: (4) بيان الوسيلة في آيات القرآن الكريمة
جمع سيف بن دورة الكعبي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف الشيخ د. سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إماراتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال تعالى:
سورة الأعراف
{وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَاذَا لَمَكْر مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَاف ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَا ءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)} [الأعراف (120) – (126)]
قال ابن عطية:
هَذا تَسْلِيمٌ مِن مُؤْمِنِي السَحَرَةِ، واتِّكالٌ عَلى اللهِ وثِقَةٌ بِما عِنْدَهُ.
وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: “تَنْقِمُ” بِكَسْرِ القافِ، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ، وأبُو البَرَهْسَمِ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، والحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: “تَنْقَمُ” بِفَتْحِها، وهُما لُغَتانِ. قالَ أبُو حاتِمٍ: الوَجْهُ في القِراءَةِ كَسْرُ القافِ، وكُلُّ العُلَماءِ أنْشَدَ بَيْتَ ابْنِ الرُقَيّاتِ:
ما نَقَمُوا مِن بَنِي أُمَيَّةَ …….
بِفَتْحِ القافِ. ومَعْناهُ: وما تَعُدُّ عَلَيْنا ذَنْبًا وتُؤاخِذُنا بِهِ.
وقَوْلُهُمْ: {أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا} مَعْناهُ: عُمَّنا كَما يَعُمُّ الماءُ مَن أُفْرِغَ عَلَيْهِ،
قال أبوالسعود:
{وَما تَنْقِمُ مِنّا}؛ أيْ: وما تُنْكِرُ وتَعِيبُ مِنّا.
{إلا أنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتْنا} وهو خَيْرُ الأعْمالِ وأصْلُ المَفاخِرِ، لَيْسَ مِمّا يَتَأتّى لَنا العُدُولُ عَنْهُ طَلَبًا لِمَرْضاتِكَ، ثُمَّ أعْرَضُوا عَنْ مُخاطَبَتِهِ إظْهارًا لِما في قُلُوبِهِمْ مِنَ العَزِيمَةِ عَلى ما قالُوا وتَقْرِيرًا لَهُ.
فَفَزِعُوا إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وقالُوا: {رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا}؛ أيْ: أفِضْ عَلَيْنا مِنَ الصَّبْرِ ما يَغْمُرُنا كَما يَغْمُرُ الماءُ، أوْ صُبَّ عَلَيْنا ما يُطَهِّرُنا مِن أوَضارِ الأوْزارِ وأدْناسِ الآثامِ، وهو الصَّبْرُ عَلى وعِيدِ فِرْعَوْنَ.
{وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ} ثابِتِينَ عَلى ما رَزَقْتَنا مِنَ الإسْلامِ غَيْرَ مَفْتُونِينَ مِنَ الوَعِيدِ، قِيلَ: فَعَلَ بِهِمْ ما أوْعَدَهم بِهِ، وقِيلَ: لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: {أنْتُما ومَنِ اتَّبَعَكُما الغالِبُونَ}
قال ابن عاشور:
{وأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ} {قالُوا آمَنّا بِرَبِّ العالَمِينَ} {رَبِّ مُوسى وهارُونَ} {قالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكم إنَّ هَذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ في المَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنها أهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} {لَأُقَطِّعَنَّ أيْدِيَكم وأرْجُلَكم مِن خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكم أجْمَعِينَ} {قالُوا إنّا إلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ} {وما تَنْقِمُ مِنّا إلّا أنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتْنا رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا وتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ}
.. وفُصِلَتْ جُمْلَةُ قالُوا إنّا إلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ لِوُقُوعِها في سِياقِ المُحاوَرَةِ.
والِانْقِلابُ: الرُّجُوعُ وقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وهَذا جَوابٌ عَنْ وعِيدِ فِرْعَوْنَ بِأنَّهُ وعِيدٌ لا يُضِيرُهم، لِأنَّهم يَعْلَمُونَ أنَّهم صائِرُونَ إلى اللَّهِ رَبِّ الجَمِيعِ، وقَدْ جاءَ هَذا الجَوابُ مُوجَزًا إيجازًا بَدِيعًا؛ لِأنَّهُ يَتَضَمَّنُ أنَّهم يَرْجُونَ ثَوابَ اللَّهِ عَلى ما يَنالُهم مِن عَذابِ فِرْعَوْنَ، ويَرْجُونَ مِنهُ مَغْفِرَةَ ذُنُوبِهِمْ، ويَرْجُونَ العِقابَ لِفِرْعَوْنَ عَلى ذَلِكَ، وإذا كانَ المُرادُ بِالصَّلْبِ القَتْلَ وكانَ المُرادُ تَهْدِيدَ جَمِيعِ المُؤْمِنِينَ، كانَ قَوْلُهم إنّا إلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ تَشَوُّقًا إلى حُلُولِ ذَلِكَ بِهِمْ مَحَبَّةً لِلِقاءِ اللَّهِ – تَعالى -، فَإنَّ اللَّهَ – تَعالى – لَمّا هَداهم إلى الإيمانِ أكْسَبَهم مَحَبَّةَ لِقائِهِ، ثُمَّ بَيَّنُوا أنَّ عِقابَ فِرْعَوْنَ لا غَضاضَةَ عَلَيْهِمْ مِنهُ، لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ جِنايَةٍ تَصِمُهم بَلْ كانَ عَلى الإيمانِ بِآياتِ اللَّهِ لَمّا ظَهَرَتْ لَهم. أيْ: فَإنَّكَ لا تَعْرِفُ لَنا سَبَبًا يُوجِبُ العُقُوبَةَ غَيْرَ ذَلِكَ.
والنَّقْمُ: بِسُكُونِ القافِ وبِفَتْحِها، الإنْكارُ عَلى الفِعْلِ، وكَراهَةُ صُدُورِهِ، وحِقْدٌ عَلى فاعِلِهِ، ويَكُونُ بِاللِّسانِ وبِالعَمَلِ، وفِعْلُهُ مِن بابِ ضَرَبَ وتَعِبَ، والأوَّلُ أفْصَحُ، ولِذَلِكَ قَرَأهُ الجَمِيعُ وما تَنْقِمُ بِكَسْرِ القافِ.
والِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِمْ إلّا أنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا مُتَّصِلٌ؛ لِأنَّ الإيمانَ يَنْقِمُهُ فِرْعَوْنُ عَلَيْهِمْ، فَلَيْسَ في الكَلامِ تَاكِيدُ الشَّيْءِ بِما يُشْبِهُ ضِدَّهُ.
وجُمْلَةُ رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا مِن تَمامِ كَلامِهِمْ، وهي انْتِقالٌ مِن خِطابِهِمْ فِرْعَوْنَ إلى التَّوَجُّهِ إلى دُعاءِ اللَّهِ – تَعالى -، ولِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها.
ومَعْنى قَوْلِهِ رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا اجْعَلْ لَنا طاقَةً لِتَحَمُّلِ ما تَوَعَّدَنا بِهِ فِرْعَوْنُ.
ولَمّا كانَ ذَلِكَ الوَعِيدُ مِمّا لا تُطِيقُهُ النُّفُوسُ سَألُوا اللَّهَ أنْ يَجْعَلَ لِنُفُوسِهِمْ صَبْرًا قَوِيًّا، يَفُوقُ المُتَعارَفَ، فَشُبِّهَ الصَّبْرُ بِماءٍ تَشْبِيهَ المَعْقُولِ بِالمَحْسُوسِ، عَلى طَرِيقَةِ الِاسْتِعارَةِ المَكْنِيَّةِ، وشُبِّهَ خَلْقُهُ في نُفُوسِهِمْ بِإفْراغِ الماءِ مِنَ الإناءِ عَلى طَرِيقَةِ التَّخْيِيلِيَّةِ، فَإنَّ الإفْراغَ صَبُّ جَمِيعِ ما في الإناءِ، والمَقْصُودُ مِن ذَلِكَ الكِنايَةُ عَنْ قُوَّةِ الصَّبْرِ لِأنَّ إفْراغَ الإناءِ يَسْتَلْزِمُ أنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ شَيْءٌ مِمّا حَواهُ، فاشْتَمَلَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ عَلى مَكْنِيَّةٍ وتَخْيِيلِيَّةٍ وكِنايَةٍ.
وتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ في قَوْلِهِ – تَعالى – قالُوا رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا في سُورَةِ البَقَرَةِ.
ودَعَوْا لِأنْفُسِهِمْ بِالوَفاةِ عَلى الإسْلامِ إيذانًا بِأنَّهم غَيْرُ راغِبِينَ في الحَياةِ، ولا مُبالِينَ بِوَعِيدِ فِرْعَوْنَ، وأنَّ هِمَّتَهم لا تَرْجُو إلّا النَّجاةَ في الآخِرَةِ، والفَوْزَ بِما عِنْدَ اللَّهِ، وقَدِ انْخَذَلَ بِذَلِكَ فِرْعَوْنُ، وذَهَبَ وعِيدُهُ باطِلًا، ولَعَلَّهُ لَمْ يُحَقِّقْ ما تَوَعَّدَهم بِهِ لِأنَّ اللَّهَ أكْرَمَهم فَنَجّاهم مِن خِزْيِ الدُّنْيا كَما نَجّاهم مِن عَذابِ الآخِرَةِ.
والقُرْآنُ لَمْ يَتَعَرَّضْ هُنا، ولا في سُورَةِ الشُّعَراءِ، ولا في سُورَةِ طَهَ، لِلْإخْبارِ عَنْ وُقُوعِ ما تَوَعَّدَهم بِهِ فِرْعَوْنُ لِأنَّ غَرَضَ القَصَصِ القُرْآنِيَّةِ هو الِاعْتِبارُ بِمَحَلِّ العِبْرَةِ وهو تَايِيدُ اللَّهِ مُوسى وهِدايَةُ السَّحَرَةِ وتَصَلُبُهم في إيمانِهِمْ بَعْدَ تَعَرُّضِهِمْ لِلْوَعِيدِ بِنُفُوسٍ مُطْمَئِنَّةٍ.
ولَيْسَ مِن غَرَضِ القُرْآنِ مَعْرِفَةُ الحَوادِثِ كَما قالَ في سُورَةِ النّازِعاتِ {إنَّ في ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَن يَخْشى} [النازعات: (26)]، فاخْتِلافُ المُفَسِّرِينَ في البَحْثِ عَنْ تَحْقِيقِ وعِيدِ فِرْعَوْنَ زِيادَةٌ في تَفْسِيرِ الآيَةِ.
والظّاهِرُ أنَّ فِرْعَوْنَ أُفْحِمَ لَمّا رَأى قِلَّةَ مُبالاتِهِمْ بِوَعِيدِهِ فَلَمْ يَرُدَّ جَوابًا.
وذِكْرُهُمُ الإسْلامَ في دُعائِهِمْ يَدُلُّ عَلى أنَّ اللَّهَ ألْهَمَهم حَقِيقَتَهُ الَّتِي كانَ عَلَيْها النَّبِيُّونَ والصِّدِّيقُونَ مِن عَهْدِ إبْراهِيمَ – عَلَيْهِ السَّلامُ -.
والظّاهِرُ أنَّ كَلِمَةَ مُسْلِمِينَ تَعْبِيرُ القُرْآنِ عَنْ دُعائِهِمْ بِأنْ يَتَوَفّاهُمُ اللَّهُ عَلى حالَةِ الصِّدِّيقِينَ، وهي الَّتِي يَجْمَعُ لَفْظُ الإسْلامِ تَفْصِيلَها، وقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ مَعْنى كَوْنِ الإسْلامِ وهو دِينُ الأنْبِياءِ عِنْدَ قَوْلِهِ فَلا تَمُوتُنَّ إلّا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ في سُورَةِ البَقَرَةِ.
====
قال تعالى:
(وَلَمَّا جَا ءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَاكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)
[سورة الأعراف 143]
قدَّم موسى وسيلة التنزيه وختم بوسيلة الإقرار بالإيمان.
قال الطبري:
القول في تأويل قوله: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ((143))}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما ثاب إلى موسى عليه السلام فهمه من غشيته، وذلك هو الإفاقة من الصعقة التي خرّ لها موسى – عليه السلام – ” قال سبحانك”، تنزيهًا لك، يا رب، وتبرئةً أن يراك أحد في الدنيا، ((38)) ثم يعيش = “تبت إليك”، من مسألتي إياك ما سألتك من الرؤية= “وأنا أوّل المؤمنين”، بك من قومي، أن لا يراك في الدنيا أحد إلا هلك.
قال البقاعي:
{فَلَمّا أفاقَ} أيْ: مِن غَشْيَتِهِ {قالَ سُبْحانَكَ} أيْ: تَنْزِيهًا لَكَ عَنْ أنْ أطْلُبَ مِنكَ ما لَمْ تَاذَنْ فِيهِ {تُبْتُ إلَيْكَ} أيْ: مِن ذَلِكَ {وأنا أوَّلُ المُؤْمِنِينَ} أيْ: مُبادِرٌ غايَةَ المُبادَرَةِ إلى الإيمانِ بِكُلِّ ما أخْبَرْتَ بِهِ كُلَّ ما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الآياتُ، [فَتَعْبِيرُهُ بِالإيمانِ في غايَةِ المُناسَبَةِ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ لِأنَّ شَرْطَ الإيمانِ أنْ يَكُونَ بِالغَيْبِ
قال ابن عاشور:
وسُبْحانَكَ مَصْدَرٌ جاءَ عِوَضًا عَنْ فِعْلِهِ أيْ: أُسَبِّحُكَ وهو هُنا إنْشاءُ ثَناءٍ عَلى اللَّهِ وتَنْزِيهٍ عَمّا لا يَلِيقُ بِهِ، لِمُناسَبَةِ سُؤالِهِ مِنهُ ما تَبَيَّنَ لَهُ أنَّهُ لا يَلِيقُ بِهِ سُؤالُهُ دُونَ اسْتِئْذانِهِ وتَحَقُّقِ إمْكانِهِ كَما قالَ – تَعالى – لِنُوحٍ فَلا تَسْألْنِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ في سُورَةِ هُودٍ.
وقَوْلُهُ ({تُبْتُ إلَيْكَ}) إنْشاءٌ لِتَوْبَةٍ مِنَ العَوْدِ إلى مِثْلِ ذَلِكَ دُونَ إذْنٍ مِنَ اللَّهِ، وهَذا كَقَوْلِ نُوحٍ – عَلَيْهِ السَّلامُ – {رَبِّ إنِّي أعُوذُ بِكَ أنْ أسْألَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود: (47)]. وصِيغَةُ – الماضِي مِن قَوْلِهِ تُبْتُ مُسْتَعْمَلَةٌ في الإنْشاءِ فَهي مُسْتَعْمَلَةٌ في زَمَنِ الحالِ مِثْلَ صِيَغِ العُقُودِ في قَوْلِهِمْ بِعْتُ وزَوَّجْتُ، مُبالَغَةً في تَحَقُّقِ العَقْدِ.
وقَوْلُهُ {وأنا أوَّلُ المُؤْمِنِينَ} أُطْلِقَ (الأوَّلُ) عَلى المُبادِرِ إلى الإيمانِ، وإطْلاقُ الأوَّلِ عَلى المُبادِرِ مَجازٌ شائِعٌ مُساوٍ لِلْحَقِيقَةِ، والمُرادُ بِهِ هُنا وفي نَظائِرِهِ – الكِنايَةُ عَنْ قُوَّةِ إيمانِهِ، حَتّى إنَّهُ يُبادِرُ إلَيْهِ حِينَ تَرَدُّدِ غَيْرِهِ فِيهِ، فَهو لِلْمُبالَغَةِ وقَدْ
تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ في قَوْلِهِ – تَعالى – {ولا تَكُونُوا أوَّلَ كافِرٍ بِهِ} [البقرة: (41)] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وقَوْلِهِ {وأنا أوَّلُ المُسْلِمِينَ} [الأنعام: (163)] في سُورَةِ الأنْعامِ.
والمُرادُ بِالمُؤْمِنِينَ مَن كانَ الإيمانُ وصْفَهم ولَقَبَهم، أيِ الإيمانُ بِاللَّهِ وصِفاتِهِ كَما يَلِيقُ بِهِ، فالإيمانُ مُسْتَعْمَلٌ في مَعْناهُ اللَّقَبِيِّ، ولِذَلِكَ شُبِّهَ الوَصْفُ بِأفْعالِ السَّجايا فَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ مُتَعَلِّقٌ، ومَن ذَهَبَ مِنَ المُفَسِّرِينَ يُقَدِّرُ لَهُ مُتَعَلِّقًا فَقَدْ خَرَجَ عَنْ نَهْجِ المَعْنى.
قال السعدي:
قَالَ سُبْحَانَكَ أي: تنزيها لك، وتعظيما عما لا يليق بجلالك تُبْتُ إِلَيْكَ من جميع الذنوب، وسوء الأدب معك وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أي: جدد عليه الصلاة والسلام إيمانه، بما كمل اللّه له مما كان يجهله قبل ذلك، فلما منعه اللّه من رؤيته – بعدما ما كان متشوقا إليها – أعطاه خيرا كثيرا
——
قال تعالى:
لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) سورة الأعراف
قال الطبري:
ومعنى قوله: {لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا}،: لئن لم يتعطف علينا ربنا بالتوبة برحمته، ويتغمد بها ذنوبنا، لنكونن من الهالكين الذين حبطت أعمالهم
قال ابن كثير:
{لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أَيْ: مِنَ الْهَالِكِينَ وَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِذَنْبِهِمْ وَالْتِجَاءٌ إِلَى اللَّهِ عز وجل.
قال القرطبي:
(قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أَخَذُوا فِي الْإِقْرَارِ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالِاسْتِغْفَارِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: “لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنَا رَبَّنَا وَتَغْفِرْ لَنَا” بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. وَفِيهِ مَعْنَى الِاسْتِغَاثَةِ وَالتَّضَرُّعِ وَالِابْتِهَالِ فِي السُّؤَالِ وَالدُّعَاءِ. “رَبَّنَا” بِالنَّصْبِ عَلَى حَذْفِ النِّدَاءِ. وَهُوَ أَيْضًا أَبْلَغُ فِي الدُّعَاءِ وَالْخُضُوعِ. فَقِرَاءَتُهُمَا أبلغ في الاستكانة والتضرع، فهي أولى.
قال أبوالسعود:
{لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا} بِإنْزالِ التَّوْبَةِ المُكَفِّرَةِ.
{وَيَغْفِرْ لَنا} ذُنُوبَنا بِالتَّجاوُزِ عَنْ خَطِيئَتِنا، وتَقْدِيمُ الرَّحْمَةِ عَلى المَغْفِرَةِ، مَعَ أنَّ التَّخْلِيَةَ حَقُّها أنْ تُقَدَّمَ عَلى التَّحْلِيَةِ، إمّا لِلْمُسارَعَةِ إلى ما هو المَقْصُودُ الأصْلِيُّ، وإمّا لِأنَّ المُرادَ بِالرَّحْمَةِ: مُطْلَقُ إرادَةِ الخَيْرِ بِهِمْ، وهو مَبْدَأٌ لِإنْزالِ التَّوْبَةِ المُكَفِّرَةِ لِذُنُوبِهِمْ.
واللّامُ في ” لَئِنْ ” مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ كَما أُشِيرَ إلَيْهِ، وفي قَوْلِهِ تَعالى: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرِينَ} لِجَوابِ القَسَمِ، وما حُكِيَ عَنْهم مِنَ النَّدامَةِ والرُّؤْيَةِ والقَوْلِ، وإنْ كانَ بَعْدَ ما رَجَعَ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلَيْهِمْ، كَما يَنْطِقُ بِهِ الآياتُ الوارِدَةُ في سُورَةِ طَهَ، لَكِنْ أُرِيدَ بِتَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ حِكايَةُ ما صَدَرَ عَنْهم مِنَ القَوْلِ والفِعْلِ في مَوْضِعٍ واحِدٍ.
قال الشنقيطي:
قَوْلُهُ تَعالى: {وَلَمّا سُقِطَ في أيْدِيهِمْ ورَأوْا أنَّهم قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا ويَغْفِرْ لَنا لِنَكُونُنَّ مِنَ الخاسِرِينَ}.
بَيَّنَ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّ عَبَدَةَ العِجْلِ اعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ، ونَدِمُوا عَلى ما فَعَلُوا، وصَرَّحَ في سُورَةِ ”البَقَرَةِ“ بِتَوْبَتِهِمْ ورِضاهم بِالقَتْلِ وتَوْبَةِ اللَّهِ جَلَّ وعَلا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ إنَّكم ظَلَمْتُمْ أنْفُسَكم بِاتِّخاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُوا إلى بارِئِكم فاقْتُلُوا أنْفُسَكم ذَلِكم خَيْرٌ لَكم عِنْدَ بارِئِكم فَتابَ عَلَيْكم إنَّهُ هو التَّوّابُ الرَّحِيمُ} [(54)].
قال السعدي:
وَلَمَّا رجع موسى إلى قومه، فوجدهم على هذه الحال، وأخبرهم بضلالهم ندموا و سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي: من الهم والندم على فعلهم، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا فتنصلوا، إلى اللّه وتضرعوا و قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا فيدلنا عليه، ويرزقنا عبادته، ويوفقنا لصالح الأعمال، وَيَغْفِرْ لَنَا ما صدر منا من عبادة العجل لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ الذين خسروا الدنيا والآخرة.
—–
قال تعالى:
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151).سورة الأعراف
قال الشوكاني
قَوْلُهُ: {قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ولِأخِي} هَذا كَلامٌ مُسْتَانَفٌ جَوابُ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ، كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا قالَ مُوسى بَعْدَ كَلامِ هارُونَ هَذا؟ فَقِيلَ: قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ولِأخِي طَلَبَ المَغْفِرَةَ لَهُ أوَّلًا، ولِأخِيهِ ثانِيًا لِيُزِيلَ عَنْ أخِيهِ ما خافَهُ مِنَ الشَّماتَةِ، فَكَأنَّهُ تَذَمَّمَ مِمّا فَعَلَهُ بِأخِيهِ، وأظْهَرَ أنَّهُ لا وجْهَ لَهُ، وطَلَبَ المَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ مِمّا فَرَطَ مِنهُ في جانِبِهِ، ثُمَّ طَلَبَ المَغْفِرَةَ لِأخِيهِ إنْ كانَ قَدْ وقَعَ مِنهُ تَقْصِيرٌ فِيما يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الإنْكارِ عَلَيْهِمْ وتَغْيِيرِ ما وقَعَ مِنهم، ثُمَّ طَلَبَ إدْخالَهُ وإدْخالَ أخِيهِ في رَحْمَةِ اللَّهِ الَّتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَهو أرْحَمُ الرّاحِمِينَ.
قال البقاعي:
ولَمّا تَبَيَّنَ لَهُ ما هو اللّائِقُ بِمَنصِبِ أخِيهِ الشَّرِيفِ مِن أنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ في دُعائِهِمْ إلى اللَّهِ ولا ونى في نَهْيِهِمْ عَنِ الضَّلالِ، ورَأى أنَّ ما ظَهَرَ مِنَ الغَضَبِ مُرْهِبٌ لِقَوْمِهِ وازِعٌ لَهم عَمّا ارْتَكَبُوا، دُعاءٌ لَهُ ولِنَفْسِهِ مَعَ الِاعْتِرافِ بِالعَجْزِ وأنَّهُ لا يَسَعُ أحَدًا إلّا العَفْوُ، وساقَ سُبْحانَهُ ذَلِكَ مَساقَ الجَوابِ لِسُؤالٍ بِقَوْلِهِ: {قالَ رَبِّ} أيْ: أيُّها المُحْسِنُ إلَيَّ {اغْفِرْ لِي} أيْ: ما حَمَلَنِي عَلَيْهِ الغَضَبُ لَكَ مِن إيقاعِي بِأخِي {ولأخِي} أيْ: في كَوْنِهِ لَمّا يَبْلُغْ ما كُنْتُ أُرِيدُهُ مِنهُ مِن جِهادِهِمْ.
ولَمّا دَعا بِمَحْوِ التَّقْصِيرِ، أتْبَعَهُ الإكْرامَ فَقالَ: {وأدْخِلْنا} أيْ: أنا وأخِي وكُلُّ مَنِ انْتَظَمَ مَعَنا {فِي رَحْمَتِكَ} لِتَكُونَ غامِرَةً لَنا مُحِيطَةً بِنا؛ ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَأنْتَ خَيْرُ الغافِرِينَ، عَطَفَ عَلَيْهِ {وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ} أيْ: لِأنَّكَ تُنْعِمُ بِما لا يَحْصُرُهُ الجَدُّ ولا يُحْصِيهِ العَدُّ مِن غَيْرِ نَفْعٍ يَصِلُ إلَيْكَ ولا أذًى يَلْحَقُكَ بِفِعْلِ ذَلِكَ ولا تَرْكِهِ
قال السعدي:
فندم موسى عليه السلام على ما استعجل من صنعه بأخيه قبل أن يعلم براءته، مما ظنه فيه من التقصير. و قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأخِي هارون وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ أي: في وسطها، واجعل رحمتك تحيط بنا من كل جانب، فإنها حصن حصين، من جميع الشرور، وثم كل الخير وسرور. وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أي: أرحم بنا من كل راحم، أرحم بنا من آبائنا، وأمهاتنا وأولادنا وأنفسنا.
———-
قال تعالى:
(رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا
مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155).سورة الأعراف
قال ابن الجوزي:
قَوْلُهُ تَعالى: {أتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا} قالَ المُبَرِّدُ: هَذا اسْتِفْهامُ اسْتِعْطافٍ، أيْ: لا تُهْلِكُنا. وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: هَذا اسْتِفْهامٌ عَلى تَاوِيلِ الجَحْدِ، أرادَ: لَسْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ. و”السُّفَهاءُ” هاهُنا: عَبَدَةُ العِجْلِ. وقالَ الفَرّاءُ: ظَنَّ مُوسى أنَّهم أُهْلِكُوا بِاتِّخاذِ أصْحابِهِمُ العَجَلَ. وإنَّما أُهْلِكُوا بِقَوْلِهِمْ: {أرِنا اللَّهَ جَهْرَةً}
قال ابن جزي:
{لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ} يحتمل أن تكون لو هنا للتمني أي تمنوا أن يكون هو وهم قد ماتوا قبل ذلك، لأنه خاف من تشغيب بني إسرائيل عليه إن رجع إليهم دون هؤلاء السبعين، ويحتمل أن يكون قال ذلك على وجه التضرع والاستسلام لأمر الله كأنه قال: لو شئت أن تهلكنا قبل ذلك لفعلت فإنا عبيدك وتحت قهرك، وأنت تفعل ما تشاء، ويحتمل ان يكون قالها على وجه التضرع والرغبة كأنه قال: لو شئت أن تهلكنا قبل اليوم لفعلت، ولكنك عافيتنا وأبقيتنا فافعل معنا الآن ما وعدتنا، وأحي هؤلاء القوم الذين أخذتهم الرجفة {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ} أي أتهلكنا وتهلك سائر بني إسرائيل بما فعل السفهاء الذين طلبوا الرؤية، والذين عبدوا العجل، فمعنى هذا إدلاء بحجته، وتبرؤ من فعل السفهاء، ورغبة إلى الله أن لا يعم الجميع بالعقوبة {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} أي الأمور كلها بيدك {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ} ومعنى هذا: اعتذار عن فعل السفهاء، فإنه كان بقضاء الله ومشيئته {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} أي تبنا، وهذا الكلام الذي قاله موسى عليه السلام إنما هو: استعطاف ورغبة إلى الله وتضرع إليه، ولا يقتضي شيئاً مما توهم الجهال فيه من الجفاء في قوله: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا لأنا قد بينا أنه إنما قال ذلك استعطافاً لله وبراءة من فعل السفهاء
قال ابن القيم:
والذي يظهر – والله أعلم بمراده ومراد نبيه: أن هذا استعطاف من موسى عليه السلام لربه، وتوسل إليه بعفوه عنهم من قبل، حين عبد قومهم العجل، ولم ينكروا عليهم.
يقول موسى: إنهم قد تقدم منهم ما يقتضي هلاكهم. ومع هذا فوسعهم عفوك ومغفرتك، ولم تهلكهم، فليسعهم اليوم ما وسعهم من قبل.
وهذا كما يقول من واخذه سيده بجرم: لو شئت واخذتني من قبل هذا بما هو أعظم من هذا الجرم، ولكن وسعني عفوك أولا، فليسعني اليوم.
ثم قال نبي الله {أتهْلِكُنا بما فَعَلَ السُّفَهاء مِنّا}
فقال ابن الأنباري وغيره: هذا استفهام على معنى الجحد، أي لست تفعل ذلك.
والسفهاء هنا: عبدة العجل.
قال الفراء: ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ قومهم العجل، فقال: {أتُهْلِكُنا بما فَعَلَ السُّفَهاء مِنّا} [الأعراف: (155)].
وإنما كان إهلاكهم بقولهم: {أرِنا اللهَ جَهْرَةً} [البقرة: (55)]
ثم قال {إنّ هِى إلا فِتْنَتُكَ}.
وهذا من تمام الاستعطاف، أي ما هي إلا ابتلاؤك واختبارك لعبادك. فأنت ابتليتهم وامتحنتهم، فالأمر كله لك وبيدك، لا يكشفه إلا أنت، كما لم يمتحن به ويختبر به إلا أنت. فنحن عائذون بك منك. ولاجئون منك إليك.
قال ابن كثير:
وَقَوْلُهُ: {إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ} أَيِ: ابْتِلَاؤُكَ وَاخْتِبَارُكَ وَامْتِحَانُكَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَرَبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَلَا مَعْنَى لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ؛ يَقُولُ: إِنِ الأمرُ إِلَّا أمرُك، وَإِنِ الحكمُ إِلَّا لَكَ، فَمَا شِئْتَ كَانَ، تَضِلُّ مَنْ تَشَاءُ، وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ، وَلَا هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِل لِمَنْ هَدَيت، وَلَا مُعطِي لِمَا مَنَعت، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، فَالْمُلْكُ كُلُّهُ لَكَ، وَالْحُكْمُ كُلُّهُ لَكَ، لَكَ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.
وَقَوْلُهُ: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} الغَفْر هُوَ: السَّتْرُ، وَتَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ، وَالرَّحْمَةُ إِذَا قُرِنَتْ مَعَ الْغَفْرِ، يُرَادُ بِهَا أَلَّا يُوقِعَهُ فِي مِثْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} أَيْ: لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ} هُنَاكَ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ مِنَ الدُّعَاءِ دَفْعُ الْمَحْذُورِ، وَهَذَا لِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ} أَيْ: أَوْجِبْ لَنَا وَأَثْبِتْ لَنَا فِيهِمَا حَسَنَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ [تَفْسِيرُ] ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. [الْآيَةَ: (201)]
{إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أَيْ: تُبْنَا وَرَجَعْنَا وَأَنَبْنَا إِلَيْكَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَير، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالضَّحَّاكُ، وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ، والسُّدِّي، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَهُوَ كَذَلِكَ لُغَة.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُجيَّ ((11)) عَنْ عَلِيٍّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ((12)) قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْيَهُودُ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}
جَابِرٌ -هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الجُعْفي -ضَعِيفٌ.
قال ابن عاشور:
وقَدَّمَ المَغْفِرَةَ عَلى الرَّحْمَةِ لِأنَّ المَغْفِرَةَ سَبَبٌ لِرَحَماتٍ كَثِيرَةٍ، فَإنَّ المَغْفِرَةَ تَنْهِيةٌ لِغَضَبِ اللَّهِ المُتَرَتِّبِ عَلى الذَّنْبِ، فَإذا انْتَهى الغَضَبُ تَسَنّى أنْ يَخْلُفَهُ الرِّضا. والرِّضا يَقْتَضِي الإحْسانَ.
قال السعدي:
فلم يزل موسى عليه الصلاة والسلام، يتضرع إلى اللّه ويتبتل ويقول رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ أن يحضروا ويكونون في حالة يعتذرون فيها لقومهم، فصاروا هم الظالمين أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا أي: ضعفاء العقول، سفهاء الأحلام، فتضرع إلى اللّه واعتذر بأن المتجرئين على اللّه ليس لهم عقول كاملة، تردعهم عما قالوا وفعلوا، وبأنهم حصل لهم فتنة يخطر بها الإنسان، ويخاف من ذهاب دينه فقال: إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ أي: أنت خير من غفر، وأولى من رحم، وأكرم من أعطى وتفضل، فكأن موسى عليه الصلاة والسلام، قال: المقصود يا رب بالقصد الأول لنا كلنا، هو التزام طاعتك والإيمان بك، وأن من حضره عقله ورشده، وتم على ما وهبته من التوفيق، فإنه لم يزل مستقيما، وأما من ضعف عقله، وسفه رأيه، وصرفته الفتنة، فهو الذي فعل ما فعل، لذينك السببين، ومع هذا فأنت أرحم الراحمين، وخير الغافرين، فاغفر لنا وارحمنا. فأجاب اللّه سؤاله، وأحياهم من بعد موتهم، وغفر لهم ذنوبهم.
=====
قال تعالى:
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إنا هُدْنَا إليك ……. (156).سورة الأعراف
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: مخبرًا عن دعاء نبيه موسى عليه السلام أنه قال فيه: “واكتب لنا”، أي: اجعلنا ممن كتَبت له= “في هذه الدنيا حسنَةً”، وهي الصالحات من الأعمال “وفي الآخرة”، ممن كتبتَ له المغفرة لذنوبه … وقوله: “إنا هُدنا إليك”، يقول: إنا تبنا إليك
قال البقاعي:
وكَأنَّهُ أحْسَنَ العَفْوَ عَنْهم فَقالَ عاطِفًا عَلى سُؤالِهِ فِيهِ: {واكْتُبْ لَنا} أيْ: في مُدَّةِ إحْيائِكَ لَنا {فِي هَذِهِ الدُّنْيا} أيِ: الحاضِرَةِ والدَّنِيَّةِ {حَسَنَةً} أيْ: عِيشَةً راضِيَةً طَيِّبَةً {وفِي} الحَياةِ {الآخِرَةِ} أيْ: كَذَلِكَ؛ ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {إنّا هُدْنا} أيْ: تُبْنا {إلَيْكَ} أيْ: عَمّا لا يَلِيقُ بِجَنابِكَ كَما أمَرْتَنا أنْ نُخْبِرَ ما عَساهُ يَقَعُ مِنّا بِالمُبادَرَةِ إلى التَّوْبَةِ، فَبَدَأ بِذِكْرِ عِزَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ وثَنّى بِذِلَّةِ العُبُودِيَّةِ وهُما أقْوى أسْبابِ السَّعادَةِ، وهَذا تَلْقِينٌ لَهم وتَعْلِيمٌ وتَحْذِيرٌ مِن مِثْلِ ما وقَعُوا فِيهِ وحَثٌّ عَلى التَّسْلِيمِ، وكَأنَّهُ لَمّا كانَ ذَنْبُهُمُ الجَهْرَ بِما لا يَلِيقُ بِهِ سُبْحانَهُ مِن طَلَبِ الرُّؤْيَةِ، عَبَّرَ بِهَذا اللَّفْظِ أوْ ما يَدُلُّ عَلى مَعْناهُ تَنْبِيهًا لَهم عَلى أنَّ اسْمَهم يَدُلُّ عَلى التَّوْبَةِ والرُّجُوعِ إلى الحَقِّ والصَّيْرُورَةِ إلى الصَّلاحِ واللِّينِ والضَّعْفِ في الصَّوْتِ والِاسْتِكانَةِ في الكَلامِ والسُّكُوتِ عَمّا لا يَلِيقُ، وأنَّ يَهُودا الَّذِي أُخِذَ اسْمُهُ مِن ذَلِكَ إنَّما سُمُّوا بِهِ ونُسِبُوا إلَيْهِ تَفاؤُلًا لَهم لِيَتَبادَرُوا إلى التَّوْبَةِ.
قال السعدي:
وقال موسى في تمام دعائه وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً من علم نافع، ورزق واسع، وعمل صالح. وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً: وهي ما أعد اللّه لأوليائه الصالحين من الثواب. إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ أي: رجعنا مقرين بتقصيرنا، منيبين في جميع أمورنا. قَالَ اللّه تعالى عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ممن كان شقيا، متعرضا لأسبابه، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ من العالم العلوي والسفلي، البر والفاجر، المؤمن والكافر، فلا مخلوق إلا وقد وصلت إليه رحمة اللّه، وغمره فضله وإحسانه، ولكن الرحمة الخاصة المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة، ليست لكل أحد، ولهذا قال عنها: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ المعاصي، صغارها وكبارها. وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ الواجبة مستحقيها وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ومن تمام الإيمان بآيات اللّه معرفة معناها، والعمل بمقتضاها، ومن ذلك اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا، في أصول الدين وفروعه.
——-
قال تعالى:
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196).سورة الأعراف
قال أبوالسعود:
{إنَّ ولِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الكِتابَ} تَعْلِيلٌ لِعَدَمِ المُبالاةِ المُنْفَهِمِ مِنَ السَّوْقِ انْفِهامًا جَلِيًّا، ووَصْفُهُ تَعالى بِتَنْزِيلِ الكِتابِ لِلْإشْعارِ بِدَلِيلِ الوِلايَةِ، والإشارَةِ إلى عِلَّةٍ أُخْرى لِعَدَمِ المُبالاةِ، كَأنَّهُ قِيلَ: لا أُبالِي بِكم وبِشُرَكائِكم؛ لِأنَّ ولِيِّيَ هو اللَّهُ الَّذِي أنْزَلَ الكِتابَ النّاطِقَ بِأنَّهُ ولِيِّي وناصِرِي، وبِأنَّ شُرَكاءَكم لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أنْفُسِهِمْ فَضْلًا عَنْ نَصْرِكم.
وَقَوْلُهُ تَعالى: {وَهُوَ يَتَوَلّى الصّالِحِينَ} تَذْيِيلٌ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَهُ؛ أيْ: ومِن عادَتِهِ أنْ يَتَوَلّى الصّالِحِينَ مِن عِبادِهِ ويَنْصُرَهم ولا يَخْذُلَهم.
تفسير أبي السعود
قال ابن عاشور
{إنَّ ولِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الكِتابَ وهْوَ يَتَوَلّى الصّالِحِينَ} {والَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكم ولا أنْفُسَهم يَنْصُرُونَ} هَذا مِنَ المَامُورِ بِقَوْلِهِ، وفُصِلَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ عَنْ جُمْلَةِ {ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ} [الأعراف: (195)] لِوُقُوعِها مَوْقِعَ العِلَّةِ لِمَضْمُونِ التَّحَدِّي في قَوْلِهِ {ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ} [الأعراف: (195)] الآيَةَ الَّذِي هو تَحَقُّقُ عَجْزِهِمْ عَنْ كَيْدِهِ، فَهَذا تَعْلِيلٌ لِعَدَمِ الِاكْتِراثِ بِتَألُّبِهِمْ عَلَيْهِ واسْتِنْصارِهِمْ بِشُرَكائِهِمْ، ولِثِقَتِهِ بِأنَّهُ مُنْتَصِرٌ عَلَيْهِمْ بِما دَلَّ عَلَيْهِ الأمْرُ والنَّهْيُ التَّعْجِيزِيّانِ. والتَّاكِيدُ لِرَدِّ الإنْكارِ.
والوَلِيُّ النّاصِرُ والكافِي وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ – تَعالى – {قُلْ أغَيْرَ اللَّهِ أتَّخِذُ ولِيًّا} [الأنعام: (14)].
وإجْراءُ الصِّفَةِ لِاسْمِ اللَّهِ بِالمَوْصُولِيَّةِ لِما تَدُلُّ عَلَيْهِ الصِّلَةُ مِن عَلاقاتِ الوِلايَةِ، فَإنَّ إنْزالَ الكِتابِ عَلَيْهِ وهو أُمِّيٌّ دَلِيلُ اصْطِفائِهِ وتَوَلِّيهِ.
والتَّعْرِيفُ في الكِتابِ لِلْعَهْدِ، أيِ الكِتابُ الَّذِي عَهِدْتُمُوهُ وسَمِعْتُمُوهُ وعَجَزْتُمْ عَنْ مُعارَضَتِهِ وهو القُرْآنُ، أيِ المِقْدارُ الَّذِي نَزَلَ مِنهُ إلى حَدِّ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ.
وجُمْلَةُ {وهُوَ يَتَوَلّى الصّالِحِينَ} مُعْتَرِضَةٌ والواوُ اعْتِراضِيَّةٌ.
ومَجِيءُ المُسْنَدِ فِعْلًا مُضارِعًا لِقَصْدِ الدَّلالَةِ عَلى اسْتِمْرارِ هَذا التَّوَلِّي وتَجَدُّدِهِ وأنَّهُ سُنَّةٌ إلَهِيَّةٌ، فَكَما تَوَلّى النَّبِيءَ يَتَوَلّى المُؤْمِنِينَ أيْضًا، وهَذِهِ بِشارَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ المُسْتَقِيمِينَ عَلى صِراطِ نَبِيِّهِمْ – صلى الله عليه وسلم – بِأنْ يَنْصُرَهُمُ اللَّهُ كَما نَصَرَ نَبِيَّهُ وأوْلِياءَهُ.
والصّالِحُونَ هُمُ الَّذِينَ صَلُحَتْ أنْفُسُهم بِالإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ.
وجُمْلَةُ {والَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ} عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ {إنَّ ولِيِّيَ اللَّهُ}، وسُلُوكُ طَرِيقِ المَوْصُولِيَّةِ في التَّعْبِيرِ عَنِ الأصْنامِ لِلتَّنْبِيهِ عَلى خَطَأِ المُخاطَبِينَ في دُعائِهِمْ إيّاها مِن دُونِ اللَّهِ مَعَ ظُهُورِ عَدَمِ اسْتِحْقاقِها لِلْعِبادَةِ، بِعَجْزِها عَنْ نَصْرِ أتْباعِها وعَنْ نَصْرِ أنْفُسِها. والقَوْلُ في {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكم ولا أنْفُسَهم يَنْصُرُونَ} كالقَوْلِ في نَظِيرِهِ السّابِقِ آنِفًا.
وأُعِيدَ لِأنَّهُ هُنا خِطابٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وهُنالِكَ حِكايَةٌ عَنْهم لِلنَّبِيءِ والمُسْلِمِينَ، وإبانَةُ المُضادَّةِ بَيْنَ شَانِ ولِيِّ المُؤْمِنِينَ وحالِ أوْلِياءِ المُشْرِكِينَ ولِيَكُونَ الدَّلِيلُ مُسْتَقِلًّا في المَوْضِعَيْنِ مَعَ ما يَحْصُلُ في تَكْرِيرِهِ مِن تَاكِيدِ مَضْمُونِهِ.
التحرير والتنوير
قال السعدي:
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الذي يتولاني فيجلب لي المنافع ويدفع عني المضار. الَّذِي نزلَ الْكِتَابَ الذي فيه الهدى والشفاء والنور، وهو من توليته وتربيته لعباده الخاصة الدينية. وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ الذين صلحت نياتهم وأعمالهم وأقوالهم، كما قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ فالمؤمنون الصالحون – لما تولوا ربهم بالإيمان والتقوى، ولم يتولوا غيره ممن لا ينفع ولا يضر – تولاهم اللّه ولطف بهم وأعانهم على ما فيه الخير والمصلحة لهم، في دينهم ودنياهم، ودفع عنهم بإيمانهم كل مكروه، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا.
———-
سورة التوبة:
قال تعالى
(وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59).سورة التوبة
قال ابن كثير:
يَقُولُ تَعَالَى: {وَمِنْهمْ} أَيْ وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ {مَنْ يَلْمِزُكَ} أَيْ: يَعِيبُ عَلَيْكَ {فِي} قَسْم {الصَّدَقَاتِ} إِذَا فَرَّقْتَهَا، وَيَتَّهِمُكَ فِي ذَلِكَ … ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنَبِّها لَهُمْ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ لَهُمْ، فَقَالَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَدَبًا عَظِيمًا وَسِرًّا شَرِيفًا، حَيْثُ جَعَلَ الرِّضَا بِمَا آتَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالتَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} وَكَذَلِكَ الرَّغْبَةُ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ فِي التَّوْفِيقِ لِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ، وَتَصْدِيقِ أَخْبَارِهِ، وَالِاقْتِفَاءِ بآثاره.
قال ابن تيمية:
والرَّجاءُ مَقْرُونٌ بِالتَّوَكُّلِ فَإنَّ المُتَوَكِّلَ يَطْلُبُ ما رَجاهُ مِن حُصُولِ المَنفَعَةِ ودَفْعِ المَضَرَّةِ والتَّوَكُّلُ لا يَجُوزُ إلّا عَلى اللَّهِ كَما قالَ تَعالى: {وعَلى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقالَ: {وعَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ} وقالَ تَعالى: {إنْ
يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وإنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِن بَعْدِهِ وعَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} وقالَ تَعالى: {ولَوْ أنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ وقالُوا حَسْبُنا اللَّهُ سَيُؤْتِينا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ورَسُولُهُ إنّا إلى اللَّهِ راغِبُونَ} وقالَ تَعالى: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إيمانًا وقالُوا حَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ}. فَهَؤُلاءِ قالُوا: حَسْبُنا اللَّهُ أيْ كافِينا اللَّهُ فِي دَفْعِ البَلاءِ وأُولَئِكَ أُمِرُوا أنْ يَقُولُوا: حَسْبُنا فِي جَلْبِ النَّعْماءِ فَهُوَ سُبْحانَهُ كافٍ عَبْدَهُ فِي إزالَةِ الشَّرِّ وفِي إنالَةِ الخَيْرِ ألَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ ومَن تَوَكَّلَ عَلى غَيْرِ اللَّهِ ورَجاهُ خُذِلَ مِن جِهَتِهِ وحُرِمَ
مجموع الفتاوى 8/ 164
وراجع تفسير ابن تيمية المجموع
قال ابن القيم:
تَأمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ الإيتاءَ لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ كَما قالَ تَعالى: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}
وَجَعَلَ الحَسْبَ لَهُ وحْدَهُ، فَلَمْ يَقُلْ: وقالُوا: حَسْبُنا اللَّهُ ورَسُولُهُ، بَلْ جَعَلَهُ خالِصَ حَقِّهِ، كَما قالَ تَعالى: {إنّا إلى اللَّهِ راغِبُونَ}
وَلَمْ يَقُلْ: وإلى رَسُولِهِ، بَلْ جَعَلَ الرَّغْبَةَ إلَيْهِ وحْدَهُ، كَما قالَ تَعالى: {فَإذا فَرَغْتَ فانْصَبْ – وإلى رَبِّكَ فارْغَبْ}.
فالرَّغْبَةُ والتَّوَكُّلُ والإنابَةُ والحَسْبُ لِلَّهِ وحْدَهُ، كَما أنَّ العِبادَةَ والتَّقْوى والسُّجُودَ لِلَّهِ وحْدَهُ، والنَّذْرُ والحَلِفُ لا يَكُونُ إلّا لِلَّهِ سُبْحانَهُ.
(فائِدَة)
ما أخذ العَبْد ما حرم عَلَيْهِ إلّا من جِهَتَيْنِ:
إحْداهما سوء ظَنّه بربه وأنه لَو أطاعه وآثره لم يُعْطه خيرا مِنهُ حَلالا
والثّانيِة أن يكون عالما بذلك وأن من ترك لله شَيْئا أعاضه خيرا مِنهُ ولَكِن تغلب شَهْوَته صبره وهواه عقله فالأول من ضعف علمه، والثّانِي من ضعف عقله وبصيرته.
قالَ يحي بن معاذ من جمع الله عَلَيْهِ قلبه في الدُّعاء لم يردَّهُ.
قلت إذا اجْتمع عَلَيْهِ قلبه وصدقت ضَرُورَته وفاقته وقَوي رجاؤه فَلا يكاد يُردُّ دعاؤه.
قال أبوحيان:
وأتى أوَّلًا بِمَقامِ الرِّضا وهو فِعْلٌ قَلْبِيٌّ يَصْدُرُ عَمَّنْ عَلِمَ أنَّهُ تَعالى مُنَزَّهٌ عَنِ العَتَبِ والخَطَأِ عَلِيمٌ بِالعَواقِبِ، فَكُلُّ قَضائِهِ صَوابٌ وحَقٌّ، لا اعْتِراضَ عَلَيْهِ. ثُمَّ ثَنّى بِإظْهارِ آثارِ الوَصْفِ القَلْبِيِّ وهو الإقْرارُ بِاللِّسانِ، فَحَسْبُنا ما رَضِيَ بِهِ. ثُمَّ أتى ثالِثًا بِأنَّهُ تَعالى ما دامُوا في الحَياةِ الدُّنْيا مادٌّ لَهم بِنِعَمِهِ وإحْسانِهِ، فَهو إخْبارٌ حَسَنٌ إذْ ما مِن مُؤْمِنٍ إلّا ونِعَمُ اللَّهِ مُتَرادِفَةٌ عَلَيْهِ حالًا ومَآلًا، إمّا في الدُّنْيا، وإمّا في الآخِرَةِ. ثُمَّ أتى رابِعًا بِالجُمْلَةِ المُقْتَضِيَةِ الِالتِجاءَ إلى اللَّهِ لا إلى غَيْرِهِ، والرَّغْبَةَ إلَيْهِ، فَلا يُطْلَبُ بِالإيمانِ أخْذُ الأمْوالِ والرِّئاسَةِ في الدُّنْيا، ولَمّا كانَتِ الجُمْلَتانِ مُتَغايِرَتَيْنِ وهُما ما تَضَمَّنَ الرِّضا بِالقَلْبِ، وما تَضَمَّنَ الإقْرارَ بِاللِّسانِ، تَعاطَفَتا. ولَمّا كانَتِ الجُمْلَتانِ الأخِيرَتانِ مِن آثارِ قَوْلِهِمْ: حَسْبُنا اللَّهُ لَمْ تَتَعاطَفا، إذْ هُما كالشَّرْحِ لِقَوْلِهِمْ: حَسْبُنا اللَّهُ، فَلا تَغايُرَ بَيْنَهُما.
قال القنوجي:
(إنا إلى الله راغبون) فهاتان الجملتان كالشرح لقولهم (حسبنا الله) فلذلك لم يتعاطفا لأنهما كالشيء الواحد، فشدة الاتصال منعت العطف. قاله الكرخي.
قال السعدى:
{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أي: أعطاهم من قليل وكثير. {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} أي: كافينا اللّه، فنرضى بما قسمه لنا، وليؤملوا فضله وإحسانه إليهم بأن يقولوا: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} أي: متضرعون في جلب منافعنا، ودفع مضارنا، لسلموا من النفاق ولهدوا إلى الإيمان والأحوال العالية
——————
قال تعالى
فإن تولوا فقل حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129).سورة التوبة
قال الطبري:
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ((129))}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فإن تولى، يا محمد، هؤلاء الذين جئتهم بالحق من عند ربك من قومك، فأدبروا عنك ولم يقبلوا ما أتيتهم به من النصيحة في الله، وما دعوتهم إليه من النور والهدى = {فقل حسبي الله}، يكفيني ربي {لا إله إلا هو}، لا معبود سواه = {عليه توكلت}، وبه وثقت، وعلى عونه اتكلت، وإليه وإلى نصره استندت، فإنه ناصري ومعيني على من خالفني وتولى عني منكم ومن غيركم من الناس {وهو رب العرش العظيم}، الذي يملك كلَّ ما دونه، والملوك كلهم مماليكه وعبيده.
وإنما عنى بوصفه جل ثناؤه نفسه بأنه رب العرش العظيم، الخبرَ عن جميع ما دونه أنهم عبيده، وفي ملكه وسلطانه، لأن “العرش العظيم”، إنما يكون للملوك، فوصف نفسه بأنه “ذو العرش” دون سائر خلقه، وأنه الملك العظيم دون غيره، وأن من دونه في سلطانه وملكه، جارٍ عليه حكمه وقضاؤه.
التفسير الميسر: فإن أعرض المشركون والمنافقون عن الإيمان بك -أيها الرسول- فقل لهم: حسبي الله، يكفيني جميع ما أهمَّني، لا معبود بحق إلا هو، عليه اعتمدت، وإليه فَوَّضْتُ جميع أموري؛ فإنه ناصري ومعيني، وهو رب العرش العظيم، الذي هو أعظم المخلوقات.
قال السعدى:
{فَإِنْ} آمنوا، فذلك حظهم وتوفيقهم، وإن {تَوَلَّوا} عن الإيمان والعمل، فامض على سبيلك، ولا تزل في دعوتك، وقل {حَسْبِيَ اللَّهُ} أي: الله كافيَّ في جميع ما أهمني، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي: لا معبود بحق سواه.
{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي: اعتمدت ووثقت به، في جلب ما ينفع، ودفع ما يضر، {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} الذي هو أعظم المخلوقات. وإذا كان رب العرش العظيم، الذي وسع المخلوقات، كان ربا لما دونه من باب أولى وأحرى.
————
سورة يونس:
قال تعالى:
{وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَة لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)
قال القرطبي:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقالَ مُوسى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ} أَيْ صَدَّقْتُمْ.
(بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) أَيِ اعْتَمِدُوا.
(إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) كَرَّرَ الشَّرْطَ تَاكِيدًا، وَبَيَّنَ أَنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ بِتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَى اللَّهِ.
(فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا) أَيْ أَسْلَمْنَا أُمُورَنَا إِلَيْهِ، وَرَضِينَا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَانْتَهَيْنَا إِلَى أَمْرِهِ.
(رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أَيْ لَا تَنْصُرْهُمْ عَلَيْنَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِتْنَةً لَنَا عَنِ الدِّينِ، أَوْ لَا تَمْتَحِنَّا بِأَنْ تُعَذِّبَنَا عَلَى أَيْدِيهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى لَا تُهْلِكْنَا بِأَيْدِي أَعْدَائِنَا، وَلَا تُعَذِّبْنَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِكَ، فَيَقُولُ أَعْدَاؤُنَا لَوْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ لَمْ نُسَلَّطْ عَلَيْهِمْ، فَيُفْتَنُوا. وقال أبو مجلز وأبو الضحى: يَعْنِي لَا تُظْهِرْهُمْ عَلَيْنَا فَيَرَوْا أَنَّهُمْ خَيْرٌ منا فيزدادوا طغيانا.
قال الماوردي:
قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: {فَقالُوا عَلى اللَّهِ تَوَكَّلْنا} يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: في الإسْلامِ إلَيْهِ.
الثّانِي: في الثِّقَةِ بِهِ.
قال مكي:
أي: به وثقنا”، وهذا يدل على أن التوكل على الله عز وجل في جميع الأمور واجب، وأنه من كمال الإيمان. وقد قال الله عز وجل: {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى: (36)]، وقال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: (3)]، أي: فهو كافيه.
قال البقاعي: {فَعَلَيْهِ} أيْ: وحْدَهُ لِما عَلِمْتُمْ مِن عَظَمَتِهِ الَّتِي لا يُدايِنُها شَيْءٌ سِواهُ {تَوَكَّلُوا} ولْيَظْهَرْ عَلَيْكم أثَرُ التَّوَكُّلِ مِنَ الطُّمَانِينَةِ والثَّباتِ والسَّكِينَةِ {إنْ كُنْتُمْ} أيْ: كَوْنًا ثابِتًا {مُسْلِمِينَ} جامِعِينَ إلى تَصْدِيقِ القَلْبِ إذْعانَ الجَوارِحِ؛ وجَوابُ هَذا الشَّرْطِ ما دَلَّ عَلَيْهِ الماضِي مِن قَوْلِهِ: {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} {فَقالُوا} أيْ: عَلى الفَوْرِ كَما يَقْتَضِيهِ الفاءُ {عَلى اللَّهِ} أيِ الَّذِي لَهُ العَظَمَةُ كُلُّها وحْدَهُ {تَوَكَّلْنا} أيْ: فَوَّضْنا أُمُورَنا كُلَّها إلَيْهِ
قال الآلوسي:
(6) – {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ((85)) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}
تقديم التوكل على الدعاء -وإن كان بياناً لامتثال أمر موسى عليه السلام لهم- به تلويح بأن الداعي حقه أن يبني دعاءه على التوكل على الله تعالى؛ فإنه أرجى للإجابة، ولا يتوهمن أن التوكل مناف للدعاء؛ لأنه أحد الأسباب للمقصود. [الألوسي: (11) / (226)]
قال الرازي:
واعْلَمْ أنَّ هَذا التَّرْتِيبَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ اهْتِمامُ هَؤُلاءِ بِأمْرِ دِينِهِمْ فَوْقَ اهْتِمامِهِمْ بِأمْرِ دُنْياهم، وذَلِكَ لِأنّا إنْ حَمَلْنا قَوْلَهم: {رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ} عَلى أنَّهم إنْ سُلِّطُوا عَلى المُسْلِمِينَ صارَ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهم في أنَّ هَذا الدِّينَ باطِلٌ فَتَضَرَّعُوا إلى اللَّهِ تَعالى في أنْ يَصُونَ أُولَئِكَ الكُفّارَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وقَدَّمُوا هَذا الدُّعاءَ عَلى طَلَبِ النَّجاةِ لِأنْفُسِهِمْ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ عِنايَتَهم بِمَصالِحِ دِينِ أعْدائِهِمْ فَوْقَ عِنايَتِهِمْ بِمَصالِحِ أنْفُسِهِمْ، وإنْ حَمَلْناهُ عَلى أنْ لا يُمَكِّنَ اللَّهُ تَعالى أُولَئِكَ الكُفّارَ مِن أنْ يَحْمِلُوهم عَلى تَرْكِ هَذا الدِّينِ كانَ ذَلِكَ أيْضًا دَلِيلًا عَلى أنَّ اهْتِمامَهم بِمَصالِحِ أدْيانِهِمْ فَوْقَ اهْتِمامِهِمْ بِمَصالِحِ أبْدانِهِمْ، وعَلى جَمِيعِ التَّقْدِيراتِ فَهَذِهِ لَطِيفَةٌ شَرِيفَةٌ
قال القاسمي:
قالَ الحاكِمُ: دَلَّتْ عَلى حُسْنِ السُّؤالِ بِالنَّجاةِ مِنَ الظُّلْمَةِ.
قال الشوكاني:
ولَمّا قَدَّمُوا التَّضَرُّعَ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ في أنْ يَصُونَ دِينَهم عَنِ الفَسادِ أتْبَعُوهُ بِسُؤالِ عِصْمَةِ أنْفُسِهِمْ فَقالُوا: {ونَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القَوْمِ الكافِرِينَ} وفي هَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ كانَ لَهُمُ اهْتِمامٌ بِأمْرِ الدِّينِ فَوْقَ اهْتِمامِهِمْ بِسَلامَةِ أنْفُسِهِمْ.
قال السعدي:
{فَقَالُوا} ممتثلين لذلك {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي: لا تسلطهم علينا، فيفتنونا، أو يغلبونا، فيفتتنون بذلك، ويقولون: لو كانوا على حق لما غلبوا.
التفسير الميسر:
فقال قوم موسى له: على الله وحده لا شريك له اعتمدنا، وإليه فوَّضنا أمرنا، ربنا لا تنصرهم علينا فيكون ذلك فتنة لنا عن الدين، أو يُفتن الكفارُ بنصرهم، فيقولوا: لو كانوا على حق لما غُلبوا.
——.
سورة يوسف:
قال تعالى
(قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
[سورة يوسف 33 – 34]
قال القرطبي:
أَيْ إِنْ لَمْ تَلْطُفْ بِي فِي اجْتِنَابِ الْمَعْصِيَةِ وَقَعْتُ فِيهَا.
(وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) أَيْ مِمَّنْ يَرْتَكِبُ الْإِثْمَ وَيَسْتَحِقُّ الذَّمَّ، أَوْ مِمَّنْ يَعْمَلُ عَمَلَ الْجُهَّالِ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَمْتَنِعُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعَوْنِ اللَّهِ، وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى قُبْحِ الْجَهْلِ وَالذَّمِّ لِصَاحِبِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ} لِمَا قَالَ. “وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ” تَعَرَّضَ لِلدُّعَاءِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ اصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ، فَاسْتَجَابَ لَهُ دُعَاءَهُ، وَلَطَفَ بِهِ وَعَصَمَهُ عَنِ الْوُقُوعِ في الزنى. “كَيْدَهُنَّ” قِيلَ: لِأَنَّهُنَّ جَمْعٌ قَدْ رَاوَدْنَهُ عَنْ نَفْسِهِ. وَقِيلَ: يَعْنِي كَيْدَ النِّسَاءِ. وَقِيلَ: يَعْنِي كَيْدَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الآية قبل، والعموم أولى.
قال ابن تيمية:
في قول يوسف: … عبرتان: إحداهما: اختيار السجن والبلاء على الذنوب والمعاصي. و الثانية: طلب سؤال الله ودعائه أن يثبت القلب على دينه ويصرفه إلى طاعته، وإلا فإذا لم يثبت القلب صبا إلى الآمرين بالذنوب وصار من الجاهلين. ففي هذا توكل على الله واستعانة به أن يثبت القلب على الإيمان والطاعة، وفيه صبر على المحنة والبلاء والأذى الحاصل إذا ثبت على الإيمان والطاعة. [ابن تيمية: (4) / (39)]
قال ابن القيم:
* (فصل: فيمن آثر عاجل العقوبة والآلام على لذة الوصال الحرام)
هذا باب إنما يدخل منه رجلان أحدهما من تمكن من قلبه الإيمان بالآخرة وما أعد الله فيها من الثواب والعقاب لمن عصاه فآثر أدنى الفوتين واختار أسهل العقوبتين والثاني رجل غلب عقله على هواه فعلم ما في الفاحشة من المفاسد وما في العدول عنها من المصالح فآثر الأعلى على الأدنى وقد جمع الله سبحانه وتعالى ليوسف الصديق صلوات الله وسلامه عليه بين الأمرين فاختار عقوبة الدنيا بالسجن على ارتكاب الحرام فقالت المرأة ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاختار السجن على الفاحشة ثم تبرأ إلى الله من حوله وقوته وأخبر أن ذلك ليس إلا بمعونة الله له وتوفيقه وتأييده لا من نفسه فقال {وَإلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أصْبُ إلَيْهِنَّ وأكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ} فلا يركن العبد إلى نفسه وصبره وحاله وعفته ومتى ركن إلى ذلك تخلت عنه عصمة الله وأحاط به الخذلان وقد قال الله تعالى لأكرم الخلق عليه وأحبهم إليه {وَلَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}
ولهذا كان من دعائه يا مقلب
القلوب ثبت قلبي على دينك وكانت أكثر يمينه لا ومقلب القلوب كيف وهو الذي أنزل عليه {واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ} وقد جرت سنة الله تعالى في خلقه أن من آثر الألم العاجل على الوصال الحرام أعقبه ذلك في الدنيا المسرة التامة وإن هلك فالفوز العظيم والله تعالى لا يضيع ما تحمل عبده لأجله وفي بعض الآثار الإلهية يقول الله سبحانه وتعالى بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي وكل من خرج عن شيء منه لله حفظه الله عليه أو أعاضه الله ما هو أجل منه ولهذا لما خرج الشهداء عن نفوسهم لله جعلهم الله أحياء عنده يرزقون وعوضهم عن أبدانهم التي بذلوها له أبدان طير خضر جعل أرواحهم فيها تسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش ولما تركوا مساكنهم له عوضهم مساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم
قال القاسمي:
{قالَ رَبِّ السِّجْنُ أحَبُّ إلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ} أيْ مِن مُواتاتِها؛ لِأنَّهُ مَشَقَّةٌ قَلِيلَةٌ، تَعْقُبُها راحاتٌ أبَدِيَّةٌ. ثُمَّ فَزِعَ إلى اللَّهِ تَعالى في طَلَبِ العِصْمَةِ بِقَوْلِهِ: {وإلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} يَعْنِي: ما أرَدْنَ مِنِّي {أصْبُ إلَيْهِنَّ} أيْ أمِلْ إلى إجابَتِهِنَّ بِمُقْتَضى البَشَرِيَّةِ {وأكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ} أيْ بِسَبَبِ ارْتِكابِ ما يَدْعُونَنِي إلَيْهِ مِنَ القَبِيحِ.
قالَ أبُو السُّعُودِ: هَذا فَزَعٌ مِنهُ، عَلَيْهِ السَّلامُ، إلى ألْطافِ اللَّهِ تَعالى. جَرْيًا عَلى سُنَنِ الأنْبِياءِ والصّالِحِينَ، في قَصْرِ نَيْلِ الخَيْراتِ، والنَّجاةِ مِنَ الشُّرُورِ، عَلى جَنابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وسَلْبِ القُوى والقُدَرِ عَنْ أنْفُسِهِمْ، ومُبالَغَةً في اسْتِدْعاءِ لُطْفِهِ في صَرْفِ كَيْدِهِنَّ بِإظْهارِ أنْ لا طاقَةَ لَهُ بِالمُدافَعَةِ، كَقَوْلِ المُسْتَغِيثِ: أدْرِكْنِي وإلّا هَلَكْتُ، لا أنَّهُ يَطْلُبُ الإجْبارَ والإلْجاءَ إلى العِصْمَةِ والعِفَّةِ، وفي نَفْسِهِ داعِيَةٌ تَدْعُوهُ إلى هَواهُنَّ. انْتَهى.
قالَ القاشانِيُّ: وذَلِكَ الدُّعاءُ هو صُورَةُ افْتِقارِ القَلْبِ الواجِبِ عَلَيْهِ أبَدًا.
قال الشوكاني:
وجُمْلَةُ {إنَّهُ هو السَّمِيعُ العَلِيمُ} تَعْلِيلٌ لِما قَبْلَها مِن صَرْفِ كَيْدِ النِّسْوَةِ عَنْهُ: أيْ إنَّهُ هو السَّمِيعُ لِدَعَواتِ الدّاعِينَ لَهُ: العَلِيمُ بِأحْوالِ المُلْتَجِئِينَ إلَيْهِ.
قال السعدي:
وهذا يدل على أن النسوة، جعلن يشرن على يوسف في مطاوعة سيدته، وجعلن يكدنه في ذلك.
فاستحب السجن والعذاب الدنيوي على لذة حاضرة توجب العذاب الشديد، {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أي: أمل إليهن، فإني ضعيف عاجز، إن لم تدفع عني السوء، {وَأَكُنْ} إن صبوت إليهن {مِنَ الْجَاهِلِينَ} فإن هذا جهل، لأنه آثر لذة قليلة منغصة، على لذات متتابعات وشهوات متنوعات في جنات النعيم، ومن آثر هذا على هذا، فمن أجهل منه؟ ” فإن العلم والعقل يدعو إلى تقديم أعظم المصلحتين وأعظم اللذتين، ويؤثر ما كان محمود العاقبة.
{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ} حين دعاه {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} فلم تزل تراوده وتستعين عليه بما تقدر عليه من الوسائل، حتى أيسها، وصرف الله عنه كيدها، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لدعاء الداعي {الْعَلِيمُ} بنيته الصالحة، وبنيته الضعيفة المقتضية لإمداده بمعونته ولطفه.
——-
قال تعالى
رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَاوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) سورة يوسف
قال أبو جعفر الطبري: يقول تعالى ذكره: قال يوسف بعد ما جمع الله له أبويه وإخوته، وبسط عليه من الدنيا ما بسط من الكرامة، ومكنه في الأرض، متشوِّقًا إلى لقاء آبائه الصالحين: {رب قد آتيتني من الملك}، يعني: من ملك مصر {وعلمتني من تأويل الأحاديث}، يعني من عبارة الرؤيا، (تعديدًا لنعم الله عليه، وشكرًا له عليها {فاطر السموات والأرض}، يقول: يا فاطر السموات والأرض، يا خالقها وبارئها {أنت وليي في الدنيا والآخرة}، يقول: أنت وليي في دنياي على من عاداني وأرادني بسوء بنصرك، وتغذوني فيها بنعمتك، وتليني في الآخرة بفضلك ورحمتك. (توفني مسلمًا)، يقول: اقبضني إليك مسلمًا. {وألحقني بالصالحين}، يقول: وألحقني بصالح آبائي إبراهيم وإسحاق ومن قبلهم من أنبيائك ورسلك
قال ابن كثير بعد أن قرر نحو ما سبق:
وَهَذَا الدُّعَاءُ يُحْتَمَلُ أَنَّ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَهُ عِنْدَ احْتِضَارِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – جَعَلَ يَرْفَعُ أُصْبُعَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَيَقُولُ: “اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى”.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَأَلَ الْوَفَاةَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّحَاقَ بِالصَّالِحِينَ إِذَا حَانَ أَجْلُهُ، وَانْقَضَى عُمْرُهُ؛ لَا أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ مُنْجَزًا، كَمَا يَقُولُ الدَّاعِي لِغَيْرِهِ: “أَمَاتَكَ اللَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ”. وَيَقُولُ الدَّاعِي: “اللَّهُمَّ أَحْيِنَا مُسْلِمِينَ وَتُوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحَقَنَا بِالصَّالِحِينَ”.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ مُنْجَزًا، وَكَانَ ذَلِكَ سَائِغًا فِي مِلَّتِهِمْ
قال ابن تيمية:
وقالَ الصِّدِّيقُ {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ} والصَّحِيحُ مِن القَوْلَيْنِ أنَّهُ لَمْ يَسْألْ المَوْتَ ولَمْ يَتَمَنَّهُ. وإنَّما سَألَ أنَّهُ إذا ماتَ يَمُوتُ عَلى الإسْلامِ؛ فَسَألَ الصِّفَةَ لا المَوْصُوفَ كَما أمَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ؛ وأمَرَ بِهِ خَلِيلَهُ إبْراهِيمَ وإسْرائِيلَ؛ وهَكَذا قالَ غَيْرُ واحِدٍ مِن العُلَماءِ؛ مِنهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ وغَيْرُهُ. واَللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
قال ابن القيم:
جمعت هَذِه الدعْوَة الإقْرار بِالتَّوْحِيدِ والاستسلام للرب وإظْهار الافتقار إلَيْهِ والبراءة من مُوالاة غَيره سُبْحانَهُ وكَون الوَفاة على الإسْلام أجلّ غايات العَبْد وأن ذَلِك بيد الله لا بيد العَبْد والِاعْتِراف بالمعاد وطلب مرافقة السُّعَداء.
قال البقاعي:
ولَمّا ذَكَرَ هاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، تَذَكَّرَ ما وقَعَ لَهُ بِهِما مِنَ الأسْبابِ، فَغَلَبَ عَلَيْهِ مَقامُ الشُّهُودِ وازْدادَتْ نَفْسُهُ عَنِ الدُّنْيا عُزُوفًا، فَقالَ مُخاطِبًا: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي} وافْتَتَحَ بِـ ”قَدْ“ لِأنَّ الحالَ حالُ تَوَقُّعِ السّامِعِ لِشَرْحِ مَآلِ الرُّؤْيا {مِنَ المُلْكِ} أيْ بَعْضُهُ بَعُدَ بُعْدِي مِنهُ جِدًّا، وهو مَعْنى رُوحِهِ تَمامُ القُدْرَةِ {وعَلَّمْتَنِي} وقَصَرَ دَعْواهُ تَواضُعًا بِالإتْيانِ بِالجارِّ فَقالَ: {مِن تَاوِيلِ الأحادِيثِ} طِبْقَ ما بَشَّرَنِي بِهِ أبِي وأخْبَرْتُ بِهِ أنْتَ مِنَ التَّمْكِينِ والتَّعْلِيمِ قَبْلَ قَوْلِكَ، واللَّهُ غالِبٌ عَلى أمْرِهِ؛ ثُمَّ ناداهُ بِوَصْفٍ جامِعٍ لِلْعِلْمِ والحِكْمَةِ فَقالَ: {فاطِرَ السَّماواتِ والأرْضِ} ثُمَّ أعْلَمَهُ بِما هو أعْلَمُ بِهِ مِنهُ مِن أنَّهُ لا يَعُولُ عَلى غَيْرِهِ في شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ فَقالَ \: {أنْتَ ولِيِّي} أيِ الأقْرَبُ إلَيَّ باطِنًا وظاهِرًا {فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ} أيْ لا ولِيَّ لِي غَيْرُكَ، والوَلِيُّ يَفْعَلُ لِمَوْلاهُ الأصْلَحَ والأحْسَنَ، فَأحْسَنَ بِي في الآخِرَةِ أعْظَمُ ما أحْسَنْتَ بِي في الدُّنْيا.
قال ابن جزي:
{توفني مسلمًا}: لما عدد النعم التي أنعم الله بها عليه؛ دعا أن الله يتم عليه النعم بالوفاة على الإسلام إذا حان أجله.
قال السعدي:
لما أتم الله ليوسف ما أتم من التمكين في الأرض والملك، وأقر عينه بأبويه وإخوته، وبعد العلم العظيم الذي أعطاه الله إياه، قال مقرا بنعمة الله شاكرا لها داعيا بالثبات على الإسلام:
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} وذلك أنه كان على خزائن الأرض وتدبيرها ووزيرا كبيرا للملك {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَاوِيلِ الْأَحَادِيثِ} أي: من تأويل أحاديث الكتب المنزلة وتأويل الرؤيا وغير ذلك من العلم {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} أي: أدم عليّ الإسلام وثبتني عليه حتى توفاني عليه، ولم يكن هذا دعاء باستعجال الموت، {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} من الأنبياء الأبرار والأصفياء الأخيار.
====
====
====