(6) بيان الوسيلة في آيات القرآن الكريمة
جمع سيف بن دورة الكعبي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف الشيخ د. سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إماراتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
سورة طه:
قال تعالى
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) سورة طه
في الآية التوسل لله عزوجل بالافتقار إليه وأنه هو الذي منح عبده العلم سبحانه وتعالى فيسأل ربه الاستزاده منه:
قال القاسمي:
وهَذا -كَما قالَ بعض أهل التفسير – مُتَضَمِّنٌ لِلتَّواضُعِ لِلَّهِ تَعالى والشُّكْرِ لَهُ، عِنْدَما عَلِمَ مِن تَرْتِيبِ التَّعَلُّمِ. أيْ: عَلَّمْتَنِي يا رَبِّ لَطِيفَةً في بابِ التَّعَلُّمِ، وأدَبًا جَمِيلًا ما كانَ عِنْدِي، فَزِدْنِي عِلْمًا إلى عِلْمٍ. فَإنَّ لَكَ في كُلِّ شَيْءٍ حِكْمَةً وعِلْمًا. قِيلَ: ما أمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِطَلَبِ الزِّيادَةِ في شَيْءٍ إلّا في العِلْمِ. انتهى
قال السعدي: ولما كانت عجلته صلى الله عليه وسلم، على تلقف الوحي ومبادرته إليه، تدل على محبته التامة للعلم وحرصه عليه، أمره الله تعالى أن يسأله زيادة العلم، فإن العلم خير، وكثرة الخير مطلوبة، وهي من الله، والطريق إليها الاجتهاد، والشوق للعلم، وسؤال الله، والاستعانة به، والافتقار إليه في كل وقت.
——-
سورة الأنبياء:
قال تعالى
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) سورة الأنبياء
فيه التوسل بإظهار الحاجة والتذلل والثناء على الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى
قال ابن الجوزي:
قَوْلُهُ تَعالى: {وَأيُّوبَ إذْ نادى رَبَّهُ}؛ أيْ: دَعا رَبَّهُ، {أنِّي} وقَرَأ أبُو عِمْرانَ الجَوْنِيُّ: (إنِّي) بِكَسْرِ الهَمْزَةِ. {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} وقَرَأ حَمْزَةُ: (مَسَّنِي) بِتَسْكِينِ الياءِ؛ أيْ: أصابَنِيَ الجُهْدُ. {وَأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ}؛ أيْ: أكْثَرُهم رَحْمَةً، وهَذا تَعْرِيضٌ مِنهُ بِسُؤالِ الرَّحْمَةِ؛ إذْ أثْنى عَلَيْهِ بِأنَّهُ الأرْحَمُ وسَكَتَ.
قال ابن القيم:
{* وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء (83)]
* (فائدة)
جمع في هَذا الدُّعاء بَين حَقِيقَة التَّوْحِيد، وإظْهار الفقر والفاقة إلى ربه، ووُجُود طعم المحبَّة في التملق لَهُ، والإقْرار لَهُ بِصفة الرَّحْمَة، وأنه أرْحم الرّاحِمِينَ، والتوسل إلَيْهِ بصفاته سُبْحانَهُ، وشدَّة حاجته وهو فقره، ومَتى وجد المُبْتَلى هَذا كشف عَنهُ بلواه.
وَقد جرّب أنه من قالَها سبع مَرّات ولا سِيما مَعَ هَذِه المعرفَة كشف الله ضره.
* [فصل: الفرق بين الإخبار بالحال وبين الشكوى]
والفرق بين الإخبار بالحال وبين الشكوى وإن اشتبهت صدرتهما: أن الإخبار بالحال يقصد المخبر به قصدا صحيحا من علم سبب إدانته، أو الاعتذار لأخيه من أمر طلبه منه، أو يحذره من الوقوع في مثل ما وقع فيه فيكون ناصحا بإخباره له، أو حمله على الصبر بالتأسي، كما يذكر عن الأحنف أنه شكا إليه رجل شكوى.
فقال: يا ابن أخي لقد ذهب ضوء عيني كذا وكذا سنة فما أعلمت به أحدا.
ففي ضمن هذا الإخبار من حمل الشاكي على التأسي والصبر ما يثاب عليه المخبر وصورته صورة الشكوى ولكن القصد ميز بينهما، ولعل هذا قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، لما قالت عائشة: “وارأساه، فقال بل أنا وارأساه”
أي الوجع القوي بي أنا دونك فتأسي بي فلا تشتكي، ويلوح لي فيه معنى آخر وهو أنها كانت حبيبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بل كانت أحب النساء إليه على الإطلاق.
فلما اشتكت إليه رأسها أخبرنا أن بمحبها من الألم مثل الذي بها وهذا غاية الموافقة من المحب ومحبوبه يتألم بتألمه ويسر بسروره حتى إذا آلمه عضو من أعضائه آلم المحب ذلك العضو بعينه وهذا من صدق المحبة وصفاء المودة فالمعنى الأول يفهم أنك لا تشتكي واصبر في من الموجع مثل ما بك فتأسى بي في الصبر وعدم الشكوى.
والمعنى الثاني يفهم إعلامها بصدق محبته لها أي انظري قوة محبتي لك كيف واسيتك في ألمك ووجع رأسك فلم تكوني متوجعة وأنا سليم من الوجع بل يؤلمني ما يؤلمك كما يسرني ما يسرك كما قيل:
وإن أولى البرايا أن تواسيه *** عند السرور الذي واساك في الحزن
وأما الشكوى فالإخبار العاري عن القصد الصحيح بل يكون مصدره السخط وشكاية المبتلي إلى غيره فإن شكا إليه سبحانه وتعالى لم يكن ذلك شكوى بل استعطاف وتملق واسترحام له كقول أيوب لرَبِّهِ {أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ}
وقول يعقوب {إنَّما أشْكُوا بَثِّي وحُزْنِي إلى اللَّهِ}
وقول موسى:
“اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك”.
وقول سيد ولد آدم
“اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملّكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علي غضبك أو ينزل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك”
فالشكوى إلى اللّه سبحانه لا تنافي الصبر بوجه فإن اللّه تعالى قال عن أيوب {إنّا وجَدْناهُ صابِرًا نِعْمَ العَبْدُ إنَّهُ أوّابٌ} مع إخباره عنه بالشكوى إليه في قوله {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} وأخبر عن نبيه يعقوب أنه وعد من نفسه بالصبر الجميل والنبي إذا قال وفّى مع قوله {إنَّما أشْكُوا بَثِّي وحُزْنِي إلى اللَّهِ}، ولم يجعل ذلك نقصا لصبره.
ولا يلتف أن غير هذا من ترهات القوم، كما قال بعضهم لما قال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ}.
قال تعالى: {إنّا وجَدْناهُ صابِرًا} ولم يقل صبورا حيث قال {مسّني الضر}.
وقال بعضهم لم يقل: ارحمني، وإنما قال {أنت أرحم الراحمين} فلم يزد على الإخبار بحاله ووصف ربه.
وقال بعضهم إنما شكا مس ضر حين ضعف لسانه عن الذكر فشكا مس ضر ضعف الذكر لا ضر المرض والألم.
وقال بعضهم استخرج منه هذا القول ليكون قدوة للضعفاء من هذه الأمة.
وكأن هذا القائل رأى أن الشكوى إلى اللّه تنافي الصبر وغلط أقبح الغلط فالمنافي للصبر شكواه لا الشكوى إليه فاللّه يبتلي عبده ليسمع تضرعه ودعاءه والشكوى إليه ولا يحب التجلد عليه، وأحب ما إليه انكسار قلب عبده بين يديه وتذلله له وإظهار ضعفه وفاقته وعجزه وقلة صبره، فاحذر كل الحذر إظهار التجلد عليه وعليك بالتضرع والتمسكن وإبداء العجز والفاقة والذل والضعف، فرحمته أقرب إلى هذا القلب من اليد للفم.
قال القاسمي:
وإنَّ مِن أسْبابِ الفَرَجِ دُعاءَهُ تَعالى والِابْتِهالَ إلَيْهِ والتَّضَرُّعَ لَهُ، وَذِكْرَهُ بِأسْمائِهِ الحُسْنى وصِفاتِهِ العُلْيا. وإنَّ البَلاءَ لا يَدُلُّ عَلى الهَوانِ والشَّقاءِ. فَإنَّ السَّعادَةَ والشَّقاءَ في هَذا العالَمِ لا يَتَرَتَّبانِ عَلى صالِحِ الأعْمالِ وسَيِّئِها. لِأنَّ الدُّنْيا لَيْسَتْ دارَ جَزاءٍ. وإنَّ عاقِبَةَ الصِّدْقِ في الصَّبْرِ، هي تَوْفِيَةُ الأجْرِ ومُضاعَفَةُ البِرِّ. وقَدْ رُوِيَ أنَّ أيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ، لَمّا امْتُحِنَ بِما فَقَدَ أرْزاقَهُ وهَلَكَ بِهِ جَمِيعُ آلِ بَيْتِهِ، وبِما لَبِثَ يُعانِي مِن قُرُوحِ جَسَدِهِ آلامًا، وصَبَرَ وشَكَرَ، رَحِمَهُ مَوْلاهُ فَعادَتْ لَهُ صِحَّةُ بَدَنِهِ وأُوتِيَ أضْعافَ ما فَقَدَهُ. ورُزِقَ عِدَّةَ أوْلادٍ، وعاشَ عُمْرًا طَوِيلًا أبْصَرَ أوْلادَهُ إلى الجِيلِ
قال الواحدي ((468) هـ) في البسيط:
{* وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء (83)]
قوله تعالى: هوَ {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} قال ابن عباس: دعا ربه.
{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} وأصابني الجهد {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أكثرهم رحمه. وهذا تعريض منه بمسالة الرحمة إذ أثنى عليه بأنه الأرحم وسكت.
وقال أهل العلم: لم يكن هذا جزعًا من أيوب؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} ولكن هذا دعاء منه لله تعالى ألا ترى أن الله تعالى قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ}.
وروي عن ربيعة بن كلثوم أنه قال: دخلنا على الحسن وهو يشتكي ضرسه وهو يقول: مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، اقتدى بأيوب عليه السلام في دعائه ليستجاب له كما استجيب لأيوب.
على أن الجزع إنما هو الشكوى إلى الخلق، فأما من اشتكى إلى الله تعالي ما حل به فليس يسمى جازعًا؛ لأنه مثاب على ذلك إذا كان إلى الله، والجازع مذموم، وقول يعقوب عليه السلام {أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] لا يحمل على الجزع.
وهذا معنى ما قال سفيان بن عيينة في هذه الآية: من شكا إلى الله لم يعد ذلك بشكوى ولا جزع، ألم تسمع قوله: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} قال وكذلك من شكا إلى الناس وهو في شكواه راض بقضاء الله لم يكن ذلك جزعًا ألم تسمع قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أجدني مغمومًا وأجدني مكروبًا”، وقوله: “بل أنا وارأساه”.
وليس في مثل هذا شكوى من الله، ولا قلة رضا بقضائه، بل رغبة فيه.
قال الثعلبي في “الكشف والبيان” 3/ 39 ب:
{* وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء (83)] (سمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب -رحمه الله- يقول: حضرتُ مجلسًا غاصًّا بالفقهاء والأدباء في دار سلطان فسئلت عن هذه الآية بعد إجماعهم على أن قول أيوب (مسني الضر) شكاية، وقد قال الله تعالى (إنا وجدناه صابرا) فقلت: ليس هذا بشكاية، وإنما هو دعاء بيانه قوله (فاستجبنا له) والإجابة تعتقب الدعاء لا الاشتكاء، فاستحسنوه وارتضوه. أهـ.
قال أبوالسعود:
{وَأيُّوبَ} الكَلامُ فِيهِ كَما مَرَّ في قَوْلِهِ تَعالى: {وَداوُدَ وسُلَيْمانَ} أيْ: واذْكُرْ خَبَرَ أيُّوبَ {إذْ نادى رَبَّهُ أنِّي} أيْ: بِأنِّي {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} وقُرِئَ بِالكَسْرِ عَلى إضْمارِ القَوْلِ، أوْ تَضْمِينِ النِّداءِ مَعْناهُ، والضُّرُّ شائِعٌ في كُلِّ ضَرَرٍ، وبِالضَّمِّ خاصٌّ بِما في النَّفْسِ مِن مَرَضٍ وهُزالٍ ونَحْوِهِما.
{وَأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ} وصَفَهُ تَعالى بِغايَةِ الرَّحْمَةِ بَعْدَ ما ذَكَرَ نَفْسَهُ بِما يُوجِبُها واكْتَفى بِهِ عَنْ عَرْضِ المَطْلَبِ لُطْفًا في السُّؤالِ،
قال البيضاوي:
{وَأيُّوبَ إذْ نادى رَبَّهُ أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} بِأنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ، وقُرِئَ بِالكَسْرِ عَلى إضْمارِ القَوْلِ أوْ تَضْمِينِ النِّداءِ مَعْناهُ والضَّرُّ بِالفَتْحِ شائِعٌ في كُلِّ ضَرَرٍ، وبِالضَّمِّ خاصٌّ بِما في النَّفْسِ كَمَرَضٍ وهُزالٍ. {وَأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ} وصَفَ رَبَّهُ بِغايَةِ الرَّحْمَةِ بَعْدَ ما ذَكَرَ نَفْسَهُ بِما يُوجِبُها واكْتَفى بِذَلِكَ عَنْ عَرْضِ المَطْلُوبِ لُطْفًا في السُّؤالِ
قال السعدي:
فنادى ربه: رب {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فتوسل إلى الله بالإخبار عن حال نفسه، وأنه بلغ الضر منه كل مبلغ.
وفي الوسيط ونقله عمن سبق من المفسرين:
فأنت ترى أن أيوب – عليه السلام – لم يزد فى تضرعه عن وصف حاله (أَنِّي مَسَّنِيَ الضر) ووصف خالقه – تعالى – بأعظم صفات الرحمة دون أن يقترح شيئا أو يطلب شيئا، وهذا من الأدب السامى الذى سلكه الأنبياء مع خالقهم – عز وجل.
——-
قال تعالى:
فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) سورة الأنبياء
التوسل بالتوحيد والاعتراف بالظلم.
قال الطبري:
وقوله {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ}
يقول: نادى يونس بهذا القول معترفا بذنبه تائبا من خطيئته {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} في معصيتي إياك.
وابن تيمية تكلم على دعوة ذي النون في المجلد العاشر ص 237 إلى 337
وأردت أن ألخصها لكن الحمد لله وجدتها ملخصة في كتاب مسائل لخصها الشيخ محمد بن عبد الوهاب من كلام ابن تيمية. ولو بقيت دهرا لم استطع أن ألخصها بهذا الإتقان؛ فإليك السؤال ثم تلخيص الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
((114)) وسئل عن دعوة ذي النون معناها،
ولم كانت موجبة لكشوف الكرب؟ وهل لذلك شروط غير لفظها؟ وكيف يتحقق القائل لها في الكرب بمعنى النفي والإثبات ليوجب الكشف؟ وما مناسبة ذكر ظلمه مع التوحيد؟ وهل الاعتراف مع التوحيد موجب للغفران وكشف الكرب؟ وهل اعترافه بذلك الذنب المعين يوجب كشف كربة نزلت بذنوب أوجب تأخيرها إلى ذلك الوقت سعة حلم الله، أم لا بد عند قولها من استحضار جميع الذنوب؟ وهل مجرد الاعتراف كاف بدون التوبة؟ وما السر في أن الفرج يجيء عند انقطاع الرجاء من الخلق؟ وما الحيلة في انصراف القلب عنهم وتعلقه بالله؟ وما المعنى على ذلك؟
أجاب عن الأولى بأن لفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول دعاء العبادة ودعاء المسألة، وفسر قوله: {ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ} (1) بالوجهين.
وفي حديث النّزول: «من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» (2) والمستغفر سائل، والسائل داع، لكن ذكر السائل لدفع الشر بعد السائل للخير، وذكرهما بعد الداعي الذي يتناولهما وغيرهما من عطف الخاص على العام، وسماها دعوة لتضمنها للنوعين، فقوله: {لا إله إلا أنت}: اعتراف بتوحيد الآلهية، وهو يتضمن النوعين، فإن الإله هو المستحق لأن يدعى بالنوعين. وقوله {إنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ} (3): اعتراف بالذنب متضمن طلب المغفرة. فالسائل يسأل تارة بصيغة الطلب، وتارة بصيغة الخبر، إما بوصف حاله، أو حال المسؤول، أو بهما، وهو من حسن الأدب في السؤال، كقول أيوب {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ} (4). والسؤال بالحال أبلغ من جهة العلم والبيان، وبالطلب أظهر من جهة القصد والإرادة؛ فلهذا كان غالب الدعاء من القسم الثاني، لأن السائل يتصور مراده، فيسأله بالمطابقة، فإن تضمن وصف حال
السائل والمسؤول فهو أكمل، كقوله: «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا» (1) إلخ.
وفيه وصف لحال نفسه المقتضي حاجته إلى المغفرة، ووصف ربه أنه لا يقدر على هذا غيره، وفيه التصريح بالمطلوب، وفيه وصف الرب بما يقتضي الإجابة، وهو وصفه بالمغفرة والرحمة. فهذا ونحوه أكمل الأنواع. فمقام يونس ومن أشبهه، مقام اعتراف بأن ما أصابه بذنبه، والمقصود دفع الضر والاستغفار رجاء بالقصد.
الثاني: فلم يذكر صيغة الطلب لاستشعاره أنه مسيء أدخل الضر على نفسه، فناسب ذكر ما يرفع سببه من الاعتراف، وهذا يبين بالكلام على قوله: {سبحانك} فإنه يتضمن التعظيم والتنْزيه، والمقام يقتضي تنْزيهه عن العقوبة بغير ذنب، فقوله: {لا إله إلا أنت}: فيه انفراده بالإلهية، وهي تتضمن كمال العلم والقدرة، والرحمة والحكمة. ففيها إثبات إحسانه إلى العباد، فإن الإله هو المألوه، والمألوه الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق ذلك هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع. والتسبيح يتضمن تعظيمه وتنْزيهه عن الظلم وغيره من النقائص، فإن الظالم إنما يظلم لحاجته أو جهله، والله غني عن كل شيء، عليم بكل شيء، وهو غني بنفسه، وكل ما سواه فقير إليه، وهذا كمال العظمة.
أجاب عن الثانية: بأن ذلك لأن الضر لا يكشفه إلا الله، والذنوب سبب الضر، والاستغفار يزيل سببه، وقوله: {إني كنت من الظالمين}: اعتراف واستغفار، والتهليل تحقيق لتوحيد الإلهية، فإن الخير لا يوجب له إلا مشيئة الله، والمعوق له عن العبد ذنوبه، وما خرج عن قدرة العبد فهو من الله، وإن كان الكل بقدره، لكنه جعل الطاعة
سببا للنجاة والسعادة. فمشاهدة التوحيد تفتح باب الخير، والاستغفار يغلق باب الشر، والرجاء لا تعلق بمخلوق ولا بقوة العبد ولا علمه، فإن ذلك شرك، ولهذا يذكر الأسباب ويأمر بأن لا يعتمد عليها، ولهذا قال: {وما جَعَلَهُ اللَّهُ إلّا بُشْرى لَكُمْ ولِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وما النَّصْرُ إلّا مِن عِنْدِ اللَّه} (1). فمن جعل مع الله إلها آخر، قعد مذموما مخذولا، والقائل لا إله إلا الله بلسانه، فقولها مخلصا من قلبه له حقيقة أخرى، وبحسب تحقيقها تكمل الطاعة، كما قال: {أفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَواهُ} (2) الآيتين، فمن جعل ما يألهه هو ما يهواه فقد اتخذ إلهه هواه، ولهذا قال الخليل {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} (3) بين أنه يغيب عن عابده، فلا يعلم حاله. وكلما حقق العبد الإخلاص في قول لا إله إلا الله خرج من قلبه تأله ما يهواه، ويصرف عنه المعاصي، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ} (4) الآية. وفي الصحيح: «من قالها مخلصا من قلبه حرمه الله على النار» (5) فمن دخلها لم يحقق إخلاصها المحرم له على النار، والشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، ولهذا أمر أن يقول في كل صلاة {إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ} (6). والشيطان يأمر بالشرك، والنفس تطيعه، فلا تزال تلتفت إلى غير الله، إما خوفا، وإما رجاء، فلا يزال مفتقرا إلى تخليص توحيده من شوائب الشرك. وفي الحديث يقول الشيطان: “أهلكت الناس بالذنوب فأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يستغفرون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا». فالذي اتبع هواه بغير هدى من الله له نصيب ممن اتخذ إلهه هواه، فصار فيه شرك منعه من الاستعاذة.
وأما من حقق التوحيد والاستغفار فلا بد أن يرفع عنه الشر؛ وفي الصحيح قوله في صلاته: «اللهم اغفر لي ما قدمت – إلى قوله لا إله إلا أنت» فهنا قدم الدعاء، وختمه بالتوحيد، لأنه أفضل الأمرين، بخلاف ما لم يقصد فيه هذا، فإن تقديم التوحيد أفضل. وأهل التوحيد هم الذين لم يعبدوا إلا إياه، ولم يتوكلوا إلا عليه. وقول المكروب: لا إله إلا أنت، قد يستحضر في ذلك أحد النوعين، فإن همته منصرفة لدفع ضره أي لا يكشف الضر غيرك، مع إعراضه عن توحيد الإلهية؛ فإن استحضره في ذلك كان عابدا لله، متوكلا عليه، محققا {إياك نعبد وإياك نستعين}. فإذا سبق إلى القلب قصد السؤال ناسب السؤال باسم الرب، وإن سبق قصد العبادة فاسم الله أولى؛ وكذلك إذا بدأ بالثناء، ولهذا قال يونس عليه السلام: {لا إلَهَ إلّا أنْتَ} إلخ، وقال آدم: {رَبَّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا}؛ فإن يونس ذهب مغاضبا فكان ذلك المناسب، أي: هو الذي يستحق العبادة دون غيره، ولا يطاع الهوى فإن ذلك يضعف الإخلاص. وهذا يتضمن براءة ما سوى الله من الإلهية، سواء قدر ذلك هوى النفس أو طاعة الخلق، أو غير ذلك، والعبد يقول ذلك فيما يظنه، وهو غير مطابق، وما يريده وهو غير حسن. وآدم لم يكن عنده من منازعة الإرادة ما يزاحم الإلهية، بل ظن صدق الشيطان فكانا محتاجين إلى أن يريهما ربوبيته تكمل علمهما وقصدهما حتى لا يفترا. ويونس كمل تحقيق الإلهية ومحو الهوى الذي يتخذ إلها. وأيضا مثل هذه الحال تعرض لمن تعرض له فيبقى فيه نوع معارضة للقدر، ومعارضة له سبحانه في خلقه، وأمره ووساوس في حكمته ورحمته، فيحتاج إلى أن يتقي الآراء الفاسدة والأهواء الفاسدة فيعلم أن الحكمة والعدل فيما اقتضاه علمه سبحانه وحكمته، لا في ما اقتضاه علم العبد وحكمته، ويكون هواه تبعا لما يأمر الله به، قال تعالى: {فَلا ورَبِّكَ} الآية، وقال تعالى: {قُلْ إنْ كانَ آباؤُكُمْ} (1) الآية.
فإذا كان الإيمان لا يحصل حتى يحكم الرسول، ويسلم له، ويكون هواه تبعا لما جاء به، ويكون الرسول والجهاد مقدما على حب الإنسان نفسه وماله وأهله، فكيف في تحكيمه تعالى والتسليم له؟ فمن رأى من يستحق العذاب في ظنه فغفر له فكره ذلك، فهو إما عن إرادة تخالف الحكم، أو ظن يخالف العلم، والله عليم حكيم، فلم يبق لكراهة ما فعله وجه، وهذا يكون فيما أمر به، وفيما خلقه ولم يأمرنا أن نكرهه، بخلاف توبته على عباده وإنجائهم من العذاب، فإنه يحب التوابين، فكراهة هذا من نوع اتباع الإرادة المزاحمة للإلهية، فعلى صاحبها
أن يحققه ولإنالة مراداتنا المخالفة.
وقوله: هل الاعتراف مع التوحيد موجب لغفرانها وكشف الكربة؟ فالموجب له مع التوحيد هو التوبة المأمور بها، فإن الشرك لا يغفر إلا بها، وأما الاعتراف على وجه الخضوع لله من غير توبة فهما في نفس الاستغفار الذي لا توبة معه، فهذا لا يؤنس، ولا يقطع له بالمغفرة فإنه داع، وفي الصحيح: «ما من رجل يدعو الله بدعوة إلخ»، فمثل هذا الدعاء قد تحصل معه المغفرة أو صرف شر آخر أو حصول خير آخر. وقوله: الاعتراف بالذنب المعين يوجب رفع ما حصل بذنوب أم لا بد من استحضار جميعها؟ فهذا مبني على أصول: أحدها: أن التوبة تصح من ذنب
مع الإصرار على آخر، وهذا هو المعروف عن السلف والخلف.
والثاني: أن من تاب من بعض فإن التوبة إنما تقتضي مغفرة ما تاب منه.
والثالث: أن الإنسان قد يستحضر ذنوبا فيتوب منها، وقد يتوب توبة مطلقة. فإن كانت نية التوبة العامة فهي تتناول كل ما رآه ذنبا إلا أن يعارض هذا معارض، مثل أن يكون بعضها لو استحضره لم يتب منه لقوة إرادته، أو اعتقاد أنه حسن. وأما التوبة العامة وهي أن يتوب توبة مجملة، ولا تلتزم التوبة من كل ذنب، فهذا لا يوجب دخول كل فرد، ولا يمنع دخوله كاللفظ المطلق؛ والناس في غالب أحوالهم لا يتوبون توبة عامة مع حاجتهم إلى ذلك، وأنها واجبة على كل عبد في كل حال.
وقوله: ما السبب في أن الفرج يأتي عند انقطاع الرجاء عن الخلق؟ وما الحيلة في صرف القلب عنه؟ فسببه تحقيق توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية، فالأول لا خالق إلا الله، والراجي لمخلوق طالب بقلبه لما يريده منه وهو عاجز، وهذا من الشرك الذي لا يغفر، فمن كمال نعمته وإحسانه إلى المؤمنين أن يمنع حصول مطالبهم بالشرك حتى يصرف قلوبهم إلى التوحيد. ثم إن وحده العبد توحيد الإلهية حصلت له سعادة الدنيا والآخرة، وإن كان ممن قيل فيه: {وإذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ} الآية، فإن ما حصل له من وحدانيته حجة عليه، كما احتج سبحانه على المشركين بذلك في
غير موضع. فمن تمام نعمة الله على المؤمنين أن ينزل بهم من الضر ما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين، فيحصل لهم من التوكل والإنابة وذوق طعم الإيمان والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمة من زوال الضر؛ فإن ذلك نعم دنيوية قد يحصل للكافر منها أعظم مما للمؤمن، وأما ما يحصل للمخلصين فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال، أو يستحضر تفصيله بال. ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه؛ فالذي يحصل لأهل
الإيمان عند تجريد التوحيد لا يعرفه بالذوق إلا من له منه نصيب، وهذا هو حقيقة الإسلام، وقطب رحى القرآن، به أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب.
انتهى ملخصا من مجموع الفتاوى 10/ 237 … إلى 10/ 337
قال ابن القيم كما في التفسير القيم:
قال في زاد المعاد:
وَأمّا دَعْوَةُ ذِي النُّونِ: فَإنَّ فِيها مِن كَمالِ التَّوْحِيدِ والتَّنْزِيهِ لِلرَّبِّ تَعالى، واعْتِرافِ العَبْدِ بِظُلْمِهِ وذَنْبِهِ، ما هو مِن أبْلَغِ أدْوِيَةِ الكَرْبِ، والهَمِّ، والغَمِّ، وأبْلَغِ الوَسائِلِ إلى اللَّهِ – سُبْحانَهُ – في قَضاءِ الحَوائِجِ، فَإنَّ التَّوْحِيدَ والتَّنْزِيهَ يَتَضَمَّنانِ إثْباتَ كُلِّ كَمالِ اللَّهِ، وسَلْبَ كُلِّ نَقْصٍ وعَيْبٍ وتَمْثِيلٍ عَنْهُ.
والِاعْتِرافُ بِالظُّلْمِ يَتَضَمَّنُ إيمانَ العَبْدِ بِالشَّرْعِ والثَّوابِ والعِقابِ، ويُوجِبُ انْكِسارَهُ ورُجُوعَهُ إلى اللَّهِ واسْتِقالَتَهُ عَثْرَتَهُ، والِاعْتِرافَ بِعُبُودِيَّتِهِ، وافْتِقارَهُ إلى رَبِّهِ، فَهاهُنا أرْبَعَةُ أُمُورٍ قَدْ وقَعَ التَّوَسُّلُ بِها: التَّوْحِيدُ، والتَّنْزِيهُ، والعُبُودِيَّةُ، والِاعْتِرافُ.
وقال في اجتماع الجيوش الإسلامية:
ذَكَرَ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ بْنُ قَدامَةَ المَقْدِسِيُّ في كِتابِهِ ” إثْباتُ صِفَةِ العُلُوِّ ” عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ قالَ: سَمِعَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلامُ تَسْبِيحَ الحَصا والحِيتانِ فَجَعَلَ يُسَبِّحُ وكانَ يَقُولُ في دُعائِهِ:
يا سَيِّدِي في السَّماءِ مَسْكَنُكَ وفي الأرْضِ قُدْرَتُكَ وعَجائِبُكَ إلَهِي في الظُّلُماتِ الثَّلاثِ حَبَسْتَنِي. . . فَلَمّا كانَ تَمامُ الأرْبَعِينَ يَوْمًا وأصابَهُ الغَمُّ {فَنادى في الظُّلُماتِ أنْ لا إلَهَ إلّا أنْتَ سُبْحانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ}.
وقال في طريق الهجرتين:
وهذا مشهد ذي النون إذ يقول: {لا إلَهَ إلا أنْتَ سُبْحانَكَ إنِّى كُنْتُ مِنَ الظّالِمِين}
فوحد ربه ونزهه عن كل عيب وأضاف الظلم إلى نفسه، وهذا مشهد صاحب سيد الاستغفار إذ يقول في دعائه:
“اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إلهَ إلا أنْتَ، خَلَقْتَنِي وأنا عَبْدُكَ، وأنا عَلى عَهْدِك ووَعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ ما صَنَعْتُ أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلى، وأبُوءُ بِذَنْبِي، فاغْفِرْ لِي، إنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا أنْتَ”.
فأقر بتوحيد الربوبية المتضمن لانفراده سبحانه بالخلق وعموم المشيئة ونفوذها، وتوحيد الإلهية المتضمن لمحبته وعبادته وحده لا شريك له والاعتراف بالعبودية المتضمن للافتقار من جميع الوجوه إليه سبحانه.
* (فصل)
وَفِي جامِعِ التِّرْمِذِيِّ وصَحِيحِ الحاكِمِ مِن حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قالَ: «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ، إذْ دَعا وهو في بَطْنِ الحُوتِ ” {لا إلَهَ إلّا أنْتَ سُبْحانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ}
إنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِها مُسْلِمٌ في شَيْءٍ قَطُّ إلّا اسْتَجابَ اللَّهُ لَهُ». قالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وهو في الصحيح المسند
وَفِي مُسْتَدْرَكِ الحاكِمِ أيْضًا مِن حَدِيثِ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – «ألا أُخْبِرُكم بِشَيْءٍ إذا نَزَلَ بِرَجُلٍ مِنكم أمْرٌ مُهِمٌّ، فَدَعا بِهِ يُفَرِّجُ اللَّهُ عَنْهُ؟ دُعاءُ ذِي النُّونِ».
وَفِي صَحِيحِهِ أيْضًا عَنْهُ أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – وهو يَقُولُ: «هَلْ أدُلُّكم عَلى اسْمِ اللَّهِ الأعْظَمِ؟ دُعاءِ يُونُسَ، فَقالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ كانَ لِيُونُسَ خاصَّةً؟ فَقالَ ألا تَسْمَعُ قَوْلَهُ: {فاسْتَجَبْنا لَهُ ونَجَّيْناهُ مِنَ الغَمِّ وكَذَلِكَ نُنْجِي المُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: (88)] فَأيُّما مُسْلِمٍ دَعا بِها في مَرَضِهِ أرْبَعِينَ مَرَّةً فَماتَ في مَرَضِهِ ذَلِكَ أُعْطِيَ أجْرَ شَهِيدٍ، وإنْ بَرِئَ بَرِئَ مَغْفُورًا لَهُ».
وَقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ما كَرَبَ نَبِيٌّ مِنَ الأنْبِياءِ، إلّا اسْتَغاثَ بِالتَّسْبِيحِ. انتهى
تنبيه: ما ورد أن دعوة ذي النون هي الاسم الأعظم فلم يصح. راجع تكميل النفع بما لم يصح فيه وقف ولا رفع.
قال البقاعي:
{أنْ لا إلَهَ إلا أنْتَ}
ولَمّا نَزَّهَهُ عَنِ الشَّرِيكِ عَمَّ فَقالَ: {سُبْحانَكَ} أيْ تَنَزَّهْتَ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، فَلا يَقْدِرُ عَلى الإنْجاءِ مِن مِثْلِ ما أنا فِيهِ غَيْرُكَ؛ ثُمَّ أفْصَحَ بِطَلَبِ الخَلاصِ بِقَوْلِهِ ناسِبًا إلى نَفْسِهِ مِنَ النَّقْصِ ما نَزَّهَ اللَّهَ عَنْ مِثْلِهِ: {إنِّي كُنْتُ} أيْ كَوْنًا كَبِيرًا {مِنَ الظّالِمِينَ} أيْ في خُرُوجِي مِن بَيْنِ قَوْمِي قَبْلَ الإذْنِ، فاعْفُ عَنِّي كَما هي شِيمَةُ القادِرِينَ
قال السعدي: فنادى في تلك الظلمات: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فأقر لله تعالى بكمال الألوهية، ونزهه عن كل نقص، وعيب وآفة، واعترف بظلم نفسه وجنايته
قال الشنقيطي:
وَقَوْلُهُ: {فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: (87)] فِيهِ وجْهانِ مِنَ التَّفْسِيرِ لا يَكْذِّبُ أحَدُهُما الآخَرَ:
الأوَّلُ: أنَّ المَعْنى لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أيْ: لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ في بَطْنِ الحُوتِ. ومِن إطْلاقِ ”قَدَرَ“ بِمَعْنى ”ضَيَّقَ“ في القُرْآنِ قَوْلُهُ تَعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ ويَقْدِرُ} [الرعد: (26)] أيْ: ويُضَيِّقُ الرِّزْقَ عَلى مَن يَشاءُ، وقَوْلِهِ تَعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللَّهُ} الآيَةَ [الطلاق: (7)]. فَقَوْلُهُ: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: (7)] أيْ: ومَن ضُيِّقَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ.
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ مَعْنى لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء: (87)] لَنْ نَقْضِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وعَلَيْهِ فَهو مِنَ القَدَرِ والقَضاءِ. ”وَقَدَرَ“ بِالتَّخْفِيفِ تَاتِي بِمَعْنى ”قَدَّرَ“ المُضَعَّفَةِ: ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: {فالتَقى الماءُ عَلى أمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: (12)] أيْ: قَدَّرَهُ اللَّهُ
أمّا قَوْلُ مَن قالَ: إنَّ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء: (87)] مِنَ القُدْرَةِ فَهو قَوْلٌ باطِلٌ بِلا شَكٍّ؛ لِأنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يُونُسَ لا يَشُكُّ في قُدْرَةِ اللَّهِ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، كَما لا يَخْفى.
وَقَوْلُهُ تَعالى: {فَنادى في الظُّلُماتِ}. أيْ: ظُلْمَةِ البَحْرِ، وظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وظُلْمَةِ بَطْنِ الحُوتِ. ”وَأنْ“ في قَوْلِهِ: {أنْ لا إلَهَ إلّا أنْتَ} [الأنبياء: (87)] مُفَسِّرَةٌ، وقَدْ أوْضَحْنا فِيما تَقَدَّمَ مَعْنى ”أنْ لا إلَهَ“، ومَعْنى ”سُبْحانَكَ“، ومَعْنى الظُّلْمِ، فَأغْنى ذَلِكَ عَنْ إعادَتِهِ هُنا.
——-
قال تعالى:
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبا وَرَهَبا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (90) سورة الأنبياء
قال ابن جرير:
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد – صلى الله عليه وسلم -:
واذكر يا محمد زكريا حين نادى ربه {رَبِّ لا تَذَرْنِي} وحيدا {فَرْدًا} لا ولد لي ولا عقب {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} يقول: فارزقني وارثا من آل يعقوب يرثني، ثم ردّ الأمر إلى الله فقال وأنت خير الوارثين، يقول الله جلّ ثناؤه: فاستجبنا لزكريا دعاءه، ووهبنا له يحيى ولدا ووارثا يرثه، وأصلحنا له زوجه.
قال البغوي:
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ} دَعَا رَبَّهُ، {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} وَحِيدًا لَا وَلَدَ لِي وَارْزُقْنِي وَارِثًا، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ وَأَنَّهُ أَفْضَلُ مَنْ بَقِيَ حَيًّا.
قال ابن كثير:
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ زَكَرِيَّا، حِينَ طَلَبَ أَنْ يَهبَه اللَّهُ وَلَدًا، يَكُونُ مِنْ بَعْدِهِ نَبِيًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْقِصَّةُ مَبْسُوطَةً فِي أَوَّلِ سُورَةِ “مَرْيَمَ” وَفِي سُورَةِ “آلِ عِمْرَانَ” أَيْضًا، وَهَاهُنَا أَخْصَرُ مِنْهُمَا؛ {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} أَيْ: خُفْيَةً عَنْ قَوْمِهِ: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} أَيْ: لَا ولدَ لِي وَلَا وارثَ يَقُومُ بَعْدِي فِي النَّاسِ، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} دُعَاءٌ وَثَنَاءٌ مُنَاسِبٌ لِلْمَسْأَلَةِ.
قال البقاعي:
{وزَكَرِيّا} أيِ اذْكُرْهُ {إذْ نادى رَبَّهُ} نِداءَ الحَبِيبِ القَرِيبِ فَقالَ: {رَبِّ} بِإسْقاطِ أداةِ البُعْدِ {لا تَذَرْنِي فَرْدًا} [أيْ -] مِن غَيْرِ ولَدٍ يَرِثُ ما آتَيْتَنِي مِنَ الحِكْمَةِ.
ولَمّا كانَ مِنَ الوارِثِ مَن يُحِبُّ مَن يَحْجُبُهُ مِنَ الإرْثِ أوْ يُشارِكُهُ فِيهِ، ومِنهم مَن لا يُحِبُّ ذَلِكَ
وكانَ اللَّهُ هو الغَنِيَّ الحَمِيدَ، الحَكِيمَ المَجِيدَ، قالَ مُلَوِّحًا بِمَقْصِدِهِ في أُسْلُوبِ الإلْهابِ والتَّهْيِيجِ: ”وأنْتَ“ [أيْ والحالُ أنَّكَ -] {خَيْرُ الوارِثِينَ} لِأنَّكَ أغْناهم عَنِ الإرْثِ وأحْسَنُهم تَصَرُّفًا، وكَثِيرًا ما تَمْنَحُ إرْثَ بَعْضِ عَبِيدِكَ عَبِيدًا آخَرِينَ، فَأنْتَ الحَقِيقُ بِأنْ تَفْعَلَ في إرْثِي مِنَ العِلْمِ والحِكْمَةِ ما أُحِبُّهُ، فَتَهَبُنِي ولَدًا تَمُنُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ
قال القرطبي:
وأنت خير الوارثين أي خير من يبقى بعد كل من يموت؛ وإنما قال وأنت خير الوارثين لما تقدم من قوله: يرثني أي أعلم أنك، لا تضيع دينك، ولكن لا تقطع هذه الفضيلة التي هي القيام بأمر الدين عن عقبي.
قال الواحدي:
وقوله تعالى: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} قال ابن عباس: أفضل الوارثين.
وقال المفسرون: رد الأمر إلى الله
ومعنى هذا: إنه أثنى على الله بأنه الباقي بعد فناء خلقه، وأنه أفضل من بقي حيًّا بعد ميت، وأن الخلق كلهم يموتون ويبقى هو، هذا معنى قولهم رد الأمر إلى الله
تنبيه: معنى قول المفسرين. رد الأمر إلى الله، ما قاله وابن جزي 3/ 67، وأبو حيان 6/ 636: ثم رد أمره إلى الله مستسلمًا، فقال (وأنت خير الوارثين) أي: إن لم ترزقني من يرثني، فلا أبالي فإنك خير وارث.
قال الألوسي: وقد اعترض على هذا الوجه وأنه لا يناسب مقام الدعاء فإن من آداب الداعي أن يدعو بجد واجتهاد وتصميم منه …. ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: لَيْسَ هَذا مِن قَبِيلِ ارْزُقْنِي إنْ شِئْتَ إذْ لَيْسَ المَقْصُودُ مِنهُ إلّا إظْهارَ الرِّضا والِاعْتِمادَ عَلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ لَوْ لَمْ يُجِبْ دُعاءَهُ ولَيْسَ المَقْصُودُ مِنَ ارْزُقْنِي إنْ شِئْتَ ذَلِكَ فَتَأمَّلْ.
تفسير الألوسي 17/ 87
فالأقرب أن معنى قوله {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} ما قاله ابن كثير -رحمه الله- في “تفسيره” 3/ 193: دعاء وثناء مناسب للمسألة. (قاله محقق تفسير الواحدي)
قال ابن عاشور:
وأُطْلِقَ الفَرْدُ عَلى مَن لا ولَدَ لَهُ تَشْبِيهًا لَهُ بِالمُنْفَرِدِ الَّذِي لا قَرِينَ لَهُ.
{وأنْتَ خَيْرُ الوارِثِينَ} ثَناءٌ لِتَمْهِيدِ الإجابَةِ، أيْ أنْتَ الوارِثُ الحَقُّ فاقْضِ عَلَيَّ مِن صِفَتِكَ العَلِيَّةِ شَيْئًا. وقَدْ شاعَ في الكِتابِ والسُنَّةِ ذِكْرُ صِفَةٍ مِن صِفاتِ اللَّهِ عِنْدَ سُؤالِهِ إعْطاءَ ما هو مِن جِنْسِها، كَما قالَ أيُّوبُ وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ، ودَلَّ ذِكْرُ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ سَألَ الوَلَدَ لِأجْلِ أنْ يَرِثَهُ كَما في آيَةِ سُورَةِ مَرْيَمَ {يَرِثُنِي ويَرِثُ مِن آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: (6)]
قال القاسمي:
وقَوْلُهُ: {وأنْتَ خَيْرُ الوارِثِينَ} ثَناءٌ مُناسِبٌ لِلْمَسْألَةِ. قالَ الغَزالِيُّ في (شَرْحِ الأسْماءِ الحُسْنى): الوارِثُ هو الَّذِي تَرْجِعُ إلَيْهِ الأمْلاكُ بَعْدَ فَناءِ المُلّاكِ. وذَلِكَ هو اللَّهُ سُبْحانَهُ، إذْ هو الباقِي بَعْدَ فَناءِ خَلْقِهِ، وإلَيْهِ مَرْجِعُ كُلِّ شَيْءٍ ومُصَيِّرُهُ.
قال البيضاوي:
{كانُوا يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ} يُبادِرُونَ إلى أبْوابِ الخَيْرِ. {وَيَدْعُونَنا رَغَبًا ورَهَبًا} ذَوِي رَغَبٍ ورَهَبٍ، أوْ راغِبِينَ في الثَّوابِ راجِينَ لِلْإجابَةِ، أوْ في الطّاعَةِ وخائِفِينَ العِقابَ أوِ المَعْصِيَةَ. {وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ} مُخْبَتِينَ أوْ دائِبِينَ الوَجِلَ، والمَعْنى أنَّهم نالُوا مِنَ اللَّهِ ما نالُوا بِهَذِهِ الخِصالِ.
– توسّل إليه بما يناسب مطلوبه باسمه تعالى: {خَيْرُ الوارِثِينَ}، بل أتى على وزن (افعل) للتفضيل زيادة في المبالغة في الثناء على اللَّه تعالى، استعطافًا للإجابة.
{ويَدْعُونَنا رَغَبًا ورَهَبًا}: أي وكانوا أيضًا يفزعون إلينا بالدعوات، ويسألون الأمور المرغوب فيها، من مصالح الدنيا والآخرة، ويتعوّذون من الأمور المرهوب منها، من مضارّ الدنيا والآخرة، في حال الرخاء، وفي حال الشِّدّة، وجاء اللفظ بصيغة المضارع: {ويَدْعُونَنا}: لفائدتين:
(1) – كثرة سؤالهم، ومداومتهم في الدعاء بالرغبة والرهبة، كما أفاد الفعل المضارع {يُسارِعُونَ}.
(2) – تصور صورتهم الجميلة في الذهن، فكأنّ المخاطب يراها في حينه، فينشأ عن ذلك التأسي في فعلهم والاقتداء بهم.
أما الفوائد فقد ذُكرت مستوفاة كما في الدعوة السابقة فليرجع إليها. (شرح الدعاء من الكتاب والسنة – معاصر)
قال السعدي:
أي: واذكر عبدنا ورسولنا زكريا، منوها بذكره، ناشرا لمناقبه وفضائله، التي من جملتها، هذه المنقبة العظيمة المتضمنة لنصحه للخلق، ورحمة الله إياه، وأنه {نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} أي: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّاسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا* وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَاءِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}
من هذه الآيات علمنا أن قوله {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} أنه لما تقارب أجله، خاف أن لا يقوم أحد بعده مقامه في الدعوة إلى الله، والنصح لعباد الله، وأن يكون في وقته فردا، ولا يخلف من يشفعه ويعينه، على ما قام به، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} أي: خير الباقين، وخير من خلفني بخير، وأنت أرحم بعبادك مني، ولكني أريد ما يطمئن به قلبي، وتسكن له نفسي، ويجري في موازيني ثوابه.
ولما ذكر هؤلاء الأنبياء والمرسلين، كلا على انفراده، أثنى عليهم عموما فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} أي: يبادرون إليها ويفعلونها في أوقاتها الفاضلة، ويكملونها على الوجه اللائق الذي ينبغي ولا يتركون فضيلة يقدرون عليها، إلا انتهزوا الفرصة فيها، {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} أي: يسألوننا الأمور المرغوب فيها، من مصالح الدنيا والآخرة، ويتعوذون بنا من الأمور المرهوب منها، من مضار الدارين، وهم راغبون راهبون لا غافلون، لاهون ولا مدلون، {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} أي: خاضعين متذللين متضرعين، وهذا لكمال معرفتهم بربهم.
تنبيه معنى (ولا مدلون) التي ذكرها السعدي:
قال ابوعبيد في الغريبين في مادة دلل:
قال شمر: الدل والدلال: حسن الحديث وحسن الهيئة قال: ويقال: هي تدل عليه أي تجترئ، يقال: ما دلك على فلان أي ما جرأك، وقال الليث: تدلات المراة على زوجها وذلك أن تزيد جرأة عليه في تفنج وشكل كأنها تخالفه وليس بها خلاف، والدالة: ممن يدل على من له عبد مغير له شبه جرأة منه،
والسمت: أيضًا حسن الهيئة، ويقال: لفلان عليك دالة وتدلل وإدلال ومدل بصحبته عليك إدلالًا، ودالة أي مجترئ، قاله أبو الهيثم.
وفي معجم اللغة:
(1836) – د ل ل
أدلَّ بـ/ أدلَّ على يُدِلّ، أدْلِلْ/ أدِلَّ، إدْلالًا، فهو مُدِلّ، والمفعول مُدَلّ به
• أدلَّ الشَّخصُ بكذا: افتَخر به، ازْدَهى به «أدلَّ بشجاعته أو بفضله- أدلّ بحسبه ونسبه».
• أدلَّ على فلانٍ: وثِقَ بمحبَّته فتجرَّأ عليه، عامله بلا تكلُّف «أدلّ فأمَلّ [مثل]: أظهر من الدَّلال ما أدّى إلى الضَّجر والملل».
معجم اللغة العربية المعاصرة (1) / (763)
في نضرة النعيم:
الفرق بين العجب والإدلال:
الإدلال وراء العجب، فلا مدل إلا وهو معجب، ورب معجب لا يدل، إذ العجب يحصل بالاستعظام ونسيان النعمة دون توقع جزاء عليه، والإدلال لا يتم إلا مع توقع جزاء، فإن توقع إنسان إجابة دعوته، واستنكر ردها بباطنه وتعجب منه كان مدلا بعمله، لأنه لا يتعجب من رد دعاء الفاسق، ويتعجب من رد دعاء نفسه، وكلاهما أي العجب والإدلال من مقدمات الكبر وأسبابه.