2767 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي، وطارق أبو تيسير وعبدالملك وعبدالله المشجري وأحمد بن علي وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إماراتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله في صحيح مسلم،
باب: سعة رحمة الله تعالى على المؤمنين، وفداء كل مسلم بكافر من النار
(49) – ((2767)) حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا أبُو أُسامَةَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيى، عَنْ أبِي بُرْدَةَ، عَنْ أبِي مُوسى، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ، دَفَعَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ إلى كُلِّ مُسْلِمٍ، يَهُودِيًّا، أوْ نَصْرانِيًّا، فَيَقُولُ: هَذا فِكاكُكَ مِنَ النّارِ».
(50) – ((2767)) حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا عَفّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنا هَمّامٌ، حَدَّثَنا قَتادَةُ، أنَّ عَوْنًا، وسَعِيدَ بْنَ أبِي بُرْدَةَ، حَدَّثاهُ أنَّهُما شَهِدا أبا بُرْدَةَ يُحَدِّثُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ، عَنْ أبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -، قالَ: «لا يَمُوتُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ إلّا أدْخَلَ اللهُ مَكانَهُ النّارَ، يَهُودِيًّا، أوْ نَصْرانِيًّا»، قالَ: فاسْتَحْلَفَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ بِاللهِ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هُوَ ثَلاثَ مَرّاتٍ، أنَّ أباهُ حَدَّثَهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، قالَ: فَحَلَفَ لَهُ، قالَ فَلَمْ يُحَدِّثْنِي سَعِيدٌ أنَّهُ اسْتَحْلَفَهُ، ولَمْ يُنْكِرْ عَلى عَوْنٍ قَوْلَهُ.
(50) – حَدَّثَنا إسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ، ومُحَمَّدُ بْنُ المُثَنّى، جَمِيعًا عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الوارِثِ، أخْبَرَنا هَمّامٌ، حَدَّثَنا قَتادَةُ، بِهَذا الإسْنادِ نَحْوَ حَدِيثِ عَفّانَ، وقالَ عَوْنُ بْنُ عُتْبَةَ
(51) – ((2767)) حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبّادِ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ أبِي رَوّادٍ، حَدَّثَنا حَرَمِيُّ بْنُ عُمارَةَ، حَدَّثَنا شَدّادٌ أبُو طَلْحَةَ الرّاسِبِيُّ، عَنْ غَيْلانَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أبِي بُرْدَةَ، عَنْ أبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قالَ: «يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَةِ ناسٌ مِنَ المُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أمْثالِ الجِبالِ، فَيَغْفِرُها اللهُ لَهُمْ ويَضَعُها عَلى اليَهُودِ والنَّصارى» فِيما أحْسِبُ أنا. قالَ أبُو رَوْحٍ: لا أدْرِي مِمَّنِ الشَّكُّ، قالَ أبُو بُرْدَةَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ فَقالَ: أبُوكَ حَدَّثَكَ هَذا عَنِ النَّبِي – صلى الله عليه وسلم -ِّ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ.
(52) – ((2768)) حَدَّثَنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بْنُ إبْراهِيمَ، عَنْ هِشامٍ الدَّسْتَوائِيِّ، عَنْ قَتادَةَ، عَنْ صَفْوانَ بْنِ مُحْرِزٍ، قالَ: قالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، يَقُولُ: فِي النَّجْوى؟ قالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «يُدْنى المُؤْمِنُ يَوْمَ القِيامَةِ مِن رَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ، حَتّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ: أيْ رَبِّ أعْرِفُ، قالَ: فَإنِّي قَدْ سَتَرْتُها عَلَيْكَ فِي الدُّنْيا، وإنِّي أغْفِرُها لَكَ اليَوْمَ، فَيُعْطى صَحِيفَةَ حَسَناتِهِ، وأمّا الكُفّارُ والمُنافِقُونَ، فَيُنادى بِهِمْ عَلى رُءُوسِ الخَلائِقِ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى اللهِ».
==========
التمهيد:
“اللهُ سُبحانَه وتَعالَى يَمُنُّ على أهْلِ الإيمانِ في الدُّنيا والآخِرَةِ، وتَمامُ ذلكَ بِنَجاتِهم مِن النَّارِ ودُخولِهمُ الجنَّةَ”.
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله:
((24)) – (باب: سعة رحمة الله تعالى على المؤمنين، وفداء كل مسلم بكافر من النار)
حديث رقم [(6985)] ((2767)) –
قال القاضي -رحمه الله-: لمّا كان لكل مكلَّف مقعد من الجنة، ومقعد من النار، فمن آمن حقّ الإيمان بُدّل مقعده من النار بمقعد من الجنة،
ومن لم يؤمن فبالعكس، كانت الكفرة كالخلف للمؤمنين في مقاعدهم من النار، والنائب منابهم فيها، وأيضًا لَمّا سبق القَسَم الإلهيّ بملء جهنم كان ملؤها من الكفار خلاصًا للمؤمنين، ونجاةً لهم من النار، فهم في ذلك للمؤمنين كالفداء، والفكاك، ولعل تخصيص اليهود والنصارى بالذكر؛ لاشتهارهما بمضادة المسلمين، ومقابلتهما إياهم في تصديق الرسول المقتضي لنجاتهم. انتهى [«الكاشف عن حقائق السنن» (11) / (3506) – (3507)].
وقوله: ((هَذَا فِكَاكُكَ)): فكاك: بفتح الفاء وكسرها، والفتح أفصح وأشهر، أي: خلاصك منها ومعافاتك، ومنه: فكاك الرقبة، وهو خلاصها من الرق [مطالع الأنوار، للقاضي عياض ((2) / (157))، شرح مسلم، للنووي ((17) / (85))]،
وهذا من فضل الله؛ فلكل إنسان منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا دخل المسلم الجنة فإن الله يُدخل مكانه في النار يهوديًّا أو نصرانيًّا، وإذا دخل الكافر النار فإن أهل الجنة يرثون مكانه في الجنة. [توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (8/ 53)].
وحديث أبي موسى الأشعريّ -رضي الله عنه- هذا من أفراد المصنّف -رحمه الله-.
(مسألة): في أقوال العلماء في معنى حديث الباب:
وقال الحافظ -رحمه الله- في «الفتح» – عند شرح الأحاديث التي أوردها البخاريّ -رحمه الله- في «باب القصاص يوم القيامة» -: وفي حديث الباب وما بعده دلالة على ضعف الحديث الذي أخرجه مسلم من رواية غيلان بن جرير، عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ، عن أبيه، رفعه: «يجيء يوم القيامة ناسٌ من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، يغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى»، فقد ضعَّفه البيهقيّ، وقال: تفرَّد به شدّاد أبو طلحة، والكافر لا يعاقَب بذنب غيره؛ لقوله تعالى: {ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} وقد أخرج أصل الحديث مسلم من وجه آخر، عن أبي بردة، بلفظ: «إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهوديًّا، أو نصرانيًّا، فيقول: هذا فداؤك من النار»، قال البيهقيّ: ومع ذلك فضعَّفه البخاريّ، وقال: الحديث في الشفاعة أصحّ.
قال البيهقيّ: ويحْتَمِل أن يكون الفداء في قوم كانت ذنوبهم كُفّرت عنهم في حياتهم، وحديث الشفاعة في قوم لم تكفّر ذنوبهم، ويحْتَمِل أن يكون هذا القول لهم في الفداء بعد خروجهم من النار بالشفاعة.
وقال غيره: يَحْتَمِل أن يكون الفداء مجازًا عما يدل عليه حديث أبي هريرة الآتي في أواخر «باب صفة الجنة والنار» قريبًا بلفظ: «لا يدخل الجنة أحد إلا أُريَ مقعده من النار، لو أساء؛ ليزداد شكرًا … » الحديث، وفيه في مقابله: «ليكون عليه حسرةً»، فيكون المراد بالفداء: إنزال المؤمن في مقعد الكافر من الجنة الذي كان أُعِدّ له، وإنزال الكافر في مقعد المؤمن الذي كان أُعدّ له، وقد يلاحظ في ذلك قوله تعالى: {وتِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها} [الزخرف (72)]، وبذلك أجاب النوويّ تبعًا لغيره.
وأما رواية غيلان بن جرير، فأوّلها النوويّ أيضًا تَبَعًا لغيره، بأن الله يغفر تلك الذنوب للمسلمين، فإذا سقطت عنهم وُضعت على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم، فيعاقبون بذنوبهم، لا بذنوب المسلمين، ويكون قوله: «ويضعها»؛
أي: يضع مثلها؛ لأنه لمّا أُسقط عن المسلمين سيئاتهم، وأُبقيَ على الكفار سيئاتهم، صاروا في معنى مَن حَمَل إثم الفريقين؛ لكونهم انفردوا بحمل الإثم الباقي، وهو إثمهم.
ويحْتَمِل: أن يكون المراد آثامًا كانت الكفار سببًا فيها بأن سنُّوها، فلما غُفرت سيئات المؤمنين بقيت سيئات الذي سنّ تلك السُّنَّة السيئة باقيةً؛ لكون الكافر لا يُغفر له، فيكون الوضع كناية عن إبقاء الذنب الذي لَحِق الكافر بما سنّه من عمله السيّئ، ووَضْعه عن المؤمن الذي فعله بما منّ الله به عليه من العفو والشفاعة، سواء كان ذلك قبل دخول النار، أو بعد دخولها، والخروج منها بالشفاعة، وهذا الثاني أقوى. انتهى ما في «الفتح» [» الفتح «(15) / (53) – (54)،» كتاب الرقاق” رقم ((6533))]، وهو تحقيقٌ مفيدٌ، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج].
وقال القرطبي رحمه الله في المفهم: “ومعنى كونه فكاكا للمسلم من النار، وأن الله يغفر للمسلم ذنوبه، ويضاعف للكافر العذاب بحسب جرائمه؛ لأنّه تعالى لا يؤاخذ أحدا بذنب أحد، كما قال: {ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزرَ أُخرى} “.
وقال أيضًا: “وإنما احتاج علماؤنا لتأويل ألفاظ حديث أبي موسى المذكور في هذا الحديث لما عارضها من قوله تعالى: {ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزرَ أُخرى} ولقوله: {وأن لَيسَ لِلإنسانِ إلا ما سَعى} ولقوله: {وإن تَدعُ مُثقَلَةٌ إلى حِملِها لا يُحمَل مِنهُ شَيءٌ ولَو كانَ ذا قُربى} ولقوله تعالى: {كُلُّ نَفسٍ بِما كَسَبَت رَهِينَةٌ} ولقوله – صلى الله عليه وسلم -: ألا لا يجني جان إلا على نفسه، ومثله كثير.
وعلى الجملة فهي قاعدة معلومة من الشرع لا يختلف فيها”. انتهى.
وبهذا يتضح الجمع بين حديث فداء المسلم بالكافر يوم القيامة، وقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}.
حديث [(6986)] ( … )
قال النوويّ -رحمه الله-: إنما استحلفه؛ لزيادة الاستيثاق، والطمأنينة، ولما حصل له من السرور بهذه البشارة العظيمة للمسلمين أجمعين. انتهى [«شرح النوويّ» (17) / (86)].
[(6987)] ( … ) – شرح الحديث:
وقوله: (فَيَغْفِرُهَما اللهُ لَهُمْ) إما لتوبتهم في وقتها، أو لرحمته الخاصّة، وعلى الصورة الثانية لا يسع المؤمن أن يجترئ على الذنوب والمعاصي رجاء رحمة الله تعالى؛ لأن مثل هذه الرحمة مستثناة، والأصل الذي نطقت به نصوص الكتاب والسُّنَّة أن الذنوب تستحقّ العقاب إلا إذا تداركها المؤمن بالتوبة في أوانها، قاله في «التكملة» [«تكملة فتح الملهم» (6) / (38) – (39)].
وقوله: (وًيضَعُها عَلى اليَهُودِ والنَّصارى) المراد: أن اليهود والنصارى توضع عليهم ذنوبهم في حين أن المسلمين المذكورين لا توضع عليهم ذنوبهم، بل يُغفر لهم، فضمير المؤنّث في «يضعها» راجع إلى جنس الذنوب، لا إلى آحادها التي ارتكبها المسلمون، قاله في «التكملة» أيضًا [«تكملة فتح الملهم» (6) / (39)]، وهو تحقيق حسن.
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والحديث:
لم يستشكل أحد من العلماء الحديث بروايتيه الأولى والثانية، وإنما استشكلوا الحديث بروايته الثالثة، التي أفادت معنىً زائدًا في الحديث، وهو مضاعفة العذاب على اليهود والنصارى بسبب تحميلهم ذنوب المسلمين، وهذا المعنى يُوهِم معارضة الآية الكريمة، التي فيها أنَّ أحدًا لا يُعذَّب بوِزْرِ غيره.
[انظر حكاية التعارض في الكتب الآتية: شعب الإيمان، للبيهقي ((1) / (342))، وإكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض ((8) / (272))، وكشف المشكل من حديث = الصحيحين، لابن الجوزي ((1) / (418))، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي ((7) / (201) – (202))، والتذكرة في أحوال الموتى والآخرة، للقرطبي، ص ((463) – (464))، والآداب الشرعية، لابن مفلح ((1) / (90))، وشرح صحيح مسلم، للنووي ((17) / (133))، وفتح الباري، لابن حجر ((11) / (405))].
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث:
للعلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث مسلكان:
الأول: مسلك الجمع بينهما:
وعلى هذا المسلك الأكثر من العلماء، حيث ذهبوا إلى إعمال الآية على ظاهرها، وأنّ الله تعالى لا يُعذب أحدًا من خلقه، ولا يزيد عليه في العذاب بسبب ذنب غيره، وأمّا الحديث فأوَّلوه على غير ظاهره، وذكروا أوجهًا في معناه:
الأول: أنَّ الله تعالى يُسقِطُ مؤاخذة المسلمين بذنوبهم حتى كأنهم لم يذنبوا، ويُضاعف على اليهود والنصارى العذاب بسبب ذنوبهم، حتى يكون عذابهم بقَدْرِ جُرْمِهم، وجُرْمِ مذنبي المسلمين لو أُخِذوا بذلك، وله تعالى أنْ يُضاعف العذاب لمن يشاء، ويخففه عمن يشاء. [انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي ((7) / (201))].
ذكر هذا الجواب: القاضي عياض، وابن الجوزي، وأبو العباس القرطبي، وأبو عبد الله القرطبي، والقنوجي. [انظر على الترتيب: إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض ((8) / (271) – (272))، وكشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي ((1) / (418) – (419))، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي ((7) / (201))، والتذكرة في أحوال الموتى والآخرة، للقرطبي، ص ((463) – (464))، ويقظة أولي الاعتبار، للقنوجي ((1) / (176))].
الوجه الثاني في معنى الحديث: أنَّ الله تعالى يغفر ذنوب المسلمين، ويُسقطها عنهم، ويضع على اليهود والنصارى مثلها؛ بكفرهم وذنوبهم، فيُدخلهم النار بأعمالهم، لا بذنوب المسلمين، وقوله في الحديث: «ويضعها».
مجاز، والمراد يضع عليهم مثلها بذنوبهم، لكن لما أسقط سبحانه وتعالى عن المسلمين سيئاتهم، وأبقى على الكفار سيئاتهم، صاروا في معنى من حمل إثم الفريقين، لكونهم حملوا الإثم الباقي، وهو إثمهم. [شرح صحيح مسلم، للنووي ((17) / (133))]
ذكر هذا الجواب: ابن الجوزي، وابن مفلح، والنووي. [انظر على الترتيب: كشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي ((1) / (419))، والآداب الشرعية، لابن مفلح ((1) / (90))، وشرح صحيح مسلم، للنووي ((17) / (133))]
الوجه الثالث في معنى الحديث: أنْ يكون المراد آثامًا كان للكفار سببٌ فيها، بأنْ سَنّوها، فتُسْقَطُ عن المسلمين بعفو الله تعالى، ويُوضع على الكفار مثلها، لكونهم سَنّوها، ومن سَنَّ سُنَّة سيئة كان عليه مثل وزْرِ كل من عمل بها. [شرح صحيح مسلم، للنووي ((17) / (133))]
ذكر هذا الجواب: ابن مفلح، والنووي. [نظر على الترتيب: الآداب الشرعية، لابن مفلح ((1) / (90))، وشرح صحيح مسلم، للنووي ((17) / (133))]
الثاني: مسلك الترجيح:
حيث ذهب بعض العلماء إلى تضعيف الحديث بروايته الثالثة، كالإمام البخاري، والبيهقي، والحافظ ابن حجر.
أما البخاري فأعله بسبب الاختلاف فيه على أبي بُردة، ولأنه مُعارِضٌ لحديث الشفاعة، والذي فيه: «أنَّ قومًا يُعذبون ثم يخرجون من النار».
[عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إنّ الله يخرج قومًا من النار بالشفاعة». أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، حديث ((191))]. قال: ورواة حديث الشفاعة أكثر وأبين وأشهر. [التاريخ الكبير ((1) / (38) – (39))].
وأما البيهقي فقد تقدم ذكر سبب إعلاله للحديث عند تخريجه في أول المسألة، وملخص رأيه:
– أنَّ الحديث بلفظه الثالث هو مما تفرد به شداد أبو طلحة الراسبي، فلم يروه على الصواب، وخالفه غيره – وهم الأكثر – فرووه على الصواب، ولم يذكروا فيه هذا اللفظ المشكل.
– أنَّ الحديث مخالفٌ لقوله تعالى: (ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام (164)] [شعب الإيمان، للبيهقي ((1) / (342))].
وأما الحافظ ابن حجر فضعف الحديث تبعًا للإمام البخاري والبيهقي، وذكر وجهًا آخر في تضعيفه: وهو مخالفته للأحاديث الواردة في القصاص يوم القيامة، ومنها: حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -، أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «مَن كانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنها، فَإنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينارٌ ولا دِرْهَمٌ، مِن قَبْلِ أنْ يُؤْخَذَ لِأخِيهِ مِن حَسَناتِهِ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَناتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئاتِ أخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ». [أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الرقاق، حديث ((6534))] [انظر: فتح الباري، لابن حجر ((11) / (405))].
الترجيح:
الذي يَظْهُرُ صَوابُه – والله تعالى أعلم – هو ضعف الحديث بلفظه الثالث؛ ومما يقوي ضعفه:
أنّ الحديث رواه عن أبي بُردة بن أبي موسى، عن أبيه، أربعة عشر راويًا،
وقد اتفق هؤلاء الرواة على لفظ واحد، وهو اللفظ الأول،
ورواه اثنان آخران بلفظٍ مقاربٍ في المعنى للفظ الأول،
وتفرَّد شداد أبو طلحة الراسبي باللفظ الثالث، وهو اللفظ المشكل، فلم يُتابعه عليه أحد، وشداد قد تكلم أهل العلم في روايته، فلا يُقبل منه ما تَفرَّدَ به، ناهيك عن مخالفة ما رواه للأصول المُحكمة – من الكتاب والسنة وإجماع العلماء – القاطعة بأنّ الله تعالى لا يُعذب أحدًا من خلقه بوزر غيره، والله تعالى أعلم. [الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم (188 – 194)].
قال الألباني:
5399 – (يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى … فيما أحسب).
شاذ …
وأما اللفظ الأول؛ فهو منكر أو شاذ على الأقل؛ لأنه تفرد به الراسبي، وهو وإن كان وثقه أحمد وغيره؛ فقد ضعفه شيخه عبد الصمد بن عبد الوارث. وقال العقيلي:
“له غير حديث لا يتابع عليه”. وقال ابن حبان:
“ربما أخطأ”. وقال الدارقطني:
“يعتبر به”. وقال الحاكم أبو أحمد:
“ليس بالقوي عندهم”.
وبها أعله البيهقي، فقال في “شعب الإيمان” (1/ 266 – 267) – والذين خالفوه في لفظ الحديث عدد، وهو واحد، وكل واحد ممن خالفه أحفظ منه، فلا معنى للاشتغال بتأويل ما رواه، مع خلاف ظاهر ما رواه الأصول الصحيحة الممهدة في أن لا تزر وازرة وزر أخرى. والله أعلم” …
وأما كون الكافر في النار مكان المسلم فيها. وفكاكاً له منها؛ فقد جاء بيانه في قوله – صلى الله عليه وسلم -:
“ما منكم من أحد إلا له منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا مات فدخل النار؛ ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله تعالى: (أولئك هم الوارثون) “.
وهو مخرج في “الصحيحة” (2279).
ونحوه في “صحيح البخاري” (6569)، وهو من حديث أبي هريرة.
وبه احتج البيهقي على ما ذكرنا من المعنى، فقال عقبه:
“ويشبه أن يكون هذا الحديث تفسيراً لحديث الفداء، فالكافر إذا أورث على المؤمن مقعده من الجنة، والمؤمن إذا أورث على الكافر مقعده من النار؛ يصير في التقدير كأنه فدى المؤمن بالكافر. والله أعلم”
سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (11/ 665)
قال ابن عثيمين:
قوله: ((دفع إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً، فيقول: هذا فكاكك من النار)) معناه ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((لكل أحد منزل في الجنة، ومنزل في النار، فالمؤمن إذا دخل الجنة خلفه الكافر في النار؛ لأنه مستحق لذلك بكفره)).
ومعنى ((فكاكك)): أنك كنت معرضاً لدخول النار، وهذا فكاكك؛ لأن الله تعالى قدر للنار عدداً يملؤها، فإذا دخلها الكافر بذنوبهم وكفرهم، صاروا في معنى الفكاك للمسلمين. والله أعلم
شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (3/ 323)
– قال ابن كثير رحمه الله:
“وقالَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ سِنانٍ، حَدَّثَنا أبُو مُعاوِيَةَ، حَدَّثَنا الأعْمَشُ عَنْ أبِي صالِحٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: «ما مِنكُمْ مِن أحَدٍ إلّا ولَهُ مَنزِلانِ:
مَنزِلٌ فِي الجَنَّةِ، ومَنزِلٌ فِي النّارِ، فَإنْ ماتَ ودخل النّارَ ورِثَ أهْلُ الجَنَّةِ مَنزِلَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ هُمُ الوارِثُونَ»
وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجاهِدٍ (أُولئِكَ هُمُ الوارِثُونَ) قالَ: ما مِن عَبْدٍ إلّا ولَهُ مَنزِلانِ: مَنزِلٌ فِي الجَنَّةِ ومَنزِلٌ فِي النّارِ، فَأمّا المُؤْمِنُ فَيُبْنى بَيْتُهُ الَّذِي فِي الجَنَّةِ ويُهْدَمُ بَيْتُهُ الَّذِي فِي النّارِ، وأمّا الكافِرُ فَيُهْدَمُ بَيْتُهُ الَّذِي فِي الجَنَّةِ ويُبْنى بَيْتُهُ الَّذِي فِي النّارِ.
ورُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَ ذَلِكَ.
فالمؤمنون يرثون منازل الكفار لأنهم خلقوا لعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، فَلَمّا قامَ هَؤُلاءِ المُؤْمِنُونَ بِما وجَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ العِبادَةِ، وتَرَكَ أُولَئِكَ ما أُمِرُوا بِهِ مِمّا خُلِقُوا لَهُ، أحْرَزَ هَؤُلاءِ نَصِيبَ أُولَئِكَ لَوْ كانُوا أطاعُوا رَبَّهُمْ عَزَّ وجَلَّ بَلْ أبْلَغُ مِن هَذا أيْضًا، وهُوَ ما ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أبِي بُرْدَةَ عَنْ أبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قال: «يجيء ناس يوم القيامة مِنَ المُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أمْثالِ الجِبالِ، فَيَغْفِرُها اللَّهُ لَهُمْ ويَضَعُها عَلى اليَهُودِ والنَّصارى» [م]، وفِي لَفْظٍ لَهُ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: «إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ دَفَعَ اللَّهُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أوْ نَصْرانِيًّا، فَيُقالُ: هَذا فِكاكُكَ مِنَ النّارِ» فاسْتَحْلَفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ أبا بُرْدَةَ بِاللَّهِ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هُوَ ثَلاثَ مَرّاتٍ، أنَّ أباهُ حَدَّثَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – بذلك قالَ: فَحَلَفَ لَهُ [م]، قُلْتُ: وهَذِهِ الآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعالى: تِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِن عِبادِنا مَن كانَ تَقِيًّا [مَرْيَمَ (63)] وكَقَوْلِهِ: وتِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزُّخْرُفِ (72)] وقَدْ قالَ مُجاهِدٌ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، الجَنَّةُ بِالرُّومِيَّةِ هِيَ الفِرْدَوْسُ، وقالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لا يُسَمّى البستان الفردوس إلّا إذا كانَ فِيهِ عِنَبٌ، فاللَّهُ أعْلَمُ”. انتهى. [تفسير ابن كثير (5/ 405)].
– ” (228) – سؤال في حديث أنس رضي الله عنه المرفوع: «إن المؤمن يقال له عقب سؤال الملكين عليهما السلام وجوابه: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله تعالى به مقعدًا من الجنة فيراهما جميعًا»،
الجواب
: {أورثتموها بما كنتم تعملون} من الأمور الثلاثة التي
أولها: أن الكافر الذي بكفره ماتت روحه ورث المؤمن منزله الذي لولا كفره لم يصل إليه المؤمن.
ثانيها: أن الله تعالى هو المورث ذلك له مجانًا، فأشبه أخذ الوارث من مورثه.
وثالثها: أنه مجاز عن الإعطاء على طريقة إطلاق الكل وإرادة الجزء محتمل.
ولكن الذي اقتصر عليه شيخنا رحمه الله في فتح الباري آخرها فإنه، قال: {أورثتموها} أي صيرت لكم إرثا، وأطلق الإرث مجانًا عن الإعطاء لتحقيق الاستحقاق انتهى.
وعلى أولها يقال: إن كفر الكافر مقتضٍ لوصول ما كان له في الجنة لو أطاع إلى المؤمن .. ، والله الموفق. [الأجوبة المرضية فيما سئل السخاوي عنه من الأحاديث النبوية (2/ 865)].
[(6989)] ((2768)) – شرح الحديث:
والمراد بها هنا: المناجاة التي تقع من الرب -سبحانه وتعالي- يوم القيامة مع المؤمنين، وقال الكرمانيّ: أطلق على ذلك النجوى؛ لمقابلة مخاطبة الكفار على رؤوس الأشهاد هناك. انتهى [«الفتح» (13) / (637)، «كتاب الأدب» رقم ((6070))].
(قالَ) ابن عمر -رضي الله عنهما-: (سَمِعْتُهُ)؛ أي: رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، (يَقُولُ:» يُدْنى) بالبناء للمفعول، (المُؤْمِنُ) وفي رواية للبخاريّ: «يُدنى أحدكم من ربّه»، (يَوْمَ القِيامَةِ مِن رَبِّهِ -عز وجل-)؛ أي: دُنُوًّا يليق بجلاله، فالله -سبحانه وتعالي- يُدني إليه من يشاء من عباده إذا شاء، كيف شاء، فنؤمن بصفة الدنوّ على مراد الله، كما يليق بجلاله،
(حَتّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ) -بفتح الكاف، والنون، بعدها فاء-؛ أي: جانبه، والكنف أيضًا السِّتر، وهو المراد هنا، والأول مجاز في حقّ الله تعالى، كما يقال: فلان في كنف فلان؛ أي: في حمايته، وكلاءته، وذكر عياض أن بعضهم صحّفه تصحيفًا شنيعًا، فقال بالمثناة بدل النون، ويؤيد الرواية الصحيحة أنه وقع في رواية سعيد بن جبير بلفظ: «يجعله في حجابه»، زاد في رواية همام: «وسِتره»، قاله في «الفتح».
قال الإتيوبي عفا الله تعالى عنه: قوله: والأول -يعني: تفسيره بالجانب- مجاز في حقّ الله تعالى كما يقال: فلان في كَنَف فلان؛ أي: في حمايته وكَلاءته، فيه نظرٌ من وجهين:
[الأول]: أن المراد هنا بالكنف هو الحجاب والستر؛ لكونه جاء في الرواية الأخرى بهذا اللفظ، كما سبق بيانه آنفًا، والرواية يفسّر بعضها بعضًا،
وأخرج الحديث البخاريّ في كتابه «خلق أفعال العباد» من طريق عبد الله بن المبارك، عن محمد بن سواء، عن قتادة، ثم قال في آخر الحديث: قال عبد الله بن المبارك: كَنفه: سِتره. قاله في «الفتح» [» الفتح «(13) / (592)]،
[والثاني]: أنه قال في «القاموس»: أنت في كَنَف الله تعالى مُحَرَّكَةً: في حِرْزه وسِتْره، وهو الجانب، والظلّ، والناحية. انتهى [» القاموس المحيط «ص (765)].
فإذا ثبت لغةً إطلاق الكنف على الجانب، فالحقّ إبقاؤه على ظاهره وحقيقته؛ إذ لا حاجة إلى المجاز، كسائر الصفات من السمع، والبصر، والكلام، والرضا، والغضب، والاستواء، والنّزول، ونحوها مما وردت به النصّوص الصحيحة، فنثبتها كلها على الوجه اللائق به-سبحانه وتعالي- من غير تعطيل، ولا تحريف، ومن غير تمثيل، ولا تكييف، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى (11)]، والله تعالى أعلم.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “وكذلك أيضا ما ذكره رحمه الله من صفة محاسبة العبد المؤمن، أن الله عز وجل يأتي يوم القيامة، فيخلو بعبده المؤمن، ويضع عليه كنفه يعني ستره، ويقول: فعلت كذا وفعلت كذا، ويقرره بالذنوب، فإذا أقر قال «كنت سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. فيعطى كتاب حسناته باليمين» “. انتهى. [شرح رياض الصالحين (3/ 325)].
وقال الراجحي في توفيق الرب المنعم: “الكنف: صفة خبرية ثابتة من صفات الله، والله أعلم بكيفيتها، قال الخلال في ((كتاب السُّنَّة)) (باب: يضع كَنَفَه على عبده، تبارك وتعالى): أخبرني محمد بن أبي هارون ومحمد بن جعفر؛ أنَّ أبا الحارث حدثهم؛ قال: قلت لأبي عبد الله: ما معنى قوله: ((إنَّ الله يدني العبد يوم القيامة؛ فيضع عليه كَنَفَه؟)) قال: هكذا نقول: يدنيه ويضع كَنَفَه عليه؛ كما قال؛ يقول له: أتعرف ذنب كذا [بيان تلبيس الجهمية، لابن تيمية ((8) / (193))].
والستر والعفو أثر هذا الكنف، والأشعرية دائمًا يفسرون الصفة بأثرها فيفسرون الفرح بالرضا، والغضب بالعقاب، والكنف بالستر [أساس التقديس، للرازي (ص (58))، متن الجوهرة، للقاني (ص (7))]، وهذه من آثار الصفات، وليست هي الصفات،
وأما ما نقله البخاري في خلق أفعال العباد عن ابن المباركِ قال: ((كَنَفُهُ، يَعْنِي: سِتْرَهُ)) [خلق أفعال العباد، للبخاري (ص (78))]، وهذا جاء في رواية ((فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وسِتْرَهُ)) [أخرجه الطبراني في الأوسط ((3915))]، فهذا بيان لأثر الصفة، والمعنى: أنه تعالى يستر عبده عن رؤية الخلق له؛ لئلَّا يفتضح أمامهم فيخزى؛ لأنه حين السؤال والتقرير بذنوبه تتغير حاله، ويظهر على وجهه الخوف الشديد، ويتبين فيه الكرب والشدة.
قال النووي: “الدنو هنا: كرامة وإحسان، لا دنو مسافة، والله سبحانه وتعالى منزه عن المسافة وقربها”.
وهذا باطل؛ لأن الدنو دنو حقيقي، والله أعلم بكيفيته”. انتهى من توفيق.
[تنبيه]: الحكمة في وضع الكنف عليه: سَتره عن أهل الموقف حتى لا يطّلع على سرّه غيره. والله تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: قال في «الفتح»: ومن رواه «كتفه» بالمثنّاة المكسورة، فقد صحّف على ما جزم به جَمْع من العلماء. انتهى [» الفتح” (13) / (592)].
قال ابن باز:
(يَدْنُو الْمُؤْمِنُ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ)
مثل سائر الصفات، فهو يكلّم عباده ويناجي عباده
الحلل الإبريزية من التعليقات البازية على صحيح البخاري (3/ 382)
وحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- هذا متَّفقٌ عليه.
* فقه وفوائد الحديث:
(1) – (منها): بيان إكرام الله تعالى لعبده المؤمن، حيث يدنيه منه، ويضع عليه كنفه، حتى لا يسمع أحد مناجاته له.
(2) – (ومنها): أن فيه الرّدَّ على الجهميّة في إنكارهم الصفات، حيث إن فيه إثبات صفة الكلام لله -سبحانه وتعالي-، حيث يكلّم عبده المؤمن في الآخرة.
(3) – (ومنها): بيان فضل سَتر المؤمن على نفسه في الدنيا إذا وقع منه مخالفة؛ لأن ذلك يكون سببًا لمغفرة الله تعالى له ذلك في الآخرة.
(4) – (ومنها): ما قاله المهلَّب -رحمه الله-: في الحديث تفضُّل الله على عباده بسَتره لذنوبهم يوم القيامة، وأنه يغفر ذنوب من شاء منهم، بخلاف قول من أنفذ الوعيد على أهل الإيمان؛ لأنه لم يستثن في هذا الحديث ممن يَضع عليه كنفه وسِتره أحدًا إلا الكفار والمنافقين، فإنهم الذين يُنادى عليهم على رؤوس الأشهاد باللعنة.
قال الحافظ بعد نقل كلام المهلّب المذكور ما نصّه: قد استشعر البخاريّ هذا، فأورد في «كتاب المظالم» هذا الحديث، ومعه حديث أبي سعيد: «إذا خَلَص المؤمنون من النار، حُبِسوا بقنطرة بين الجنة والنار، يتقاصّون مظالم، كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا، ونُقُّوا أُذن لهم في دخول الجنة … »، الحديث.
فدلّ هذا الحديث على: أن المراد بالذنوب في حديث ابن عمر: ما يكون بين المرء وربه -سبحانه وتعالي- دون مظالم العباد، فمقتضى الحديث أنها تحتاج إلى المقاصصة،
ودلّ حديث الشفاعة: أن بعض المؤمنين من العصاة يُعذَّب بالنار، ثم يخرج منها بالشفاعة، كما تقدم تقريره في «كتاب الإيمان»، فدلّ مجموع هذه الأحاديث على أن العُصاة من المؤمنين في القيامة على قسمين:
أحدهما: مَن معصيته بينه وبين ربه، فدلّ حديث ابن عمر على أن هذا القِسم على قِسمين:
قِسْم تكون معصيته مستورة في الدنيا، فهذا الذي يسترها الله عليه في القيامة، وهو بالمنطوق،
وقسم تكون معصيته فجاهَرة، فدلّ مفهومه على أنه بخلاف ذلك.
والقسم الثاني: مَن تكون معصيته بينه وبين العباد، فهم على قسمين أيضًا:
قسم ترجح سيئاتهم على حسناتهم، فهؤلاء يقعون في النار، ثم يخرجون بالشفاعة،
وقسم تتساوى سيئاتهم وحسناتهم، فهؤلاء لا يدخلون الجنة حتى يقع بينهم التقاصّ، كما دلّ عليه حديث أبي سعيد.
وهذا كله بناء على ما دلّت عليه الأحاديث الصحيحة أن يفعله باختياره، وإلا فلا يجب على الله شيء، وهو يفعل في عباده ما يشاء. انتهى [«الفتح» (13) / (638) – (639)، «كتاب الأدب» رقم ((6070))].
(5) – (ومنها): بيان قبح المجاهرة بالمعاصي، وأن الله تعالى لا يغفر لأصحابها؛ لمبارزتهم له بها، واستخفافهم بشأنها.
(6) – (ومنها): بيان فضيحة الكفّار والمنافقين يوم القيامة، حيث ينادى بهم على رؤوس الأشهاد: {ألا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الظّالِمِينَ} [هود (18)]، بينما ينادى المؤمنون بأسمى النداء: {ياعِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ ولا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ ((68)) [الزخرف (68)].
[البحر المحيط الثجاج، بتصرف].
(7) – (ومنها): “فضل الله تعالى على المؤمن وإحسانه إليه؛ فإن الله يخاطبه خطاب ملاطفة، ويناجيه مناجاة المصافاة والمحادثة، فيقول له: هل تعرف؟ فيقول: رب أعرف، فيقول الله- ممتنًا عليه، ومظهرًا فضله لديه-: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، أي: لم أفضحك بها فيها، وأنا أغفرها لك اليوم.
(8) – (ومنها): إثبات الكلام لله عز وجل” انتهى من توفيق.