2766 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي، وطارق أبو تيسير وعبدالملك وعبدالله المشجري وأحمد بن علي وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إماراتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله في صحيح مسلم،
(8) – بابُ: قَبُولِ تَوْبَةِ القاتِلِ وإنْ كَثُرَ قَتْلُهُ
(46) – ((2766)) حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنّى، ومُحَمَّدُ بْنُ بَشّارٍ – واللَّفْظُ لِابْنِ المُثَنّى – قالا: حَدَّثَنا مُعاذُ بْنُ هِشامٍ، حَدَّثَنِي أبِي، عَنْ قَتادَةَ، عَنْ أبِي الصِّدِّيقِ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، أنَّ نَبِيَّ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – قالَ: «كانَ فِيمَن كانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَألَ عَنْ أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ عَلى راهِبٍ، فَأتاهُ فَقالَ: إنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِن تَوْبَةٍ؟ فَقالَ: لا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَألَ عَنْ أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ عَلى رَجُلٍ عالِمٍ، فَقالَ: إنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِن تَوْبَةٍ؟ فَقالَ: نَعَمْ، ومَن يَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إلى أرْضِ كَذا وكَذا، فَإنَّ بِها أُناسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، ولا تَرْجِعْ إلى أرْضِكَ، فَإنَّها أرْضُ سَوْءٍ، فانْطَلَقَ حَتّى إذا نَصَفَ الطَّرِيقَ أتاهُ المَوْتُ، فاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ ومَلائِكَةُ العَذابِ، فَقالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جاءَ تائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إلى اللهِ، وقالَتْ مَلائِكَةُ العَذابِ: إنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأتاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقالَ: قِيسُوا ما بَيْنَ الأرْضَيْنِ، فَإلى أيَّتِهِما كانَ أدْنى فَهُوَ لَهُ، فَقاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أدْنى إلى الأرْضِ الَّتِي أرادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ»، قالَ قَتادَةُ: فَقالَ الحَسَنُ ذُكِرَ لَنا، أنَّهُ لَمّا أتاهُ المَوْتُ نَأى بِصَدْرِهِ.
(47) – ((2766)) حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعاذٍ العَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنا أبِي، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ قَتادَةَ، أنَّهُ سَمِعَ أبا الصِّدِّيقِ النّاجِيَّ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -: «أنَّ رَجُلًا قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسًا، فَجَعَلَ يَسْألُ هَلْ لَهُ مِن تَوْبَةٍ؟ فَأتى راهِبًا، فَسَألَهُ فَقالَ: لَيْسَتْ لَكَ تَوْبَةٌ، فَقَتَلَ الرّاهِبَ، ثُمَّ جَعَلَ يَسْألُ، ثُمَّ خَرَجَ مِن قَرْيَةٍ إلى قَرْيَةٍ فِيها قَوْمٌ صالِحُونَ، فَلَمّا كانَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ أدْرَكَهُ المَوْتُ فَنَأى بِصَدْرِهِ، ثُمَّ ماتَ، فاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ، ومَلائِكَةُ العَذابِ، فَكانَ إلى القَرْيَةِ الصّالِحَةِ أقْرَبَ مِنها بِشِبْرٍ، فَجُعِلَ مِن أهْلِها».
==========
التمهيد:
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله:
((8)) – (بابُ بَيانِ قَبُولِ تَوْبَةِ القاتِلِ، وإنْ كَثُرَ قَتْلُهُ)
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(6982)] ((2766)) – (حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَئى، ومُحَمَّدُ بْنُ بَشّارٍ – والفَفْظُ لِابْنِ المُثَنى- قالَ: حَدَّثَنا مُعاذُ بْنُ هِشامٍ، حَدَّثَنِي أبِي، عَنْ قَتادَةَ، عَنْ أبِي الصِّدِّيقِ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، أنَّ نَبِيَّ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – قالَ: “كانَ فِيمَن كانَ قَبْلَكُمْ رَجُل قَتَلَ تِسْعَةً وتسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأل عَنْ أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ، فَدُلَّ عَلى راهِبٍ، فَأتاهُ، فَقالَ: إنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وتسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنَ تَوْبَةٍ؟ فَقالَ: لا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأل عَنْ أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ، فَدُلَّ عَلى رَجُلٍ عالِمٍ، فَقالَ: إنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِن تَوْبَةٍ؟ فَقالَ: نَعَمْ، ومَن يَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَ التَّوْبَةِ؟
انْطَلِقْ إلى أرْضِ كَذا وكَذا، فَإنَّ بِها أُناسًا يَعْبُدُونَ اللهَ، فاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، ولا تَرْجعْ إلى أرْضِكَ، فَإنَّها أرْضُ سَوْءٍ، فانْطَلَقَ حَتّى إذا نَصَفَ الطَّرِيقَ أتاهُ المَوْتُ، فاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ، ومَلائِكَةُ العَذابِ، فَقالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جاءَ تائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إلى اللهِ، وقالَتْ مَلائِكَةُ العَذابِ: إنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأتاهُمْ مَلَكٌ فِي صُور آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقالَ: قِيسُوا ما بَيْنَ الأرْضَيْنِ، فَإلى أيَّتِهِما كانَ أدْنى، فَهُوَ لَهُ، فَقاسُوهُ، فَوَجَدُوهُ أدْنى إلى الأرْضِ الَّتِي أرادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ»، قالَ قتادَةُ: فَقالَ الحَسَنُ: ذُكِرَ لنا أنهُ لَمّا أتاهُ المَوْتُ، نَأى بِصَدْرِهِ).
شرح الحديث:
(عَنْ قَتادَةَ، عَنْ أبِي الصِّدَيقِ) وفي الرواية التالية: «عن قتادة أنه سمع أبا الصدّيق الناجيّ»، فصرّح قتادة بالسماع، فزالت عنه تهمة التدليس، واسم أبي الصديق -وهو بكسر الصاد المهملة، وتشديد الدال المكسورة-: بكر، واسم أبيه: عمرو، وقيل: قيس، وليس له عند مسلم إلا حديثان فقط، هذا، وحديث تقدّم في «الصلاة»، وقال الحافظ: وليس له في البخاريّ سوى هذا الحديث.
(عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ) -رضي الله عنه-؛ (أن نَبِيَّ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – قالَ: «كانَ فِيمَن كانَ قَبْلَكُمْ) وفي رواية البخاريّ:» كان في بني إسرائيل «، (رَجُلٌ) قال الحافظ -رحمه الله-: لم أقف على اسمه، ولا على اسم أحد من الرجال ممن ذُكر في القصة. انتهى [» الفتح «(8) / (127) – (128)،» كتاب أحاديث الأنبياء” رقم ((3470)).].
(قَتَلَ تِسْعَةً وتسْعِينَ نَفْسًا)؟ أي: ظلمًا، (فَسَأل عَنْ أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ) إنما سأل عن الأعلم؛ لأنه الذي يوجد عنده عِلم أحكام الشرع، (فَدُلَّ) بالبناء للمفعول؛ أي: دلّه الناس (عَلى راهِبٍ) اسم فاعل من رَهِبَ؛ أي: خاف، قال الفيّوميّ -رحمه الله-: رَهِبَ رَهَبًا، من باب تَعِب: إذا خاف، والاسم: الرَّهْبَةُ، فهو راهِبٌ من الله، والله مَرْهُوبٌ، والرّاهِبُ، عابد النصارى من ذلك، انتهى [«المصباح المنير» (1) / (241)].
قال في «الفتح»: قوله: «فأتى راهبًا»، فيه: إشعار بأن ذلك كان بعد رفع عيسى؛ لأن الرهبانية إنما ابتدعها أتباعه، كما نُصّ عليه في القرآن. انتهى [«الفتح» (8) / (127) – (128)].
(فَأتاهُ)؟ أي: أتى الرجل القاتلُ الراهبَ (فَقالَ إنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وتسْعِينَ نَفْسًا)؛ أي: ظُلمًا، (فَهَلْ لَهُ مِنَ تَوْبَةٍ؟)؛ أي: صحيحة، (فَقالَ: لا)؛ قال القاري: وهذا قاله إما جهلًا منه بعلم التوبة، وإما لغلبة الخشية عليه، وإما لتصوّره عدم إمكان إرضاء خصومه عنه [«مرقاة المفاتيح» (5) / (159)].
وقال القرطبيّ -رحمه الله-: قول الراهب للقاتل: لا توبة لك دليل على قلّة علم ذلك الراهب، وعدم فطنته، حيث لم يُصب وجه الفتيا، ولا سَلَك طريق التحرّز على نفسه، ممن صار القتل له عادة معتادة،
ولمّا لَطَف الله به بقي في نفسه الرغبة في السؤال عن حاله، فما زال يبحث إلى أن ساقه الله تعالى إلى هذا الرجل العالم الفاضل، فلما سأله نطق بالحقّ والصواب، فقال له: ومن يحول بينك وبينها؟ مفتيًا منكرًا على من ينفيها عنه،
ثم إنه أحاله على ما ينفعه، وهو مفارقته لأرضه التي كانت غلبت عليه بحكم عادة أهلها الفاسدة، ولقومه الذين كانوا يُعينونه على ذلك، ويَحملونه عليه.
وبهذا يُعلم: فضل العلم على العبادة، فإنّ الأول غلبت عليه الرهبانية، واغترّ بوصف الناس له بالعلم، فأفتى بغير علم، فهلك في نفسه، وأهلك غيره، والثاني كان مشتغلًا بالعلم، ومعتنيًا به، فوُفّق للحق، فأحياه الله في نفسه، وأحيا به الناس.
قال القاضي: ومذهب أهل السُّنَة والجماعة: أن التوبة تكفِّر القتل، كسائر الذنوب، وهو قول كافّة العلماء،
وما رُوي عن بعضهم من تشديد في الزجر، وتورية في القول؛ فإنما ذلك لئلا يجترئ الناس على الدماء،
وقد اختلف في قوله تعالى: {ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها} الآية [النساء (93)]،
فقيل: معناه: إن جازاه،
وقيل: الخلود: طول الإقامة، لا التأبيد،
وقيل: الآية في رجل بعينه قَتل رجلًا له عليه دم بعد أخذ الدية، ثم ارتدّ،
وقد تقدَّم القول على أن كل ما دون الشرك يجوز أن يغفره الله تعالى، وأنه ليس من ذلك شيء كفرًا، قتلًا كان، أو تَرْك صلاة، أو غيرها، كما دل عليه قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ} الآية [النساء (48)]، ولقوله – صلى الله عليه وسلم – في حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-: «تبايعوني على ألّا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، فمن أصاب شيئًا من ذلك فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب شيئًا من ذلك فستره الله عليه، فأمْره إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه»، متّفق عليه، ولقوله – صلى الله عليه وسلم – في حديث عبادة -رضي الله عنه- أيضًا: «خمس صلوات افترضهن الله -عز وجل- على العباد، فمن جاء بهنّ لم يضيّع منهن شيئًا، كان له عند الله عهد أن يغفر له، ومن لم يا أت بهنّ، فليس له عند الله عهد، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه»،
وهذه حُجج صريحة تبيّن فساد مذهب المكفرة بشيء من ذلك. انتهى [«المفهم» (7) / (89) – (91)].
ثم ذكر سبب أمْره له بالانطلاق إليها بالفاء
(يَعْبُدُونَ اللهَ) -عز وجل- (فاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ)، (ولا تَرْجِعْ إلى أرْضِكَ (فَإنَّها أرْضُ سَوْءٍ) بفتح السين المهملة، وسكون الواو؛ أي: قبيحة تُغري على الفساد؛ لسوء سُكّانها، أو لغير ذلك. (فانْطَلَقَ) الرجل قاصدًا تلك الأرض، (حَتّى إذا نَصَفَ الطَّرِيقَ)، أي: بلغ نصفه [» المصباح المنير «(2) / (608)].
وقال القرطبيّ -رحمه الله-: قوله: «نصف الطريقَ»؛ أي: بلغ نصفه، يقال: نصف الماءَ، والشجرةَ، وغيرهما: إذا بلغ نصف ذلك. انتهى [» المفهم «(7) / (91)].
وقال القرطبيّ -رحمه الله-: قوله: «إنه جاء تائبًا، مقبلًا بقلبه» هذا نصّ صريح في أن الله تعالى أطلع ملائكة الرحمة على ما في قلبه، من صحة قَصْده إلى التوبة، وحِرصه عليها، وأن ذلك خَفِي على ملائكة العذاب، حتى قالت: إنه لم يعمل خيرًا قط، ولو اطّلعت على ما في قلبه من التوبة لَما صحّ لها أن تقول هذا، ولا تُنازع ملائكة الرحمة في قولها: إنه جاء تائبًا مقبلًا بقلبه، بل شَهِدت بما في عِلمها، كما شهد الآخرون بما تحقّقوه، لكن شهادة ملائكة الرحمة على إثبات،
وشهادة ملائكة العذاب على عدم علم، وشهادة الاثبات مقدّمة، فلا جَرَمَ لَمّا تنازع الصنفان، وخرج كلاهما عن الشهادة إلى الدعاوى، بعث الله إليهما ملَكًا حاكمًا يفصل بينهما، وصوّره بصورة آدميّ؛ إخفاءً عن الملائكة، وتنويهًا ببني آدم، وأن منهم من يصلح؛ لأن يفصل بين الملائكة إذا تنازعوا. انتهى [» المفهم” (7) / (91) – (92)].
(لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ) لعل ذلك لكونه قتل مائة نفس، فأحاط ذلك بحسناته كلّها، أو لأنهم علموا أنه ليس من أهل الطاعة، بل عمره كلّه جرائم، كما سبق في الرجل الذي أوصى بالوصيّة الجائرة؛ لأنه «لم يبتئر عند الله خيرًا»؛ أي: لم يدّخر. (فَأتاهُمْ مَلَكٌ فِي صُور آدَمِيّ، فَجَعَلُوهُ) حَكَمًا (بَيْنَهُمْ) قال القرطبيّ -رحمه الله-: فيه حجَّة لمالك على قوله: إن المتخاصمَين إذا حكّما بينهما رجلًا يصلح للتحكيم، لزمهما ما يحكم به، وقد خالفه في ذلك الشافعيّ. انتهى [» المفهم «(7) / (92)].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: قد استوفيت البحث فيها في «شرح النسائيّ» عند شرح حديث شُريح بن هانئ، عن أبيه هانئ، أنه لمّا وفَد إلى رسول الله -صلي الله عليه وسلم- سمعه، وهم يَكنون هانئًا أبا الحَكَم …..
فذكرت اختلاف العلماء في المسألة، ورجّحت ما دلّ عليه هذا الحديث من جواز التحكيم في كلّ شيء، وأنه ينفذ، ولا يجوز للقاضي أن ينقضه، فراجع شرحي هناك [راجع:» ذخيرة العقبى «(39) / (1) (24) – (245) رقم ((5389))]، وبالله تعالى التوفيق.
(فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ «) لكونه مقبول التوبة، وهذا مصداق قوله-رحمه الله-:» إن رحمتي سبقت غضبي «.
قال النوويّ -رحمه الله-: وأما قياس الملائكة ما بين القريتين، وحُكم الملَك الذي جعلوه بينهم بذلك، فهذا محمول على أن الله تعالى أمَرهم عند اشتباه أمْره عليهم، واختلافهم فيه أن يُحَكِّموا رجلًا ممن يمرّ بهم، فمَرَّ الملَك في صورة رجل، فحَكَم بذلك. انتهى [«شرح النوويّ» (17) / (84)].
وقال القرطبيّ -رحمه الله-: قوله: «فإلى أيتهما كان أدنى فهو له» دليل على: أن الحاكم إذا تعارضت الأقوال عنده، وتعذرت الشهادات، وأمكنه أن يستدلّ بالقرائن على ترجيح بعض الدعاوي، نفذ الحكم بذلك، كما فعله سليمان؛ حيث قال: «ائتوني بالسكين أشقّه بينهما».
[تنبيه]: قال القاضي: جعل الله قربه من القرية علامة للملَك عند اختلافهم مع عدمهم معرفة حقيقة باطنه التي اطَّلَع الله عليها، ولو تحقّقوا توبته لم يختلفوا، وتعقبه القرطبي بقول ملائكة الرحمة أنه جاء تائبا …. وفيه: دليل على أن أعمال الظاهر عنوان على الباطن. انتهى [«المفهم» (7) / (92) – (93)].
وقال القرطبيّ -رحمه الله-: «نأى بصدره»؛ أي: نهض به مع ثِقَل ما أصابه من الموت، وذلك دليل على صحة توبته، وصِدق رغبته. انتهى [«المفهم» (7) / (91)].
ووقع في رواية البخاريّ بلفظ: «فناء»، قال في «الفتح»: قوله: «فناء» بنون، ومدّ؛ أي: بَعُد، أو المعنى: مالَ، أو نهض مع تثاقُل، فعلى هذا فالمعنى: فمال إلى الأرض التي طلبها، هذا هو المعروف في هذا الحديث، وحَكى بعضهم فيه: «فنأى» بغير مدّ قبل الهمز، وبإشباعها، بوزن سَعى، تقول: نَأى يَنْأى نَايًا؛ أي: بَعُد، وعلى هذا فالمعنى: فبَعُد عن الأرض التي خرج منها.
قال: ووقع في رواية هشام عن قتادة ما يُشعر بأن قوله: «فَناءَ بصدره» إدراج، فإنه قال في آخر الحديث: «قال قتادة قال الحسن: ذُكِر لنا أنه لمّا أتاه الموت ناء بصدره». انتهى، والله تعالى أعلم.
وحديث أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه.
فقه وفوائد الحديث:
(1) – (منها): بيان مشروعية التوبة من جميع الكبائر، حتى مِن قَتْلِ الأنفس، ويُحمل على أن الله تعالى إذا قَبِل توبة القاتل تكفّل برضا خصمه.
(2) – (ومنها): خطر الفتيا بغير علم.
(3) – (ومنها): أن الملائكة الموكَلين ببني آدم يَختلف اجتهادهم في حقهم بالنسبة إلى من يكتبونه مطيعًا أو عاصيًا، وأنهم يختصمون في ذلك، حتى يقضي الله بينهم.
(4) – (ومنها): بيان فضل التحول من الأرض التي يصيب الإنسان فيها المعصية؛ إذ كانت تذكره لأفعاله الصادرة قبل ذلك، والفتنة بها، وإما لوجود من كان يعينه على ذلك، ويحضّه عليه.
(5) – (ومنها): أن فيه إشارةً إلى أن التائب ينبغي له مفارقة الأحوال التي اعتادها في زمن المعصية، والتحول منها كلّها، والاشتغال بغيرها.
(6) – (ومنها): بيان فضل العالم على العابد.
(7) – (ومنها): أن التوبة -كما قال عياض-: تنفع من القتل، كما تنفع من سائر الذنوب. وسبق ذكر النصوص
قال الحافظ: ويؤخذ ذلك أيضًا من جهة تخفيف الآصار عن هذه الأمة بالنسبة إلى مَن قَبْلهم من الأمم، فإذا شُرع لهم قبول توبة القاتل، فمشروعيتها لنا بطريق الأولى.
(8) – (ومنها): أنه استُدِلّ به على أن في بني آدم من يصلح للحكم بين الملائكهَ إذا تنازعوا. [راجع: «الفتح» (8) / (129) – (130)، «كتاب أحاديث الأنبياء» رقم ((3470))]، والله تعالى أعلم.
وفي توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (8/ 50وما بعدها) ذكر من الفوائد:
9 – (ومنها): ” أن التوبة مقبولة من كل تائب مهما كبر الذنب وعظم، قال الله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم} قال العلماء: هذه الآية نزلت في التائبين؛ لأن الله عمم وأطلق جميع الذنوب ولم يقيد، بخلاف قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فهذه لغير التائبين؛ لأن الله خص الشرك بأنه غير مغفور، وعلق ما دونه على المشيئة، فإذا تاب الإنسان من الذنب مهما عظم فإن الله يتوب عليه، ولو كان شركًا، لكن بشرط أن يأتي بشروط التوبة التي مضى الحديث عنها.
10 – (ومنها): شؤم الفتوى الباطلة؛ فإن هذا الرجل قتل تسعة وتسعين نفسًا، ثم سأل عن عالم فدُلَّ على راهب فأفتاه فتوى باطلة، فكان من شؤم فتواه أنه قتله، وهذه عقوبة عاجلة؛ لأنه أفتى على غير بصيرة، ثم بعد ذلك لما قتله وكمل به المائة أوقع الله في نفسه الندم والتوبة، فسأل فدُلَّ على عالم، فجاءه فقال: إني قتلت مائة نفس فهل لي من توبة؟ قال: من ذا الذي يحول بينك وبين التوبة؟ وهذا هو العلم والنور والبصيرة، وأرشده إلى الأسباب المعينة على التوبة، ومنها: أن يبتعد عن أرض المعصية، ولا يعاود المعصية، قال: اخرج من قريتك هذه؛ فإنها قرية سوء، واذهب إلى قرية كذا؛ فإن فيها قومًا صالحين فاعبد الله معهم، ففيه: دليل على أن الرفقة الصالحة لها تأثير، وأن الرفقة السيئة لها تأثير، فهذه القرية قرية سوء تحمله
11 – (ومنها): أرشد العاصي إلى الأسباب المعينة على التوبة
912 – (ومنها): دليل على أن الرفقة الصالحة لها تأثير، وأن الرفقة السيئة لها تأثير، فهذه القرية قرية سوء تحمله على الاستمرار على المعاصي، بخلاف الصالحين فإنهم يعينون على الخير، ويحذرون من الشر؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ، كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً)).
فالجليس الصالح إما أن يأمرك بالخير، أو ينهاك عن الشر، فأنت مستفيد على كل حال، ((وَنَافِخُ الكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً))، وكذلك جليس السوء إما أن يُزَهِّدك في الخير، أو يحثك على الشر، فأنت متضرر على كل حال.
13 – (ومنها): أنه ينبغي للإنسان أن يبادر إلى التوبة؛ لأنه لا يدري متى يأتيه الموت.
14 – (ومنها): أن رحمة الله تغلب غضبه
15 – بيان سعة رحمة الله عز وجل”. انتهى من توفيق، بتصرف يسير.
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(6983)] ( … ) – الحديث
قال الطيبيّ -رحمه الله-: في الحديث إشكال؛ لأنا إن قلنا: لا، فقد خالفنا نصوصًا، وإن قلنا: نعم، فقد خالفنا أيضًا أصل الشرع، فإن حقوق بني آدم لا تسقط بالتوبة، بل توبتها أداؤها إلى مستحقها، أو الاستحلال منها.
فالجواب: أن الله تعالى إذا رضي عنه، وقَبِل توبته يُرضي خصمه. انتهى [«الكاشف عن حقائق السنن» (6) / (1840)].
ويستفاد منه: أن الذنوب وإن عظمت، فعفو الله أعظم منها،
وأن من أُلهم صِدق التوبة، فقد سُلك به طريق اللطف، والقربة. انتهى [«المفهم» (7) / (93)].
ثانيًا: ملحقات:
(المسألة الأولى): قوله: {ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ} [النساء (93)].
هل القاتل المتعمد له توبة، أو ليس له توبة؟، وماهي أقوال السلف وعلماء السنة في ذلك؟
الجواب
الحمد لله.
” اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُول تَوْبَةِ قَاتِل النَّفْسِ عَمْدًا بِغَيْرِ حَقٍّ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ لِلْقَاتِل عَمْدًا ظُلْمًا تَوْبَةً كَسَائِرِ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ؛ لِلنُّصُوصِ الْخَاصَّةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَالنُّصُوصِ الْعَامَّةِ الْوَارِدَةِ فِي قَبُول تَوْبَةِ كُل النَّاسِ، مِنْهَا قَوْل اللَّهِ تَعَالَى (وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِل عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّل اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) الفرقان/68 – 70.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) النساء /93، فَيُحْمَل مُطْلَقُ هَذِهِ الايَةِ عَلَى مُقَيَّدِ آيَةِ الْفُرْقَانِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا، إِلاَّ مَنْ تَابَ.
وَلأِنَّ تَوْبَةَ الْكَافِرِ بِدُخُولِهِ إِلَى الاسْلاَمِ تُقْبَل بِالاجْمَاعِ، فَتَوْبَةُ الْقَاتِل أَوْلَى.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى قَبُول هَذِهِ التَّوْبَةِ وَمَا يَسْقُطُ بِهَا:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تَصِحُّ تَوْبَةُ الْقَاتِل بِالاِسْتِغْفَارِ وَالنَّدَامَةِ فَقَطْ، بَل تَتَوَقَّفُ عَلَى إِرْضَاءِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُول، فَإِنْ كَانَ الْقَتْل عَمْدًا فَلاَ بُدَّ أَنْ يُمَكِّنَهُمْ مِنَ الْقَصَاصِ مِنْهُ فَإِنْ أَرَادُوا قَتَلُوهُ، وَإِنْ أَرَادُوا عَفَوْا عَنْهُ، فَإِنْ عَفَوْا عَنْهُ كَفَتْهُ التَّوْبَةُ وَيَبْرَأُ فِي الدُّنْيَا.
وَأَطْلَقَ الْمَالِكِيَّةُ الْقَوْل فِي قَبُول تَوْبَةِ الْقَاتِل الْعَمْدِ، قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْل السُّنَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الْكُفْرِ الْقَتْل ظُلْمًا، وَبِالْقَوَدِ أَوِ الْعَفْوِ لاَ تَبْقَى مُطَالَبَةٌ أُخْرَوِيَّةٌ، مَعَ بَقَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ بِتَوْبَةٍ صَحِيحَةٍ، وَمُجَرَّدُ التَّمْكِينِ مِنَ الْقَوَدِ لاَ يُفِيدُ إِلاَّ إِنِ انْضَمَّ إِلَيْهِ نَدَمٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْصِيَةِ، وَعَزْمٌ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَسْقُطُ حَقُّ الْمَقْتُول فِي الاخِرَةِ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، فَعَلَى هَذَا يَاخُذُ الْمَقْتُول مِنْ حَسَنَاتِ الْقَاتِل بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ.
فَإِنِ اقْتُصَّ لِلْمَقْتُول مِنَ الْقَاتِل أَوْ عَفَى وَلِيُّهُ عَنِ الْقَصَاصِ فَهَل يُطَالِبُهُ الْمَقْتُول فِي الاخِرَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَأَطْلَقَهُمَا صَاحِبُ الْفُرُوعِ.
وَخَالَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْجُمْهُورَ فِي قَبُول تَوْبَةِ الْقَاتِل، فَذَهَبَا إِلَى أَنَّ تَوْبَةَ الْقَاتِل عَمْدًا ظُلْمًا لاَ تُقْبَل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)، فَقَدْ سُئِل ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هَل لِمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَال: لاَ إِلاَّ النَّارَ، فَقَرَأَ الايَةَ السَّابِقَةَ وَهِيَ آخِرُ مَا نَزَل فِي هَذَا الشَّانِ وَلَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ، وَلأِنَّ لَفْظَ الايَةِ لَفْظُ الْخَبَرِ، وَالاخْبَارُ لاَ يَدْخُلُهَا نَسْخٌ وَلاَ تَغْيِيرٌ؛ لأِنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يَكُونُ إِلاَّ صِدْقًا “.
انتهى من “الموسوعة الفقهية” (41/ 30 – 31) باختصار.
وقال ابن جرير الطبري رحمه الله:
” وأما قوله: (فجزاؤه جهنم خالدًا فيها) فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه:
1 – فقال بعضهم معناه: فجزاؤه جهنم، إن جازاه.
وممن قال ذلك أبو مجلز لاحق بن حميد، وأبو صالح.
2 – وقال آخرون: عُنِي بذلك رجل بعينه، كان أسلم فارتدّ عن إسلامه، وقتل رجلا مؤمنًا، قالوا: فمعنى الآية: ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا مستحلا قتلَه، فجزاؤه جهنم خالدًا فيها.
حكاه عكرمة مولى ابن عباس.
3 – وقال آخرون: معنى ذلك: إلا من تاب.
وممن قاله مجاهد بن جبر.
4 – وقال آخرون: ذلك إيجاب من الله الوعيدَ لقاتل المؤمن متعمّدًا، كائنًا من كان القاتل، على ما وصفه في كتابه، ولم يجعل له توبة من فعله، قالوا: فكل قاتل مؤمن عمدًا، فله ما أوعده الله من العذاب والخلود في النار، ولا توبة له، وقالوا: نزلت هذه الآية بعد التي في”سورة الفرقان”.
وممن روي عنه ذلك ابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت والضحاك بن مزاحم.
قال ابن جرير:
” وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا، فجزاؤه إن جزاه جهنم خالدًا فيها، ولكنه يعفو ويتفضَّل على أهل الإيمان به وبرسوله، فلا يجازيهم بالخلود فيها، ولكنه عز ذكره إما أن يعفو بفضله فلا يدخله النار، وإما أن يدخله إيّاها ثم يخرجه منها بفضل رحمته، لما سلف من وعده عباده المؤمنين بقوله: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) الزمر/ 53 “.
انتهى باختصار من “تفسير الطبري” (9/ 61 – 69).
وقال ابن كثير رحمه الله:
” والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها: أن القاتل له توبة فيما بينه وبين ربه عز وجل، فإن تاب وأناب وخشع وخضع، وعمل عملا صالحا، بدل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن طلابته ” انتهى من “تفسير ابن كثير” (2/ 380).
وانظر: “مدارج السالكين” (1/ 392 – 399)، “تفسير ابن كثير” (6/ 124 – 130).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
” فإن قلت: ماذا تقول فيما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن القاتل ليس له توبة؟!
فالجواب: من أحد الوجهين:
إما أن ابن عباس رضي الله عنهما استبعد أن يكون للقاتل عمدا توبة، ورأى أنه لا يوفق للتوبة، وإذا لم يوفق للتوبة، فإنه لا يسقط عنه الإثم، بل يؤاخذ به.
وإما أن يقال: إن مراد ابن عباس: أن لا توبة له فيما يتعلق بحق المقتول “.
انتهى من “مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين” (8/ 222).
وقد صح عن ابن عباس ـ أيضا ـ أن له توبة؛ فروى الطبري (9/ 67) عنه قال: ” ليس لقاتل توبة، إلا أن يستغفر الله “.
قال الشيخ الألباني رحمه الله: ” أخرجه ابن جرير بسند جيد، ولعله يعني أنه لا يغفر له، على قوله الأول، ثم استدرك على نفسه فقال: ” إلا أن يستغفر الله ” انتهى من “السلسلة الصحيحة” (6/ 298).
والله أعلم.
قال الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة ((6) – (711)):
الثاني: في رواية البخاري المتقدمة عن ابن عباس أنه قال: لا توبة للقاتل عمدا
، وهذا مشهور عنه، له طرق كثيرة كما قال ابن كثير وابن حجر، والجمهور على
خلافه، وهو الصواب الذي لا ريب فيه، وآية (الفرقان) صريحة في ذلك، ولا
تخالفها آية (النساء) لأن هذه في عقوبة القاتل وليست في توبته، وهذا ظاهر
جدا، وكأنه لذلك رجع إليه كما وقفت عليه في بعض الروايات عنه، رأيت أنه لابد
من ذكرها لعزتها، وإغفال الحافظين لها: الأولى: ما رواه عطاء بن يسار عنه:
أنه أتاه رجل، فقال: إني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني، وخطبها غيري فأحبت أن
تنكحه، فغرت عليها فقتلتها، فهل لي من توبة؟ قال: أمك حية؟ قال: لا. قال
: «تب إلى الله عز وجل، وتقرب إليه ما استطعت». فذهبت فسألت ابن عباس: لم
سألته عن حياة أمه؟ فقال: «إني لا أعلم عملا أقرب إلى الله عز وجل من بر
الوالدة». أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (رقم (4)) بسند صحيح على شرط «
الصحيحين».
الثانية: ما رواه سعيد عن ابن عباس في قوله: * (ومن يقتل مؤمنا
متعمدا) *، قال: ليس لقاتل توبة، إلا أن يستغفر الله. أخرجه ابن جرير ((5) /
(138)) بسند جيد، ولعله يعني أنه لا يغفر له، على قوله الأول، ثم استدرك على
نفسه فقال: «إلا أن يستغفر الله». والله أعلم.
وفي بعض الفتاوى:
السؤال
عادة ما أدخل على هذا الموقع، وأقوم بقراءة فتاوى عديدة، ونحن نكن له تقديرا كبيرا، لأنه يساعدنا كثيرا، وقد قرأت الكثير من الفتاوى، لكنى بحاجة إلى المزيد من التوضيح بخصوص بعضها، وبيان لفتواكم فيما يلى: بخصوص القاتل الذي قام بقتل شخص ما سرا، لكنه أخفى جريمته وتاب، فهل تقبل توبته عن قتل مسلم، أم إنه يجب عليه أن يعلن ما قام به، لكي يقتص منه؟
الجواب
الحمد لله.
قتل المؤمن عمدا يتعلق به ثلاثة حقوق: حق الله عز وجل، وحق المقتول، وحق لأولياء المقتول، فإن تاب القاتل توبة نصوحا سقط حق الله، وإن سَلَّم نفسه للأولياء فاقتصوا منه أو أخذوا الدية، أو عَفَوْا، سقط حق الأولياء، وبقي حق المقتول، ويُرجى أن يسقطه الله عنه ويعوض المقتول من فضله.
قال ابن القيم رحمه الله: ” والتحقيق في المسألة أن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق: حق لله، وحق للمظلوم المقتول، وحق للولي، فإذا سلّم القاتل نفسه طوعا واختيارا إلى الولي، ندما على ما فعل، وخوفا من الله، وتوبة نصوحا: يسقط حق الله بالتوبة، وحق الولي بالاستيفاء أو الصلح، أو العفو، وبقى حق المقتول يعوضه الله عنه يوم القيامة عن عبده التائب المحسن ويصلح بينه وبينه، فلا يبطل حق هذا، ولا تبطل توبة هذا ” انتهى من “الجواب الكافي” ص 102، ونقله المرداوي في “تصحيح الفروع” (6/ 171) وقال: ” وتبع في ذلك الشيخ تقي الدين فإنه فصل هذا التفصيل واختاره , وهو الصواب الذي لا شك فيه “.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ” والعمد فيه ثلاثة حقوق:
الأول: حق الله، وهذا يسقط بالتوبة.
الثاني: حق أولياء المقتول، ويسقط بتسليم نفسه لهم.
الثالث: حق المقتول، وهذا لا يسقط؛ لأن المقتول قد قتل وذهب، ولكن هل يؤخذ من حسنات القاتل، أو أن الله تعالى بفضله يتحمل عنه؟ الصواب: أن الله بفضله يتحمل عنه إذا علم صدق توبة هذا القاتل ” انتهى من “الشرح الممتع” (14/ 7).
فإذا أخفى القاتل جريمته، ولم يخبر أولياء المقتول، فقد بقي عليه حق الأولياء وحق القتيل.
ومن شروط التوبة إذا كان الذنب متعلقا بالغير: رد الحق إليه، أو التحلل منه، فيلزم القاتل أن يخبر أولياء المقتول ليعفوا، أو يقتصوا، أو يطلبوا الدية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ)، رواه البخاري (6534).
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ” في مسلم قتل مسلما متعمدا بغير حق، ثم تاب بعد ذلك: فهل ترجى له التوبة، وينجو من النار، أم لا؟ وهل يجب عليه دية، أم لا؟
فأجاب:
” قاتل النفس بغير حق عليه حقان:
حق لله بكونه تعدى حدود الله وانتهك حرماته، فهذا الذنب يغفره الله بالتوبة الصحيحة، كما قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)، أي: لمن تاب. وقال: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا). وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلا قتل تسعة وتسعين رجلا، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُلَّ عليه، فسأله: هل من توبة؟ فقال: أبعد تسعة وتسعين تكون لك توبة؟ فقتله، فكمل به مائة! ثم مكث ما شاء الله، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل عليه، فسأله هل لي من توبة؟ قال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ولكن ائت قرية كذا، فإن فيها قوما صالحين فاعبد الله معهم، فأدركه الموت في الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب؛ فبعث الله ملكا يحكم بينهم، فأمر أن يقاس؛ فإلى أي القريتين كان أقرب ألحق به؛ فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة فغفر الله له).
والحق الثاني: حق الآدميين. فعلى القاتل أن يعطي أولياء المقتول حقهم، فيمكنهم من القصاص؛ أو يصالحهم بمال، أو يطلب منهم العفو، فإذا فعل ذلك فقد أدى ما عليه من حقهم، وذلك من تمام التوبة.
وهل يبقى للمقتول عليه حق يطالبه به يوم القيامة؟ على قولين للعلماء في مذهب أحمد وغيره؛ ومن قال يبقى له؛ فإنه [يقول]: يستكثر القاتل من الحسنات حتى يعطي المقتول من حسناته بقدر حقه، ويبقى له ما يبقى، فإذا استكثر القاتل التائب من الحسنات رجيت له رحمة الله؛ وأنجاه من النار (ولا يقنط من رحمة الله إلا القوم الفاسقون) ” انتهى من “الفتاوى الكبرى” (3/ 407)، مجموع الفتاوى (34/ 171).
وقال ابن حجر الهيتمي رحمه الله:
” وَإِنْ كَانَ قَوَدًا أَوْ حَدَّ قَذْفٍ اُشْتُرِطَ … أَنْ يُمَكِّنَ الْمُسْتَحِقَّ مِنْ اسْتِيفَائِهِ، بِأَنْ يُعْلِمَهُ، إنْ جَهِلَ الْقَاتِلُ، وَيَقُولَ لَهُ: إنْ شِئْت فَاقْتَصَّ، وَإِنْ شِئْت فَاعْفُ، فَإِنْ امْتَنَعَ [أي: صاحب الحق] مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا: صَحَّتْ التَّوْبَةُ، وَلَوْ تَعَذَّرَ وُصُولُهُ لِلْمُسْتَحِقِّ نَوَى التَّمْكِينَ إذَا قَدَرَ، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ”. انتهى. من “الزواجر” (3/ 3414 – 315).
وقال ابن عابدين رحمه الله: ” قوله (لا تصح توبة القاتل حتى يسلم نفسه للقود) أي لا تكفيه التوبة وحدها. قال في “تبيين المحارم”: واعلم أن توبة القاتل لا تكون بالاستغفار والندامة فقط، بل تتوقف على إرضاء أولياء المقتول، فإن كان القتل عمدا لا بد أن يمكنهم من القصاص منه , فإن شاءوا قتلوه , وإن شاءوا عفوا عنه مجانا , فإن عفوا عنه كفته التوبة اهـ ملخصا. وقدمنا آنفا أنه بالعفو عنه يبرأ في الدنيا , وهل يبرأ فيما بينه وبين الله تعالى؟ هو بمنزلة الدين على رجل، فمات الطالب وأبرأته الورثة: يبرأ فيما بقي ; أما في ظلمه المتقدم لا يبرأ، فكذا القاتل: لا يبرأ عن ظلمه، ويبرأ عن القصاص والدية. تتارخانية. أقول ; والظاهر أن الظلم المتقدم لا يسقط بالتوبة، لتعلق حق المقتول به , وأما ظلمه على نفسه بإقدامه على المعصية فيسقط بها تأمل. وفي “الحامدية” عن “فتاوى الإمام النووي”: مسألة: فيمن قتل مظلوما، فاقتص وارثه، أو عفا عن الدية، أو مجانا؛ هل للقاتل بعد ذلك مطالبة في الآخرة؟ الجواب: ظواهر الشرع تقتضي سقوط المطالبة في الآخرة اهـ , وكذا قال في “تبيين المحارم”: ظاهر بعض الأحاديث يدل على أنه لا يطالب. وقال في “مختار الفتاوى”: القصاص مخلّص من حق الأولياء , وأما المقتول فيخاصمه يوم القيامة، فإن بالقصاص ما حصل فائدة للمقتول، وحقه باق عليه ا هـ وهو مؤيد لما استظهرته ” انتهى من “حاشية ابن عابدين” (6/ 548).
وقال الشوكاني رحمه الله: ” والتوبة النافعة ههنا هي الاعتراف بالقتل عند الوارث، إن كان له وارث، أو السلطان إن لم يكن له وارث , والندم على ذلك الفعل، والعزم على ترك العود إلى مثله , لا مجرد الندم والعزم بدون اعتراف وتسليم للنفس أو الدية إن اختارها مستحقها؛ لأن حق الآدمي لا بد فيه من أمر زائد على حقوق الله، وهو تسليمه، أو تسليم عوضه، بعد الاعتراف به ” انتهى من “نيل الأوطار” (7/ 69).
والحاصل: أن حق الأولياء لا يسقط إلا بتسليم القاتل نفسه لهم، ولا تتم التوبة إلا بذلك، وأما حق المقتول ففيه الخلاف السابق، والأظهر أنه مع التوبة الصادقة يعوض الله عن القاتل يوم القيامة ويصلح بينه وبين المقتول.
والله أعلم.
قال بعض أهل التفسير: في تفسير الآية {ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وأعَدَّ لَهُ عَذابًا عَظِيمًا}: هذه الآية مخصوصة في موضعين:
أحدهما: أن يكون القتل العمد غير عدوان كما في القصاص؛ فإنه لا يحصل فيه هذا الوعيد ألبتة.
والثاني: القتل العمد العدوان إذا تاب عنه فإنه لا يحصل فيه الوعيد، وإذا ثبت دخول التخصيص فيه في هاتين الصورتين فنحن نخصص هذا العموم فيما إذا حصل العفو بدليل قوله تعالى: {ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ} [النساء (48)].
ونُقل عن ابن عباس أنه قال: توبة من أقدم على القتل العمد العدوان غير مقبولة، وقال جمهور العلماء: إنها مقبولة، ويدل عليه وجوه:
الحجة الأولى: أن الكفر أعظم من هذا القتل، فإذا قبلت التوبة عن الكفر فالتوبة من هذا القتل أولى بالقبول.
الحجة الثانية: قوله تعالى في آخر الفرقان: {والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ ولا يَزْنُونَ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثامًا ((68)) يُضاعَفْ لَهُ العَذابُ يَوْمَ القِيامَةِ ويَخْلُدْ فِيهِ مُهانًا ((69)) إلّا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا} [الفرقان (68) – (70)]، وإذا كانت توبة الآتي بالقتل العمد مع سائر الكبائر المذكورة في هذه الآية مقبولة، فبأن تكون توبة الآتي بالقتل العمد وحده مقبولة كان أولى.
الحجة الثالثة: قوله: {ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ} وعد بالعفو عن كل ما سوى الكفر، فبأن يعفو عنه بعد التوبة أولى، والله أعلم. انتهى
قال ابن كثير: والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها: أن القاتل له توبة فيما بينه وبين ربه عز وجل، فإن تاب وأناب وخشع وخضع، وعمل عملًا صالحًا، بدَّل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن طلابته.
قال الله تعالى: {والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ ولا يَزْنُونَ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثامًا ((68)) يُضاعَفْ لَهُ العَذابُ يَوْمَ القِيامَةِ ويَخْلُدْ فِيهِ مُهانًا ((69)) إلّا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان (68)، (70)]، وهذا خبر لا يجوز نسخه. وحمله على المشركين، وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر، ويحتاج حمله إلى دليل، والله أعلم. [تفسير ابن كثير (1) / (738)]
وقال أيضًا: قال أبو هريرة – رضي الله عنه – وجماعة من السلف: هذا جزاؤه إن جازاه، ومعنى هذه الصيغة: أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه، وكذا كل وعيد على ذنب، لكن قد يكون كذلك مُعارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه، على قولي أصحاب الموازنة أو الإحباط، وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد، والله أعلم بالصواب. وبتقدير دخول القاتل إلى النار، أما على قول ابن عباس ومن وافقه أنه لا توبة له [صحيح البخاري ((4764))، مسلم ((3023))]، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحًا ينجو به، فليس يخلد فيها أبدًا، بل الخلود هو المكث الطويل.
وقد تواردت الأحاديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى ذرة من إيمان [صحيح البخاري ((4764))، مسلم ((3023))]. وأما حديث معاوية – رضي الله عنه -: «كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا، أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا» [صحيح البخاري ((4764))، مسلم ((3023))]: «عسى» للترجي، فإذا انتفى الترجي في هاتين الصورتين لا ينتفي وقوع ذلك في أحدهما، وهو القتل؛ لما ذكرنا من الأدلة. [تفسير ابن كثير (1) / (739) بتصرف].
قال السندي في تعليقه علي حديث (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا، أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا): وقوله: (إلا الرجل): أي ذنب الرجل وكان المراد كل ذنب ترجى مغفرته ابتداء إلا قتل المؤمن فإنه لا يغفر بلا سبق عقوبة وإلا الكفر فإنه لا يغفر أصلًا، ولو حمل على القتل مستحلًا لا يبقى المقابلة بينه وبين الكفر، ثم لا بد من حمله على ما إذا لم يتب وإلا فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له كيف، وقد يدخل القاتل والمقتول الجنة معًا كما إذا قتله وهو كافر ثم آمن وقتل؟ ولعل هذا بعد ذكره على وجه التغليظ والله تعالى أعلم. [حاشية السندي علي النسائي (7) / (81)]
قال أبو حيان الأندلسي: في قول الله عز وجل: {ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وأعَدَّ لَهُ عَذابًا عَظِيمًا ((93))}: وقيل: هو لفظ يقع كثيرًا للخصوص كقوله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) وليس من حكم من المؤمنين بغير ما أنزل الله بكافر.
الآية للوعيد وليست للوعد:
قال البغوي: حكي أن عمرو بن عبيد جاء إلى أبي عمرو بن العلاء فقال له: هل يُخلفُ الله وعدَه؟ فقال: لا. فقال: أليس قد قال الله تعالى: {ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها}؟ فقال له أبو عمرو بن العلاء: من المعجمة أُتِيتَ يا أبا عثمان! إن العرب لا تعد الإخلاف في الوعيد خلفًا وذمًا، وإنما تعد إخلاف الوعد خلفًا وذمًا، وأنشد:
وإنِّي وإنْ أوْعَدْتُه أو وعَدْتُه … لمُخْلِفُ إيعادَيِ ومُنْجِزُ مَوْعِدِي. [تفسير البغوي (1) / (465)]
الوجه الثالث: الجمع بين الآثار التي ظاهرها التعارض.
قال الشاطبي: لا تضاد بين آيات القرآن ولا بين الأخبار النبوية ولا بين أحدهما مع الآخر؛ بل الجميع جار على مهيع واحد ومنتظم إلى معنى واحد، فإذا أداه باداء الرأي إلى ظاهر اختلاف فواجب عليه أن يعتقد انتفاء الاختلاف؛ لأن الله قد شهد له أن لا اختلاف فيه، فليقف وقوف المضطر السائل عن وجه الجمع، أو المسلِّم من غير اعتراق، فإن كان الموضع مما يتعلق به حكم عملي فليلتمس المخرج حتى يقف على الحق اليقين أو ليبق باحثًا إلى الموت ولا عليه من ذلك، فإذا اتضح له المغزى وتبينت له الواضحة فلا بد له من أن يجعلها حاكمة في كل ما يعرض له من النظر فيها، ويضعها نصب عينيه في كل مطلب ديني كما فعل من تقدمنا ممن أثنى الله عليهم. انتهى.
قال العلامة الشنقيطي: وللجمع بين ذلك أوجه:
أن قوله: {فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها}، أي إذا كان مستحلًا لقتل المؤمن عمدًا؛ لأن مستحل ذلك كافر قاله عكرمة وغيره، ويدل له ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن جبير، وابن جرير عن ابن جريج من أنها نزلت في مقيس بن صبابة فإنه أسلم هو وأخوه هشام وكانا بالمدينة، فوجد مقيس أخاه قتيلًا في بني النجار ولم يعرف قاتله، فأمر له النبي – صلى الله عليه وسلم – بالدية فأعطتها له الأنصار مائة من الإبل، وقد أرسل معه النبي – صلى الله عليه وسلم – رجلًا من قريش من بني فهر فعمد مقيس إلى الفهري رسول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقتله وارتد عن الإسلام، وركب جملًا من الدية، وساق معه البقية ولحق بمكة مرتدًا وهو يقول في شعر له:
قتلت به فهرًا وحملت عقله … سراة بني النجار أرباب فارع
وأدركت ثأري وأضجعت موسدًا … وكنت إلى الأوثان أول راجع
ومقيس هذا هو الذي قال فيه النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لا أؤمنه في حل ولا في حرم» [انظر سنن النسائي (7) / (105). وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي ((3791))]، وقتل متعلقًا بأستار الكعبة يوم الفتح. فالقاتل الذي هو كمقيس بن صبابة المستحل للقتل، المرتد عن الإسلام لا إشكال في خلوده في النار، وعلى هذا فالآية مختصة بما يماثل سبب نزولها بدليل النصوص المصرحة بأن جميع المؤمنين لا يخلد أحد منهم في النار.
الوجه الثاني: أن المعنى فجزاؤه إن جوزي مع إمكان ألا يجازى إذا تاب، أو كان له عمل صالح يرجح بعمله السيئ … وهذا قول أبي هريرة – رضي الله عنه – وأبي مجلز وأبي صالح وجماعة من السلف.
الوجه الثالث: أن الآية للتغليظ في الزجر، ذكر هذا الوجه الخطيب والآلوسي في تفسيريهما وعزاه الآلوسي لبعض المحققين، واستدلا عليه بقوله تعالى: {ومَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العالمِينَ}، على القول بأن معناه: ومن لم يحج، وبقوله – صلى الله عليه وسلم – الثابت في الصحيحين للمقداد حين سأله عن قتل من أسلم من الكفار بعد أن قطع يده في الحرب: «لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن يقول الكلمة التي قال»، وهذا الوجه من قبيل كفر دون كفر، وخلود دون خلود، فالظاهر أن المراد به عند القائل به أن معنى الخلود المكث الطويل، والعرب ربما تطلق اسم الخلود على المكث الطويل، ومنه وقوله لبيد:
فوقفت أسألها وكيف سؤالنا صمًا خوالد ما يبين كلامها.
إلا أن الصحيح في معنى الآية الوجه الثاني والأولى، وعلى التغليظ في الزجر حمل بعض العلماء كلام ابن عباس أن هذه الآية ناسخة لكل ما سواها، والعلم عند الله تعالى.
قال الشنقيطي: الذي يظهر أن القاتل عمدًا مؤمن عاص له توبة كما عليه جمهور علماء الأمة وهو صريح قوله تعالى: {إلّا مَن تابَ وآمَنَ} الآية، وادعاء تخصيصها بالكفار لا دليل عليه، ويدل على ذلك أيضًا قوله تعالى: {ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ} وقوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}، وقد توافرت الأحاديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، وصرح تعالى بأن القاتل أخو المقتول في قوله: {فَمَن عُفِيَ لَهُ مِن أخِيهِ شَيْءٌ}، وليس أخو المؤمن إلا المؤمن، وقد قال تعالى: {وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}، فسماهم مؤمنين مع أن بعضهم يقتل بعضا. ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين في قصة الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس [البخاري ((3470))، مسلم ((2766))]، لأن هذه الأمة أولى بالتخفيف من بني إسرائيل؛ لأن الله رفع عنها الآصار والأغلال التي كانت عليهم. [دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب للشنقيطي ((68): (69))]. [موسوعة محاسن الإسلام ورد شبهات اللئام].
—–
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عند قوله: {ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ} [النساء (93)].
{ومَن}: شرطية. و (من) الشرطية تفيد العموم. {مُؤْمِنًا}: هو من آمن بالله ورسوله، فخرج به الكافر والمنافق.
لكن من قتل كافرًا له عهد أو ذمة أو أمان، فهو آثم، لكن لا يستحق الوعيد المذكور في الآية.
وأما المنافق، فهو معصوم الدم ظاهرًا، ما لم يعلن بنفاقه.
وقوله {مُتَعَمِّدًا}: يدل على إخراج الصغير وغير العاقل؛ لأن هؤلاء ليس لهم قصد معتبر ولا عمد، وعلى إخراجا لمخطئ، وقد سبق بيانه في الآية التي قبلها.
فالذي يقتل مؤمنًا متعمدًا جزاؤه هذا الجزاء العظيم.
{جَهَنَّمُ}: اسم من أسماء النار. {خالِدًا فِيها}، أي: ماكثًا فيها.
{وغَضِبَ الله عَلَيْهِ}: الغضب صفة ثابتة لله تعالى على الوجه اللائق به، وهي من صفاته الفعلية.
{ولَعَنَهُ}: اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله. فهذه أربعة أنواع من العقوبة، والخامس: قوله: {وأعَدَّ لَهُ عَذابًا عَظِيمًا}.
خمس عقوبات، واحدة منها كافية في الردع والزجر لمن كان له قلب”. [شرح العقيدة الواسطية للعثيمين (1/ 262وما بعدها)] ..
(المسألة الثانية):
“ولكن يشكل على منهج أهل السنة ذكر الخلود في النار، حيث رتب على القتل، والقتل ليس بكفر، ولا خلود في النار عند أهل السنة إلا بالكفر؟!
وأجيب عن ذلك بعدة أوجه:
الوجه الأول: أن هذه في الكافر إذا قتل المؤمن.
لكن هذا القول ليس بشيء؛ لأن الكافر جزاؤه جهنم خالدًا فيها وإن لم يقتل المؤمن: {إنَّ اللَّهَ لَعَنَ الكافِرِينَ وأعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خالِدِينَ فِيها أبَدًا لا يَجِدُونَ ولِيًّا ولا نَصِيرًا} [الأحزاب، (64) – (65)].
الوجه الثاني: أن هذا فيمن استحل القتل؛ لأن الذي يستحل قتل المؤمن كافر.
وعجب الإمام أحمد من هذا الجواب، قال: كيف هذا؟! إذا استحل قتله، فهو كافر وإن لم يقتله، وهو مخلد في النار وإن لم يقتله.
ولا يستقيم هذا الجواب أيضًا.
الوجه الثالث: أن هذه الجملة على تقدير شرط، أي: فجزاؤه جهنم خالدًا فيها إن جازاه.
وفي هذا نظر، أي فائدة في قوله: {فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ}، ما دام المعنى إن جازاه؟! فنحن الآن نسأل: إذا جازاه، فهل هذا جزاؤه؟ فإذا قيل: نعم، فمعناه أنه صار خالدًا في النار، فتعود المشكلة مرة أخرى، ولا نتخلص.
فهذه ثلاثة أجوبة لا تسلم من الاعتراض.
الوجه الرابع: أن هذا سبب، ولكن إذا وجد مانع، لم ينفذ السبب، كما نقول: القرابة سبب للإرث، فإذا كان القريب رقيقًا، لم يرث، لوجود المانع وهو الرق.
ولكن يرد علينا الإشكال من وجه آخر، وهو: ما الفائدة من هذا الوعيد؟
فنقول: الفائدة أن الإنسان الذي يقتل مؤمنًا متعمدًا قد فعل السبب الذي يخلد به في النار، وحينئذ يكون وجود المانع محتملًا، قد يوجد، وقد لا يوجد، فهو على خطر جدًا، ولهذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا» [خ]. فإذا أصاب دمًا حرامًا والعياذ بالله، فإنه قد يضيق بدينه حتى يخرج منه.
وعلى هذا، فيكون الوعيد هنا باعتبار المآل، لأنه يخشى أن يكون هذا القتل سببًا لكفره، وحينئذ يموت على الكفر، فيخلد.
فيكون في هذه الآية على هذا التقدير ذكر سبب السبب، فالقتل عمدًا سبب؛ لأن يموت الإنسان على الكفر، والكفر سبب للتخليد في النار.
وأظن هذا إذا تأمله الإنسان، يجد أنه ليس فيه إشكال.
الوجه الخامس: أن المراد بالخلود المكث الطويل، وليس المراد به المكث الدائم؛ لأن اللغة العربية يطلق فيها الخلود على المكث الطويل كما يقال: فلان خالد في الحبس، والحبس ليس بدائم. ويقولون: فلا خالد خلود الجبال، ومعلوم أن الجبال ينسفها ربي نسفًا فيذرها قاعًا صفصفًا.
وهذا أيضًا جواب سهل لا يحتاج إلى تعب، فنقول: إن الله عز وجل لم يذكر التأبيد، لم يقل: خالدًا فيها أبدًا بل قال: {خالِدًا فِيها}، والمعنى: أنه ماكث مكثًا طويلًا.
الوجه السادس: أن يقال إن هذا من باب الوعيد، والوعيد يجوز إخلافه؛ لأنه انتقال من العدل إلى الكرم، والانتقال من العدل إلى الكرم كرم وثناء، وأنشدوا عليه قول الشاعر:
وإني وإن أوعدته أو وعدته … لمخلف إبعادي ومنجز موعدي
أوعدته بالعقوبة، ووعدته بالثواب، لمخلف إبعادي ومنجز موعدي.
وأنت إذا قلت لابنك: والله، إن ذهبت إلى السوق، لأضربنك بهذا العصا. ثم ذهب إلى السوق، فلما رجع، ضربته بيدك، فهذا العقاب أهون على ابنك، فإذا توعد الله عز وجل القاتل بهذا الوعيد، ثم عفا عنه، فهذا كرم.
ولكن هذا في الحقيقة فيه شيء من النظر، لأننا نقول: إن نفذ الوعيد، فالإشكال باق، وإن لم ينفذ، فلا فائدة منه.
هذه ستة أوجه في الجواب عن الآية، وأقربها الخامس، ثم الرابع. [شرح العقيدة الواسطية للعثيمين (1/ 262وما بعدها)].
(المسألة الثالثة): “إذا تاب القاتل، هل يستحق الوعيد؟
الجواب: لا يستحق الوعيد بنص القرآن، لقوله تعالى: {والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاّ بِالحَقِّ ولا يَزْنُونَ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثامًا يُضاعَفْ لَهُ العَذابُ يَوْمَ القِيامَةِ ويَخْلُدْ فِيهِ مُهانًا إلاّ مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ} [الفرقان (68) – (70)]، وهذا واضح، أن من تاب – حتى من القتل ـ، فإن الله تعالى يبدل سيئاته حسنات.
والحديث الصحيح في قصة الرجل من بني إسرائيل، الذي قتل تسعًا وتسعين نفسًا، …
فأنظر كيف كان من بني إسرائيل فقبلت توبته، مع أن الله جعل عليهم آصارًا وأغلالًا، وهذه الأمة رفع عنها الآصار والأغلال، فالتوبة في حقها أسهل، فإذا كان هذا في بني إسرائيل، فكيف بهذه الأمة؟
[إشكال والرد عليه]
فإن قلت: ماذا تقول فيما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن القاتل ليس له توبة [خ]؟
فالجواب: من أحد الوجهين:
(1) – إما أن ابن عباس رضي الله عنهما استبعد أن يكون للقاتل عمدًا توبة، ورأى أنه لا يوفق للتوبة، وإذا لم يوفق للتوبة، فإنه لا يسقط عنه الإثم، بل يؤاخذ به.
(2) – وإما أن يقال: إن مراد ابن عباس رضي الله عنهما: أن لا توبة له فيما يتعلق بحق المقتول؛ لأن القاتل عمدًا يتعلق به ثلاثة حقوق: حق الله، وحق المقتول، والثالث لأولياء المقتول:
أ- أما حق الله، فلا شك أن التوبة ترفع، لقوله تعالى: {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر (53)]، وهذه في التائبين.
ب- وأما حق أولياء المقتول، فيسقط إذا سلم الإنسان نفسه لهم، أتى إليهم وقال: أنا قتلت صاحبكم، واصنعوا ما شئتم فهم إما أن يقتصوا، أو يأخذوا الدية، أو يعفوا، والحق لهم.
جـ- وأما حق المقتول، فلا سبيل إلى التخلص منه في الدنيا.
وعلى هذا يحمل قول ابن عباس أنه لا توبة له، أي: بالنسبة لحق المقتول.
على أن الذي يظهر لي أنه إذا تاب توبة نصوحًا، فإنه حتى حق المقتول يسقط، لا إهدارًا لحقه، ولكن الله عز وجل بفضله يتحمل عن القاتل ويعطي المقتول رفعة درجات في الجنة أو عفوًا عن السيئات، لأن التوبة الخالصة لا تبقي شيئًا، ويؤيد هذا عموم آية الفرقان: {والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاّ بِالحَقِّ … .. } إلى قوله: {إلاّ مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ} [الفرقان (70)].
وفي هذه الآية: من صفات الله: الغضب، واللعن وإعداد العذاب.
وفيها من الناحية المسلكية: التحذير من قتل المؤمن عمدًا. [شرح العقيدة الواسطية للعثيمين (1/ 262وما بعدها)].
(المسألة الرابعة): الفتاوى
[1] س: على بركة الله نبدأ هذا اللقاء بسؤال للسائل: عبدالرحيم يقول في هذا السؤال: سماحة الشيخ! إذا تسبب الرجل في قتل رجل آخر، وعفا أهل القتيل عنه، هل تسقط عنه الكفارة؟ وماذا يلزمه؟ جزاكم الله خيرًا.
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه.
إن كان المتسبب متعمدًا؛ فعليه التوبة، ولا كفارة عليه، عليه التوبة إلى الله -جل وعلا- والحمد لله الذي عفوا عنه، عفا عنه أولياء المقتول، والحمد لله، جزاهم الله خيرًا، أما إن كان خطأً، أو شبه عمد، مثل: أراد أن يرمي صيدًا، فأصابه، أو طقه بعصا خفيفة، أو ضربة خفيفة، مات بها، هذا عليه الدية، وعليه الكفارة، الدية معروفة، والكفارة عتق رقبة، فإن لم يستطع؛ صام شهرين متتابعين؛ لقول الله -جل وعلا-: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء:92].
فالواجب على من قتل خطأً، أو شبه خطأ عليه الدية، والكفارة إلا أن يسمحوا عن الدية؛ فلا بأس، أما الكفارة تبقى في ذمته، إن استطاع العتق؛ أعتق، فإن لم يستطيع العتق؛ صام شهرين متتابعين، ستين يومًا بنص القرآن الكريم.
أما المتعمد لا، المتعمد توعده الله بالعذاب والنار، قال سبحانه: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93] ما جعل عليه عتق؛ لأن الأمر أعظم، العتق والكفارة تدخل في الذنب إذا كان أسهل، فإذا عظم الذنب، واشتد ما دخلته الكفارات؛ لعظمه وخطره، فالقتل جريمة عظيمة، لا تدخلها الكفارة، بل يجب القصاص إذا توفرت شروطه، فإن لم يجب القصاص؛ فالدية مع التعزير، نعم. [نور على الدرب لابن باز، هل تسقط كفارة القتل إذا عفى أولياء الدم؟].
[2]
س: أنا شاب وقع لي حادث وتوفي شخص رحمه الله، أريد فضيلة الشيخ أن أعرف كفارة ذلك؛ علمًا بأن نسبة الحادث 50%، ولا أستطيع الصيام؟ جزاكم الله خيرًا.
الجواب: الإنسان إذا قتل خطأ عليه كفارة؛ لقوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا [النساء:92]
وإذا كان الواقع عليك 50%، فأنت قد قتلت؛ فعليك كفارة، وهي: عتق رقبة مؤمنة، ومن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين؛ أي ستين يومًا -سواء بدأ من أول الشهر أو من آخر الشهر- ستين يومًا متتابعة.
ومن لم يستطع يبقى في ذمته معلقًا حتى يستطيع هذا أو هذا، إذا كان عاجزًا عن العتق، تبقى الكفارة معلقة متى تيسر له هذا أو هذا. [من أسئلة حج عام 1418هـ، (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 22/ 362)]