأَىهُ اسْتَغْنى إنَّ إلى رَبِّكَ الرُّجْعى، أرَأيْتَ الَّذِي يَنْهى، عَبْدًا إذا صَلّى، أرَأيْتَ إنْ كانَ عَلى الهُدى، أوْ أمَرَ بِالتَّقْوى، أرَأيْتَ إنْ كَذَّبَ وتَوَلّى} [العلق (7)]- يَعْنِي أبا جَهْلٍ – {ألَمْ يَعْلَمْ بِأنَّ اللهَ يَرى، كَلّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنّاصِيَةِ، ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ، فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ، كَلّا لا تُطِعْهُ} [العلق (14)]، زادَ عُبَيْدُ اللهِ فِي حَدِيثِهِ قالَ: وأمَرَهُ بِما أمَرَهُ بِهِ. وزادَ ابْنُ عَبْدِ الأعْلى {فَلْيَدْعُ نادِيَهُ} [العلق (17)]، يَعْنِي قَوْمَهُ.
==========
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
(هَلْ يُعَفِّرُ) بتشديد الفاء المكسورة، من التعفير، وهو التمريغ [«مرقاة المفاتيح» (10) / (131)].
(مُحَمَّد) ? (وجْهَهُ)؛ أي: يسجد، ويُلصق وجهه بالعَفَر، وهو التراب، قاله النوويّ.
وإنما آثر التعفير على السجود؛ تعنتًا، وعنادًا، وإذلالًا، وتحقيرًا. (قالَ) أبو هريرة – رضي الله عنه -؛ أي: ناقلًا عن غيره؛ لِما سبق آنفًا. (فَقِيلَ)؛ أي: قال لأبي جهل الحاضرون لديه: (نَعَمْ)؛ أي: يصلي، ويسجد بين أظهرنا، لا يخاف إلا الله -عَزَّ وجَلَّ-. (فَقالَ) أبو جهل: (واللّاتِ والعُزّى) أقسم بصنميه قائلًا: (لَئِنْ رَأيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ)؛ أي: يصلي، ويعفّر وجهه لله -سُبْحانَهُ وتَعالى-. (لأطَأنَّ)؛ أي: لأدوسنّ (عَلى رَقَبَتِهِ) الشريفة التي أعزّها الله تعالى، وأعلاها على جميع الرقاب المنيفة ?، (أوْ) إن لم أفعل هذا (لأُعَفِّرَنَّ)، أي: لأمرّغنّ (وجْهَهُ) الشريف الذي أكرمه الله تعالى على جميع الوجوه من كلّ شريف ? (فِي الترابِ، قالَ) أبو هريرة – رضي الله عنه -: (فَأتى) أبو جهل اللعين (رَسُولَ اللهِ ?)، وقوله: (وهُوَ يُصَلِّي) جملة حاليّة من المفعول، والحال من الفاعل قوله: (زَعَمَ) بفتحتين، من باب نصر؛ أي: قصد أبو جهل بظنّه الباطل
(فَقالَ: إنَّ بَيْنِي وبَيْنَهُ)؛ أي: النبيّ ?، (لَخَنْدَقًا مِن نارٍ، وهَوْلًا) بفتحِ، فسكون؛ أي: خوفًا وأمرًا شديدًا، وقد هاله يهوله، فهو هائل [«الكاشف عن حقائق السنن» (12) / (3732)]. (وأجْنِحَةَ) جَمْع جناح الطائر، وهي هنا للملائكة الذين يحفظونه، ويؤيده ما ذكره الراوي بقوله: (فَقالَ رَسُولُ اللهِ ?: «لَوْ دَنَما مِنِّي)؛ أي: قرب عندي، (لاخْتَطَفَتْهُ)؛ أي: لاستلبته، والخطف: استلاب الشيء، وأخْذه بسرعة [«الكاشف عن حقائق السنن» (12) / (3732)]. (المَلائِكَة عُضْوًا عُضْوًا») المعنى: لأخذ كل ملك عضوًا من أعضائه.
{كَلّا إنَّ الإنْسانَ لَيَطْغى ((6))} [العلق (6)] رَدْعٌ، وزَجْرٌ لمن كفر نِعَم الله عليه بسبب طغيانه، وإن لم يتقدم له ذِكر. {إنَّ الإنْسانَ} المراد به: أبو الجهل، كما هو سبب نزول الآيات من هذه، فما بعدها إلى آخر السورة، وأنه تأخر نزول هذا وما بعده عن الخمس الآيات المذكورة في أوّل هذه السورة. {لَيَطْغى} أنه ليجاوز الحدّ، ويستكبر على ربه. وقيل: {كَلّا} هنا بمعنى: حقًا، قاله الجرجانيّ، وعلّل ذلك بأنه ليس قبله، ولا بعده شيء يكون «كلا» ردًّا له.
وقوله تعالى: {أنْ رَأَىهُ اسْتَغْنى ((7))} علة ليطغى؛ أي: لَيطغى أن رأى نفسه مستغنيًا، والرؤية هنا بمعنى العلم [«فتح القدير» للشوكانيّ -رَحِمَهُ اللهُ- (8) / (29)].
ثم هدد -سُبْحانَهُ وتَعالى- وخوّف، فقال: {إنَّ إلى رَبِّكَ الرُّجْعى ((8))}؛ أي: المرجع
{أرَأيْتَ الَّذِي يَنْهى ((9)) عَبْدًا إذا صَلّى ((10))} قال المفسرون: الذي ينهى: أبوجهل، والمراد بالعبد: محمد ?، وفيه تقبيح لصُنعه، وتشنيع لفعله، حتى كأنه بحيث يراه كل من تتأتى منه الرؤية.
{أرَأيْتَ إنْ كانَ عَلى الهُدى ((11))}؛ يعني: العبد المنهيّ إذا صلى، وهو محمد ?، {أوْ أمَرَ بِالتَّقْوى ((12))}؛ أي: بالإخلاص، والتوحيد، والعمل الصالح الذي تُتَّقى به النار، {أرَأيْتَ إنْ كَذَّبَ وتَوَلّى ((13))}؛ يعني: أبا جَهْلٍ) فإنه كذّب بما جاء به رسول الله ?، وتولى عن الإيمان، والعناية يَحْتَمِل أن تكون من أبي هريرة – رضي الله عنه -، أو ممن دونه، والله تعالى أعلم.
وقوله: {أرَأيْتَ} في الثلاثة المواضع بمعنى: أخبرني؛ لأن الرؤية لمّا كانت سببًا للإخبار عن المرئي أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستفهام عن متعلقها، والخطاب لكل من يصلح له.
[«فتح القدير» للشوكانيّ -رَحِمَهُ اللهُ- (8) / (29)].
{ألَمْ يَعْلَمْ بِأنَّ اللَّهَ يَرى ((14))}؛ أي: يَطّلع على أحواله، فيجازيه بها، فكيف اجترأ على ما اجترأ عليه؟ والاستفهام للتقريع والتوبيخ.
{كَلّا} ردع للناهي، واللام في قوله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} هي الموطئة للقسم، أي: والله لئن لم ينته عما هو عليه، ولم ينزجر، {لَنَسْفَعًا بِالنّاصِيَةِ} السفع: الجذب الشديد، والمعنى: لنأخذنّ بناصيته، ولنجرّنه إلى النار، وهذا كقوله تعالى: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي والأقْدامِ} [الرحمن (41)]،
قال مقاتل: أخبر عنه بأنه فاجرٌ خاطئٌ، فقال: ناصية كاذبة خاطئة، تأويلها: صاحبها كاذبٌ خاطئ.
{فَلْيَدْعُ نادِيَهُ ((17)) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ ((18))} {فَلْيَدْعُ نادِيَهُ ((17))}، أي: أهل
ناديه، والنادي: المجلس الذي يجلس فيه القوم،
؛ فنزلت: {فَلْيَدْعُ نادِيَهُ ((17)) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ ((18))} [العلق (17)، (18)]، أي: الملائكة الغلاظ الشداد،
ثم كرّر الردع والزجر فقال: {كَلّا لا تُطِعْهُ}، أي: لا تطعه فيما دعاك إليه من ترك الصلاة.
وقوله تعالى: {واسْجُدْ}؛ أي: صلّ لله غير مكترث به، ولا مبال بنهيه: {واقْتَرِبْ} أي: تقرّب إليه سبحانه بالطاعة والعبادة. وقيل: المعنى: إذا سجدت اقترب من الله بالدعاء. وقال زيد بن أسلم: واسجد أنت يا محمد، واقترب أنت يا أبا جهل من النار، والأوّل أولى
والسجود هذا الظاهر أن المراد به الصلاة،
حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – هذا من أفراد المصنّف -رَحِمَهُ اللهُ-.
* فقه الحديث وفوائده:
(1) – (منها): بيان سبب نزول هذه الآيات.
(2) – (ومنها): بيان جراءة المشركين على الله تعالى، وعلى رسوله ?، وعنادهم، وتجبّرهم، وعلى رأسهم فرعون هذه الأمة أبو جهل.
(3) – (ومنها): بيان معجزة ظاهرة للنبيّ ? حيث رأى عدوه اللدود ما هاله من آيات الله البيّنات، من خندق، ونار، وهول، وأجنحة ملائكة العذاب.
(4) – (ومنها): بيان أن الآيات لا تغني شيئًا، للكفرة المعاندين، {وما تُغْنِي الآياتُ والنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس (101)]، بل الهداية بيد الله -سُبْحانَهُ وتَعالى-، لا بيد أحد سواه .. [البحر المحيط الثجاج].
وفي توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (8/ 129 – 130):
5 – (ومنها): فيه “دليل على حماية الله تعالى ورعايته لنبيه عليه الصلاة والسلام من كيد المشركين وأذاهم؛ ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا)).
وقد يُسلَّط المشركون والكفار- أحيانًا- على الأنبياء والمرسلين، كما سُلطوا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، فكُسرت رَبَاعِيَّتُه، وشُجَّ وجهه عليه الصلاة والسلام، وسال الدم على وجهه الشريف، وكما قُتل بعضُ الأنبياء عليهم السلام قبله، كما أخبر المولى تبارك وتعالى عن ذلك بقوله: {فريقًا كذبتم وفريقًا تقتلون}، وهذا كله ابتلاء منه تعالى لهم؛ ليُعَظِّم أجورَهم؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- لما سئل: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ فقال-: ((الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ، فَالْأَمْثَلُ مِنَ النَّاسِ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلابَةٌ زِيدَ فِي بَلائِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ، وَمَا يَزَالُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ)) [أخرجه أحمد ((1481))، والدارمي ((2783))]،
وليعلم الناس أن الأنبياء بشر، يصيبهم ما يصيب الناس من الأمراض والمصائب والأكدار والهزيمة،
ومن كان هذا حاله فإنه لا يصلح لأن يُعبَدَ”. انتهى.
ثانيًا: ملحقات:
الفصل الأول: كفر الإعراض
(المبحث الأول): بم يكون الكفر الأكبر أو الردة؟ هل هو خاص بالاعتقاد والجحود والتكذيب أم هو أعم من ذلك؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا وإمامنا وقائدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين … .. أما بعد:
فإن الكفر والردة – والعياذ بالله – تكون بأمورٍ عدة:
– فتكون بجحود الأمر المعلوم من الدين بالضرورة.
– وتكون بفعل الكفر.
– وبقول الكفر.
– وبالترك والإعراض عن دين الله عز وجل.
* فيكون الكفر بالاعتقاد، كما لو اعتقد لله صاحبة أو ولدا أو اعتقد أن الله له شريك في الملك أو أن الله معه مدبرٌ في هذا الكون أو اعتقد أن أحدا يشارك الله في أسمائه أو صفاته أو أفعاله أو اعتقد أن أحدا يستحق العبادة غير الله أو اعتقد أن لله شريكا في الربوبية فإنه يكفر بهذا الاعتقاد كفرا أكبر مخرجا من الملة.
* ويكون الكفر بالفعل، كما لو سجد للصنم أو فعل السحر أو فعل أي نوع من أنواع الشرك كأن دعا غير الله أو ذبح لغير الله أو نذر لغير الله أو طاف بغير بيت الله تقربا لذلك الغير فالكفر يكون بالفعل كما يكون بالقول.
* ويكون الكفر بالقول، كما لو سب الله أو سب رسوله ? أو سب دين الإسلام أو استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله ? أو بدينه، قال الله تعالى في جماعة في غزوة تبوك استهزؤوا بالنبي ? وبأصحابه: {قُلْ أبِاللَّهِ وآياتِهِ ورَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ} فأثبت لهم الكفر بعد الإيمان فدل على أن الكفر يكون بالفعل كما يكون بالاعتقاد ويكون بالقول أيضا كما سبق في الآية فإن هؤلاء كفروا بالقول.
* ويكون الكفر بالجحود والاعتقاد، وهما شيء واحد، وقد يكون بينهما فرق، فالجحود: كأن يجحد أمرًا معلوما من الدين بالضرورة كأن يجحد ربوبية الله أو يجحد ألوهية الله أو استحقاقه للعبادة أو يجحد ملكا من الملائكة أو يجحد رسولا من الرسل أو كتابا من الكتب المنزلة أو يجحد البعث أو الجنة أو النار أو الجزاء أو الحساب أو ينكر وجوب الصلاة أو وجوب الزكاة أو وجوب الحج أو وجوب الصوم أو يجحد وجوب بر الوالدين أو وجوب صلة الرحم أو غير ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة وجوبه أو يجحد تحريم الزنا أو تحريم الربا أو تحريم شرب الخمر أو تحريم عقوق الوالدين أو تحريم قطيعة الرحم أو تحريم الرشوة أو غير ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة تحريمه.
* ويكون الكفر بالإعراض عن دين الله، والترك والرفض لدين الله، كأن يرفض دين الله بأن يعرض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعبد الله فيكفر بهذا الإعراض والترك؛ قال الله تعالى: {والَّذِينَ كَفَرُوا عَمّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ}، وقال تعالى: {ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أعْرَضَ عَنْها إنّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}.
فالكفر يكون بالاعتقاد ويكون بالجحود ويكون بالفعل ويكون بالقول ويكون بالإعراض والترك والرفض.
ومن أُكره على التكلم بكلمة الكفر أو على فعل الكفر فإنه يكون معذورا إذا كان الإكراه ملجئا، كأن يُكرهه إنسان قادر على إيقاع القتل به فيهدده بالقتل وهو قادر أو يضع السيف على رقبته فإنه يكون معذورا في هذه الحالة إذا فعل الكفر أو تكلم بكلمة الكفر بشرط أن يكون قلبه مطمئنا بالإيمان، أما إذا اطمئن قلبه بالكفر فإنه يكفر حتى مع الإكراه نسأل الله السلامة والعافية.
* فالذي يفعل الكفر له خمس حالات:
(1) – إذا فعل الكفر جادا فهذا يكفر.
(2) – إذا فعل الكفر هازلا فهذا يكفر.
(3) – إذا فعل الكفر خائفا فهذا يكفر.
(4) – إذا فعل الكفر مكرها واطمئن قلبه بالكفر فهذا يكفر.
(5) – إذا فعل الكفر مكرها واطمئن قلبه بالإيمان فهذا لا يكفر لقول الله تعالى {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمانِهِ إلّا مَن أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ ولَكِنْ مَن شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ ولَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} {ذَلِكَ بِأنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الحَياةَ الدُّنْيا عَلى الآخِرَةِ وأنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ}. [السؤال الأول، أسئلة وأجوبة في الإيمان والكفر للشيخ عبد العزيز الراجحي، ص (2) وما بعدها].
(المبحث الثاني): ما معنى كفر الإعراض؟
هو “الإعراض عن دين الله تعالى، لا يتعلمه ولا يعمل به؛ والدليل قوله تعالى: {ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أعْرَضَ عَنْها إنّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [سورة السجدة آية: (22)]. [مجموعة رسائل في التوحيد والإيمان (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الأول)، ص (387)].
كفر الإعراض معناه: أن يُعرض عن الدين بالكلية، لا يتعلمه ولا يعملُ به.
فلا يتعلم ويعمل بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن التوحيد، وأحكام الدين بالكلية.
“أما إذا أعرض عن بعضِ الدِّين بعد ثُبوت أصله، فأعرضَ عن تعلُم بعض الأحكام، فلم يتعلمها ولم يعمل بها، من غير إنكار لما هو معلوم، فهذا معصية وليس كفرًا مخرجا من ملة الإسلام، وهذا يجب التنبهُ إليه، فليس كلُّ إعراضٍ ناقضًا؛ ولذا قال الشيخُ: ” الإعراض عن دين الله تعالى، لا يتعلمه ولا يعمل به “.
فالذي يُعرض عن آيات الله بالكلية، لا يتعلمها ولا يعمل بها: كافر ظالم، وكذلك من يُعرضُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يعرض عن التوحيد، ويأبى تعلمه والعمل به، فكل هذا – والعياذ بالله – من الكفر.
[الإفادة والإعلام بفوائد رسالة نواقض الإسلام، للشيخ سليمان الرحيلي، ص (101 – 102)، بتصرف].
(المبحث الثالث): ضابط كفر الإعراض
سئل فضيلة الشيخ صالح آل الشيخ عن ضابط كفر الإعراض، ونص السؤال: سائل يقول من أنواع الكفر الأكبر كفر الإعراض، فما ضابط هذا الكفر؟ وهل يعتبر من يزهد في تعلم العلم الشرعي معرضًا؟.
فأجاب: الإعراض هو الناقض العاشر من نواقض الإسلام – التي ذكرها إمام الدعوة النواقض العشرة -، فقال: العاشر: “الإعراض عن دين الله لا يتعلمه، ولا يعمل به”، مثل عمل الملاحدة، عمل الذي لا يأبه بهذا الدين، ليس له همة في هذا الدين، لا في تعلم التوحيد ولا في تعلم أحكام العبادة والصلاة .. إلى آخر، وليس له همة في العلم به، فهو لا يعلم الحق، لا لأجل أن الحق لا يستطيع الوصول إليه، ولكن لأجل إعراضه؛ كما قال -جل وعلا – {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ}، وقال – جل وعلا – في سورة الكهف: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}، ونحو ذلك من الآيات، مثل الماديين ومثل الذي همه الدنيا، ليس له همة في تعلم دين، ولا محبة الله ورسوله، وليس له همة في العمل البتة، فهذا هو المعرض،
أما الذي يزهد في تعلم العلم الشرعي لانشغاله أو لأنه ليس لديه استعدادات، وهو مسلم موحد، ويعمل الصالحات محافظ على الفرائض، فهذا ليس ملومًا، ولكن هم درجات ليس الصحابة كلهم علماء، وليس التابعون كلهم علماء، ولكن الذي يطلب العلم طائفة، وطائفة أخرى يتعبدون ومعهم من العلم الفرض العيني، وأما طلب العلم والفرض الكفائي فهذا يقوم به آخرون.
فإذًا: كفر الإعراض لا يشمل من يقول: أنا ما أحتاج العلم، أنا لا أريد العلم. وهو مستقيم، وهو موحد على الفطرة، موحد ليس عنده شرك أكبر مخرج من الملة، وهو أيضًا مصلي هذا ليس معرضًا، هذا مقبل موحد مسلم. [الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ].
وقال عبدُ اللَّطيفِ بنُ عبدِ الرَّحمنِ آل الشَّيخ: “إنَّ أحوالَ النَّاسِ تتفاوَتُ تفاوتًا عظيمًا، وتفاوُتُهم بحَسَبِ دَرَجاتِهم في الإيمانِ إذا كان أصلُ الإيمان موجودًا، والتفريطُ والتَّركُ إنَّما هو فيما دون ذلك من الواجباتِ والمستحَبَّاتِ،
وأمَّا إذا عُدمَ الأصلُ الذي يدخُلُ به في الإسلامِ، وأعرضَ عن هذا بالكليَّةِ، فهذا كُفرُ إعراضٍ؛ فيه قَولُه تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَانَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، وقَولُه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]، ولكِنْ عليك أن تعلَمَ أنَّ المدارَ على معرفةِ حَقيقةِ الأصلِ وحَقيقةِ القاعدةِ، وإن اختَلَف التَّعبيرُ واللَّفظُ) [((الدرر السنية)) (8/ 360)].
وقال سُلَيمانُ بنُ سَحمانَ مُعَلِّقًا على هذا الكلامِ: “فتَبَيَّن من كلامِ الشَّيخِ أنَّ الإنسانَ لا يَكفُرُ إلَّا بالإعراضِ عن تعَلُّمِ الأصلِ الذي يدخُلُ به الإنسانُ في الإسلامِ، لا تَرْكِ الواجباتِ والمستحَبَّاتِ”. [((منهاج أهل الحق والاتباع)) (ص: 81)].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم”. [مجموع الفتاوى: (7/ 621)].
(المبحث الرابع): عقوبة الإعراض عن الدين:
“من ترك ما ينفعه ابتلي بما يضره:
فسنة الله جارية على أن كل من ترك ما ينفعه، ابتلي بما يضره، وحُرِم الأول.
فالكفار والمشركون لما زهدوا في عبادة الرحمن ابتلوا بعبادة الأوثان.
ولما استكبروا عن الانقياد للرسل ابتلوا بالانقياد لكل مارج العقل والدين.
ولما تركوا اتباع الكتب المنزلة لهداية الناس ابتلوا باتباع أرذل الكتب وأخسها وأضرها للعقول.
ولما تركوا إنفاق أموالهم في طاعة الرحمن ابتلوا بإنفاقها في طاعة النفس والشيطان.
والأمم السابقة لما كذبوا الرسل، وأعرضوا عن الدين، واستغنوا عنه بغيره من الأسباب، دمرهم الله وأهلكهم.
وكان يقين الأمم السابقة ثمانية أنواع:
يقين قوم نوح على الكثرة .. وقوم عاد على القوة .. وقوم ثمود على الصناعة .. وقوم شعيب على التجارة .. وقوم سبأ على الزراعة .. وفرعون على الملك .. وقوم عيسى على الطب .. وقارون على المال.
فكلاً أخذه الله بذنبه.
فأغرق الله قوم نوح وفرعون وقومه، وأهلك عاداً بالريح، وأخذ قوم ثمود بالرجفة والصيحة والصاعقة، وقَلَب الديار على قوم لوط، ورجمهم بالحجارة، وخسف بقارون الأرض، وأمطر قوم شعيب بنار من السماء [موسوعة الفقه الإسلامي].
قال الشنقيطي رحمه الله في تفسير الآية: لا أظلم أي لا أحد أكثر ظلمًا لنفسه ممن ذكر أي: وعظ بآيات ربه وهي هذا القرآن العظيم فاعرض عنها أي: تولى وصد عنها ونسي ما قدمت يداه من المعاصي والكفر؛ فالإعراض عن التذكرة بآيات اللَّه من أعظم الظلم، وله نتائج سيئة، وعواقب وخيمة.
فمن ذلك الأكنة على القلوب حتى لا تفقه الحق وعدم الاهتداء أبدًا كما قال تعالى: {إنّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أن يَفْقَهُوهُ وفِي آذانِهِمْ وقْرًا وإن تَدْعُهُمْ إلى الهُدى فَلَن يَهْتَدُوا إذًا أبَدًا ((57))} [الكهف].
ومنها انتقام اللَّه عزَّ وجلَّ من المعرض عن التذكرة، قال تعالى: {ومَن أظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أعْرَضَ عَنْها إنّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنتَقِمُون ((22))} [السجدة].
ومنها كون المُعْرِض كالحمار كما قال تعالى: {فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِين ((49)) كَأنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَة ((50)) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَة ((51))} [المدثر]. أي: كأنهم الحمر الوحشية التي تفر من أسد يريد صيدها.
ومنها الأنذار عن الصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، قال تعالى: {فَإنْ أعْرَضُوا فَقُلْ أنذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِّثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وثَمُود ((13))} [فصلت].
ومنها المعيشة الضنك والعمى، قال تعالى: {ومَن أعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى ((124))} [طه].
ومنها إدخاله العذاب الشديد، قال تعالى: {ومَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذابًا صَعَدًا ((17))} [الجن].
ومنها تقييض القرناء من الشياطين، قال تعالى: {ومَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا فَهُوَ لَهُ قَرِين ((36))} [الزخرف].
إلى غير من النتائج السيئة والعواقب الوخيمة الناشئة للإعراض عن التذكير بآيات اللَّه. اهـ. [أضواء البيان ((4) / (181) – (183))، بتصرف].
يؤيد أن من نتائج الإعراض الأكنة على القلوب حتى لا تفقه الحق وعدم الاهتداء أبدًا قوله تعالى
{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} – قال السعدي: أي: ونعاقبهم، إذا لم يؤمنوا أول مرة يأتيهم فيها الداعي، وتقوم عليهم الحجة، بتقليب القلوب، والحيلولة بينهم وبين الإيمان، وعدم التوفيق لسلوك الصراط المستقيم.
وهذا من عدل الله، وحكمته بعباده، فإنهم الذين جنوا على أنفسهم، وفتح لهم الباب فلم يدخلوا، وبين لهم الطريق فلم يسلكوا، فبعد ذلك إذا حرموا التوفيق، كان مناسبا لأحوالهم. تفسير السعدي.
(المبحث الخامس):
فائدة في قواعد التفسير: في مقاصد أمثلة القرآن الكريم: سنة الله تعالى في عباده أن من بان له الهدى، واتضح له الحق ثم رجع عنه أنه لا يوفقه بعد ذلك للهداية.
قال الشيخ أبو عبد الله، عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في القواعد الحسان لتفسير القرآن، ص (64 – 69): “القاعدة الثانية والعشرون: في مقاصد أمثلة القرآن اعلم أن القرآن الكريم احتوى على أعلى وأكمل وأنفع المواضيع التي يحتاج الخلق إليها في جميع الأنواع، فقد احتوى على أحسن طرق التعليم، وإيصال المعاني إلى القلوب بأيسر شيء وأوضحه.
فمن أنواع تعاليمه العالية: ضرب الأمثال، وهذا النوع يذكره الباري سبحانه في الأمور المهمة، كالتوحيد وحال الموحد والشرك وحال أهله، والأعمال العامة الجليلة.
ويقصد بذلك كله: توضيح المعاني النافعة، وتمثيلها بالأمور المحسوسة؛ ليصير القلب كأنه يشاهد معانيها رأي العين. وهذا من عناية الباري بعباده ولطفه … “، ثم ذكر جملة من ذلك، ومن ذلك قوله: ” وهو قوله: {أوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ ورَعْدٌ وبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أصابِعَهُمْ فِي آذانهم مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ المَوْتِ واللَّهُ مُحِيطٌ بِالكافِرِينَ} [البقرة: (19)] ينطبق على المنافقين الضالين المتحيرين الذين يسمعون القرآن ولم يعرفوا المراد منه، لأنهم أعرضوا عنه، وكرهوا سماعه اتباعًا لرؤسائهم وسادتهم”. انتهى المراد.
(المبحث السادس): الفروق
السؤال الأول:
الفرق بين الإعراض عن دين الله وترك العمل
س: يتكلم العلماء عن الإعراض عن دين الله، فهل هو مختلف عن ترك العمل أم هو نفسه؟
ج: الإعراض عن دين الله هو أن يعرض عن دين الله فلا يتعلمه ولا يعبد الله، فهو كافر، كما قال تعالى: {والَّذِينَ كَفَرُوا عَمّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف: (3)]. [شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد – الراجحي (4/ 17)].
(الفصل الثاني): تنبيه في معنى قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}
قال ابن الجوزي – رحمه الله -: قوله تعالى: (والله يعصمك من الناس) قال ابن قتيبة: أي: يمنعك منهم، وعصمة الله: منعه للعبد من المعاصي … .
فان قيل: فأين ضمان العصمة وقد شُجَّ جبينه؟: فعنه جوابان:
أحدهما: أنه عصمه من القتل، والأسرِ، وتلفِ الجملة، فأمّا عوارض الأذى: فلا تمنع عصمة الجملة.
والثاني: أن هذه الآية نزلت بعدما جرى عليه ذلك؛ لأن «المائدة» من أواخر ما نزل. [زاد المسير، ((2) / (397))].
وسئل فضيلة الشيخ عبد العزيز ابن باز عن معنى قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، ونص السؤال: كيف نُوفق بين قول الله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]، وما ورد أنَّ النبي ? مات من أثر السّم الذي وضعته له امرأةٌ يهوديةٌ؟ وما المقصود بعصمة الله تعالى له عليه الصلاة والسلام من الناس؟
فأجاب:
كلمة مجملة: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ مجملة، قد عصمه سبحانه حتى بلَّغ الرسالة؛ لأن قبلها: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، فالمعنى: بلِّغ، والله يعصمك؛ حتى لا تضل في بلاغك.
وهو ? معصومٌ فيما بلَّغه عن الله بإجماع المسلمين، وليس معصومًا أنه لا يُصيبه مرضٌ، كل الأنبياء يمرضون، وليس معصومًا ما يتعدَّى عليه أحدٌ، قد أُوذي في أحدٍ، وجُرح في أحدٍ عليه الصلاة والسلام، وكُسرت البيضة على رأسه، وآذاه المشركون في مكة، لكن يعصمه حتى يُبلِّغ رسالة ربِّه، حتى لا يكتم منها شيئًا، حتى لا يُمنع من ذلك، وقد بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، وعصمه الله حتى بلَّغ الرسالة.
فتاوى الدروس، الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ابن باز رحمه الله].
قال ابن كثير – رحمه الله -:
ومِن عصمة الله عز وجل لرسوله ?: حفْظُه له من أهل مكة، وصناديدها، وحسّادها، ومُعانديها، ومترفيها، مع شدة العداوة، والبِغْضة، ونصب المحاربة له ليلًا، ونهارًا، بما يخلقه الله تعالى من الأسباب العظيمة بقَدَره، وحكمته العظيمة، فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب، إذ كان رئيسًا مطاعًا كبيرًا في قريش، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله ?، لا شرعيَّة، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر، هابوه، واحترموه، فلما مات أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيرًا، ثم قيض الله عز وجل له الأنصار، فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحول إلى دارهم – وهي المدينة -، فلما صار إليها حَمَوه من الأحمر والأسود، فكلما همَّ أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء: كاده الله، ورد كيده عليه، لما كاده اليهود بالسحر: حماه الله منهم، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء، ولما سم اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر: أعلمه الله به، وحماه الله منه؛ ولهذا أشباه كثيرة جدًّا، يطول ذِكْرها. [«تفسير ابن كثير» ((3) / (154))].
وقال النووي:
فيه بيان عصمته صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم، كما قال الله: (والله يعصمك من الناس) وهي معجزة لرسول الله ? في سلامته مِن السم المهلك لغيره، وفي إعلام الله تعالى له بأنها مسمومة، وكلام عضو منه له، فقد جاء في غير مسلم أنه ? قال: (إن الذراع تخبرني أنها مسمومة). [«شرح مسلم»].
وقال القرطبي – رحمه الله -:
ليس في الآية ما ينافي الحراسة، كما أن إعلام الله نصر دينه وإظهاره، ما يمنع الأمر بالقتال، وإعداد العدد. [«المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم» ((6) / (280))].
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله – بعد أن ساق كلام القرطبي هذا -:
وعلى هذا فالمراد: العصمة من الفتنة، والإضلال، أو إزهاق الروح، والله أعلم. [«فتح الباري» ((6) / (82))].
(الفصل الثالث):
حكم الاستهزاء بشعائر الدين
فقد سُئل فضيلة الشيخ عبد العزيز ابن باز ورحمه الله، ونص السؤال: ظهر في كثير من المجتمعات الإسلامية الاستهزاء بشعائر الدين الظاهرة، كإعفاء اللحى وتقصير الثياب ونحوهما؛ فهل مثل هذا الاستهزاء بالدين الذي يخرج من الملة؟ وبماذا تنصحون من وقع في مثل هذا الأمر وفقكم الله؟
فأجاب رحمه الله بقوله: لا ريب أن الاستهزاء بالله ورسوله وبآياته وبشرعه وأحكامه من جملة أنواع الكفر لقول الله عزوجل: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ? لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} الآية [التوبة:65 – 66].
ويدخل في ذلك الاستهزاء: بالتوحيد أو بالصلاة أو بالزكاة أو الصيام أو الحج أو غير ذلك من أحكام الدين المتفق عليها.
أما الاستهزاء بمن يعفي لحيته، أو يقصر ثيابه ويحذر الإسبال، أو نحو ذلك من الأمور التي قد تخفى أحكامها، فهذا فيه تفصيل،
والواجب الحذر من ذلك، ونصيحة من يعرف منه شيء من ذلك حتى يتوب إلى الله سبحانه ويلتزم بشرعه، ويحذر الاستهزاء بمن تمسك بالشرع في ذلك، طاعة لله عزوجل ورسوله ?، وحذرا من غضب الله وعقابه، والردة عن دينه وهو لا يشعر، نسأل الله لنا وللمسلمين جميعًا العافية من كل سوء إنه خير مسئول. والله ولي التوفيق. [مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز (7/ 45)].
____