151 لطائف التفسير والمعاني
جمع سيف بن دورة الكعبي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–
لطيفة:
[لفظة {سُبْحانَ} في القرآن]
في خمسة وعشرين موضعًا، في ضمن كلِّ واحد منها إثباتُ صفة من صفات المدح، أو نفيُ صفة من صفات الذم
——
قال الفيروزابادي:
وقد ذكر الله – تعالى – لفظة {سُبْحانَ} في القرآن في خمسة وعشرين موضعًا، في ضمن كلِّ واحد منها إثباتُ صفة من صفات المدح، أو نفيُ صفة من صفات الذم [بصائر ذوي التمييز للفيروزابادي ((3) / (176))]، منها قوله تعالى: {سُبْحاَنَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّمَواتِ والأرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ}، وقوله تعالى: {سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ وسَلاَمٌ عَلى المُرْسَلِينَ والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ}، وقوله تعالى: {سُبْحانَ اللهِ عَمّا يُشْرِكُونَ}، وقوله تعالى: {فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وحِينَ تُصْبِحُونَ ولَهُ الحَمْدُ فِي السَّمَواتِ والأرْضِ وعَشِياًّ وحِينَ تُظْهِرُونَ}، وقوله تعالى: {سُبْحانَ رَبِّ السَّمَواتِ والأرْضِ رَبِّ العَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ}، وقوله تعالى: {دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلاَمٌ}.
فهذه النصوص القرآنية الكريمة وما جاء في معناها في كتاب الله تدل أوضح دلالة على جلالة قدر التسبيح، وعظيم شأنه من الدين، وأنّه من أجَلِّ الأذكار المشروعة، ومن أنفع العبادات المقربة إلى الله تعالى.
—-
[النصوص الواردة في القرآن الكريم]
وقد ورد ذكر التسبيح في القرآن الكريم أكثر من ثمانين مرة، بصِيغ مختلفة وأساليب متنوِّعة، فورد تارة بلفظ الأمر كما في قوله –تعالى -: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأصِيلًا}، وتارة بلفظ الماضي كما في قوله تعالى: {سَبَّحَ للهِ ما فِي السَّمَواتِ وما فِي الأرْضِ وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ}.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى التسبيح في مُفتتح ثَماني سُوَر من القرآن الكريم، فقال تعالى في أول سورة الإسراء: {سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِن آياتِنا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، وقال تعالى في أول سورة النحل: {أتى أمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ}، وقال تعالى في أوّل سورة الحديد: {سَبَّحَ للهِ ما فِي السَّمَواتِ والأرْضِ وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}، وقال تعالى في أوّل سورة الحشر: {سَبَّحَ للهِ ما فِي السَّمَواتِ وما فِي الأرْضِ وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}، وقال تعالى في أول سورة الصف: {سَبَّحَ للهِ ما فِي السَّمَواتِ وما فِي الأرْضِ وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}، وقال تعالى في أول سورة الجمعة: {يُسَبِّحَ للهِ ما فِي السَّمَواتِ وما فِي الأرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ}، وقال تعالى في أول سورة التغابن: {يُسَبِّحَ للهِ ما فِي السَّمَواتِ وما فِي الأرْضِ لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ وهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وقال تعالى في أول سورة الأعلى: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلى الَّذِي خَلَقَ فَسَوّى والَّذِي قَدَّرَ فَهَدى والَّذِي أخْرَجَ المَرْعى فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحْوى}.
قال بعض أهل العلم [بصائر ذوي التمييز للفبروزابادي ((2) / (285) وما بعدها)]: والتسبيح ورد في القرآن على نحو من ثلاثين، وتارة بلفظ المضارع كما في قوله تعالى: {يُسَبِّحُ للهِ ما فِي السَّمَواتِ وما فِي الأرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ}، وتارة بلفظ المصدر كما في قوله تعالى: {سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ وسَلاَمٌ عَلى المُرْسَلِينَ} وجهًا، ستةٍ منها للملائكة، وتسعةٍ لنبيّنا محمد ?، وأربعةٍ لغيره من الأنبياء، وثلاثةٍ للحيوانات والجمادات، وثلاثةٍ للمؤمنين خاصة، وستةٍ لجميع الموجودات.
أما التي للملائكة فمنها قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ ومَن حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ويُؤْمِنُونَ بِهِ ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}، الآية، وقوله: {فَإنِ اسْتَكْبَرُوا فالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِالَّيْلِ والنَّهارِ وهُمْ لاَ يَسْأمُونَ}، وقوله: {ولَهُ مَن فِي السَّمَواتِ والأرْضِ ومَن عِندَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ ولاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ والنَّهارَ لاَ يَفْتُرُونَ}.
وقوله: {وإنّا لَنَحْنُ الصَّآفُونَ وإنّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ}.
وأما التي لنبيّنا ? فمنها قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ واعْبُدْ رَبَّكَ حَتى يَاتِيَكَ اليَقِينُ}، وقوله: {ومِنَ الَّيْلِ فاسْجُدْ لَهُ وسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا}، وقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كانَ تَوّابًا}.
وأما التي للأنبياء فقول الله – تعالى – لزكريا عليه السلام: {وسَبِّحْ بِالعَشِيِّ والإبْكارِ}، وقوله – تعالى – عن زكريا عليه السلام في وصيّته لقومه بالمحافظة على التسبيح: {فَأوْحى إلَيْهِمْ أنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وعَشِياًّ}، وقوله – تعالى – عن يونس عليه السلام في إنجائه من ظلمات البحر وبطن الحوت لملازمته للتسبيح: {فَلَوْلاَ أنَّهُ كانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.
وأما التي للمؤمنين فقوله تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأصِيلًا}، وقوله تعالى: {إنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنا الَّذِينَ إذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّدًا وسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}، وقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللهُ أنْ تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالغُدُوِّ والآصالِ رِجالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ ولاَبَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وإقامِ الصَّلاَةِ}، الآية.
وأما التي في الحيوانات والجمادات فمنها قوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَواتُ السَّبْعُ والأرْضُ ومَن فِيهِنَّ وإن مِن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولَكِن لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا}، وقوله تعالى: {إنّا سَخَّرْنا الجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ والإشْرِاقِ والطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أوّابٌ}، وقوله تعالى: {ألَمْ تَرَ أنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَواتِ والأرْضِ والطَّيْرُ صَآفّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وتَسْبِيحَهُ واللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ}.
وأما التي لعموم المخلوقات فمنها قوله تعالى: {سَبَّحَ للهِ ما فِي السَّمَواتِ وما فِي الأرْضِ وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}، وقوله تعالى: {يُسَبِّحُ للهِ ما فِي السَّمَواتِ وما فِي الأرْضِ لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ وهُوَ عَلى كَلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
[النصوص الواردة في السنة النبوية]
وقد دلّت السنة النبوية – أيضًا – على فضل التسبيح وعظيم مكانته عند الله من وجوه كثيرة، بل إنّ السنةَ مليئةٌ بالنصوص الدّالة على عظيم شأن التسبيح، وشريف قدره، وجزيل ثواب أهله، وبيان ما أعدّ الله لهم من أجورٍ كريمةٍ، وأفضالٍ عظيمةٍ، وعطايا جمَّةٍ. وقد تضمّنت تلك النصوص الدلالةَ على ذلك من وجوهٍ كثيرةٍ:
ومن ذلك أنّ النبيّ ? أخبر أنّ التسبيح أفضل الكلام وأحبُّه إلى الله، وقد سبق أنْ مرَّ معنا قولُ النبيِّ ?: «أحبُّ الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر» [صحيح مسلم (رقم: (2137))].
وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذرٍّ أنّ رسول الله ? سُئِل: أيُّ الكلام أفضل؟ قال: «ما اصطفى الله لملائكته أو لِعباده: سبحان الله وبحمده» [صحيح مسلم (رقم: (2731))].
وفي لفظ آخر للحديث أنّ أبا ذرّ قال: قال رسول الله ?: «ألا أُخبرُك بأحبِّ الكلام إلى الله؟ قلتُ: يا رسول الله أخبرني بأحبِّ الكلام إلى الله. قال: إنّ أحبَّ الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده» [صحيح مسلم (رقم: (2731))]. فدلّ هذا الحديث على عظيم مكانة هذه الكلمة عند الله ?.
ومِن فضائل التسبيح ما أخبر به النبيُّ ? أنّ مَن قال: سبحان الله وبحمده في يومٍ مائة مرّة حُطَّت عنه ذنوبُه ولو كثُرت. ففي الصحيح من حديث أبي هريرة ? أنّ النبيَّ ? قال: «مَن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرّة حُطَّت خطاياه وإن كانت مِثلَ زَبَدِ البحر» [صحيح البخاري (رقم: (6405))، وصحيح مسلم (رقم: (2691))].
وثبت عنه ? أنّ من قالها في الصّباح مائة مرّة وفي المساء مائة مرّة، لم يأتِ أحدٌ يومَ القيامة بأفضلَ مما جاء به، إلاّ مَن قال مثل ذلك وزاد عليه. فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة ? قال: قال رسول الله ?: “مَن قال حين يُصبحُ وحين يُمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرّة لم يأتِ أحدٌ يومَ القيامة بأفضلَ مما جاء به، إلاّ أحدٌ قال مثل ما قال أو زاد عليه» [صحيح مسلم (رقم: (2692))].
وثبت عنه ? أنّ من قالها في يومٍ مائة مرّة كُتبت له ألفُ حسنةٍ أو حُطَّت عنه ألفُ خطيئةٍ، والحسنةُ بِعشر أمثالها. روى مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقّاص ? قال: كُنّا عند رسول الله ? فقال: «أيَعجزُ أحدُكم أن يكسب كلَّ يومٍ ألفَ حسنةٍ؟ فسأله سائلٌ من جلسائِه: كيف يكسب أحدُنا ألفَ حسنة؟ قال: يسبِّح مائة تسبيحة فيُكتبُ له ألفُ حسنةٍ أو يُحطُّ عنه ألفُ خطيئةٍ» [صحيح مسلم (رقم: (2698))].
ومما ورد في فضل التسبيح إخبار النبيِّ ? عن ثِقل التسبيح في الميزان يوم القيامة مع خفّة ويسر العمل به في الدنيا. ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ?: «كلمتان حبيبتان إلى الرّحمن، خفيفتان على اللّسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» [صحيح البخاري (رقم: (6406))، وصحيح مسلم (رقم: (2694))].
وقوله ? في الحديث: «كلمتان» هي خبرٌ مقَدَّمٌ مُبتَدَؤُه «سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم»، قال بعض أهل العلم: «والنكتة في تقديم الخبر تشويقُ السّامع إلى المبتدأ، وكلَّما طال الكلام في وصف الخبر حسُن تقديمه؛ لأنّ كثرةَ الأوصاف الجميلة تزيد السّامع شوقًا» [فتح الباري لابن حجر ((13) / (540))]. وقد وُصفت الكلمتان في الحديث بثلاثة أوصاف جميلةٍ عظيمةٍ، وهي: أنّهما حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان.
وقد خُصَّ لفظ الرحمن بالذِّكر هنا؛ لأنّ المقصود من الحديث بيانُ سعة رحمة الله – تعالى – على عباده حيث يجازي على العمل القليل بالثواب الجزيل، والأجر العظيم، فما أيسرَ النطق بهاتين الكلمتين على اللسان، وما أعظم أجر ذلك وثوابه عند الكريم الرحمن، وقد وُصفت الكلمتان في الحديث بالخفّة والثقل، الخفّةِ على اللسان والثقلِ في الميزان، لبيان قلّة العمل وكثرة الثواب. فما أوسعَ فضلَ الله! وما أعظمَ عطاءَه!
ومن فضائل هذه الكلمة العظيمة، ما رواه الترمذي، وابن حبّان، والحاكم، وغيرهم، من طريق أبي الزبير عن جابر عن النبيِّ ? أنّه قال: «مَن قال: سبحان الله العظيم وبحمده غُرست له نخلةٌ في الجنَّةِ» [سنن الترمذي (رقم: (3464))، وصحيح ابن حبان (رقم: (826)، (827))، ومستدرك الحاكم ((1) / (501))، وصححه العلاّمة الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم: (64))]، وله شاهدان:
أحدهما: من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص – ? – موقوفًا، خرّجه ابن أبي شيبة في مصنَّفه. [المصنف ((6) / (56)).
والآخر: من حديث معاذ بن سهل مرفوعًا، خرّجه الإمام أحمد في مسنده [المسند ((3) / (440))].
ومن فضائل هذه الكلمة ما رواه الطبراني، والحاكم، من حديث نافع بن جُبير بن مطعم، عن أبيه، قال: قال رسول الله ?: «مَن قال سبحان الله وبحمده، سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك، فقالها في مجلس ذكرٍ كانت كالطّابع يطبع عليه، ومَن قالها في مجلس لغوٍ كانت كفّارة له».
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي، وصحّحه العلاّمة الألبانيُّ. [المعجم الكبير (رقم: (1586))، والمستدرك ((1) / (537))، والسلسلة الصحيحة (رقم: (81))].
وروى الترمذي وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة عن النبيِّ ? أنّه قال: «مَن جلس في مجلس فكثُر فيه لغَطُه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهمّ ربّنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلاّ غُفر له ما كان في مجلسه ذلك» [سنن الترمذي (رقم: (3433))، وصحيح ابن حبان (رقم: (594))، والمستدرك ((1) / (536))، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم: (6192))].
فهذه جملةٌ من الأحاديث الواردة في التسبيح والدّالة على عظيم فضله وثوابه عند الله، وفي أكثر هذه الأحاديث قُرن مع التسبيح حمدُ الله – تعالى -؛ وذلك لأنّ التسبيح هو تنزيه الله عن النقائص والعيوب، والتحميدُ فيه إثباتُ المحامد كلّها لله، والإثبات أكملُ مِنَ السّلب، ولهذا لم يَرِد التسبيحُ مجرّدًا، لكن ورد مقرونًا بما يدلّ على إثبات الكمال، فتارةً يُقرنُ بالحمد كما في هذه النصوص، وتارةً يُقرنُ باسم من الأسماء الدّالة على العظمة والجلال، كقول: سبحان الله العظيم، وقول: سبحان ربّي الأعلى، ونحو ذلك [انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص: (204))].
والتنزيه لا يكون مدحًا إلاّ إذا تضمّن معنىً ثبوتيًّا، ولهذا عندما نزَّه الله – تبارك وتعالى – نفسه عمّا لا يليق به ممّا وصفه به أعداء الرُّسل سلَّم على المرسلين الذين يثبتون لله صفات كماله ونعوت جلاله على الوجه اللاّئق به، وذلك في قوله تعالى: {سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ وسَلاَمٌ عَلى المُرْسَلِينَ والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ}، وفي هذه الآية – أيضًا – حمد الله نفسه بعد أن نزّهها؛ وذلك لأنّ الحمدَ فيه إثباتُ كمال الصفات، والتسبيحَ فيه تنزيه الله عن النّقائص والعيوب، فجمع في الآية بين التنزيه عن العيوب بالتسبيح وإثبات الكمال بالحمد، وهذا المعنى يرِد في القرآن والسنّة كثيرًا، فالتسبيحُ والحمدُ أصلان عظيمان وأساسان متينان يقوم عليهما المنهجُ الحقُّ في توحيد الأسماء والصفات، وبالله وحده التوفيق”. [دراسات في الباقيات الصالحات — عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر (42 – 51)].
(المسألة الثانية): تسبيحُ جميع الكائنات لله
إنّ الله – تعالى – لكمال عظمته، ولتمام ملكه وعزَّته، تسبِّحُ له جميعُ الكائنات، من سماء، وأرض، وجبال، وأشجار، وشمس، وقمر، وحيوان، وطيرٍ، وإنْ مِن شيءٍ إلاّ يُسبِّح بحمده.
يقول الله – تعالى -: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَواتُ السَّبْعُ والأرْضُ ومَن فِيهِنَّ وإن مِن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولَكِن لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا}، ويقول تعالى: {ولَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنّا فَضْلًا ياجِبالَ أوِّبِي مَعَهُ والطَّيْرُ}، ويقول تعالى: {وسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الجِبالَ يُسَبِّحْنَ والطَّيْرَ وكُنّا فاعِلِينَ}، وقال تعالى: {إنّا سَخَّرْنا الجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ والإشْرِاقِ}، فهذه النصوص العظيمة تدلُّ دلالة ظاهرة أنّ جميعَ الكائنات تسبِّح اللهَ، فالحيوانات تسبِّح لله، والنباتات تسبِّح لله، والجمادات تسبِّح لله، وإنْ مِن شيءٍ خلقه الله إلاّ يسبِّح بحمد الله، وإنْ كُنّا لا نفقه تسبيحه، وهو تسبيحٌ حقيقيٌّ يصدر من هذه الكائنات بلسان المقال، وليس بلسان الحال كما يدّعيه بعضهم، واللهُ – جلَّ وعلا – يجعل لهذه الكائنات إدراكات تسبِّح بها يعلمها هو – جلَّ وعلا – ونحن لا نعلمها، كما قال سبحانه: {وإن مِن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولَكِن لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}.
قال الإمام أبو منصور الأزهريُّ – رحمه الله – في كتابه تهذيبُ اللغة: «وممّا يدلُّك على أنّ تسبيح هذه المخلوقات تسبيحٌ تُعُبِّدت به، قول الله جلّ وعزّ للجبال: {ياجِبالَ أوِّبِي مَعَهُ والطَّيْر}، ومعنى أوِّبي أي: سبِّحي مع داود النّهار كلّه إلى الليل، ولا يجوز أن يكون معنى أمر الله جلّ وعزّ للجبال بالتأويب إلاّ تعبُّدًا لها، وكذلك قوله جلّ وعزّ: {ألَمْ تَرَ أنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَواتِ ومَن فِي الأرْضِ والشَّمْسُ والقَمَرُ والنُّجُومُ والجِبالُ والشَّجَرُ والدَّوابُّ وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ}، فسجود هذه المخلوقات عبادة منها لخالقها لا نفقهها عنها كما لا نفقه تسبيحها، وكذلك قوله: {وإنَّ مِنَ الحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنهُ الأنْهارُ وإنَّ مِنها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنهُ الماءُ وإنَّ مِنها لَما يَهْبِطُ مِن خَشْيَةِ اللهِ}، وقد علم الله هبوطها من خشيته، ولم يعرّفنا ذلك، فنحن نؤمن بما أعلمنا ولا ندّعي بما لم نكلّف بأفهامنا، مِن عِلْمِ فِعلِها كيفيّةً نحدّها» [تهذيب اللغة ((4) / (340))] اهـ. كلامه – رحمه الله -، وهو كلام عظيم وتقرير حسن.
وقال النووي – رحمه الله – بعد أن أشار إلى ما قيل في المراد بالتسبيح، قال: «والصحيح أنّه يسبِّح حقيقة، ويجعل الله – تعالى – فيه تمييزًا بحسبه» [شرح صحيح مسلم ((15) / (26))].
وهذا القول هو القول الحق في هذه المسألة بلا ريب، فالله – تبارك وتعالى – هو الذي بيده أزمّةُ الأمور، وهو القادرُ على كلِّ شيء، وهو – سبحانه – الذي أنطق كلَّ شيء، لا يتعاظمه أمر، ولا يُعجِزه شيء في الأرض ولا في السماء، إنّما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون.
وأمّا قولُ من قال: إنّ هذا التسبيح ليس حقيقيًا وإنّما هو تسبيح بلسان الحال فقط فهو قول مجانبٌ للحقيقةِ، بعيدٌ عن الصواب، ولا يعضُدُه دليل، بل الأدلّةٌ صريحةٌ على عدم صحّتِه.
وليس هذا الأمر بأعجب من تسبيح الحصا في يد رسول الله ?، وتسبيحُ الطعام وهو يُؤكل، وقد كان يسمع ذلك الصحابةُ رضي الله عنهم.
روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «كنّا نعدُّ الآيات بركة وأنتم تعدّونها تخويفًا، كنا مع رسول الله ? في سفرٍ فقلَّ الماءُ، فقال: اطلبوا فضلةً من ماء، فجاؤوا بإناء فيه ماءٌ قليل، فأدخل يدَه في الإناء ثم قال: حيَّ على الطهور المبارك، والبركة من الله، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله ?، ولقد كنّا نسمع تسبيح الطعام وهو يُؤكل» [صحيح البخاري (رقم: (3579))].
فلله ما أعظمها من آيةٍ تدلّ على كمال المرسِل سبحانه، وصدق المرسَل – صلوات الله وسلامه عليه -.
وروى الطبراني في المعجم الأوسط، وأبو نعيم في دلائل النبوة عن أبي ذر قال: إنّي لشاهدٌ عند النبي ? في حلقة وفي يده حصى فسبَّحن في يده، وفينا أبو بكر وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ، فسمع تسبيحهنّ مَن في الحلقة، ثمّ دفعهنَّ النّبيُّ ? إلى أبي بكر فسبّحن مع أبي بكر، سمع تسبيحَهنَّ مَن في الحلقة، ثمّ دفعَهنَّ إلى النّبيِّ ? فسبَّحن في يده، ثمّ دفعهنَّ النّبيُّ ? إلى عمر فسبَّحن في يده، وسمع تسبيحَهنَّ مَن في الحلقة، ثم دفعهنَّ النبيّ ? إلى عثمان بن عفّان فسبَّحن في يده، ثمّ دفعهنّ إلينا فلم يسبِّحن مع أحد منّا «[المعجم الأوسط (رقم: (1244))، ودلائل النبوة ((2) / (555)) للبيهقي، وانظر: دلائل النبوة لأبي القاسم التيمي ((1) / (401) وما بعدها) بتحقيق: مساعد الراشد، قوله:» فصل: في تسبيح الحصى في يده ?”].
ولا شكّ أنّ تسبيح الحصى الصغار والطعام أعجبُ وأبلغُ من تسبيح الجبال، ولذا فإنّ المعجزة لنبيِّنا محمد ? في ذلك أبلغُ من المعجزة لنبيِّ الله داود عليه السلام في تسبيح الجبال معه.
قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله -: «وأمّا تسبيح الطّير مع داود عليه السلام فتسبيح الجبال الصمّ أعجبُ مِن ذلك، وقد تقدّم في الحديث أنّ الحصا سبّح في كفِّ رسول الله ?، قال ابن حامد: وهذا حديثٌ معروفٌ مشهورٌ، وكانت الأحجارُ والأشجارُ والمدرُ تسلِّم عليه ?.
وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود قال:» لقد كنّا نسمع تسبيح الطعام وهو يُؤكل «يعني بيد النبيِّ ?، وكلّمه ذراعُ الشّاة المسمومة وأعلمه بما فيه من السُّمِّ، وشهدت بنبُوَّته الحيواناتُ الإنسيّة والوحشيّة، والجمادات – أيضًا – كما تقدّم بسط ذلك كلِّه، ولا شكّ أنّ صدور التسبيح من الحصا الصغار الصمّ التي لا تجاويف فيها أعجبُ مِن صدور ذلك من الجبال لما فيها من التجاويف والكهوف، فإنّها وما شاكلها تردّد صدى الأصوات العالية غالبًا كما قال عبد الله بن الزبير كان إذا خطب وهو أمير المدينة بالحرم الشريف تجاوبه الجبال أبو قبيس وزَرُود، ولكن من غير تسبيح، فإنّ ذلك من معجزات داود عليه السلام، ومع هذا كان تسبيح الحصا في كفِّ رسول الله ? وأبي بكر وعمر وعثمان أعجب» [البداية والنهاية ((6) / (286))] اهـ. كلامه – -.
والشّاهد مِن ذلك كلِّه هو أنّ هذه الكائنات تسبِّح الله – تعالى – تسبيحًا حقيقًا لا يفقهه النّاس ولا يسمعونه، وقد يشاء الله فيُسمِع بعض ذلك من يشاء مِن عباده كما في النصوص المتقدّمة.
ولا ريب أنّ في هذا أعظمَ عبرةٍ وأجلَّ عِظةٍ للنّاس إذ تدبّروا في حال هذه الجبال وهي الحجارة الصلبة والصخور الصّمّاء كيف أنّها تسبِّح بحمد ربِّها وتخشع له وتسجد وتشفق وتهبط من خشيته، وكيف أنّها خافت من ربِّها وفاطرها وخالقها على شدّتها وعِظم خلقها من الأمانة إذ عرَضَها عليها وأشفقت من حملها.
قال ابن القيِّم – رحمه الله – وهو يتحدّثُ عن هذا الباب العظيم: «فسبحان من اختصَّ برحمته من شاء مِن الجبال والرِّجال … هذا وإنّها لَتعلمُ أنّ لها موعدًا ويومًا تنسف فيها نسفًا، وتصير كالعهن من هوله وعظمه، فهي مشفقةٌ من هول ذلك الموعد، منتظرةٌ له … فهذا حال الجبال وهي الحجارة الصلبة، وهذه رقّتُها وخشيتُها وتدكدكها من جلال ربِّها وعظمته، وقد أخبر عنها فاطرُها وباريها أنّه لو أنزل عليها كلامه لخشعت ولتصدّعت من خشية الله. فيا عجبًا من مضغة لحمٍ أقسى مِن هذه الجبال تسمع آيات الله تتلى عليها ويُذكرُ الرّبُّ فلا تلين ولا تخشع ولا تنيب … » [مفتاح دار السعادة ((2) / (89))].
فنسأل الله جلّت قدرته وتبارك اسمه أن يحييَ قلوبَنا بالإيمان، وأن يعمُرَها بذكر الكريم الرحمن، وأن يعيذنا من الرّجيم الشيطان، إنّه وليُّ ذلك والقادر عليه.
(المسألة الثالثة): معنى التسبيح
لا ريب أنّ التسبيح يُعدُّ من الأصول المهمّة والأُسُس المتينة التي ينبني عليها المُعتَقَد فيما يتعلّق بمعرفة الربّ – تبارك وتعالى – وأسمائه وصفاته، إذ إنّ المُعتَقَدَ في الأسماء والصفات يقوم على أصلين عظيمين وأساسين متينين هما الإثبات للصفات بلا تمثيل، وتنزيه الله عن مشابهة المخلوقات بلا تعطيل.
والتسبيح هو التنزيه، فأصل هذه الكلمة من السَّبح وهو البُعد، قال الأزهري في تهذيب اللغة: «ومعنى تنزيه الله من السوء تبعيده منه، وكذلك تسبيحه تبعيده، من قولك: سبحتُ في الأرض إذا أبعدتَ فيها، ومنه قوله جلّ وعزّ: {وكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (1)، وكذلك قوله: {والسّابِحاتِ سَبْحًا} (2)» [تهذيب اللغة ((4) / (338))].
فالتسبيح هو إبعادُ صفات النقص من أن تُضافَ إلى الله، وتنزيهُ الربِّ سبحانه عن السوء وعمّا لا يليقُ به، «وأصلُ التسبيح لله عند العرب التنزيه له من إضافة ما ليس من صفاته إليه، والتبرئة له من ذلك» [جامع البيان لابن جرير ((1) / (211))].
وقد ورد هذا المعنى في تفسير التسبيح في حديث يُرفع إلى النبيِّ ? إلاَّ أنّ في إسناده كلامًا، فقد روى الحاكمُ في المستدرك عن عبد الرحمن ابن حمّاد، ثنا حفص ابن سليمان، ثنا طلحة بن يحيى بن طلحة، عن أبيه، عن طلحة بن عبيد الله ? قال: سألتُ رسولَ الله ? عن تفسير سبحان الله، فقال: «هو تنزيه الله عن كلِّ سوءٍ». قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقّبه الذهبي في تلخيصه للمستدرك بقوله: «بل لم يصح فإن طلحة منكر الحديث، قاله البخاري، وحفصٌ واهي الحديث، وعبد الرحمن، قال أبو حاتم: منكر» [المستدرك ((1) / (502))].
ورُويَ الحديثُ من وجه آخر مرسلًا.
وورد في هذا المعنى آثارٌ عديدةٌ عن السلف – رحمهم الله -، روى جملةً منها الطبريُّ في تفسيره والطبرانيُّ في كتابه الدعاء في باب: تفسير سبحان الله [الدعاء للطبراني ((3) / (1591) وما بعدها)]، وغيرهما من أهل العلم، منها:
ما جاء عن ابن عباس – ? – أنه قال: «سبحان الله: تنزيه الله – ? – عن كُلِّ سُوءٍ».
وعن عبد الله بن بريدة أنّ رجلًا سأل علياًّ ? عن سبحان الله فقال: «تعظيم جلال الله».
وجاء عن مجاهد أنه قال: «التسبيح انكفاف الله من كلِّ سوءٍ». قال ابن الأثير في النهاية: «أي: تنزيهه وتقديسه».
وعن ميمون بن مهران قال: «سبحان الله اسم يُعظَّمُ الله به، ويحاشى به من السوء».
وعن أبي عبيدة معمر بن المثنّى قال: «سبحان الله: تنزيه الله وتبرئته».
وعن محمد بن عائشة قال: «تقول العرب إذا أنكرت الشيء وأعظمته سبحان الله، فكأنّه تنزيه الله ? عن كلِّ سوء، لا ينبغي أن يوصف بغير صفته».
والآثار في هذا المعنى عن السلف كثيرة.
ونقل الأزهري في كتابه تهذيب اللغة عن غير واحد من أئمّة اللغة تفسير التسبيح بالمعنى السابق وقال: «وجِماعُ معناه بُعدُه – تبارك وتعالى – عن أن يكون له مثلٌ أو شريكٌ أو ضِدٌّ أو نِدٌّ» [تهذيب اللّغة ((4) / (339))].
وبهذه النقول المتقدِّمة يتبيَّنُ معنى التسبيح والمراد به، وأنّه تنزيه الله ? عن كلِّ نقص وعيبٍ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – ? -: “والأمر بتسبيحه يقتضي تنزيهه عن كلِّ عَيبٍ وسُوءٍ، وإثباتَ المحامد التي يُحمد عليها، فيقتضي ذلك تنزيهه وتحميده وتكبيره وتوحيده» [دقائق التفسير لابن تيمية ((5) / (59))]. اهـ كلامه – ? -.
وبه يتبيّن أنّ تسبيحَ الله إنّما يكون بتبرئة الله وتنزيهه عن كلِّ سوء وعيبٍ، مع إثبات المحامد وصفات الكمال له سبحانه، على وجهٍ يليقُ به، أمّا ما يفعله المعطِّلةُ من أهل البدع كالمعتزلة وغيرهم من تعطيل للصفات وعدم إثبات لها وجحدٍ لحقائقها ومعانيها بحجة أنّهم يسبِّحون الله وينزِّهونه، فهو في الحقيقة ليس من التسبيح في شيء، بل هو إنكارٌ وجحودٌ، وضلالٌ وبهتانٌ، ولذا يقول ابن هشام النحوي في كتابه مغني اللبيب: «ألا ترى أنّ تسبيحَ المعتزلة اقتضى تعطيل كثير من الصفات» [مغني اللبيب ((1) / (140))، مع أنّه وقع في بعض ذلك، غفر الله له ورحمه].
ويقول ابن رجب رحمه الله في معنى قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} (3) أي: «سبِّحه بما حمد به نفسه؛ إذ ليس كلُّ تسبيحٍ بمحمود، كما أنّ تسبيح المعتزلة يقتضي تعطيل كثير من الصفات» [تفسير سورة النصر (ص: (73))].
وقوله – ? -: «إذ ليس كلُّ تسبيح بمحمود» كلامٌ في غاية الأهميَّة والدقَّة؛ إذ إنّ تسبيح الله بإنكار صفاته وجحدها وعدم إثباتها أمرٌ لا يُحمد عليه فاعله، بل يُذمُّ غايةَ الذمِّ، ولا يكون بذلك من المسبِّحين بحمد الله، بل يكون من المعطّلين المنكرين الجاحدين، من الذين نزّه الله نفسه عن قولهم ووصفهم بقوله تعالى: {سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ وسَلاَمٌ عَلى المُرْسَلِينَ والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ} (5). فسبّح الله نفسه عمّا وصفه به المخالفون للرسل، وسلَّم على المرسلين لسلامة ما قالوه في الله من النقص والعيب.
إنّ تسبيحَ الله وتنزيهَه وتقديسَه وتعظيمَه يجب أن يكون وفق الضوابط الشرعيّة، وعلى ضوء الأدلّة النقليّة، ولا يجوز بحال أن يُبنى ذلك على الأهواء المجرّدة، أو الظنون الفاسدة، أو الأقيسة العقليّة الكاسدة كما هو الشأن عند أرباب البدع المعطّلين لصفات الربّ – سبحانه -، ومن كان يعتمد في باب التعظيم على هواه بغير هدى من الله، فإنّه يزِلُّ في هذا الباب ويقع في أنواع من الباطل وصنوف من الضلال. جاء عن عبد الرحمن بن مهدي ? وقد ذُكر عنده أنّ الجهميّة ينفون أحاديث الصفات، ويقولون: الله أعظم من أن يوصف بشيء من هذا أنّه قال: «قد هلك قوم من وجه التعظيم فقالوا: الله أعظم من أن ينزل كتابًا أو يرسل رسولًا ثم قرأ: {وما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قالُوا ما أنزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ} (1) ثم قال: هل هلكت المجوس إلاّ من جِهة التعظيم؟ قالوا: الله أعظم من أنْ نعبُدَه، ولكن نعبدُ من هو أقربُ إليه منّا، فعبدوا الشمس وسجدوا لها، فأنزل الله: {والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونا إلى اللهِ زُلْفى} (2)» [ذكره التيمي في الحجة في بيان المحجّة ((1) / (440))].
وفي كلامه هذا – – إشارة إلى أنّ التعظيم والتنزيهَ إنْ لم يكن على هديِ الكتاب والسنة فإنّه يكون غاية التعطيل، ومنتهى الجحود والعياذ بالله، ومن يتأمّل حالَ الطوائف الضالّة والفرق المنحرفة التي سلكت في التنزيه والتعظيم هذا الطريق يجد أنهم لم يستفيدوا من ذلك سوى التنقّص لربّ العالمين وجحد صفات كماله ونعوت جلاله، حتى آل الأمر ببعضهم في التنزيه إلى الاعتقاد بأنّه ليس فوق العرش إله يُعبد ولا ربٌّ يُصلى له ويُسجدُ تعالى الله عمّا يقولون، وسبحان الله عمّا يصفون.
إنّ التسبيحَ طاعةٌ عظيمةٌ وعبادةٌ جليلةٌ، والله – تبارك وتعالى – يحبُّ المسبّحين، والواجب على عبد الله المؤمن أن يكون في تسبيحه لربّه على هديٍ مستقيمٍ، فيُسبّح الله وينزّهه عن كلِّ ما لا يليقُ به من النقائص والعيوب ويُثبتُ له مع ذلك نعوتَ جلاله وصفات كماله، ولا يتجاوزُ في ذلك كلِّه كتاب الله وسنّة رسوله ?، كما قال الإمام أحمد – -: «لا يُوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسولُه ? لا يُتجاوَزُ القرآن والحديث» [ذكره شيخ الإسلام في الحموية، انظر: مجموع الفتاوى ((5) / (26))]. ومن كان على ذلك فهو على هدي قويمٍ، وعلى صراطٍ مستقيمٍ”. [دراسات في الباقيات الصالحات — عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر (42 – 60)].