: 2794 – فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي وعبدالله المشجري … وعبدالله كديم وطارق أبي تيسير وعبدالحميد البلوشي وأحمد بن علي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله (4) – باب سؤال اليهود النبي ? عن الروح وقوله تعالى: {يسألونك عن الروح} [الإسراء (85)] الآية
(32) – ((2794)) حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثني إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: بينما أنا أمشي مع النبي ? في حرث، وهو متكئ على عسيب، إذ مر بنفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقالوا: ما رابكم إليه، لا يستقبلكم بشيء تكرهونه، فقالوا: سلوه، فقام إليه بعضهم فسأله عن الروح، قال: فأسكت النبي ?، فلم يرد عليه شيئا، فعلمت أنه يوحى إليه، قال: فقمت مكاني، فلما نزل الوحي قال: «{ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء (85)]»،
(33) – ((2794)) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو سعيد الأشج، قالا: حدثنا وكيع، ح وحدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، وعلي بن خشرم، قالا: أخبرنا عيسى بن يونس، كلاهما عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: كنت أمشي مع النبي ? في حرث بالمدينة، بنحو حديث حفص، غير أن في حديث وكيع: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء (85)]، وفي حديث عيسى بن يونس: وما أوتوا من رواية ابن خشرم،
(34) – ((2794)) حدثنا أبو سعيد الأشج، قال: سمعت عبد الله بن إدريس، يقول: سمعت الأعمش يرويه، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله، قال: كان النبي ? في نخل يتوكأ على عسيب، ثم ذكر نحو حديثهم عن الأعمش، وقال في روايته: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء (85)]
(35) – ((2795)) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعبد الله بن سعيد الأشج – واللفظ لعبد الله – قالا: حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن خباب، قال: «كان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه»، فقال لي: لن أقضيك حتى تكفر بمحمد، قال: فقلت له: «إني لن أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، قال: وإني لمبعوث من بعد الموت؟» فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد، قال وكيع: كذا قال الأعمش، قال: فنزلت هذه الآية: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا} [مريم (77)] وقال: {لأوتين مالا وولدا} [مريم (77)] إلى قوله: {ويأتينا فردا} [مريم (80)]
(36) – ((2795)) حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو معاوية، ح وحدثنا ابن نمير، حدثنا أبي، ح وحدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا جرير، ح وحدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، كلهم عن الأعمش بهذا الإسناد، نحو حديث وكيع، وفي حديث جرير قال: كنت قينا، في الجاهلية، فعملت للعاص بن وائل، عملا فأتيته أتقاضاه.
==========
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله: ((6)) – (باب سؤال اليهود النبي ? عن الروح، وقوله تعالى: {ويسألونك عن الروح} الآية)
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7033)] ((2794)) – شرح الحديث:
(عن عبد الله) بن مسعود، كما هو القاعدة في مثل هذا؛ إذ السند كوفي؛ أنه (قال: بينما أنا أمشي) ولفظ البخاري: «بينا أنا».
قال النووي -رحمه الله-: واتفقت نسخ «صحيح مسلم» على أنه «حرث» بالثاء المثلثة، وكذا رواه البخاري في مواضع، ورواه في أول الكتاب، في «باب وما أوتيتم من العلم إلا قليلا»: «خرب» بالباء الموحدة والخاء المعجمة: جمع خراب، قال العلماء: الأول أصوب، وللآخر وجه، ويجوز أن يكون الموضع فيه الوصفان. انتهى [» شرح النووي” (17) / (136) – (137)].
وقال في «الفتح» بعد أن رجح لفظة (في حرث): وزاد-يعني البخاري- في رواية العلم: «بالمدينة»، ولابن مردويه من وجه آخر، عن الأعمش: «في حرث للأنصار»، وهذا يدل على أن نزول الآية وقع بالمدينة، لكن روى الترمذي من طريق داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس: «قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه، فأنزل الله تعالى: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} [الإسراء (85)]» ورجاله رجال مسلم، وهو عند ابن إسحاق من وجه آخر، عن ابن عباس نحوه، ويمكن الجمع بأن يتعدد النزول بحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك، وإن ساغ هذا، وإلا فما في الصحيح أصح. انتهى. [«الفتح» (10) / (303)، «كتاب التفسير» رقم ((4721))].
وقال في «الفتح»: قوله: «على عسيب» بمهملتين، وآخره موحدة، بوزن عظيم، وهي الجريدة التي لا خوص فيها، ووقع في رواية ابن حبان: «ومعه جريدة» انتهى [«الفتح» (10) / (303)].
(إذ مر بنفر) بفتح الفاء: عدة رجال، من ثلاثة إلى عشرة، والنفير مثله، وكذلك النفر والنفرة بالإسكان [«عمدة القاري» (2) / (200)].
ووقع في رواية للبخاري بلفظ: «إذ مر اليهود»، قال في «الفتح»: قوله: «إذ مر اليهود» كذا فيه «اليهود» بالرفع على الفاعلية، وفي بقية الروايات في «العلم»، و «الاعتصام»، و «التوحيد»، وكذا عند مسلم: «إذ مر بنفر من اليهود»، وعند الطبري من وجه آخر، عن الأعمش: «إذ مررنا على يهود»، ويحمل هذا الاختلاف على أن الفريقين تلاقوا، فيصدق أن كلا مر بالآخر.
وقوله: «يهود»
ولم أقف في شيء من الطرق على تسمية أحد من هؤلاء اليهود. انتهى [«الفتح» (10) / (303) – (304)].
(فقال بعضهم لبعض: سلوه)؛ أي: النبي ?، وأصله: اسألوه، (عن الروح، فقالوا: ما رابكم إليه) قال النووي -رحمه الله-: هكذا في جميع النسخ: «ما رابكم إليه»؛ أي: ما دعاكم إلى سؤاله، أو ما شككم فيه، حتى احتجتم إلى سؤاله، أو ما دعاكم إلى سؤال تخشون سوء عقباه. انتهى [«شرح النووي» (17) / (137)].
وقال في «الفتح»: قوله: «ما رابكم إليه» كذا للأكثر بصيغة الفعل الماضي من الريب، ويقال فيه: رابه كذا، وأرابه كذا، بمعنى، وقال أبو زيد: رابه: إذا علم منه الريب، وأرأبه: إذا ظن ذلك به، ولأبي ذر عن الحموي وحده بهمزة، وضم الموحدة من الرأب، وهو الإصلاح، يقال فيه: رأب بين القوم: إذا أصلح بينهم، وفي توجيهه هنا بعد.
وقال الخطابي [«الأعلام» (3) / (1873)]: الصواب ما أربكم، وهو الحاجة، وهذا واضح المعنى لو ساعدته الرواية، نعم رأيته في رواية المسعودي عن الأعمش، عند الطبري كذلك، وذكر ابن التين أن رواية القابسي كرواية الحموي، لكن بتحتانية بدل الموحدة من الرأي، والله أعلم. انتهى [«الفتح» (10) / (304)].
(لا يستقبلكم بشيء تكرهونه)
وروى الطبري من طريق، مغيرة، عن إبراهيم، في هذه القصة، فنزلت الآية، فقالوا: هكذا نجده عندنا، ورجاله ثقات، إلا أنه سقط من الإسناد علقمة، قاله في «الفتح» [«الفتح» (10) / (308)].
قال ابن التين -رحمه الله-: اختلف الناس في المراد بالروح المسؤول عنه في هذا الخبر على أقوال:
الأول: روح الإنسان. الثاني: روح الحيوان. الثالث: جبريل -عليه السلام-.
الرابع: عيسى -عليه السلام-. الخامس: القرآن. السادس: الوحي. السابع: ملك يقوم وحده صفا يوم القيامة.
الثامن: ملك له أحد عشر ألف جناح، ووجه.
التاسع: خلق كخلق بني آدم، يقال لهم: الروح، يأكلون، ويشربون، لا ينزل ملك من السماء إلا نزل معه. وقيل: بل هم صنف من الملائكة يأكلون ويشربون. انتهى كلامه ملخصا بزيادات من كلام غيره.
قال الحافظ: وهذا إنما اجتمع من كلام أهل التفسير في معنى لفظ الروح الوارد في القرآن، لا خصوص هذه الآية، فمن الذي في القرآن: {نزل به الروح الأمين ((193))} [الشعراء (193)]، {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} [الشورى (52)]، {يلقي الروح من أمره} [غافر (15)]، {وأيدهم بروح منه} [المجادلة (22)]، {يوم يقوم الروح والملائكة صفا} [النبأ (38)]، {تنزل الملائكة والروح فيها} [القدر (4)]، فالأول جبريل، والثاني القرآن، والثالث الوحي، والرابع القوة، والخامس
والسادس محتمل لجبريل ولغيره.
ووقع إطلاق روح الله على عيسى -عليه السلام-، وقد روى ابن إسحاق في تفسيره بإسناد صحيح، عن ابن عباس قال: الروح من الله، وخلق من خلق الله، وصور كبني آدم، لا ينزل ملك إلا ومعه واحد من الروح، وثبت عن ابن عباس أنه كان لا يفسر الروح؛ أي: لا يعين المراد به في الآية.
وقال الخطابي: حكوا في المراد بالروح في الآية أقوالا، قيل: سألوه عن جبريل، وقيل: عن ملك له ألسنة، وقال الأكثر: سألوه عن الروح التي تكون بها الحياة في الجسد، وقال أهل النظر: سألوه عن كيفية مسلك الروح في البدن، وامتزاجه به، وهذا هو الذي استأثر الله بعلمه.
وقال القرطبي: الراجح أنهم سألوه عن روح الإنسان؛ لأن اليهود لا تعترف بأن عيسى روح الله، ولا تجهل أن جبريل ملك، وأن الملائكة أرواح.
قال بعض العلماء: وقد تنطع قوم، فتباينت أقوالهم، فقيل: هي النفس الداخل والخارج، وقيل: الحياة، وقيل: جسم لطيف يحل في جميع البدن، وقيل: هي الدم: وقيل: هي عرض، حتى قيل: إن الأقوال فيها بلغت مائة، ونقل ابن منده عن بعض المتكلمين أن لكل نبي خمسة أرواح، وأن لكل مؤمن ثلاثة، ولكل حي واحدة.
قال الإتيوبي عفا الله عنه: هذه الأقوال المتشتتة ليست مبنية على أسس من الكتاب والسنة
وقيل الروح والنفس شيءٌ واحد
وقال السهيلي: يدل على مغايرة الروح والنفس قوله تعالى: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} [الحجر (29)] وقوله تعالى: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} [المائدة (116)] فإنه لا يصح جعل أحدهما موضع الآخر، ولولا التغاير لساغ ذلك. انتهى [«الفتح» (10) / (304) – (306)].
(قال: فأسكت النبي ?)؛ أي: سكت، وقيل: أطرق، وقيل: أعرض عنه، قاله النووي -رحمه الله-. [«شرح النووي» (17) / (137)].
(فلم يرد عليه شيئا) وفي لفظ للبخاري: «فلم يرد عليهم»، (فعلمت أنه يوحى إليه) وفي رواية للبخاري في «التوحيد»: «فظننت أنه يوحى إليه»، وفي «الاعتصام»: «فقلت: إنه يوحى إليه»، وهي متقاربة، وإطلاق العلم على الظن مشهور، وكذا إطلاق القول على ما يقع في النفس، ووقع عند ابن مردويه، من طريق ابن إدريس، عن الأعمش: «فقام، وحنى من رأسه، فظننت أنه يوحى إليه».
(قال) ابن مسعود – رضي الله عنه -: (فقمت مكاني) وفي لفظ للبخاري: «فقمت مقامي»، وفي لفظ: «فتأخرت عنه»؛ أي: أدبا معه ?؛ لئلا يتشوش بقربي منه،
(فلما نزل الوحي) وفي رواية للبخاري: «حتى صعد الوحي، فقال»، وفي رواية له: «فقمت، فلما انجلى».
(قال) النبي ?: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ((85))} [الإسراء (85)].
قال ابن جرير الطبري -رحمه الله-: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد ?: ويسألك الكفار بالله من أهل الكتاب {عن الروح}، ما هي؛ قل لهم: الروح من أمر ربى، وما أوتيتم أنتم، وجميع الناس من العلم إلا قليلا، وذكر أن الذين سألوا رسول الله ? عن الروح، فنزلت هذه الآية بمسألتهم إياه عنها، كانوا قوما من اليهود. انتهى [«تفسير الطبري» (17) / (541)].
وقال الشوكاني -رحمه الله-: {ويسألونك عن الروح} قد اختلف الناس في الروح المسؤول عنه، فقيل: هو الروح المدبر للبدن الذي تكون به حياته، وبهذا قال أكثر المفسرين.
قال الفراء: الروح الذي يعيش به الإنسان، لم يخبر الله سبحانه به أحدا من خلقه، ولم يعط علمه أحدا من عباده؛ فقال: {قل الروح من أمر ربي}؛ أي: إنكم لا تعلمونه، وقيل: الروح المسؤول عنه: جبريل …. وقيل غير ذلك مما لا طائل تحته، ولا فائدة في إيراده، والظاهر القول الأول، قال: ثم الظاهر أن السؤال عن حقيقة الروح؛ لأن معرفة حقيقة الشيء أهم، وأقدم من معرفة حال من أحواله، ثم أمره سبحانه أن يجيب على السائلين له عن الروح فقال: {قل الروح من أمر ربي}. «من» بيانية، والأمر: الشأن، والإضافة للاختصاص؛ أي: هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأشياء التي لم يعلم بها عباده: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}؛ أي: أن علمكم الذي علمكم الله، بل علم الأنبياء -عليهم السلام-ليس هو بالنسبة إلى علم الله سبحانه إلا كما يأخذ الطائر في منقاره من البحر، كما في حديث موسى والخضر -عليهما السلام-. انتهى [«فتح القدير» للشوكاني (4) / (348)].
وقوله: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} هكذا في هذه الرواية، وقد بين مسلم فيما بعد أن في رواية عيسى بن يونس: «وما أوتوا من العلم إلا قليلا»،
قال ابن حجر: وهي مشهورة عن الأعمش، أعني بلفظ: «وما أوتوا»، ولا مانع أن يذكرها بقراءة غيره، وقراءة الجمهور: «وما أوتيتم» والأكثر على أن المخاطب بذلك اليهود، فتتحد القراءتان، نعم وهي تتناول جميع علم الخلق بالنسبة إلى علم الله.
ووقع في حديث ابن عباس:» أن اليهود لما سمعوها قالوا: أوتينا علما كثيرا، التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا، فنزلت: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي} [الكهف (109)]، قال الترمذي: حسن صحيح.
وحديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – هذا متفق عليه.
فقه وفوائد الحديث:
(1) – (منها): بيان جواز سؤال العالم في حال قيامه، ومشيه، إذا كان لا يثقل ذلك عليه.
(2) – (ومنها): أدب الصحابة – رضي الله عنهم – مع النبي ?، حيث تأدب ابن مسعود – رضي الله عنه – لما علم بنزول الوحي، فوقف حتى لا يشوش عليه.
(3) – (ومنها): العمل بما يغلب على الظن، حيث توقف ابن مسعود حيث ظن نزول الوحي.
(4) – (ومنها) التوقف عن الجواب بالاجتهاد لمن يتوقع النص.
(5) – (ومنها): أن بعض المعلومات قد استأثر الله -سبحانه وتعالى- بعلمه وحقيقته؛ كالروح.
(6) – (ومنها): أن الأمر يرد لغير الطلب، والله أعلم.
(7) – (ومنها): ما قاله الشوكاني -رحمه الله-: في هذه الآية ما يزجر الخائضين في شأن الروح المتكلفين لبيان ما هيئتها، وإيضاح حقيقتها … انتهى. [«فتح القدير» للشوكاني (4) / (348)]،نقله في. [البحر المحيط الثجاج].
(فصل): فيما قاله أهل العلم في المراد بقوله تعالى: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي}:
قال الإسماعيلي -رحمه الله-: يحتمل أن يكون جوابا، وأن الروح من جملة أمر الله، وأن يكون المراد: أن الله اختص بعلمه، ولا سؤال لأحد عنه.
وقال ابن القيم – رحمه الله -: ليس المراد هنا بالأمر الطلب اتفاقا، وإنما المراد به المأمور، والأمر يطلق على المأمور؛ كالخلق على المخلوق، ومنه: {لما جاء أمر ربك} [هود (101)].
وقال ابن بطال -رحمه الله-: معرفة حقيقة الروح مما استأثر الله بعلمه؛ بدليل هذا الخبر، قال: والحكمة في إبهامه اختبار الخلق؛ ليعرفهم عجزهم عن علم ما لا يدركونه، حتى يضطرهم إلى رد العلم إليه.
وقال القرطبي -رحمه الله-: الحكمة في ذلك إظهار عجز المرء؛ لأنه إذا لم يعلم حقيقة نفسه، مع القطع بوجوده، كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق من باب أولى.
وجنح ابن القيم في «كتاب الروح» إلى ترجيح أن المراد بالروح المسؤول عنها في الآية ما وقع في قوله تعالى: {يوم يقوم الروح والملائكة صفا} [النبأ (38)] قال: وأما أرواح بني آدم، فلم يقع تسميتها في القرآن إلا نفسا، قال الحافظ: كذا قال، ولا دلالة في ذلك لما رجحه، بل الراجح الأول، فقد أخرج الطبري من طريق العوفي، عن ابن عباس في هذه القصة أنهم قالوا عن الروح، وكيف يعذب الروح الذي في الجسد، وإنما الروح من الله؟ فنزلت الآية.
وقال بعضهم: ليس في الآية دلالة على أن الله لم يطلع نبيه ? على حقيقة الروح، بل يحتمل أن يكون أطلعه، ولم يأمره أنه يطلعهم، وقد قالوا في علم الساعة نحو هذا، والله أعلم.
قال الإتيوبي عفا الله عنه: العجب من الحافظ ينقل هذا القول، ويسكت عليه، وهو من منكر القول، فهل بعد هذه الآية بأن الروح من أمر الله، وليست من معلومات الخلق، وبعد قوله ? في الحديث الصحيح: «مفاتح الغيب خمس: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ((34))} [لقمان (34)]، فهل يدعي عاقل بعد هذا كله بأن الله تعالى أطلع نبيه ? على هذه المغيبات؟ بل صرح بعضهم بأنه ? لم يخرج من الدنيا حتى أطلعه الله على هذا المغيبات، فهذا هو التقول على الله تعالى بلا علم، نسأل الله تعالى أن يعافينا من ذلك
ونقل ابن منده في «كتاب الروح» له عن محمد بن نصر المروزي الإمام المطلع على اختلاف الأحكام من عهد الصحابة إلى عهد فقهاء الأمصار، أنه نقل الإجماع على أن الروح مخلوقة، وإنما ينقل القول بقدمها عن بعض غلاة الرافضة، والمتصوفة.
واختلف هل تفنى عند فناء العالم قبل البعث، أو تستمر باقية؟ على قولين، والله أعلم. انتهى [«الفتح» (10) / (307) – (308)].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: وهذا الاختلاف أيضا من نوع الاختلاف السابق، فهو من الخوض فيما لا يعني، والحق تفويض علم ذلك إلى القائل الحكيم: {قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء (85)].
8 – (ومنها): “بيان أن الروح إذا كانت بين جنبَي الإنسان وهو لا يعلم حقيقتَها ولا كُنْهَها ولا كيفيتها، فكيف يعرف كُنهَ ذات الربّ عز وجل، وكنهَ صفاته
9 – (ومنها): بيان ضعف الإنسان، وأنه لم يؤتَ من العلم إلا قليلًا”. انتهى.
تنبيه تعقب الدارقطني:
قال الإتيوبي عفا الله عنه: حاصل ما أشار إليه الدارقطني -رحمه الله- أن رواية عبد الله بن إدريس غير محفوظة؛ لمخالفته جماعة من أصحاب الأعمش، فتكون روايته شاذة.
والجواب عن مسلم -رحمه الله- أنه يرى صحة رواية ابن إدريس؛ لكونه ثقة حافظا متقنا، فزيادته مقبولة، فيكون للأعمش إسنادان: أحدهما إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، والآخر عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله – رضي الله عنه -، والله تعالى أعلم.
======
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
(36) – ((2795)) حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو معاوية، ح وحدثنا ابن نمير، حدثنا أبي، ح وحدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا جرير، ح وحدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، كلهم عن الأعمش بهذا الإسناد، نحو حديث وكيع، وفي حديث جرير قال: كنت قينا، في الجاهلية، فعملت للعاص بن وائل، عملا فأتيته أتقاضاه.
قوله: ((قَيْنًا))، “أي: حدادًا،
وفي هذا الحديث: التنصيصُ على أن قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} نزل في العاص بن وائل.
وفيه: أن من أنكر البعث فهو كافر بإجماع المسلمين؛ لأن الإيمان به أصل من أصول الإيمان التي لا يتم إلا بها”. [توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (8/ 126 وما بعدها)].
[تنبيه]: سبق ذكر هذه المسائل وغيرها في: (124 – 125 رياح المسك العطرة من رياض صحيح البخاري المزهرة)، وفي التعليق على أصول التفسير لابن عثيمين رحمه ا لله.
ثانيًا: ملحقات:
المبحث الأول: اختلف الناس في الروح ما هي؟ وهل الروح هي الحياة أو غيرها؟
فقيل: هي جسم، وقيل: عرض، وقيل: لا ندري ما الروح أجوهر أم عرض؟ واستدلوا بقول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}، ولم يخبر عنها ما هي لا أنها جوهر، ولا عرض.
وذهب “الجبائي” من المعتزلة: إلى أن الروح جسم، وأنها غير الحياة، والحياة عرض، واستدل بقول أهل اللغة: خرجت روح الإنسان. وزعم أن الروح لا تجوز عليها الأعراض.
وقيل: ليست الروح شيئا أكثر من اعتدال الطبائع الأربع التي هي: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ولم يثبتوا في الدنيا شيئا إلا الطبائع الأربع، وقال قائلون: الروح معنى خامس غير الطبائع الأربع، وليس في الدنيا إلا الطبائع الأربع والروح.
وقيل: الروح الدم الصافي الخالص من الكدرة، وقيل: الروح هي الحرارة الغريزية، وهي الحياة، وقيل: الروح جوهر بسيط منبعث في العالم كله من الحيوان على جهة الإعمال له والتدوير، وهي على ما وصفت من الانبساط في العالم غير منقسمة الذات والبنية، وأنها في كل حيوان العالم بمعنى واحد لا غيره.
والقول المختار: أن الروح جسم مخالف لماهية هذا الجسم المحسوس، وهي جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفض في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها، من هذا الجسم اللطيف، بقي ذلك الجسم ساريا في هذه الأعضاء، وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية، وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار فارقت الروح البدن، وانفصلت إلى عالم الأرواح، وهذا القول هو الصواب في المسألة، وعليه دل الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة، وكل الأقوال سواه باطلة.
واستدل العلامة ابن القيم -رحمه الله- له بمائة دليل وخمسة عشر دليلا، وزيف كلام ابن سينا وابن حزم، وأمثالهما، ومن أدلة هذا القول من الكتاب:
[أولاً:] قول الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}.
ففي الآية ثلاثة أدلة:
الإخبار بتوفيها، وإمساكها، وإرسالها، وهذا شأن الجسم.
ثانيا: قول الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} (5) إلى قوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (6)
وفي الآية أربعة أدلة:
أحدها: بسط الملائكة أيديهم لتناولها. الثاني: وصفها بالخروج والإخراج.
الثالث: الإخبار عن عذابها في ذلك اليوم. الرابع: الإخبار عن مجيئها إلى ربها، وهذا شأن الجسم.
ثالثا: قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ .. } إلى قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ}.
وفيها ثلاثة أدلة:
الأول: الإخبار بتوفي النفس بالليل. الثاني: بعثها إلى أجسادها بالنهار.
الثالث: توفي الملائكة له عند الموت، فهذه عشرة أدلة.
[رابعًا:] ومن الأدلة -أيضا- قول الله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} (8)
وفيه ثلاثة أدلة:
أحدها: وصفها بالرجوع. الثاني: وصفها بالدخول.
الثالث: وصفها بالرضى. … فهذه ثلاثة عشر دليلا،
ومن السنة
[أولاً:] قول النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر» [م]، ففيه دليلان:
أحدهما: وصفه بأنه يقبض. الثاني: أن البصر يراه، وهذا شأن الجسم.
ثانيا: قوله -صلى الله عليه وسلم-: «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة» [النسائي: الجنائز (2073) , وابن ماجه: الزهد (4271) , وأحمد (3/ 456) , ومالك: الجنائز (566).]،
فيه دليلان:
أحدهما: كونه طائرا. … الثاني: تعلقها بشجر الجنة وأكلها.
ثالثا: قوله – عليه الصلاة والسلام – في حديث بلال: «قبض أرواحكم، ثم ردها عليكم» [البخاري: مواقيت الصلاة (595) , والنسائي: الإمامة (846)]،
ففيه دليلان: وصفها بالقبض والرد.
ومن الأدلة: ما ثبت في عذاب القبر من خطاب ملك الموت لها، وأنها تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، وأنها تصعد، ويوجد منها من المؤمن كأطيب ريح، ومن الكافر كأنتن ريح،
وأما الإجماع، فقد علم بالضرورة – ما جاء به صلى الله عليه وسلم وأخبر به الأمة، وأنه تنبت أجسادهم في القبور، فإذا نفخ في الصور، رجعت كل روح إلى جسدها، فدخلت فيه، فانشقت الأرض عنه، فخرج من قبره،
ومن أدلة هذا الإجماع الحديث والآثار الدالة على عذاب القبر، ونعيمه إلى يوم البعث، ومعلوم أن الجسد يتلاشى، ويضمحل وأن العذاب والنعيم مستمران إلى يوم القيامة، إنما هو على الروح،
وكذلك من أدلة العقل: أن هذا البدن المشاهد محل لجميع صفات النفس، وإدراكاتها الكلية والجزئية، ومحل للقدرة على الحركات الإرادية، فوجب أن يكون الحامل لتلك الإدراكات والصفات هو البدن، وما سكن فيه.
وأما دليل الفطرة: فإن كل عاقل إذا قيل له ما الإنسان؟ فإنه يشير إلى هذه البنية، وما قام بها لا يخطر بباله أمر مغاير لها مجرد ليس في العالم، ولا خارجه والعلم بذلك ضروري لا يكون شكا.
[المبحث الثاني:] هل النفس أو الروح شيء واحد أو شيئان متغايران؟
اختلف الناس في مسمى النفس والروح هل هما مغايران، أو مسماهما واحد؟
فمن الناس من قال إنهما اثنان لمسمى واحد، وهذا قول الجمهور،
ومن الناس من قال إنهما متغايران،
والتحقيق: أن كلا من النفس والروح تطلق على أمور، فيتحد مدلولهما تارة، ويختلف تارة، فالنفس تطلق على الروح، ولكن غالبا ما تسمى نفسا إذا كانت متصلة بالبدن، وأما إذا أخذت مجردة، فتسمية الروح أغلب عليها، وأما الروح فلا تطلق على البدن لا بانفراده، ولا مع النفس، والنفس تطلق على أمور:
أولا: تطلق على الدم، فيقال: سالت نفسه أي دمه؛ وفي الحديث «ما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت، إذا مات فيه».
ثانيا: وتطلق على الروح، يقال: خرجت نفسه، أي روحه،
[ثالثًا:] وتطلق على الجسد.
[رابعًا:] وتطلق النفس على العين، يقال: أصابت فلانا نفس، أي عين.
خامسا: وتطلق النفس على الذات بجملتها؛ كقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ}، وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، وقوله: {تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا}، وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}.
والروح تطلق على أمور:
تطلق الروح على القرآن؛ كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}، وتطلق الروح على جبريل؛ كقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ}،
وتطلق الروح على الوحي، الذي يوحيه الله إلى أنبيائه ورسله؛ كقوله تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}،
وتطلق الروح على الهواء المتردد في بدن الإنسان، وتطلق الروح على أخص من هذا كله، وهو داعي الطاعة وواعظ القلب، وهو قوة المعرفة بالله والإنابة إليه، ومحبته وانبعاث الهمة إلى طلبه، وإرادته،
ونسبة هذه الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن، فالعلم روح، والإحسان روح، والمحبة روح، والتوكل روح، والصدق روح.
والناس متفاوتون في هذه الروح،
فمن الناس من تغلب عليه هذه الأرواح، فيصير روحيا،
ومنهم من يفقدها، أو أكثرها، فيصير أرضيا بهيميا،
وأما ما يؤيد الله به من القوة والثبات والنصر، فهي روح أخرى؛ كما قال تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (20) فهذا معنى سادس،
السابع: تطلق الروح على عيسى -عليه الصلاة والسلام-؛ كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} (21) الثامن: وكذلك القوى التي في البدن؛ فإنها -أيضا- تسمى أرواحا، فيقال: الروح الباسط، والروح السامع، والروح الشام.
والفرق بين النفس والروح فرق بالصفات لا فرق بالذات، وإنما سمي الدم نفسا؛ لأن خروجه الذي يكون معه الموت يلازم خروج النفس، وإن الحياة لا تتم إلا به كما لا تتم إلا بالنفس، ويقال: فاضت نفسه، وخرجت نفسه، وفارقت نفسه كما يقال: خرجت روحه وفارقت روحه.
[المبحث الثالث:] هل الروح قديمة، أو محدثة مخلوقة؟
في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها قديمة غير مخلوقة.
الثاني: أنها محدثة مخلوقة.
الثالث: التوقف.
فلا يقال إنها مخلوقة، ولا غير مخلوقة،
استدل أهل القول الأول:
القائلون بأنها قديمة غير مخلوقة، احتجوا أن الله -سبحانه وتعالى-:
أولا: أن الله تعالى أخبر أن الروح من أمر الله؛ كقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}، وأمره غير مخلوق،
وأجيب بأنه ليس المراد هنا بالأمر الطلب، الذي هو أحد أنواع الكلام، وإنما المراد الأمر هنا المأمور، كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}، أي: مأموره الذي قدره وقضاه، وقال له: كن فيكون.
الدليل الثاني: أن الله أضاف الروح إليه؛ كقوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}، كما أضاف إليه علمه وقدرته وسمعه وبصره ويده، فكما أن هذه الصفات ليست مخلوقة، فكذلك الروح.
وأجيب بأن المضاف إلى الله -سبحانه- نوعان: [الأول:] صفات لا تقوم بأنفسها: كالعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، فهذه إضافة الصفة إلى الموصوف بها، فعلمه وكلامه وقدرته وإرادته وحياته صفات له غير مخلوقة
والثاني: إضافة أعيان منفصلة عنه، كالبيت والناقة والعبد والرسول والروح، فهذه إضافة المخلوق إلى خالقه، والمصنوع إلى صانعه، لكنها إضافة تقتضي تخصيصا، وتشريفا يتميز به المضاف عن غيره.
أما أهل القول الثاني:
القائلون بأن الروح مخلوقة محدثة، فهذا هو الصواب، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة والأثر، وهو الذي ذهب إليه الصحابة والتابعون.
ومن أدلة هذا القول:
الإجماع: فقد أجمعت الرسل على أن الروح محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة، وهذا معلوم بالضرورة من دينهم، أن العالم محدث، وأجمع عليه السلف من الصحابة والتابعين، قبل قول هذه الفئة إنها قديمة حتى نبغت هذه النابغة، وزعمت أنها قديمة، وممن نقل الإجماع على ذلك محمد بن نصر المروزي وابن قتيبة وغيرهم.
الدليل الثاني من الكتاب: قول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}.
ووجه الدلالة: أن هذا اللفظ عام لا تخصيص فيه بوجه ما، فيدخل في عمومه الروح
ثانيا: قوله تعالى – الدليل الثاني من الكتاب قول الله تعالى – لزكريا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}.
ووجه الدلالة: أن هذا الخطاب لزكريا -عليه الصلاة والسلام- لروحه وبدنه
الدليل الثالث: قول الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}. ووجه الدلالة: أن الإنسان اسم لروحه وجسده.
الدليل الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام- «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف». [مسلم: البر والصلة والآداب (2638) , وأبو داود: الأدب (4834) , وأحمد (2/ 527)].
ووجه الدلالة: أن الجنود المجندة لا تكون إلا مخلوقة.
أما أهل القول الثالث:
القائلون بالتوقف، توقف قوم فقالوا: لا نقول الروح مخلوقة، ولا غير مخلوقة، وهؤلاء لم يتبين لهم معاني النصوص، ولم يفهموها ولو تدبروها، وعرفوا معانيها، لظهر لهم أنها مخلوقة محدثة مربوبة.
[المبحث الرابع]: هل الروح مخلوقة قبل الجسد، أم بعده؟ اختلف في الروح هل هي مخلوقة قبل الجسد أم بعده؟
هذه مسألة للناس فيها قولان معروفان، حكاهما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وغيره.
والقول الأول:
أن الأرواح متقدم خلقها على خلق البدن، وممن ذهب إلى ذلك محمد بن نصر المروزي، وأبو محمد ابن حزم، وحكاه ابن حزم إجماعا.
ومن أدلة هؤلاء -أولا- قول الله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ}.
ووجه الدلالة: أن ثم للترتيب والمهلة، ودلت الآية على أن خلقنا مقدم على أمر الله للملائكة بالسجود لآدم، ومعلوم قطعا أن أبداننا حادثة بعد ذلك، فعلم أنها الأرواح.
ثانيا: استدلوا بقول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}.
ووجه الدلالة: أن هذا الاستنطاق والإشهاد، إنما كان لأرواحنا إذ لم تكن الأبدان حينئذ موجودة، كما يؤيد ذلك الأحاديث الكثيرة التي تدل على أخذ الميثاق والإشهاد عليه، مما يدل على أن الله جعلهم أرواحا، ثم صورهم واستنطقهم، فتكلموا، فأخذ عليهم العهد والميثاق.
القول الثاني:
إن الأرواح تأخر خلقها عن الأجساد، واستدل هؤلاء بما يأتي -أولا- قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى}.
ووجه الدلالة: أن هذا الخطاب للإنسان الذي هو روح وبدن، فدل على أن جبلته مخلوقة بعد خلق الأبوين.
ثانيا: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ}.
وجه الدلالة: أن الآية صريحة في أن جملة النوع الإنساني أبدانا وأرواحا بعد خلق أصله، وهذا الدليل أصح من سابقه، وهذا القول الثاني هذا، هو الصواب أن الأرواح مخلوقة بعد الأجسام.
وأما أدلة الأولين القائلين بأن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد:
أما استدلالهم بقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} (28) فإن الله -سبحانه وتعالى- رتب الأمر بالسجود لآدم على خلقنا وتصويرنا، المراد خلق أبينا آدم، وتصويره، وجه الخطاب لنا؛ لأن آدم -عليه الصلاة والسلام- هو أصل البشر، ونظيره قول الله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} خطاب لليهود في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- والمظلل عليه آباؤهم؛ لأن الأبناء لهم حكم الآباء.
وأما استدلالهم بآية الميثاق {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، فيجاب عنه بأن الآية لا تدل على خلق الأرواح قبل الأجساد خلقا مستقرا، وإنما غايتها أن تدل على إخراج صورهم وأمثالهم في صور الذر واستنطاقهم، ثم ردهم إلى أصلهم والذي صح إنما، هو إثبات القدر السابق، وتقسيمهم إلى شقي وسعيد.
وأما الآثار المذكورة، فلا تدل -أيضا- على سبق الأرواح الأجساد سبقا مستقرا ثابتا، وغايتها أن تدل بعد صحتها وثبوتها على أن بارئها وفاطرها -سبحانه وتعالى- صور النسم وقدر خلقها وآجالها وأعمالها، واستخرج تلك الصور من مادتها، ثم أعادها إليها، وقدر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له، ولا تدل على أنها خلقت خلقا مستقرا، ثم استمرت موجودة حية عالمة ناطقة كلها في موضع واحد، ثم ترسل منها إلى الأبدان جملة بعد جملة، كما قال ابن حزم نعم يجيء جملة بعد جملة على الوجه الذي سبق إليه التقدير أولا، فيجيء خلق الخارج مطابقا للتقدير السابق.
[المبحث الخامس:]
ومن مباحث الروح: هل تموت الروح؟ أم الموت للبدن وحده؟
اختلف الناس في هذا:
فقالت طائفة: تموت الروح، وتذوق الموت،
واستدلوا بما يأتي:
أولا: قول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (33) والروح نفس، فلا بد أن تذوق الموت.
ثانيا: قول الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (34) وقوله سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (35) قد دلت الآيتان على أنه لا يبقى إلا الله وحده، وهذا يدل على أن الروح تموت.
ثالثا: قالوا إذا كانت الملائكة تموت، فالنفوس البشرية أولى بالموت، وهذا الدليل العقلي.
رابعا: استدلوا بقول الله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}، وقوله -تعالى- عن أهل النار أنهم قالوا: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ}، وجه الدلالة: الموتة الأولى هذه المشهودة، وهي للبدن والأخرى للروح.
خامسا: قول الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} (38) وهذا يدل على أن الأرواح تصعق عند النفخ، ويلزم من ذلك موتها.
القول الثاني: إن الأرواح لا تموت، وإنما تموت الأبدان؛ واستدلوا بما يأتي:
أولا: أن الأرواح خُلقت للبقاء، فلا تموت.
ثانيا: الحديث الدال على نعيم الروح وعذابها، بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها، ولو ماتت الأرواح، لانقطع عنها النعيم والعذاب كحديث، «إن مثل روح المؤمن الطائر، يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعها الله إلى جسده، يوم يبعثه» [النسائي: الجنائز (2073) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1449) , وأحمد (3/ 455) , ومالك: الجنائز (566).]، وحديث البراء بن عازب -رضي الله عنه- وفيه قصة العبد الكافر، أنها تنتزع روحه نزعا شديدا، أو تخرج منها ريح خبيثة، وتطرح روحه إلى أرض الطرحات.
والصواب في المسألة أن يقال:
موت النفوس، هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر كان هذا إيقاف الموت، وإن أريد أنها تعدم، وتفنى بالكلية، وتضمحل، وتصير عدما محضا، فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم، أو عذاب، ويرجح هذا، ويدل له أنه -سبحانه- أخبر أن أهل الجنة لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، وتلك الموتة هي مفارقة الأرواح للأجسام.
والنصوص الدالة على بقائها تحمل على بقائها منفصلة عن الجسد، وبهذا تجتمع الأدلة، ولا تختلف.
وأما استدلال الأولين على موت الروح؛ بقوله -تعالى- حكاية عن أهل النار أنهم قالوا: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ}، وقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، فالمراد أنهم كانوا أمواتا، وهم نطف في أصلاب آبائهم، وفي أرحام أمهاتهم، ثم أحياهم بعد ذلك، ثم أماتهم، ثم يحيهم يوم النشور، وليس في إماتة أرواحهم يوم القيامة، وإلا كانت ثلاث موتات.
وأما استدلالهم بآية الصعق، وهي قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} (38) الآية، فيجاب عن استدلالهم بأن صعق الأرواح عند النفخ في الصور، لا يلزم من موتها، وأن الناس يصعقون يوم القيامة إذا جاء الله لفصل القضاء، وأشرقت الأرض بنوره، وليس ذلك بموت، وكذلك صعق موسى -عليه الصلاة والسلام- ولم يكن موتا، والذي تدل عليه الآية أن نفخة الصعق موت، كل مَن لم يذق الموت قبلها من الخلائق، وأما مَن ذاق الموت، أو لم يكتب عليه الموت من الحور والولدان وغيرهم، فلا تدل الآية على أنه يموت موتة ثانية.
[المبحث السادس:] ومن مباحث الروح: تعلقها بالبدن، وأنواع تعلقها بالبدن:
الروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق، تتغاير في الأحكام، أي: الخواص والآثار التي للبدن بسب هذا التعلق:
أحدها: تعلقها به في بطن الأم جنينا، ويتعلق بهذا التعلق أحكام، وهو أنه ينمو الجنين، ويتحرك، ويحس، ولا يتنفس.
الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض، ومن أحكام هذا التعلق أنه يرضع، ويسمع الصوت، ويبصر، ويتكلم.
الثالث: تعلقها به في حال النوم، فلها به تعلق من وجه، ومفارقه من وجه، ومن أحكام هذا التعلق، أنه يكتشف شيئا لا يراه في وقت اليقظة.
الرابع: تعلقها به في البرزخ، وهو ما بين الحياتين، حياة الدنيا وحياة الآخرة، فإنها وإن فارقته، وتجردت عنه إلا أنها لم تفارقه فراقا كليًّا، بحيث لا يبقى لها أيه التفات البتة، فإنه وإن ورد ردها إليه وقت سلام المسلم، وورد أنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، إلا أن هذا الرد إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن، قبل يوم القيامة، فهي حياة خاصة بين حياتين حياتي الدنيا والآخرة.
ومن أحكام هذا التعلق:
أنه يتهيأ له سماع خاص كسماع الملائكة، ويرى شيئا من الحقائق كان جاهلا بها، ولا يراها الحي كرؤيته المكان في الجنة أو النار.
الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجساد: وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه، بل هي ضعيفة، إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا، ولا نوما، ولا فسادا.
ومن أحكام هذا التعلق الصلاحية للبقاء الأبدي.
و التمتع بنعيم الجنة، أو التألم بعذاب النار.
[المبحث السابع:] ومن الأحكام التي تتعلق بالروح: مبحث مستقر الأرواح ما بين الموت إلى قيام الساعة.
اختلف في مستقر الأرواح ما بين الموت إلى يوم القيامة، هل هي في السماء أم في الأرض، وهل هي في الجنة أم لا، وهل توضع في أجساد غير أجسادها التي كانت فيها فتنعم، وتعذب فيها أم تكون مجردة؟
فقيل: أرواح المؤمنين في الجنة على تفاوت درجاتهم في عليين، أو أقل، وأرواح الكفار في النار على تفاوت دركاتهم في الدرك الأسفل، أو بعده.
وهذا أرجح الأقوال وأولاها وأصحها، وهو الذي دلت عليه النصوص، قوله تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ}، فإنه قسم الأرواح إلى ثلاثة أقسام، وهذا ذكره -سبحانه- عقب ذكر خروج الروح من البدن بالموت، وقوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} الآيات.
قال غير واحد من الصحابة والتابعين:
هذا يقال لها عند خروجها من الدنيا، يبشرها ملك بذلك، وحديث البراء بن عازب -رضي الله عنه- أن الملك يقول لها: عند قبضها: «أبشري بروح وريحان»، وهذا من ريحان الجنة، أو يقول لها: «اخرجي إلى سخط من الله وغضب»، وحديث «إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم القيامة»، هذا إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة، ولا دين، وتلقاهم ربهم بالعفو عنهم والرحمة بهم، هذا أصح الأقوال.
وهناك أقوال كثيرة أخرى:
قيل: إن أرواحهم بفناء الجنة على بابها.
وقيل: على أفنية قبورهم.
وقيل: إن الأرواح مرسلة.
وقيل: إن أرواح المؤمنين عند الله فقط، ولا مزيد.
وقيل: أرواح المؤمنين بالجابية من دمشق، وروح الكافر ببراغوت بئر بحضرموت.
وقيل: أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة، وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة.
وقيل: أرواح المؤمنين ببئر زمزم، وأرواح الكفار ببئر براغوت.
وقيل: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفار عن شماله.
وقال ابن حزم: واستقروا من حيث كانت قبل خلق أجسادها.
وقال أبو عمر بن عبد البر: أرواح الشهداء في الجنة، وأرواح عامة المؤمنين على أفنية قبورهم.
وهذه الأقوال كلها تخمين لا دليل، والصواب القول الأول، وهو أن أرواح المؤمنين في الجنة على تفاوت فيما بينهم، وأرواح الكفار في النار على تفاوت، ولها صلة بالجسد.
وقالت فرقة: مستقرها العدم المحض أي تفنى بفناء الأجسام، وهذا قول من يقول إن النفس عرض من أعراض البدن كحياته وإدراكه، وهذا قول فاسد مخالف للكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين، وهو أن الأرواح تعدم بموت البدن، كما تعدم سائر الأعراض المشروطة بحياته، وقالت فرقة: مستقرها بعد الموت أبدان أخر سبب أخلاقها وصفاتها، التي اكتسبتها في حال حياتها، فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الروح، فتصير النفس السبعية إلى أبدان السباع، والكلبية إلى أبدان الكلاب، والبهيمية إلى أبدان البهائم، والدنية والصهرية إلى أبدان الحشرات.
وهذا قول التناسخية: طائفة يسمون التناسخية منكري المعاد، وهذا أخبث الأقوال والآراء، وهو كفر والعياذ بالله، وهو قول خارج عن أقوال أهل الإسلام كلها، والصواب كما سبق أن أرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الكفار في النار.
والذي تلخص من النصوص: أن الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم التفاوت، فمنها:
أولا: فمنها أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه- وهم متفاوتون في منازلهم، ومنها أرواح بعض الشهداء لا كلهم؛ لأن من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة بدين عليه، كما في المسند عن عبد الله بن جحش، «أن رجلا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، ما لي إن قتلت في سبيل الله؟ قال: الجنة، فلما ولى قال: إلا الدَّيْن سارني به جبريل آنفا».
ومن الأرواح من يكون محبوسا على أبواب الجنة، كما في الحديث الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- «رأيت صاحبكم محبوسا على باب الجنة»، ومنهم من يكون محبوسا في قبره، ومنهم من يكون في الأرض، ومنها أرواح تكون في تنور الزناة والزواني، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه، وتلقم الحجارة كل هذا تشهد له السنة، والله أعلم.
[المبحث الثامن:] ومن المباحث مباحث النفس هل الأمارة واللوامة والمطمئنة نفس واحدة أم هي ثلاثة أنفس؟
وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاثة أنفس نفس مطمئنة ونفس لوامة ونفس أمارة وأن منهم من تغلب عليه تغلب عليه الأخرى ويحتجون على ذلك بالآيات الثلاث قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} (41) وقول الله: {أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة} (47) وقوله تعالى: {إن النفس لأمارة بالسوء} (48)
والتحقيق أنها نفس واحدة، ولكن لها صفات، وتسمى باعتبار كل صفة باسم، فهي أمارة بالسوء؛ لأنها دفعته إلى السيئة وحملته عليها فإذا عرضها الإيمان صارت لوامة تفعل الذنب ثم تلوم صاحبها وتلومه بين الفعل والترك فإذا قوي الإيمان صارت مطمئنة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم «من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن». [خ، م].
[المبحث التاسع:]
للناس في مسمى الإنسان أربعة أقوال: هل هو الروح، أو للبدن فقط أو مجموعها، أو كل واحد منها، والذي عليه جمهور العقلاء أن الإنسان، هو البدن والروح معا، وقد يطلق اسمه على أحدهما دون الآخر بقرينة.
[المبحث العاشر:] ومن مباحث الروح: تتلاقى الأرواح، تلاقي أرواح الموتي، هل تتلاقى أرواح الموتى، وتتزاور، وتتذاكر، وتتلاقى؟ أرواح الأحياء والأموات أيضا؟
جواب هذه المسألة: أن الأرواح قسمان: أرواح معذبة، وأرواح منعمة، فالمعذبة في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي، والأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى، وتتزاور، وتتذاكر ما كان منها في الدنيا، وما يكون من أهل الدنيا، فتكون كل روح مع رفيقها الذي، هو على مثل عملها، فروح نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في الرفيق الأعلى، والدليل على تزاورها، وتلاقيها قول الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (51) وهذه المعية ثابتة في الدنيا، وفي دار البرزخ، وفي دار الجزاء، والمرء مع من أحب في هذه الدور الثلاث.
وقد أخبر الله عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، وأنهم يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وهذا يدل على تلاقيهم، وأما تلاقي أرواح الأحياء وأرواح الأموات، فشواهد هذه المسألة وأدلتها أكثر من أن تحصر، والحس والواقع شاهد بذلك، وتلتقي أرواح الأحياء والأموات كما تلتقي أرواح الأحياء، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}، فعن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في هذه الآية قال: بلغني أن أرواح الأحياء والأموات، تلتقي في المنام، فيتساءلون بينهم، فيمسك الله أرواح الموتى، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها، ويدل على ذلك -أيضا- أن الحي يرى الميت في منامه فيستخبره، ويخبره الميت بما لا يعلم الحي، فيصادف خبره كما أخبر في الماضي والمستقبل، وربما أخبره بمال دفنه الميت في مكان لم يعلم به سواه، وربما أخبره بدَيْن عليه، هذا معنى ما ذكره العلامة ابن القيم -رحمه الله- في كتاب “الروح”.
[المبحث الحادي عشر:] ومن مباحث الروح، تميز الأرواح عن بعضها:
بأي شيء تتميز الأرواح بعضها من بعض بعد مفارقتها الأبدان، إذا تجردت حتى تتعارف، وتتلاقى متى تتعارف، وتتلاقى، وهل تتشكل إذا تجردت بشكل بدنها الذي كانت فيه، وتلبس صورته أم كيف حالها؟
ويمكن جواب هذه المسألة:
لا يمكن جواب هذه المسألة إلا على أصول أهل السنة، التي تظاهرت عليها أدلة الكتاب والسنة والآثار والاعتبار والعقل، وهو القول بأنها ذات قائمة بنفسها تصعد، وتنزل، وتتصل، وتنفصل، وتخرج، وتذهب، وتجيء، وتتحرك، وتسكن وعلى هذا أكثر من مائة دليل كما قال تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} (5) وقال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي} (52) وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} (53) فأخبر أنه سوى النفس كما أخبر أنه سوى البدن في قوله: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} (54) فهو سبحانة سوى نفس الإنسان، كما سوى بدنه، بل سوى بدنه كالقالب لنفسه، وتسوية البدن تابع لتسوية النفس والبدن موضوع له كالقالب لما هو موضوع له، ومن ها هنا يعلم أن النفس تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها، فإنها تتأثر، وتنتقل عن البدن كما يتأثر البدن، وينتقل عنها، فيكتسب البدن الطيب والخبث من طيب النفس وخبثها.
وتكتسب النفس الطيب والخبث من طيب البدن وخبثه، فأشد الأشياء ارتباطا، وتناسبا، وتفاعلا، وتأثرا من أحدهما بالآخر الروح والبدن؛ ولهذا يقال لها: اخرجي أيتها النفس الطيبة -إن كانت في الجسد الطيب- واخرجي أيتها النفس الخبيثة -إن كانت في الجسد الخبيث- والأعراض دري حالها، ولا تمسك، ولا تنقل من يد إلى يد، وإذا كان هذا شأن الأرواح، فكما يجوزها بعد المفارقة، يكون أظهر من تميز الأبدان والاشتباه بينهما أبعد من اشتباه الأبدان، فإن الأبدان تشتبه كثيرا، وأما الأرواح، فقلما تشتبه، وإذا كانت الأرواح العلوية، وهم الملائكة يتميز بعضهم عن بعض من غير أجسام تحملهم، وكذلك الجن، فتميز الأرواح البشرية أولى. هذا معني ما ذكره العلامة ابن القيم -رحمه الله- في كتاب “الروح”.
وراجع. [شرح العقيدة الطحاوية للراجحي، بتصرف يسير].